التقوى ( آية الله قاسم )
آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
موضوع طرحه سماحته في ثلاث خطب متتالية لصلاة الجمعة
بين الفترة 19 محرم – 2 صفر 1422هـ (13-27 أبريل 2001م)*
منشأ التقوى
التقوى وما أدراكم ما التقوى.. فإنها تنشأ من منبت الرؤية الصحيحة، الرؤية الكونية الصادقة. متى تكون عندك تقوى؟ إنما تكتسب ملكة التقوى عندما ترى الله، عندما ترى عظمته، عندما ترى جماله وجلاله وأخذه وبطشه وجبروته.
حين ترى الله كبيراً تخرّ خاشعاً، حين ترى الله عظيماً تندك صاغراً.. فالتقوى تنشأ دائماً من منشأ الرؤية الكونية الصحيحة الصائبة، كما تقوم على أرضية الوجدان النقي، والفطرة الطاهرة. الإنسان بفطرته يرى الله العظيم، الإنسان بخلقته الأولى وبصفائه الذي أوجده عليه الله، يرى الله ربّه كريماً جليلاً جباراً عظيماً.
فمن سلم له وجدانه وبقي على نقاء فطرته فإنه لا بدّ أن يخشى ويخشع ويتّقي الله، أما من قصرت رؤيته وغام نظره أو تغبر وجدانه وأصابته الضبابية، وقام حائل بينه وبين طهره، ووُجِد فاصلٌ بينه وبين نقاء نفسه فإنه لا يرى الله ولذلك يفتقد الأرضية التي تقوم عليها التقوى.
فالتقيّ هو العظيم.. التقي يمتلك الرؤية السديدة الصائبة الثاقبة، التقيّ يتمتّع بفطرته الأولى على نقائها وصفائها وجمالها ولألائها. فحيث لا ترى تقوى فأنت ترى إنساناً معيباً وقلباً مقلوباً، وحيث ترى التقوى فأنت ترى الإنسان السليم، وترى الإنسان الإيجابي والإنسان الراقي في مضمونه الإنساني.
اسمعوا لقول الله تبارك وتعالى {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}. (البقرة: 179)
التقوى تقوم على وجود الألباب، على وجود العقول النافذة، على وجود الرؤية الصحيحة. التقوى تقوم على وجود عقلٍ مفكّرٍ متدبّرٍ متعقّل {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}. فمنطلق التقوى أن تحتفظ بعقليتك، أن تحتفظ بقدرتك على التفكير السليم، أن تتأمّل، أن تغور بنظرتك في هذا الكون في دقائقه، في صنعهِ الحكيم. فحيث ترى هذه الرؤية، وحيث تمتلك هذه النظّارة فإنك لا بدّ أن تكون التقيّ، ولا بد أن تكون الإنسان الخاضع الخاشع الذليل بين يدي الله سبحانه وتعالى.
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} (محمد: 17). وراء التقوى هدى، وراء التقوى الرؤية السديدة، وراء التقوى معرفة صائبة، وراء التقوى رؤية كونية مطابقة، وراء التقوى عقل يتجاوز الماديّ، ويعبر حدود المادي ليرى اليد التي تدبّر هذا الكون، ويرى القدرة التي تحكم بسلطانه اللامحدود كل مجرّة وكل ذرّة في هذا الكون.
منطلقات التقوى
والتقوى – أيّها الإخوة المؤمنون – لها مراتب من حيث المنطلق. تعالوا نقف على المنطلق الأول للتقوى، بعد الرؤية الكونية الصائبة والهدى المكين.
الخوف: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196). أنت إذا علمت أن الله شديد العقاب صرت تقيّاً، إذا نفذ هذا الشعور في نفسك وتمكّن واستقرّ وملأ أقطار النفس عليك، فلا بدّ أن تستجيب لهذا الخوف في المواقف، تراعي الله (عزّ وجلّ) في الخواطر، في التحركات، في السكنات، تراقب الله وتأخذ بحكمه في كل حركة وسكون.
والخوف دائماً منطلق من منطلقات السلوك، لكن هناك فرق بيّن كبير بين أن تخاف الأسد فتفرّ منه، بين أن تخاف الوحش، بين أن تخاف الظالم، بين أن تخاف الطاغوت فتتقزّم أمامه وتحاول أن تصبغ شخصيتك بالظلم وتستجيب للظلم وتنحط تدريجيّاً انجراراً لرغبة الظالم والأسد والوحش. فرقٌ بين هذا وبين خوف العدل، بين خوف خسارة الجمال، بين خوف أن يغضب عليك الله العليّ العظيم. أنتم ترون أن الذي يخاف من شخصية عملاقةٍ ورعةٍ تقيّةٍ عالمةٍ جليلةٍ، فإنه لا يخاف من بطشها، ولا يخاف من غضبها، يخاف أن يخسر وزنه في نفسية هذا الشخصية العملاقة، وهو يعرف خسارة شخصيته ووزنه في نفس ذلك العملاق يساوي تماماً – إذا كان ذلك العملاق يمتلك الرؤية الصائبة والخوف من الله سبحانه وتعالى حين يبني شخصية أحدنا لا يبنيها كما يبنيها الخوف من السلطان الظالم مثلاً أو الخوف من الأسد والوحش الكاسر، إنما هو الخوف البنّاء الذي يصوغ شخصيةً سليمةً مستقيمة. هذه مرتبة، ومرتبةٌ أخرى هي مرتبة المثوبة ولا تكاد تختلف.
أما المنطلق الآخر الكبير والذي يصوغ الشخصية في أكبر حجمٍ ممكنٍ لها، ويقدّم لنا شخصية مثالية، فهو أي منطلق؟{بسم الله الرحمن الرحيم * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة: 35).
اتّقوا الله، اصعدوا إلى الله، اطلبوا معراجاً إلى الله، حاولوا القرب إلى الله، سخّروا كل لحظةٍ من لحظات حياتكم في التنامي، في التكامل، في تزكية النفس، في صياغة الذات من أجل أن تكون ذاتاً مرضية لله سبحانه تعالى، والله لا يرضى إلا الكمال.
اصنعوا أنفسكم تروا جمال الله، اصنعوا ذواتكم تروا جلال الله، اصنعوا أنفسكم تتفيّئوا في ظلال الثقة وفي ظلال الاطمئنان، وفي ظلال التركّز الكوني بمعنى أن أجد نفسى جزءاً ثابتاً من هذا الكون مستمراً وشيئاً كبيراً، كل ذلك من خلال القرب. اصنعوا أنفسكم بهذا اللون من التركّز، وبهذا اللون من الثقة والاطمئنان، في ظلّ التعلّق بالله، في ظلّ التكامل من أجل رضا الله سبحانه وتعالى.
{اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. سبيل الله، سبيل الوصول إلى الله، الله لا يوصل إليه سبحانه وتعالى، معنى ذلك أن تقربوا من الكمال الذي يريده لكم الله سبحانه وتعالى، الله هو الكمال وكل شيء يكون قريباً إليه نسبياً وبمقدار مع بقاء مسافة لا حدود لها أبداً بين كمال الله وكمال أيّ شيء آخر، وبقدر ما يكتمل هذا الشيء، وبقدر ما يظهر فيه الجمال الإلهي، وبمقدار ما يظهر من صفات الله الحسنى في هذا المخلوق يكون قريباً إلى الله سبحانه، ومع المحدودية لطاقة الكمال واستعداده عند كل مخلوق، لكن فرق كبير بين يزيد الذي هو في المنحذر السحيق، وبين رسول الله الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وعليٍ أمير المؤمنين والحسن والحسين وأئمة الهدى (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) الذين هم في قمة الكمال الإنساني، فإنهم يعيشون من جمال الله ما يغنيهم، ويعيشون من جلال الله ومعرفته ما يُلذّ لهم الحياة، ما يطيب لهم الحياة، ما يجعلهم أقوياء بحيث لا يفتقدون قوّتهم في أيّ ظرفٍ من الظروف. فمن كان مع الله كان الله معه، ومن رأى معيّة الله فهو القويّ الشديد.
الآية الكريمة تقول {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (الجاثية: 19). هذا المنطلق للتقوى: طلب ولاية الله سبحانه وتعالى، هو أن يكون الله وليّ في مساحة الاختيار، في المساحة التي متروك لإرادتي أن تتحرّك في إطارها، لا يكون وليّي أبي المربّي، ولا يكون وليّي مجتمعي المؤمن الموجّه، ولا يكون وليّي قائدي الإنساني. أريد ولاية الله وصناعة الله وتدبير الله، هو الذي يأخذ بيدي في كل موقف، أريد منه سبحانه وتعالى أن يأخذ بيدي في كل موقف، يخرجني من كل حيرة، يهديني في كل ضلالة، ولاية الله سبحانه وتعالى بمعنى أن رعايته تقود خطاك على الطريق السديد دائماً وفي اتجاهه الصاعد سبحانه وتعالى. التقوى من هذا المنطلق يريد أن يخرج من الحاجة إلى رعاية الناس، أو إلى شفقة الناس ورحمتهم، بأن يتولّى الله سبحانه وتعالى أمره حتى في المساحة التشريعية فضلاً عن المساحة التكوينية بفعلٍ تكوينيّ يلامس قلب هذا الإنسان ويصوغه ويوجّهه، ويحمي هذا الإنسان ويدفع عنه وينقذه ويعليه.
حين نقرأ {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}، نضم إليه قوله تعالى {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} (البقرة: 157)، ولاية الله ماذا تصنع؟
الآية الكريمة الثانية تجيب {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ}. نفس الذات تخرج لولاية الله من كل ظلمة من ظلماتها إلى نور من الله سبحانه وتعالى وجمال، لا تبقى ظلمة جهل، ولا ظلمة حقد، ولا ظلمة حسد، ولا ظلمة خوف، ولا ظلمة غرور. كل ظلمات الذات كل نقاط ضعفها. ولاية الله سبحانه وتعالى لها تخرجها منها فتأتي ذاتاً كاملة على المستوى الإنساني والكمال الحقّ المطلق لله سبحانه تعالى.
وكل مشكلات الذات هي من ضعفها، وليس من ظروف الخارج، إنما تنال ظروف الخارج منّا بمقدار ضعف ذواتنا، بمقدار ما فيّ من نقص، أنفعل بظروف الخارج، وأتأذّى لظروف الخارج، وأستاء لظروف الخارج، وبمقدار ما تتخلّص النفس من نقصها وضعفها، تجد نفسها فوق الخارج، فوق ضغوطات الخارج، فوق مشكلات الخارج.
شأن التقوى ومكانتها في كتاب الله
لننتقل بعد هذا إلى ما عليه شأن التقوى ومكانتها في كتاب الله العزيز الحميد، فمن مكانتها أنها غرض تنزيل القرآن ووعيده، تقول الآية الكريمة {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا}.
القرآن العظيم الذي لطف الله سبحانه وتعالى على عباده، وهو خاتم الكتب السماوية والمهيمن عليها، وبعثة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء، وآخر عظيمٍ في قافلة المرسلين، كل ذلك وما امتلأ به القرآن وما زخر به القرآن الكريم من وعيدٍ للعباد إنما هو لأجل أن تأخذ التقوى مكانتها في قلوب العباد، أن تأخذ العباد تقوىً من الله، فالتقوى جاءت في الآية الكريمة هدفاً للرسالات، وهدفاً للكتب التقوى. إذن وما أجلّ قدرها عند الله سبحانه وتعالى.
والتقوى أيضاً غرض العبادة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. العبادة من صلاةٍ وصومٍ، ودعاءٍ، تهجّدٍ، جهادٍ، وخمسٍ، وكل عبادة من العبادات تحمل هذا الهدف الواحد: أن تزرع التقوى في القلوب، أن تنبت التقوى في القلوب، أن ترعرع التقوى في القلوب، أن تبني القلوب بالتقوى، وتشدّها بالتقوى، وتزيّنها بالتقوى، وتنوّرها بالتقوى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. والصوم عبادةٌ من أهم العبادات، وغرضها الكبير هو أن تعطي للقلوب تقواها، وضمّوا إلى ذلك قوله عزّ من قائل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. الغرض من خلق الجن والإنس أن يعبد هؤلاء كلهم ربّهم الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ليكملوا وتتنضّج إنسانيتهم، ويأتوا ملائكة في الأرض من صناعة خط الله سبحانه وتعالى، لأنه لا طريق إلى كمال هذا الإنسان، ولا سبيل إلى سعادته إلاّ أن يعبد الله (عزّ وجلّ) ويخلص له العبادة، ويسعى على طريقه، ويسعى على ضوء أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى، لذلك كانت العبادة غرض الخلق، وأن ليس من غرض عند الله سبحانه وتعالى إلا أن يعبد العبد ربّه منفعةً للعبد، وأخذاً به على طريق كماله. والله غنيٌ عن عباده، ولا شيء يصله من عبادةِ عباده إلا أن يتأهّلوا إلى فيضٍ أكبر، وإلى عطاء أزيد.
وإذا كانت العبادة غرض الخلق، وكانت التقوى غرض العبادة، صار لنا أن هذا الخلق: أن يتّقي هذا الإنسان ربّه، وتقواه ربّه معناه أنه يكتمل، معناه أنه ينمو، معناه أنه وصل درجةٍ يرضاه الله والله إنما يرضى الحسن.
ثمرات التقوى
وللتقوى – أيّها الأخوة والأخوات – ثمرات في النفوس، وأوضاع الخارج، وفي الدنيا والآخرة. ولنتتبع ذلك في آي الذكر الحكيم.
أوّلاً : التقوى تدفع كيد الشيطان {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}. التقوى زادٌ كبيرٌ في القلوب، وخير الزاد التقوى، التقوى نور، التقوى هدىً، التقوى كمال، في لحظة من لحظات الغفلة التي قد تمسّ النفوس ويطوف طائفٌ من الشيطان، هنا إما أن تكون انتكاسة، وإما أن يكون استعلاء ونهوض وتنبّهٌ والتفات ويقظة ومواجهة.
من لم تكن له تقوى ارتكس، وسمع نداء الشيطان، وانجذب إلى تزيينه، ومن كانت له تقوى رجع إلى زاده، انتبه إلى ما هو عليه من خطٍ صائب، وقام عمودٌ من نورٍ في ذاته، يردّ كيد الشيطان، ويوجّهه ضربة قاصمةً للشيطان من خلال موقف مواجهة صلبة صامدة يقفها هذا المؤمن ومن ورائه خلفية الإيمان، وخلفية التقوى، فالتقوى هنا تردّ كيد الشيطان.
وهي أيضاً: تثري الأوضاع المعنوية والمادية للإنسان {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ}، بركاتٍ تعمر الأرض، وبركاتٍ تعمر من قبل ذلك النفس، وتهدى العقل وتعطي للإنسان الحكمة، بركاتٍ تجعله موصولاً بخط الله، بركاتٍ تذيقه حلاوة الأمن والثقة والاطمئنان من داخله، تجعله لا يخاف ولا يحسد، ولا يقلق، بركاتٍ تصحّح الذات، وتنمو لها الذات، بركاتٍ تقضي على الفقر، وتقضي على الجهل، وتقضي على كل تخلّف، هذا لو كانت تقوى، أما العلاقة بين التقوى وكل هذه العطاءات وأكثر من هذه العطاءات، فهو موضوع يحتاج إلى تفصيلٍ خاص.
والتقوى أيضاً: تخرج من المضائق والأزمات وتفتح سبل النجاح {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، وفي آية أخرى أيضاً {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}. أنت في ضائقة اجتماعية، ضائقة سياسية، ضائقة اقتصادية، أيّ ضائقة أخرى فليكن هنا لك لجأ، ولا يكن لك لجأٌ إلا الله سبحانه وتعالى، وليكن منك طلب حلٍ لمشكلتك، لكن لا يكن لك طلب حلٍ على غير طريق الله، وفي غير مرضاة الله، قد تتراء لك سبل الحرام مفتوحةً مشرّعة، ولكن لو انتبهت فإن سبل الحرام لا تسلك بك إلا إلى مضيق، ولا تنتهي بك إلى أزمة. عندك طريقٌ واحدٌ سالكٌ هو طريق التقوى، طريق التقيًد بالحكم الشرعي، والخضوع إلى إرادة الله سبحانه وتعالى، في الرخاء والشدّة، لا تطلب النصر إلا من طريق يرضاه الله، ولا تطلب الغنى إلا من طريق يرضاه الله، ولا تطلب لحلّ مشكلتك أيّاً كانت إلا من طريق الله سبحانه وتعالى، والله يأمر بالسعي ولكن السعي الذي يرضاه، ويتقيّد بأحكامه وشريعته ومقررات دينه {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}.
والتقوى تعيد للذات الإنسانية حيويتها {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}. الذات قد تتلوّث، الذات قد تنحرف، الذات قد تنحطّ عن مستواها، الذات قد يدخلها السوء ويهبط بقيمتها. كيف نعيد للذات التي سقمت عافيتها؟ كيف تستعيد للذات قوّتها وموقعها الصحيح على خط الله سبحانه وتعالى، على خط فطرتها وهداها؟.. أن نتّقي الله، أن نتوب إلى الله، والتوبة تقوى لله سبحانه وتعالى، هذه التقوى تكفّر السيّئات، تغسل الذات. ما معنى تكفير السيئات؟ السيّئة ليست معنىً خارجاً عن ذواتنا، السيّئة والحسنة شيء منّا وفينا، فهي إما شيءٌ سلبيٌّ، وإما بناءٌ إيجابيٌ للذات. أنا ارتكب السيّئة فأهدم من نفسي، أهدم من ضميري، أهدم من طهر وجداني، أهدم من موضوعية تفكيري، أهدم من حكمتي، أهدم من صفاء ذاتي، وفي صفاء ذاتي قرب الله، في صفاء ذاتي الدنوّ من الله. أنا بالسيّئة أثلم ذاتي، وبالحسنة أزيد من ذاتي الحسنة، أن أنا إذا جئت بحسنة رفعت من رصيد فطرتي، رفعت من رصيد هداي، اقتربت إلى الله، فالسيّئة تهدم الذات، والحسنة تبني الذات، ليس أن شرب الخمر معناه أنه أرتكب شيئاً خارجياً مفصولاً عن التأثير على ذاته، حينما يشرب الخمر وهو يعاند الله في هذا الشرب، أو يتساهل في نهيه الله سبحانه وتعالى عن هذا الشرب، هو ينفصل مسافةً عن الله، شرب الخمر في هذه اللحظة يفصل ما بين الإنسان وبين الله مسافة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، النظرة الحرام يرتكبها المرء فتحدث فاصلة هائلة ممتدة بينه وبين هدى الله، بينه وبين رحمة الله، بينه وبين رضوان الله سبحانه وتعالى. والحسنة يأتيها صاحبها الموفّق إلى طاعة الله، فيقترب ويرتفع مستوى ذاته، وتتصحّح ذاته، وتتأهّل بقدر كبير جديد بأن تقرّب من الله سبحانه وتعالى.
فالسيّئات هدم للذوات، والحسنات بناء لها أيّها الإخوة الكرام. وإذا ما ظلمنا أنفسنا، وأسأنا إليها، اقتحمنا المعصية، اخترقنا حريم الله سبحانه وتعالى، فعندئذٍ تهبط النفوس، وتسقط الذوات، ولا بدّ لنا من إعادة إلى خط العافية وإعطائها الصحوة من جديد {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}.
ولأجرٌ يمسّ ذاتك هو أكبر من أجر في مسكنٍ في الجنة، الأجر بمعنى تصحيح الذات، رفع مستوى الذات، إعادة البناء للذات، إعادة الذات لخط الله، هذا الأجر لو التفتنا لهو أجرٌ أعظم من جنّات الخلد أيها المؤمنون، {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}، أوّل ما يعظم له أجراً في ذاته، يصحّحها له، ويخرجها من بلواها وسقمها.
وهي مقدمة وعيٍ ورشدٍ وهدىً وبصيرة {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
{إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}.
فالتقوى نور، والتقوى هدى، والتقوى ترفع قابلية فهم واستيعاب الدروس، وتعطي ثمرة المطالعات الكونية، وفي آيات الأنفس والأفاق، حين نطالع آيات الأنفس والآفاق بروحٍ من التقوى، ودافع الوصول إلى الله، نستوعب ما تستوعبه النظرة العلمية الجامدة، حين نقبل على دروس الآيات في الأنفس والآفاق بروح منفتحةٍ على الله، تطلب هداه، تطلب الدنوّ من رحمته ولطفه، تريد أن تعرفه، فهذه الانطلاقة من هذه الروح تعطي وعياً، تعطي استلهاماً، تعطي معرفةً جديدةً كبيرةً هائلةً.
أيّها الإخوان.. التقوى تعطي هذا الوعي، تعطي القابلية لامتصاص الدرس، درس الحكمة النظرية، ودرس الحكمة العملية.
{يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً}، يجعلكم تميّزون به بين الحق والباطل في المواقف الصغيرة والكبيرة، في الموقف السياسي، في الموقف الاجتماعي، في علاقتك مع الأسرة ومع نفسك، في علاقاتك مع الآخرين.
يضاف أن التقوى تعقب معيّة الله (عزّ وجلّ) للعبد، وهي معيّة خاصة لأن معيّة الله العامة ترافق كل شيء، ويقوم بها كل شيء، ولولا مدد الله وعطاؤه لما كان شيء ولما دام شيء. فحينما تتحدّث الآية الكريمة هذه عمّا تعقبه التقوى من معيّة الله (عزّ وجلّ) للمتّقين، هي إنما تعني معيّةً خاصةً متميّزةً وافرة دائمةً غير منقطعة، وتوفيقاً يسدّد المرء ويقوده إلى الخير ويدلّه إلى الهدى، ويأخذ بيده دائماً إلى النجاة، تنضاف هذه المعيّة الخاصة إلى المعيّة العامة التي بها يقوم بها كل شيء من خلق الله سبحانه وتعالى.
{إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}، مرقاةٌ ما أرفعها ومنـزلةٌ ما أكثر سموقها.. أن يكون الله معك في يقضتك ونومك، في حركاتك وسكناتك، في حال بأساك، في حال رخائك، في حال النصر والهزيمة، فتكون بالله (عزّ وجلّ) قوياً، وتكون بالله (عزّ وجلّ) دائماً مستقيماً، وتكون بالله (عزّ وجلّ) دائماً مهدياً، وتكون بالله (عزّ وجلّ) دائماً موفّقاً، وتكون بالله (عزّ وجلّ) في داخلك دائماً قويّاً عملاقاً، وتكون بالله (عزّ وجلّ) دائماً مطمئّناً واثقاً مؤمّلاً. هذه المعية التي لا يمكن أن تجدها في كنف أحد غير الله، ولا يمكن أن تتلقّى منها شيئاً من عدوٍ من أعداء الله سبحانه وتعالى.
غريبٌ كل الغرابة أن يبيع أمرؤٌ نفسه إلى أعداء الله، يطلب شيئاً من مالٍ، أو يطلب شيئاً من أمنٍ، والأمن كله بيد الله، والخير كله بيد الله، ولا دافع لشرٍّ دون الله، ولا محقّق لنفعٍ سواه.
والتقوى تورث سعادة الأبد {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 15). للذين اتّقوا جزاءات وافرة، وكرامات رفيعة، ومنازل عند الله، على عظمتها وعلى جلالها، تُشترى ببعض من الصبر في قليل من الحياة، تُشترى ببعض الصمود في هذه المدة القصيرة من وجود المرء. إن وجودنا لمستطيل، إن وجودنا الكوني لا ينقطع، ونحن في هذه المرحلة من وجودنا مرحلة ما نسمّيه بالحياة الدنيا، هذه المرحلة قصيرةٌ جدّاً في عمر الأبد، ووجودنا ممتدٌ مع الأبد، ونستطيع أن نشتري سعادة الأبد بهذه الفاصلة الصغيرة، والمسافة القصيرة، بصبرٍ فيها، بمجاهدة فيها، بطاعةٍ لله سبحانه تعالى، وجهادٍ في سبيله، بهذا تستطيع أن تشتري سعادة الأبد التي لا انقطاع لها ولا توقّف.
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}. هذه واحدة، أنت هنا تصرف نصف العمر، وأكثر من نصف العمر، لتبني بيتاً تفارقه، بيتاً من حجارة وأسمنت أو طين، لا يدري الإنسان أيسعد فيه أم يشقى، وبالتقوى تشتري جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار. هنا تصرف نصف العمر، وقد يكون العمر كله في بناء بيتٍ يعقبه انقطاع، يأتي عليه خسف، تأتي عليه زلزلة، يأتي عليه قصف، يعيش فيه الإنسان مريضاً أو سقيماً، وقد يغادره قبل تمامه، وقد يسكنه بعد تمامه أياماً ليعيش حسرة فراقه، إن كان له توجّه حينذاك بعد مشغوليته بما يرى من أهوال الآخرة، إن كان له توجّهٌ والتفاتٌ إلى الدنيا.
أما التقوى فتورثك جنّات تجري من تحتها الأنهار، لا نعرف من حقيقتها إلا العنوان، أما حقيقتها فهي فوق ما نتصوّر، وفوق خيالنا، فوق إدراكنا.
أكثر من هذا أنهم خالدون فيها لا يتهدّدهم فناء، ولا يعتريهم سقم، ولا يكدّر حياتهم كدر.
وأزواجٌ مطهّرة، مطهّرةٌ قلباً، مطهّرةٌ فكراً، مطهّرةٌ على جميع المستويات، لا يشوب حبّها لك شائب، وليس لها من تطلّعٍ من بعد تطلّعها لله سبحانه تعالى إلا التطلّع إليك، مطهّرة لا يعتريها أذى، لا يعتريها فتور، ولا يعتريها شكّ، تشعر بأن تغمرك بالسعادة وتغمرك بالطمأنينة، تشعر بأنها منك وأنت منها، الشيء الذي لا تبلغه علاقة زوجية في هذه الدنيا، لأن الدنيا ليست ظرف القلوب الصافية تماماً، صفاء القلوب والأنفس من كل شوب إنما ظرفه الآخرة، أما الدنيا فعلاقة الأب بابنه، الابن بأبيه، والزوج بزوجه، والأخ بأخيه، لا بدّ أن تشوبها شائبة ويعترضها كدر. علاقات الصفاء المطلق، المحبّة المفتوحة، الثقة الكاملة، الودّ الطاهر.. هي علاقات الآخرة، وذلك نمطٌ من السعادة لا يمكن أن يجده أحد في الحياة الدنيا.
ورضوانٌ من الله، وذلك أجلّ، بعد رضوان الله، بعد أن تشعر النفس برضوان الله، وتعيش حالة الرضا بالله، وتعلو يقيناً أنها في موقع الرضا الإلهي، تكمل السعادة التي ليست بعدها سعادة، سعادة لا تغادر ولا تفارق لحظة واحدة، وهي أجلّ السعادات طعماً وأرفعها ذوقاً. ولك برهان على هذا من الحياة الدنيا: لو أحسنت ركعتين، ستشعر بالغبطة، وستشعر بالسعادة التي دونها سعادة المال، وسعادة الجاه، سعادة كل شيء في الحياة الدنيا.. قال قائلهم: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذّة، لذّة ذكر الله في الأسحار، لذّة التهجد، وتعفير الجبين والخدّ لجلال الله وجمال الله سبحانه وتعالى. حين تشعر النفس بأن الله (عزّ وجلّ) رضي عنها، فهي تشعر بالسموّ وتشعر بالرفعة، وتشعر بالكمال الإنساني، وتشعر بأنها في المأمن، أنها إلى غنى، وأنها محروسةٌ مصونةٌ محصّنة، ونفسٌ تشعر بكل ذلك هي نفسٌ سعيدةٌ وليس فوق سعادةٍ من هذا النوع.
{وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}. يمكن أن يحسن أحدنا لصاحبه، لكن صاحبه ولملابساتٍ خاصة يسوء ظنّه فيه، فيحمل إحسانه على الإساءة، ويقابل ذلك الإحسان بما هو على خلافه. وقد يسعى الساعون مخلصين لكبار الناس، وللسلاطين في الناس، للدول في الأرض، قد يسعون مخلصين من أجل هذه العلاقة، من أجل ما تدرّه من ربحٍ في نظرهم، إلا أن السلطان لا يعلم الغيب، والغني لا يعلم الغيب، وصاحب الجاه لا يعلم الغيب، وقد تنعكس صورة هذا الإنسان المخلص في نفس معبوده إلى الخلاف، إلى العكس، فتأتيه الضربة قاسيةً موجعةً لا تبقي عليه خيراً.
أما الله (عزّ وجلّ)، فإن الآية تقول {وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، لأنك إذا اتقيت فتقواك محفوظة، إذا أحسنت إحسانك محفوظ.{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}، {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.. ما حدود هذا الأجر العظيم؟. مسكوتٌ عنه، أهذه العظمة تقدير بشر؟ تقدير نبيّ؟ تقدير ملك؟..لا بل هذه العظمة تقدير الله، الله (عزّ وجلّ) يصف هذا الأجر بأنه أجرٌ عظيمٌ، وهو أكرم الأكرمين. ليست له حدود نعرفها، ليس له مستوى يمكن أن ندركه.. لمن؟. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ}.
ثم أن التقوى تورث رضوان الله – كما سبق – وتوصل إلى معرفته، وكل المعرفة توصليةٌ كما يقولون، يعني إنما تطلب من أجل غرضٍ آخر، أي معرفة من المعارف عند البشر يعتبرونها طريقة توصلية، بمعنى أنها تؤخذ وصلة لغرض آخر هو المنظور إليه أساساً وفي ذاته، أمّا هذه المعرفة فليست مطلوبة جِسراً، ومطلوبة وصلةً، إذ أن معرفة الله ليس من بعدها غرضٌ يطلب، فهي غرضٌ في نفسه، وهي أجلّ المعارف، وأجلّ ما في حياة الإنسان، وكمال الإنسان يقاس بمدى معرفته بالله سبحانه وتعالى، معرفةً يعيشها العقل ويحتضنها الوجدان، وتتنوّر بها النفس، وتترقّى بها الذات على مسار الكمال.
{لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}. أنتم لو اتّخذتم الأعمال الظاهرية التي هي من أعمال الخير في ظاهرها جسراً إلى معرفة الله لن تبلغوا هذه المعرفة، لو بنيتم المساجد، وأحييتموها، وأطعمتم الفقراء، وناوأتم الظلم، وفعلتم كل معروف، وعاديتم كل منكر، وبقيتم عند مستوى هذه الممارسات في نفسها، فهذا كله لا يمثّل الطريق إلى الله ومعرفته.. هذه كلها لحوم ودماء.. كما يذبح الذابح الأضحية فيكون في الظاهر قد قدّم دماً ولحماً ليس في محل قبول الله، ولا يمكن أن يرقى الدم واللحم إلى نيل رضوان، ولا يمكن للحم وللدم أن يحقّق معرفةً بالله. فكذلك بناء المسجد، وكذلك الجهاد في سوح الكفاح والمواجهة الدموية، وكذلك كل عمل صغر أم كبر هو في نفسه ليس مؤهّلاً لأن ينال رضا الله أو أن يوصل إلى معرفته، ما يوصل إلى معرفة الله وما يلقى رضاه أن تكمل ذاتك، أن تشف ذاتك، أن ترقى ذاتك، أن تتلألأ بانعكاسات أسماء الله الحسنى، وهذا لا يكون إلا بالتقوى.
فالتقوى هي التي تبلغك رضوان الله (عزّ وجلّ)، والتقوى هي الطريق المفتوح على معرفة الله سبحانه. وكيف ننال التقوى؟. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
أنت مكلّف بأن تجاهد النفس، وأن تجاهد نقاط الضعف في الداخل، وأن تجاهد مغريات الخارج، وأن تستحضر عقلك وفطرتك ودينك في معركة الجهاد مع النفس، ومعركة الجهاد مع الشيطان، معركة النفس مع إغراء الشيطان، مع تلويح الشيطان، مع تزيين الشيطان، مع زخرفة الشيطان. مطلوبٌ منك أن تستحضر ذاتك الإنسانية بكنوزها الثرّة، وبمكنونها الكبير مع عملية الجهاد، وأن تستحضر موروث التربية الإسلامية في ذاتك، وما تعطيه آيات الله (عزّ وجلّ) في الأنفس وما علّمتك الحياة من تفاهة الدنيا، ومن عظمة صانع الدنيا، وأن دورك دور عابر، أن تستحضر كل هذا زاداً وعدّةً في عملية الكفاح والمواجهة وضعف الذات وللضغوط التي تمارس على الذات، وهي كبيرة ومخطّط لها، وأوّل ما تستهدف منك دينك، وأوّل ما تستهدف منك إنسانيتك، لأنك ما دمت على الدين الحق، وما دمت على إنسانيتك، فإن دول الكفر العالمي لن تستطيع شراءك، ولن تستطيع أن تحوّلك إلى إنسان يستهلك بضائعها الساقطة، فمن أجل التسويق، ومن أجل الاستغلال، ومن أجل التهميش، ومن أجل أن تقدم إقدام مردة الأرض، وأن يكونوا قبلتك ومعبوديك. لا بدّ أن تخسف فيك إنسانيتك، ولا بدّ أن تجفّف فيك منابع دينك، فمن أجل هذا، تكثر الضغوط على الإنسان الملتـزم، على الإنسان المسلم، من أجل أن لا يكون حجر عثرة أمام أطماع الكفر العالمي.
ولقد أودع الله فيك آيات، وأودع فيك زاداً، وأودع فيك قدرة المقاومة، وبثّ من الآيات والدروس في الحياة، ما يجعلك تتعقّل، وما يجعلك تنضبط، وما يجعلك تواجه بقوة وصلابة، فليس عليك إلا أن تكتشف ذاتك، وترجع دائماً إلى مكنون ذاتك، وأن تفتح عين البصيرة إلى آيات الخارج ودروس الخارج.
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، لا تعمى عينٌ تتّجه إلى رؤية الله، لا ينغلق على نفس أن تعرف الله (عزّ وجلّ) وهي تتشوّق إلى معرفته، وتطمح إلى معرفته، فمن تقدّم لله ذراعاً تقدّم الله (عزّ وجلّ) إليه على غناه وعلى جلاله وعلى جماله باعاً.
عباد الله! اطلبوا مرضاة الله، واصنعوا أنفسكم الصناعة التي يرضاها الله سبحانه وتعالى.
————————————————————————–
* راجع الأعداد [2/3/4] من خطب الجمعة على موقع سماحته: http://albayan.org/