آية الله قاسم : الدم الخالد

بسم الله الرحمن الرحيم
 
الدَّمُ الخالد

مطالبةُ الشعوبِ الإسلاميَّةِ للأنظمةِ السياسيَّةِ الحاكمةِ لها -بإصلاح الوضع السياسيّ، والإقلاعِ عن كلِّ أشكال الظُّلم، والطاغوتية، والاستكبار، والرجوعِ إلى الرؤيةِ السياسيَّةِ الإسلاميَّةِ، والمنهج الإسلاميّ في الحُكم، والاحتكام في كلِّ القضايا إلى شريعته- من صميم الوظيفة الشرعيَّة لهذه الشعوب، والتكليف الإلهي الذي تتحمّل مسؤوليته، ولا تملك التخلّي عنه، والتّساهل فيه من منظور الإسلام.
 
فكيف يسوغ لمؤمن أن يهمل أمر ربِّه، ويعرض عنه، ويفرِّط فيه وكأنَّه لا شيء، أو الشيء التافه الذي لا وزن له وهو يرى ربَّه العظيمَ فوق كلِّ عظيمٍ، وحقُّ الله منبعُ كلِّ الحقوق، ولا حقَّ إلاّ من حقه؟! 
 
هذا من جهة الشعوب، وعلى الأنظمة -التي يعلن أهلُها أنهم مسلمون قبل ذلك- أن يرجع أي واحد منها في حكمه لأي جزء من الأمة، إلى المالك الحقّ لكل حاكم ومحكوم في أصل حكمها، وكلِّ تفصيلٍ من تفاصيله بلا استثناء، أو أن تأتي من شهادة من الله سبحانه بأنه قد فوَّض إليها أمر عباده، وتنازل عن حكمه للعباد القائمين على هذه الأنظمة، على أنَّ الأنبياء والمرسلين ما كان لأحدهم على الإطلاق أن يحكم بما لم يحكم الله، أو أن ينصب من نفسه، وبارادته المستقلة عن الله حاكمًا على النَّاس. 
 
هذا، إلا أن يدَّعي أهلُ الأنظمةِ الحاكمةِ على الأمَّة أنَّ لهم شأناً عند الله فوق ما لأنبيائه ورسله من شأن، وخصوصية من المنزلة، والكرامة، والعلم، والحِكمة، والعصمة، والكمال ممّا ليس لهم.
وهل يمكن أن يصدق عاقل هذه الدعوى؟؟ 
 
نعم، إنَّ الأنظمة الرسميَّة التي تحكم الأمَّة اليوم تعطي لنفسها -إلا ما شذّ- حقَّ الحُكم قهراً على الأمَّة، وكلَّ ما تشتهيه من صلاحيات الحكم، وإلى حدٍّ مفتوحٍ، ومِن تصرُّفٍ بلا حدٍّ في الدِّين، والإنسان، والأرض، والثروات، وما يملك الفرد وما تملك الأمَّة.
 
ومن الإمعانِ، والبشاعة في ظُلم الحاكمين أن يروا لأنفسهم حقَّ الطاعة المطلقة على الأمَّة، وحقَّ الطاعة ابتداءً، وفي لغة العقل، والوجدان، والفطرة إنّما يتبع الملك الصّدق، ولا ملك -في الأصل والحقّ- إلا لمن خلق ورزق، ودبّر، على مَن كان له خلقه، ورزقه، وتدبيره، وبدايته، ونهايته، وما بين ابتدائه ومنتهاه.
وأيُّ مَلِكٍ، أو أيُّ رئيس جمهوريّةٍ، وأيُّ رئيس وزارة، وأيُّ أحدٍ من دون الله يملك شيئًا من هذا كلّه، ممّا ليس إلا لله وحده؟!
وكذب كلُّ من ادّعى شيئًا من ذلك لنفسه، وهو لا يملك لها شيئًا من ضرٍّ ولا نفع، وليس بيده شيء من مبتداه ومنتهاه، وكلّ ما كتب له من وجودٍ، ومن حياةٍ.
 
نعم، تعطي الأنظمةُ الرسميَّةُ الحاكمةُ للأمَّة -إلا ما شذّ وندر- أن تسجن، وتعذّب، وتقتل، وتستفزّ من الأرض مَن تستفز، وأن تصادر الأموال، وتستبيح الحرام، وتُنكّل بمن تريد، وبما تريد من التنكيل؛ باعتبار حقّ الملك، والطاعة الذي تراه لها، أو تمارسه في حقِّ الشعوب التي تشرِّع لها حسبما يمليه الهوى، وترسم حدود حياتها، وتصرُّفها في النّفس، والمال، والحركة، والسكون، على حدِّ ما يكون للمالك في ملكه بالملك المطلق، وللسيِّد بالنسبة للعبد للمملوك حقيقةً وتكوينًا لا تشريعًا واعتبارًا. 
 
وما مصدرُ ملكيَّة الأنظمةِ للشعوب، وحاكميتها المطلقة لها، إلا السّيف، والبطش، والقهر، والمال المسروق من الشعوب، وناتج جهدها وعرقها؟! 
 
وأكبرُ محنةٍ للأمةِ اليوم ظلمُ أنظمتها الرسمية الحاكمة لها؛ لأنَّ الظلم لو ساد الكون طرفة عين لنسفه، وزالت الأرض، وانهدَّت السماء. نتيجةٌ واحدةٌ حتميةٌ للظُّلم هي: الفساد، والخراب، والدَّمار، وتقوّض الوجود والحياة. وانعكاسات ظُلم الأنظمة للأمَّة اليوم تهدد وجود الأمَّة، وحياتها برمَّتها.
 
ويحتِّمُ الواجبُ الدينيّ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ التحرُّك على طريق الإصلاح لوضع الأمَّة، والتغيير إنقاذًا لوجودها، وحياتها، بإصلاحِ وتغييرِ ما عليه هذه الأنظمة من طيشٍ، وشططٍ عن خط الله عز وجل، وقِيَم دينه، وأحكام شريعته، وعدله، وهداه، ورحمته، ورأفته، وما أوجبه لعباده من حريَّةٍ، وكرامةٍ، وحقوقٍ لابدّ منها.
 
ولأنَّ رفع الظُّلم، وتصحيح المسار، والردّ إلى طريق الله، وإقامة القسط في الأرض، من مسؤوليَّة الأمَّة كلِّ الأمَّة، وكلُّ فردٍ قادرٍ فيها -من ذكر وأنثى- أمام الله عزّ وجلَّ كان سقوطٌ أيّ جسدٍ طاهرٍ لشهيدٍ على هذا الطريق على الأرض، وصعود روحه المباركة إلى الله شهادة في سبيله سبحانه، ومساهمة منه في جزء من مسؤوليَّة الأمَّة، وتضحية سخية على طريق انقاذها، وتحريرها من عبودية العبيد، وحياة القهر، والأسر، والذُّل، والحرمان من الحقوق.
 
ولذا تجد الأمَّة تهبُّ لنصرةِ شهدائها، وتندفع -تلقائيًا وبقوةٍ عارمة- لإعلان السَّخط على قتلة الشهداء الظالمين لهم ولها، معلنةً العهدَ بالوفاءِ لدمائهم الزكيَّة، وأرواحهم الطاهرة، بالبقاء على خط الجهاد، والمطالبة بالحقوق حتى نيلها، وتحقيق النصر.
 
إنَّ الإستشهاد في سبيل الله -وإحقاق الحقّ، وإبطال الباطل، ومجاهدة الظلم، وبما يمثّله ذلك من تحرير لإرادة الأمَّة، وفكِّ قيودها، ووضعها على طريق النَّصر- يخرج بقضيَّة الشهيد والشهادة عن الإطار الشخصيّ، والعائليّ، والفئويّ، والوطنيّ إلى إطار الأمَّة، ويجعل القضيَّة قضيَّتها، والاعتداء عليه اعتداءً عليها، والوفاء لدمِهِ من مسؤوليَّتها، مع الشعور العميق بجميله، والافتخار به رمز عزّةٍ، وكرامةٍ، وشهامةٍ، وصدقٍ، وإخلاصٍ، للدِّين، والأمَّة، وإنسانيَّة الإنسان.
 
استشهادُ الشَّهيد في سبيل الله يتجاوز بقضيَّته زمانه، ومكانه، ويمتدُّ أثرُ قضيَّته امتداد المكان والزمان، ويتجاوز كلَّ الحدود المصطنعة. وما مِن إنسانٍ يحتفظ بشيءٍ من إنسانيَّة إلا ويُكبِر شهداءَ الحقِّ، والعدل، والفضيلة، وليس لأحدٍ من هذا كلّه بقدر ما للشهداء في سبيل الله.
 
مضى شهداؤنا الأخيرون في البحرين كما مضى من قبلهم إلى ربهم سعداء إن شاء الله، يحملون شهادة صدقٍ على ما يلاقيه شعبهم من ظلمٍ أسود، وتجاوزٍ وانتهاكٍ للحرمات، وسحقٍ لإنسانية الإنسان، والله خيرُ شاهدٍ، وهو أعدلُ الحاكمين، ولا يفوته ظلم ظالم، ولا يهرب من أخذ العدل هارب. 
 
مضوا شهداء دينٍ أحقِّ دين، وفي شهادة عزّ للوطن، والأمَّة، والإنسانيَّة، وحقُّهم ثابتٌ على الجميع، وأعظم حقٍّ لهم مواصلة السير لاسترداد حقّ الدين، والحريّة، والكرامة، والحياة الآمنة، وإقامة القسط في الأرض، والقسط الحقُّ والكامل في إقامة الدين، والأخذ بشريعته العادلة.
 
ولا يسع أحدًا في دين الله أن يقفَ موقفَ الحياد من مواجهةٍ بين العدل والظُّلم، والحقِّ والباطل، والإصلاح والإفساد، وقيم الدِّين وقيم الجاهلية.
 
وغريبٌ أمرَ الحُكمِ في البحرين فهو من جهةٍ يُعلن مفتخرًا أنَّه قضى على الحراك الشعبيّ، وأسكت الصوت المنادي بالحريّة، والحقوق الضروريّة والمشروعة التي يقضي بها الدِّينُ، والضميرُ الإنسانيّ، والأُخوّةُ الإنسانيّة، ومصلحةُ الوطن والأمَّة، ولا يُدرى كيف يستساغ أو يحلّ او يتناسب مع إنسانيَّة الإنسان الفخر بمثل هذا الذي يتبجح به الحكم مما لا يرضاه إلا الباطل، ولا تفتخرُ به إلا الجاهليَّة، ولا يرضاه عقلٌ، ولا حكمةٌ، ولا ضميرٌ حيّ، ولا وجدانٌ طاهرٌ!!
 
النِّظامُ يفتخر بهذا من جهة، وهو من جهة أخرى لا يتوقَّف يومًا واحدًا عن المسلسل الدائم من الاستدعاءات، والمداهمات للبيوت الآمنة، والتحقيقات، والمحاكمات، والتوقيفات، والإدانات الظالمة القائمة على التعذيب، وسحب الإعترافات تحت تأثير الآلام المفتقدة للإرادة، والأحكام المشدَّدة بالسجن لما يصل إلى مئة سنة، أو يتجاوزها، والتهجير، والقتل، وسحب الجنسية، والمطاردات المفزعة، والإخفاء القسري، والإعتداءات غير الأخلاقية مما يستهدف الكرامة، والشرف، والدين، وسلامة البدن، والغازات السَّامة التي أفقدت حياة الكثيرين، والشوزن الذي أعاق من أعاق وقتل من قتل، وكَيْلُ التُّهم الكبرى للسياسيين والحقوقيين. 
 
وكيف يجمع النّظام بين هدوءِ الأوضاعِ، وتوقُّف الحراك، وتسليمِ الشَّعب، ورضاه، والتفافه به، وتوحُّد موقفه معه، وبين هذا الاستمرار في البطش بهذا الشَّعب، وسجنه، وقتل أبنائه، وارتكاب كلِّ الفظائع، والبشاعات في حقه؟
هدوءُ الشَّعب -حسب دعوى الحكم- وتنازله عن مطالبه، ورضاه بالظُّلم الذي يتعذب به شهادةٌ لهذا الشعب بالبراءة، وأنَّه كما يشتهي النظام له من المسكنة، والذّلة، وسقوط الإرادة، وأنَّ تعذيب هذا الشَّعب فاقدٌ لأيِّ مبررٍ دينيٍّ، أو قانونيٍّ، أو عرفيٍّ، ولا يفسِّره إلا التعطُّش للقتلِ، والولع بالظُّلم، وضياع القِيَم.
 
الحقُّ أنَّ في الجمع بين الأمرين ما يُدين الحكم على لسان الحكم نفسه. 
 
وخلودُ دم الشّهيد الصدق بعطاءاته الإيمانية المتدفقة بعد شهادته، ودوره البنّاء للحياة، وبما ينعكس به من تقويم للمسيرة الإنسانيَّة، وإحيائه للنُّفوس، وإنهاضه للهِمَم الخيِّرة، وأخذه بالقلوب في اتجاه الله، وإعطائه للأجيال درسًا صادقًا في التضحية في سبيل الخير، ومساهمة دمه في إصلاح أمر الدِّين والدُّنيا.
 
وهو خالدٌ أبد الآبدين، بسعادةٍ لا نقص فيها، ولا منتهى لها، ولا يعتريها انقطاع، ولا توقُّف، ولا فتور. 
 
والتّعازي الصادقة، وتحيةُ إكبارٍ وإعظامٍ لعوائل السعداء إن شاء الله -من الشهداء الثلاثة الأعزاء- بما أنجبوا، وبما صبروا، وما احتسبوا، ورضوا بقضاء الله وقدره، وآمنوا -برغم الألم الممض- بهذه الخاتمة الرابحة لأبنائهم الكرام المضحّين.
 
والتعازي الصادقة، وتحيةُ إكبارٍ وتعظيمٍ للشعب المؤمن المُنجب المعطاء للشهداء في سبيل الله العظيم. 
 
الفاتحة لروح الشهداء الثلاثة وكل شهداء الإسلام العظيم. 
 
تحيةُ إكبارٍ، وإعظامٍ للدَّم الخالد.. دمِ كلِّ شهيدٍ في سبيل الله، وإحقاق الحقّ، وإبطال الباطل، وهو خالدٌ بما وراءه من قلبٍ عرف الله، وآمن به، وبحقه الذي لا يعصى، وأخلص القصد إليه، و استرخص الحياة في سبيله. 
 
عيسى أحمد قاسم
 ٣٠ يوليو ٢٠١٩

زر الذهاب إلى الأعلى