مقال آية الله قاسم: الحلقة الثانية: غاية الرِّسالة ووسائل التفعيل

 

 

غاية الرِّسالة ووسائل التفعيل

      رسالة من الله لهداية العباد وإنقاذهم، والأخذ بهم إلى أقصى ما يمكن لنفس بشريّة من كمال، وأجمل حياة في الدنيا، وأعظم سعادة يمكن أن تنال في الآخرة لا تتمّ لها أهدافها إلّا من منطلق التّوحيد، توحيد الله عزّ وجل وعبادته.

ورسالة هدفُها التّوحيد الصادق، وكلّ ما يؤدّي إليه التّوحيد من أهداف ممّا تقدّم ذكره لا يمكن أن تُسلَّمَ في أيّ دور من أدوارها، وأيّ زمن من أزمانها لتصرّف الجهَّال، والأيدي غير الأمينة، أو أن تكون لخدمة الطغاة والظلمة، ومن يُخالف هدفه هدفها، ويفقد القدرة على النهوض بمتطلّبات حراستها وديمومتها، أو لا يهمه نجاحها، أو لا يهتدي إلى التبليغ القادِر لها، أو أن يُحمّل أمانَتها الواهنَ في إرادته، المجاملَ على حساب دينه، أو من يشتري بها دنياه ويهدف بها بناء شهرته.

كما لا يمكن أن تكون لتقديم عنصر على عنصر، أو قوميّة على قوميّة، ولا لترسم طريق الخير في الدنيا، والسعادة في الآخرة لفريق، وتفتح لآخرين باب النّار بلا دور للإنسان في حياته، أو تساوي بين مفسد في الأرض ومصلح، وظالم وعادل، وعاص ومطيع، وهي تقرّر مسؤولية الإنسان عن مصيره.

ولا يمكن أن تأذن بالإرهاب الظالم، أو تكون من أجل تمزيق وحدة النَّاس، وتباعد وتعادي الشعوب والأمم، أو تترك للظلم أن يسرح ويمرح، وللفساد أن يعبث وينتشر كيفما شاء في أرض الله، وفي صفوف عباده بلا أن تستنهض الهمم الخيرة الصالحة للدرء عن هذه الحالة قبل نشوئها، ومواجهتها بقوّة بعد حصولها.

ففتح الباب من رسالة من الله عزّ وجل العقل قاض باستحالته ؛ فلو تقول ما تقوّل على الرسالة السماويّة الطاهرة ما يؤدّي منها إلى شيء من هذه النتائج، أو الإذن بها، والسكوت عليها لا بُدَّ أن يُردّ لاستحالته ولو أقام عليه المدّعون ألف دليل، ومليون دليل.

إذ كيف والرسالة من الله والرسول الموصِّل لها، والباذل جهده في تبليغها وتفعيلها مصنوع على عين مرسله الكامل بالكمال المطلق الذي لا يصل إليه كمال ؟!

أمّا الوسائل المفهومة من كتاب الله عزّ وجل لتفعيل المرسلين رسالته والتمكين في الأرض لها فيمكن أن نتعرف عليها في خطوطها العريضة من قوله تبارك وتعالى { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاس بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (25/الحديد).

البيّنات من أجل أن يصل النَّاس بما زوّد به الرسل من دلائل بعثهم من الله عزّ وجل، وهي معجزات لا يملك البشر أن يأتوا بها لفقد العلم والقدرة الممكّنة لهم من ذلك… من أجل أن يصل بذلك إلى أنّ هؤلاء المرسلين رسل حقّاً من الله تبارك وتعالى، وأنّ رسالتهم مُلزمَة وصادقة ومنجية ومنجحة، ومن أجل أن يتلقوا الكتاب المتنزل على الرّسل بكلّ احترام وتقدير وإجلال وإكبار، وروح جادّة في العمل به.

والكتاب هداية العقل والقلب من الله لعباده والمنهاج اللاحب الحقّ القادر على إصلاح حياتهم والبلوغ بها إلى أهدافها.

والمنهج الصحيح لا بُدَّ منه لبناء الحياة الكريمة، والأمّة الناجحة، وسعادة الدُّنيا والآخرة.

والرّسول معلّم الكتاب بعد تبليغه، والقائم على حراسته وتطبيقه على نفسه وفي حياة النَّاس وتعليمه، والقائد لحركة الأمّة من بنائه على ضوء آياته، وطبقاً لأحكام شريعته.

والميزانُ الذي يزِن الحقّ والباطل الوزن الدقيق الذي لا يختلف مع وزنهما الذي عليه واقعهما في كثير ولا أقل قليل والذي لا مثله ميزان ولا يباينه عقل ما صحّ له إدراكه واتّسع له هو الكتاب المنزل من عند الله العليم الخبير العدل الحكيم.

ثمّ يأتي دور الحديد وبأسه والقوّة الرادعة التي تبنى به ليحمي الرسالة من عبث العابث، وطمع الطامع، والمناهض للحقّ.

نستفيد من الآية الكريمة أنّ الدّين جادّ في تفعيل هدفه متكفّل من جهته بالوسائل التي تعمل على تفعيل هذا الهدف وتحقيقه بتفعيل دين التّوحيد بعقيدته وأحكامه لينتج أن يقوم النَّاس بالقسط على مستوى وزن الأقدار المعنويّة والماديّة وأن لا يدعوا للظلم في حياتهم في الفكر والشعور والتطبيق، وفي أيّ مساحة من الحكم، والعلاقة فيما بينهم، والقسمة لما كتب الله عليهم أن يقتسموه فلا يغادر ما هو العدل أيّ مغادرة.

وأشدّ ما يتطلّب أمر الرّسالة حماية ومقاومة لأصحاب الأطماع غير المشروعة، والمطامح غير العادلة في مرحلة إقامة القسط  فيما يمسّ مصالح هؤلاء النَّاس، ويتصادم مع جور أمنياتهم. فهنا قد لا يردّهم عن مواجهة الرسالة إلّا الحديد وقوّة الحديد.

فوسائل التمكين للدّين وسلامته ومواجهته الجاهليّة الفكريّة والعمليّة المريدة للإطاحة به : الرسول القائد الذي لا شكّ في كفاءته وجدّه وأمانته، والكتاب المنهج الذي لا خلل فيه، والقوّة الصالحة التي تحميه وتحافظ عليه من كلّ القوى المضادّة لعدله وقيام النَّاس بالقسط الذي يدعو إليه ويبيّن الأحكام التي تحقّقه.

ومن هنا جاءت الآية الكريمة، آية بناء القوّة ملتقية مع إنزال الحديد المقترن في الآية مع هدف قيام النَّاس بالقسط.

{ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ …} (60/الأنفال).

وأعداء الله أعداء عدله، وهل من عدل على خلاف عدل الله ؟! وأعداء الله أعداء الحقّ الذي يدعو إليه كتابه، وأعداء الإنسانيّة، وهل يوجد حفظٌ للحقّ، ولإنسانيّة الإنسان، وحفظ لكرامته إذا ضُيّع دين الله وقُضي عليه ؟! وهل من غاية صحيحة للحياة بعد أن تسلك ما يخالف الإسلام ؟!

والقوّة التي يأمر المسلمين بإعدادها والجدّ والبذل في هذا الإعداد ما استطاعوا من غير تساهل ولا توان، ولا ادّخار لفرصة تساعد على هذا الإعداد لمواجهة هذا النوع الخطير القاضي على الحياة والمعادي للإنسانيَّة كلّها من أنواع العداوة.

والإرهاب الذي تعنيه الآية الكريمة هو إرهاب لهؤلاء وليس للأبرياء والشعوب البريئة، وليس لغرض الاستغلال والسيطرة والاستعباد.

وهو إخافة لهم لئلا يطمعهم ضعف المسلمين في القضاء على الإسلام والمسلمين أنفسهم، ويستبدوا بخيرات البلاد الإسلاميَّة، ويتحكموا في الأمّة الإسلاميَّة كلّ التحكّم من خلال حاجتهم لقطعة سلاح ممّا يدفعون عن أنفسهم الشرّ.

رهبة على مستوى الرادع النفسيّ الذي يريح البشريّة من الحروب الضارية التي تفتك بمصالحها وتوقع بها الخسائر الفادحة على الإنسان والممتلكات.

ويستوي في هدف هذا الإعداد للقوّة أعداء الحقّ والعدل والإنسانيّة، وما يدعو لذلك ويقدّرُه، ويسعى لتثبيته سواء كانوا من داخل الأمّة أو خارجها ليرهبوا من قوّة الإسلام لو فكّروا في تنفيذ ما تدعوهم إليه عداوتهم.

إنّه الإرهاب النفسيّ المانع من أن يفعّل أحد الإرهاب ويجعله طريقة التعامل بين النَّاس.

وهي قوّة لا تحرّك على يد أحد ولا يواجه بها أحد فعلاً إلّا بإذن من لا يشكّ في عصمته واحترامه لإنسانيّة الإنسان وتمسّكه بالعدل، من لا تلعب به العواطف، ولا يغلبه انفعال، أو إذن من ولّاه المعصوم ممّن يأخذ على نفسه شديداً ألّا تخالف حكماً من أحكام الله، وكان متحصِّناً بالعلم والفقه وتقوى الله.

إنّ إعداد ما يرهب أعداء الله وعدله وحكمته، وأعداء الإنسانيّة يختلف عن إعمالِ القوّة المرهبة بحقٍّ أو باطل ومن أجل روح الاستكبار أو من منطلق العصبيّة والجهل، ولفقد الفهم الصائب للإسلام.

* وتأتي الكلمة الثالثة المتمِّمة إن شاء الله.

 

عيسى أحمد قاسم

الأربعاء 18 ربيع الأوَّل 1437هـ

 30 ديسمبر 2015م

 

زر الذهاب إلى الأعلى