مقال آية الله قاسم: علماء الدّين والسياسة

 


 

علماء الدّين والسياسة

* مقال جديد لآية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم دام ظله، تم نشره في الإعلام بتاريخ 15 مارس 2015م الموافق يوم الأحد 23 جمادى الأولى 1436هـ


 

 

السياسة لأي مجتمع من مجتمع الانسان قد تكون دينية تهتم بمسألة الدين والدّنيا وبرؤية دينية، وهدف يرضاه الدين، ومنهج من صنعه، وتربية وأخلاق منطلقة منه.

وقد تكون دنيوية لا تهتم بالدين أو تحاربه، ولها منطلقها البعيد عنه، ونظرتها المنقطعة عن تربيته وأخلاقه وقيمه وما له من أحكام.

ولا معنى لانفصال عالم الدّين عن السياسة إذا كانت من النوع الديني. ولا ترد مشاركته المؤيّدة والداعمة والمرسخة للسياسة من النوع الآخر ومن منطلق الدّين الذي يؤمن به إلّا أن يكون هذا الدين من صنيعة الأرض وإفسادها.

وإذا كانت السياسة من النوع الدنيويّ نفسه ولكن كانت مشاركته للتقليل من ظلمها وانحرافها والتخفيف من الشرور اللاحقة بالصالحين بسببها فلها وجه إذا لم يوقعه ذلك في غضب الله لمخالفته لما تأذن به الشريعة.

هذا كلّه عن مشاركة عالم الدين بما هو كذلك ومن منطلق دينه. ولعالم الدين حيثيّة أخرى وهي حيثية المواطنة على حد ما لغيره من هذه الجهة من المواطنين، وله كل ما للمواطن من حقوق على حد ما للآخرين، وعليه من واجباتها ما عليهم.

وإذا كان للمواطن حقُّ إبداء الرأي في السياسة القائمة ومن منطلق رؤيته الشخصية، وانتقادها فلعالم الدين ومن حيث مواطنته الحق نفسه، ولا معنى ولا وجه لمنعه من هذا الحق لكونه متسماً بصفة عالم الدين، أو لأن اختصاصه العلمي في هذا الجانب، أو أن انتماءه الديني يلوّن نظرته للأمور.

أمّا إذا كانت السياسة من النوع الذي يحجر على الرأي ولا تعترف للمواطنين بإبداء رأي ناقد لأخطائها وخطيئاتها فهي بليّة عامّة، ومحنة قاسية للوطن كله وفيها فشوُّ الظلم وتَرَكُّرُ الطغيان وانتكاس الأوضاع.

والرأي في الإسلام أن العالم من علمائه كغيره من المسلمين يحرم عليه أن يسكت على باطل السياسة ومنكرها، ما دام يجد سبيلاً للنطق بالحق وقول ما فيه دفع الظلم وتصحيح الوضع. إن عليه أن ينصح ويوجّه من منطلق واجبه الديني ينصح بما فيه صلاح المجتمع واستقامته وسيادة الحقّ أو التخفيف من الظلم السائد فيه.

والعالم بمقتضى علمه وفقهه يتحمل مسؤولية هي الأكبر من بين المسلمين في أداء هذا الواجب.

وهناك مسألتان مسألة دولة تفصل بين الدين والسياسة وتحرِّم على دين الله أن يتولى شيئاً من القيادة لسياسة المجتمعات، وتمنع على الله عزّ وجل حق الحكم في عباده.

والمسألة الأخرى أن تمنع السياسة على عالم الدّين من علماء الإسلام حتى من حيث كونه مواطناً له ما لسائر المواطنين أن يبدي رأيه في أخطائها وخطيئاتها ومظالمها.

وفي هذا مبالغة مسرفة في الوقوف في وجه الدين ومضادّته.

والغريب من أمر هذه السياسة أن تحتضن علماء الدين وتقربهم وتثيبهم إذا كانوا في خدمتها وممّن يبررون مظالمها ويرتكبون الزور في التشجيع على مآثمها باسم الدين، وتطلبهم ولو بالثمن الدنيوي الغالي لمثل هذه الوظيفة.

وإنك لتجد أن لدى كل السياسات الدنيوية التي لا تقيم للدين وزناً في الدول الإسلامية جهازاً من العلماء المتسمين بعلماء الإسلام والمفتين على حدّ ما لها من أجهزة الدولة الأخرى لتثبيت ممارساتها وشرعنتها ومباركتها باسم العدل والحق والأمن والدّين.

وعالم الدين وإن كان لا يطمع في المشاركة السياسية ولا يميل إليها سواءً حكمت باسم الدين أو بغيره، وصدقت أو كذبت فإن مسؤوليته تحتّم عليه أن ينكر المنكر ويأمر بالمعروف في مجال السياسة كما هو واجبه الديني في غير مجالها.

وممارسة حقّ النقد السياسي والتنبيهِ على أخطاء السياسة ومظالمها، والمطالبة من المواطنين بتعديل مسارها وصيانة حقوقهم لا تتقيد بأن تكون في المجلس النيابي حتى إذا لم يكن لم تكن، وإذا كان فلا محل معه لهذا النقد والمطالبة.

ثم إن ذلك لا ينحصر في إطار جمعية سياسيّة، ولا بأن تكون وسيلته الصحافة أو الخطابة في ندوة سياسيّة أو لقاء سياسيّ.

أمّا المسجد فحرام أن تُقال فيه كلمة حق أو يُنبّه على مفارقات السياسة ومظالمها، وأن يُطالب فيه بالرجوع إلى الحق والعدل وما هو صحيح وبنّاء ويضمن أمن الوطن واستقراراه وهناءة الحياة فيه.

وبأي وجه يكون من تفوّه بكلمة في مسجد بما يصلح الشأن العام ويدفع الخطر عن الوطن قد ارتكب إثماً عظيماً في الدين، أو مخالفة خطيرة في قانون عادل ؟!

ممارسة حق النقد والمطالبة بالتصحيح للوضع السياسي مكانها كل الوطن، ومطلوبة من كل مواطن مخلص لوطنه.

القانون الذي يعاقب عالم الدّين أو غيره من المواطنين على تعبيره عن رأيه السياسي ونقده للمآسي الظالمة للسياسة بطريق من الطرق السلميّة لا بد من إلغائه أو تعديله بما يضمن ممارسته الحق في أمن العقوبة للمواطن الذي يمارسه بطريقة سلميّة.

وكيف تُدّعى الديموقراطية في بلد يُحجر فيه على الكلمة الحرّة الكاشفة والمنددة بفضائح السياسة من منطلق ديني أو وطني بينما تحتضن هذه السياسة الكلمة الممالئة لها والمناصرة لفظائعها خاصة إذا تسمى قائلها بكونه عالم دين أو طالباً من طلاب العلم الديني وتشتريها بأغلى الأثمان ؟!

على أنّ اليوم قد غدا الرأي السياسي المعارض يمارسه عدد ملحوظ من المواطنين في كل البلاد الإسلامية وكذا غير المواطنين من مختلف الانتماءات، ومن المنطلق الديني وغير الديني ومن العلماء المسلمين على اختلاف مذهبهم ومن المراكز والحوزات العلمية الدينية برغم كل الحجر والأذى.

كما أن حكومات هذه البلدان المعترضة على إبداء الرأي الديني في السياسة تعتمد فيما تعتمد عليه سياستها من أجهزة رئيسة على جهاز ديني تهتم بصناعته وإعداده وإمداده وترى في فتاوى الوجوه البارزة من علمائه المناصرين لها دعماً لا تستغني عنه وهي فتاوى تصدر باسم الدين وتبرر للسياسة وما ترتكبه من أخطاء ومظالم من منطلقه كما هي دعواها.

فما هو المحرّم على الدين وعلماء الدين في السياسة المنحرفة من التعرض للشأن العام بالكلمة المصححة للأخطاء والمطالبة بالحق والعدل وإنهاء الخطايا والمظالم الجارية على يدها إنما هو ما لا يلتقي مع هوى هذه السياسة أو يشجعها على الأثرة والاستبداد وممارسة التنكيل بمن يطالب بالعودة إلى الحقّ من المواطنين.

وقد أصبحت القوانين الجائرة المشرِّعة للظلم، والمعاقبة بأشد العقوبات للمنكرين عليه وسيلة من الوسائل الفعالة في حمايته وحماية الموغلين في ممارسته، وهذه القوانين من أشد مصاديق الفساد السياسي ومصادرة الحقوق والحريات الكريمة البناءة النبيلة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى