خطبة الجمعة (628) 12 صفر 1436هـ – 5 ديسمبر 2014م

الخطبة الأولى: كوننا إلى متى؟ وما الغاية من هذا الكون العظيم؟
الخطبة الثانية: من أحوال الأمم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة (628) 12 صفر 1436هـ – 5 ديسمبر 2014م

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي يستوي في علمه الغيب والشهادة فكلُّ شيء مشهود لديه، حاضر بنفسه في علمه، لا يفلت من إحاطته، ولا خليقةَ ولا سرَّ من أسرارها إلّا تحت نظره كما هي وبكلّ حقيقتها وآثارها قائمة بمدده، ولا يجدُّ جديد إلّا بتقديره وقدرته وتحت هيمنته، وما كان كذلك لا يمكن أن يخفى عليه.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله علينا بتقوى الله في كلِّ عباده، وفي كلّ ما خلق من شيء حتّى من مِثْل الحجر والمدر، وفي حيٍّ وميّت، ورطبٍ ويابس وذلك بأن يكون التعامل مع عباده وكلّ خلقه سبحانه حسبما أَمَرَ ونهى، وأَذِنَ ومنع فإنّ في كلّ مخالفة لشيء من ذلك مخالفةً لتقواه ونقصًا في طاعته ومبعّدًا عنه ومبغوضًا لديه، وخروجًا على حقّ ربوبيته ومولويته وتفرّده في ذلك، وفي ألوهيّته.

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد،  اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم اجعل دأبنا تقواك، وحياتَنا كلَّها في طاعتك، وجهدَنا كلّه في سبيلك، ولا تجعل لنا ميلًا عن دينك، ولا غفلة عن ذكرك، ولا سعيًا لمرضاة مَنْ سواك مما فيه غضبك فإن رضا غيرك لا ينفع، وإنّ غضبك لا يطاق، يا من لا غنيَّ غيره، ولا قادر سواه، ولا يقي من عقوبته لمن عصاه مانع.

       أما بعد أيها الملأ الكريم من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذا الموضوع:

       كوننا إلى متى؟ وما الغاية من هذا الكون العظيم؟

       آيات القرآن الكريم تعطي جزمًا بأنّ للكون الذي لا تمثّل أرضنا ومن عليها وما عليها إلّا ما يشبه هباءة في إطاره الفسيح الذي لا يملك البشر وما أوتيه الإنسان من علم، وما وصلت القدرة عنده على استكشاف الآفاق والمديات البعيدة لها وما في الكون من عوالم وفضاءات شاسعة تقديرًا من السعة المذهلة والامتداد المُعيي لها إلّا واكتشف ما هو أبعد من ذلك مما يزيد في ذهوله، واستصغاره لما عليه الأرض من ضآلة أمام تلك السعة المتجددة في علم الإنسان، والامتداد المتصل المكتشف من جديد… آيات القرآن الكريم تعطي جزمًا بأن لهذا الكون المذهل العجيب المبني بإحكام نهايةً زمنيةً محدّدة قد وضعها خالق الكون نفسُه، ولا يملك أحد على الإطلاق أن يتقدّم بلحظتها أو يتأخر بها.

       نهاية تتحدث عنها الآيات الكريمة الكثيرة من مثل هذه الآيات {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[1].

       {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[2].

       {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا، فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا}[3].[4].

       وإذا كان الكون يسير إلى نهاية بنيته القائمة، وسيؤول إلى أن تكون السماوات غير السماوات، والأرض غير الأرض فلماذا قيام هذه السماوات، وهذه الأرض، ولماذا هذا الإنسان بكلّ أجياله السابقة واللاحقة في تدفّق دائم على مدى قرون متطاولة ليبلغ في أعدادها المليارات التي تضيق عنها الأرض لولا رحيلها بصورة متتالية إلى عالم القبور، ولماذا هذا العقل النافذ البعيد المدى عند الإنسان، وعبوره حدود هذه الحياة وكل الكون المادي؟ ولماذا هذا الشعور الغزير الأصيل في بناء الإنسان وصميم كيانه النفسي إلى الخلود، وهو أمر لا تحقّق له في هذا الحياة؟ ولماذا هذا التعلّق عند الإنسان بالحياة السعيدة التي لا يشوبها شقاء في بُعدِ من أبعادها، وهو الأمر المستحيل في عالم دنياه وكل مدة هذه الحياة؟ ولماذا هذا التطلّع العميق الثابت في داخل الإنسان بأن يُنصف من ظالمه، وأن يعيش حياةً لا ظلم فيها ولا هوان ولا إذلال ؛ الشيء الذي لا توفُّر عليه بالمستوى المطلوب لأحد في إطار الحياة الدنيوية وما تتسع طبيعتها له؟ ولماذا هذا الشعور عنده بأن من استرجع منه حقه الذي سلبه إيّاه لم يظلمه، وأن من اقتصّ بما يساوي جريمته في حقّه لم يتجنّ عليه وإن آلمه اقتصاصه منه؟

       ولماذ الشعور عند الغاصب حقّ الغير، والمعتدي بأذاه، والمتسبب في شقائه بتأنيب الضمير قبل أن أن يموت ضميره بكثرة الظلم والتعدي والآثام، وبأنه أهل للعقوبة؟ ولماذا هذا الإيمان بالغيب في كلّ الأمم، وفي كل الأجيال والمكان والزمان قبل تدخّل التربية في صناعة قناعات ومشاعر وأفكار الإنسان؟

       وهل هذه الفراغات، وهذا التخلّف عما يتطلّع إليه الإنسان، وعمّا هو مرتكز في نفسه من وجوب الاقتصاص من الظالم، والانتصاف للمظلوم هل ينسجم هذا كله مع ما عليه محدودية الحياة، ومع ما عليه عدم قدرة هذه الحياة على تلبية هذه التطلعات وهذه الآمال وهذه المشاعر وهذه الأفكار العميقة الثابتة الأصيلة؟

وهل هذا منسجم مع كون عريض عظيم إنما وُجِد لينتهي، وبُني ليُهدم، وأن يكون الهدف من قيامه السقوط، ومن بنائه الهدمَ والانهدام؟! وبنهايته وانهدامه تنتهي كل قصته وقصّة حياة الإنسان بفكره العابر للزمان والمكان والمحدود، وشعوره البعيد من كل آفاق حياته الدنيوية، وتطلّعه الذي لا يقف عند حدود ما تُطيقه من سعادة، ومن كل امتداد تُفرض له نهاية من امتدادات الحياة؟[5]

وهل تنسجم خاتمة الموت الأبدي للإنسان من غير أن يلقى ثواب إحسانه، أو يواجه عقوبة سيّئات تراكمت عليه قبل موت وبعد موت وهو يدرك في حياته انسجامه مع ذاته حال الحسنة، ومفارقته لها قبل اشتداد تلوّثها حال سيّئته، وأنّ من حق إحسانه أن يُقابَل بالإحسان، ومن شأن سيئته أن تقابَل بمثلها حسب محكمة ضميره في أصله[6].

وهل تنسجم هذه الخاتمة المأساوية التافهة للكون كلّه، وللسماء والأرض والإنسان ما يشهد به البناء الكوني وكلّ ما في السماء والأرض وكيان الإنسان من دقّة الصنع، وروعة التكوين، والحكمة وراء كلّ ذرّة، وكلّ وزن، وكلّ معادلة، وكل علاقة سببية ومسبَّبية، وكل مقدمة ونتيجة، وما يكشف ذلك عنه من الحياة والقدرة والعلم والإرادة الحكيمة المطلقة؟![7].

الكون وكل ما في الكون لا يتحدّث عن حي وراء صنعه غنيّ بالحياة ذاتا حياة كاملة مطلقة هي أصل كل مستويات الحياة لكل من أُعطي الحياة فحسب[8]. وإنما يتحدث مع ذلك عن علم وقدرة لا حدود لهما وعن إرادة كريمة مطلقة، وحكمة ودقّة، ورحمة ولطف لا يُجارى وما من شيء له من ذلك ما لله تبارك وتعالى، ولا نصيب لأحد منه إلا من عطاء الله وفيضه الكريم.

ويتحدّث الكون بما يغنى به من دلائل العلم، والإرادة والحكمة، ودقّة الصنع والتصميم والهادفية التي لا تخلف في كبير أو صغير منه عنها… يتحدث عن غاية تنسجم مع هذا كلّه؛ هي حياةٌ تعقب هذه الحياة وتلقى فيها كل نفس ما عملت من خير أو شر في دنياها، لتخلد نفوس في جنّة النعيم الأبدي، وتخلد أخرى في النّار الحريق والعذاب المقيم بما قصّرت وكسبت يدها من إثم.

وكلّ متجاهل لهذا الأمر لابد أن ينتهي تجاهله، وكل متغافل عنه سيلقى غِبَّ تغافله، ومن عاند واجه أشدّ دركات الخسارة، وأقسى مراتب الندم.

ومواجهة المصير ليست بالشيء البعيد. أعاننا الله على يوم الرحيل من هذه الحياة.

اللهم ما كلّفتنا به من عقيدة إلّا وهديت إليها، وأقمت البرهان الواضح عليها ولكن لا غنى لقلب بكل الآيات عن دوام هدايتك، ولا إبصار منها للحقّ بلا توفيقك، ولا قبول لها به مع خذلانك، فأعذنا من الخذلان، ولا تؤاخذنا بالآثام، ولا تجعل لنا إنكارًا للحقّ، ولا استكبارًا عليه، ولا تلكؤًا عنه، ولا استثقالًا لما اقتضاه يا أرحم الراحمين.

اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}[9].

 

 

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي ما خلق نفسًا وأهمل التكفّل بها، ولا أجَّل لأحد من خلقه أجلًا فغلبه عليه غالب، وما قدّر لأحد رزقًا فنقص عليه رزقه، ولا يملك أحد أن ينقص أو يزيد على ما قدّر، أو يؤخّر ما قدّم، أو يقدّم ما أخّر، فكل الأمور جارية بمشيئته، وليس لشيء منها خروج على إرادته.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله اطلبوا خير دنياكم، وسعادة الآخرة من الله وحده، وتوسّلوا به إلى ذلك بالأخذ بدينه، وتطبيق منهجه، وسلوك صراطه، ولزوم تقواه، والاستعانة برحمته، والتعلّق بعفوه ومغفرته؛ فإنه لا وسيلة لأحد لنيل خير، أو دفع شر من غير الله سبحانه الذي لا ملك لأحد من دونه، ولا حول ولا قوّة إلّا به.

       اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم لا تجعل للشبهة في دينك إلى عقولنا سبيلا، ولا للعمى إلى قلوبنا طريقا، ولا للزيغ إليها منفذا، وارزقنا استقامة الفكر والشعور والعمل على صراطك يا علي يا قدير، يا عزيز يا حكيم، يا رؤوف يا رحيم.

اللهم صلِّ وسلّم وزد وبارك على سيد النبيين والمرسلين وخاتمهم المصطفى محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين.

اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أمّا بعد أيها الأحبّة في الله من مؤمنين ومؤمنات فمع هذا الحديث:

       من أحوال الأمم:

       سبق كلام في عوامل تقدّم الأمم وأنَّه لا تقدُّم كما ينبغي وعلى الحقيقة من دون القيادة الصالحة.

       والعامل الثاني لهذا التقدُّم هو وحدة الكلمة.

       تقدّم الأمة التقدّمَ المتكامل وفي كلّ مسارات البناء الصالح النافع الرشيد محتاج بالضرورة إلى أن تعيش وحدة الكلمة، وألا تُباعِدَ بين مكوّناتها الآراءُ والاجتهادات والنزعات والمصالح المتفرّقة، وألا تفقد الجامع الذي يحميها من الاقتتال، ويقيها من الاحتراب بعد الاحتراب، والفتنة المهلكة بعد الفتنة.

       وما كان للنموذج الأعلى للأمم الصالحة في الأرض والذي تَمثّل في الأمة الإسلامية زمن حاكمية الرسول الأعظم صلَّى الله عليه وآله لها أن يتمّ لو ابتليت في داخلها بألوان التمزّقات، وسادتها فوضى الحروب البينية وكانت قبائل أو أحزابًا أو طوائف متقاتلة[10].

       ووحدة الأمة وكما سبق لا تكون بلا تمحور منها حول فكرة بنّاءة أصيلة صالحة.

       ولقد كان تمحور هذه الأمة أيامه صلّى الله عليه وآله حول أعظم رؤية وأصلح فكرة وأحقّ مبدأ، وحول أعظم قيادة، وعندما كان تمحورها حول الإسلام والرسول، وهما حبل الله المتين بذلك كانت تلك الأمّةَ العظيمةَ الشامخة العملاقة.

       يقول الكتاب العزيز:{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} [11][12].

       أناس فرّقتهم الأفكار المتعددة الساقطة، والأهواء الأرضية السافلة، والعصبيَّات الجاهلية المقيتة فأوهنتهم، وتخلّفت بهم أشدّ التخلّف، ثم جمعت شتاتهم الفكرة الصالحة، والرؤية الإلهية المنقذة، والأطروحة الرشيدة ووحّدت منهم الصفوف على هدى الله[13]، وانطلقت بهم على طريق البناء الرشيد ليكونوا من بعد ضلالهم وفرقتهم وتخلّفهم أهدى أمّة، والأمة الأشدّ توحّدًا، والأقوى والأبرز تقدّمًا من بين الأمم.

       وهذا ما التفت إليه أعداء الأمّة من داخلها وخارجها قديمًا وحديثًا فأعطوا الكثير من الجهد والتفكير والتآمر على وحدة الأمة، ومن أجل تمزيق شملها، ولتتواجه قبائل وأحزابًا، وقوميَّات ومصالح، وطوائف وأقطارًا في خصومات دائمة، وحروب دموية طاحنة.

       وقد وجدت المساعي الخبيثة لهدم وحدة الأمة، وتمزيقها من التكفير وسيلة من أنجح الوسائل لتحقيق هذا الهدف وهو تكفير المسلم لأخيه المسلم على خلاف ما أنزل الله عزّ وجل، وجاء به الكتاب، وبلّغ به الرسول صلّى الله عليه وآله، تكفير لا يُبقي حرمة من حرمات المسلم في دائرة الاحترام، ويهدر منه كلّ حرماته.

       وما أحدثه هذا التكفير الذي أخذ واقع الظاهرة في المجتمع المسلم ليس التباعد وخلق الفواصل الفكرية والنفسية في صفوف المسلمين وطوائفهم فحسب بل حوّل الأمة في عدد كبير من أقطارها إلى أمّةِ مذابحَ دمويةٍ داخليّةٍ جاهلية واقتتال بشع شنيع.

       وإذا كان التكفير في أول ظهوره في تاريخ الأمة عن جهل أو سوء نيّة فردية فهو وليس من زمن قريب فحسب تقف وراءه سياسة دوليّة معادية للإسلام والأمّة الإسلامية.

       وقد أغرت نتائج التآمر العدائي لديننا وأمتنا الأعداء، وما أمدّوا به التنظيمات التي بنتها أيديهم الآثمة من قوّة باطشة، وثروة ممكّنة ومستوى للانتشار الواسع لظاهرة التكفير، وفاعليتها المدهشة التي تمتلكها في تفتيت وحدة الأمة وجاذبيّة هائلة لشباب مغرّر بهم، وعلماء من طلّاب الدنيا والباحثين عنها، وحروب جاهلية موقعة لأكبر الخسائر بالإسلام والمسلمين، وثروة هذه الأمة ؛ أغراهم ذلك بأن تستمر جهودهم في توسيع هذه الظاهرة والزيادة في امتدادها.

       وإذا كانت هناك ظاهرة تكفير تتخذ المذهب السنيّ منطلقًا لها متحدثة باسمه، مدّعية كذبًا بأنها الممثل الحقيقي له دون ما عداها من طرحٍ من كلّ من ينتسبون لهذا المذهب الإسلامي الكريم، فإنه صار في نظر الأعداء ألّا بد من ظاهرة تكفير تتخذ المذهب الشيعي منطلقًا لها، وتتحدث باسمه، وتدّعي أنها الممثلّ الحقيقي لهذا المذهب الإسلامي الشامخ كذلك.

       والعمل جادّ من أعداء الإسلام المتآمرين على الأمة على تكوين هذه الظاهرة[14]، ودعمها وتغذيتها، وإيجاد التنظيمات المتكفلة بنشرها والإخلاص لها، وتعميمها، وكذلك تجييش الجيوش من أجلها.

       وفي كل التكفيرين قضاء على الإسلام والأمّة الإسلامية.

       والعداوة من هذا التكفير أو ذلك التكفير ليس لهذه الطائفة بخصوصها، وليس لتلك الطائفة بخصوصها، التكفير السني عداوته للسني والشيعي، للإسلام كلّه، والتكفير الشيعي عداوته للشيعي والسني، والإسلام كلّه. ولذلك كان على الأمة الإسلامية ألا تصادق التكفير في خطّه السني ولا التكفير في خطّه الشيعي على الإطلاق.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم قِ هذه الأمّة شرّ كل ذي شر، واحمها من الفتن، واهدها صراطك المستقيم، وردّ لها عزّتها وكرامتها وقوّتها، ووحّد كلمتها على تقواك يا أرحم الراحمين.

       اللهم ارحم شهداء الإسلام في كل مكان، وموتى المسلمين، واشف الجرحى والمرضى، وردّ الغرباء سالمين غانمين في عزّ وكرامة يا من هو على كل شيء قدير، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[15].

      

[1]الانفطار: 1-4.

[2]الانشقاق:1-5.

[3]الواقعة: 4-6.

[4]هذه نماذج من آيات كثيرة تتحدّث عن انتهاء هذا البناء الهائل للكون العظيم المصمّم بدقّة فائقة لا يبلغ العقل لها مدى ولا تصوّرا.

[5]الإنسان لا يقف تطلّعه، ولا يقف امتداد آماله، ولا تنتهي نظرته ولو امتدّ عمر الزمن أضعاف ما عليه ولكن بقي محدودا. لو امتد العمر إلى آلاف السنين، وإلى ملايين السنين وكانت الحياة هي هذه الحياة ما كان ذلك يُشبع تطلّع الإنسان وأمله وما عليه توجّه فطرته.

[6]أنا وإن كنت لا أحبّ أذى العقوبة، ولا أتمنى لنفسي أن أُعاقب، لكن أؤمن في داخلي ما دام عندي صحوة ضمير أن من حقّ الآخر أن يقتصّ مني بمثل ما جنيته عليه. هذا موجود في ضميري وإن كانت نفسي تنفر من أن أعاقَب أو أؤاخَذ بمثل ما أجرمت.

[7]أترى أن يقبل العقل، أن يقبل الوجدان أن تكون الوريقة من أيّ شجرة تحمل أسرارا علمية دقيقة وتصميما دقيقا وغاية حكيمة، وأن كل ذرة من ذرات الكون، وكل جزئية، وكل عنصر، وكل خليّة كلّ ذلك هادف، وكل ذلك عن قصد، وقصد سليم حكيم دقيق، أما الكون بمجموعه فيبُخلق عبثا؟! أترى ذلك، وأن يكون هذا الكون كلّه بلا غاية، وأنه إنما بُني لينهدم وتنتهي كلّ قصته؟! أيقبل عقل هذا؟!

[8]حديث الكون كل حديثه أن هناك حيّا غنيّا قديرا هو الذي أوجد هذا الكون بشهادة هذا التصميم العظيم، وهذا الخلق الهائل؟! أم للكون شهادة أخرى وأن ذلك الحي الحكيم القادر العلي العظيم حكيم كل الحكمة، هادف كل الهادفية؟!

[9]سورة التوحيد.

[10]ما كانت قيادة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وهي القيادة القمّة التي لا توازيها قيادة ما كانت تلك القيادة العملاقة لتكفي لإيجاد الأمة الإسلامية القوية الشامخة لو كانت تلك الأمة طوائف متنازعة، وأحزابا متقاتلة.

[11]– 103 /آل عمران.

[12]ما كان أمام الأمة العربية يومذاك إلّا نار دنيا ونار آخرة، لولا أن أنقذها الله بالإسلام والرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

[13]وخلف القيادة الحكيمة القديرة من رسول الله صلّى الله عليه وآله.

[14]أي ظاهرة التكفير في المذهب الشيعي.

[15]– 90/ النحل.

 

(( إضغط هنا للاستماع للخطبة صوت ))

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى