خطبة الجمعة (621) 8 ذو الحجّة 1435هـ – 3 أكتوبر 2014م

الخطبة الأولى: الإنسان مُهِمُّهُ وأهمُّه
الخطبة الثانية: الإنسان والعجلة – الحرية ليست واحدة – لا سياسة في الدين – تنبيه: خبران من محض الافتراء

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي ما كان شيء وما يكون إلّا تحت علمه، وهو محفوظ عنده لا يُنسى، ولا يغيب، ولا يشتبه بما سواه، ولا شيء قد وقع أو يقع إلّا وهو داخل في قَدَرِه، ولا محيص لأحد مما قدّر، ولا مفرّ مما قضى، وما من نفس إلّا وهي صائرة إليه، قاضٍ فيما كسبته كان لها أو عليها، ويعفو ربّنا عن كثير، ويضاعف حسنات المحسنين.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله من تدبّر اهتدى، ومن تفكّر أبصر، ومن رجع إلى صحيح العقل لم يضلّ، وما دلّ عقل صحيح صاحبه على ربّ غير الله، ولا معبود سواه، ولا ينصح عقل سليم بطاعة أحد إلّا بما دخل من ذلك في طاعة الله، ولا أخذ بأمر ولا نهي إلا بما انتهى لأمره ونهيه؛ إذ لا مالك إلّا هو، ولا خير إلّا من عنده.

       فلنُخلِصْ أيّها المؤمنون الطاعة والعبادة لله وحده، ولنتّق الله حقّ تقاته، وإلّا فلا رشد، ولا عقل، ولا حكمة، ولا نجاة، ولا مصير إلى فلاح.

       اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم إنّي وعبيداً من عبيدك أسأنا إلى أنفسنا فأحسن لنا، وأفسدنا من قلوبنا ما أفسدنا فأصلحها، وجمعنا على ظهورنا أوزارًا فحطّها عنّا، وضيّعنا كثيراً من العمر فتداركنا، وردّنا بلطفك من كل ضلالة إلى الهدى، ومن كلّ خطأ إلى الصواب، وارزقنا على طريقك الاستقامة حتى ننقلب إليك المنقلب المرضيّ، ونصير إلى رحمتك في المرحومين، وإلى كرامتك في المكرَمين يا عظيم المنّ، يا متفضّل، يا محسن، يا رحمان، يا رحيم.

       أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذا العنوان:

       الإنسان مُهِمُّهُ وأهمُّه:

       كلّ عضو في الإنسان له دوره وأهمّيته، وكلّ جارحة من جوارحه لها فاعليّتها، وللقلب واللسان أهمّية خاصّة، وفي استقامتهما استقامة الإنسان، وفي طهرهما طُهره، وفي رجسهما رجسه، وبهما يُوزن عند عقلاء الناس، ومن استقامتهما وانحرافهما، ومن طهرهما ورجسهما يكون في موقعه في الناس، وفيما ينتهي إليه من مصير.

       والقلب يشمل قوّة الإدراك، وهو مركز الشعور، ومصدر النوايا، وما ينطوي عليه الإنسان من عزم، ويُضمره من غاية.

       وهذا ما يحدّد نوع نشاطه الذي يستوفي عمره، وهو كلّ رأس ماله، ومن نوع العمل يكون النجاح والفشل، وحسن المصير، وسوء العاقبة.

       واللسان هو أداة الإنسان لنقل أفكاره ومشاعره، والكشف عن داخله، وبه يُناصر، ويحارب الحقّ أو الباطل، ويُعان([1]) ويُنتصر للمظلوم أو الظالم، ويُقام القسط أو الجور، وتُنشر الفضيلة أو الرذيلة، وتُشنّ الحرب وتطفأ، وتُشعل الفتنة وتُخمد.

       وكم من كلمة فجّرت حربًا طال أمدها، وامتدّت مكانًا وزمانًا إلى بعيد، وأتت على كثير من رَطْب ويابس، وأبادت خلقًا كثيرًا، وسبّبت خطرًا مستطيرًا، وأسّست لظلم متّسع، وفجور منتشر، وفساد عظيم، وبلاء مقيم جسيم.

       وكم من كلمة انطلقت لتهدم باطلًا شقيت بطول مكثه في الأرض وحاكميته لحياة الناس أجيال وأجيال؛ لتقيم صرحًا للحقّ مقامه، وتستبدل عن شقائه سعادة تطيب بها الحياة، وتأنس بها قلوب الناس، ويعمّ الهدى بعد الضلال، والعدل بعد الجور، والمحبّة بعد البغضاء، والألفة بعد الفرقة والشتات.

       وكم من كلمة مكّنت لظالم، وكم من كلمة ردّته عن ظلمه، وكم من كلمة أثارت هادئًا وحوّلته بركانًا بعد هدوئه، وكم من أخرى هدّئت غاضبًا وصارت به إلى حال من الوقار والرزانة، ودخلت به إلى عالم جديد من التأمّل والبصيرة.

       الكلمة تؤدّي دورًا نافعًا أو ضارًّا متّسعًا، وينتشر منها النفع والضرر بما يغضّي شعوبًا وأممًا وأجيالًا كثيرة متلاحقة.

       والحروب العالمية تبدأ بالكلمة لتنطلق من بعد تبادلها بين دولتين أو أكثر المدافع والطائرات الحربية، وكل أنواع الأسلحة الفتّاكة لتأتي على حياة أعداد غفيرة من الخلق، وعلى مساحات كبيرة ومدن رئيسة من العمران، ثم ومن بعد غلبة من أحد الطرفين، أو يأس الأطراف تنتهي الحرب بالكلمة كذلك.

       والمطلقون لكلمات الفتنة من كلّ شعب وأمّة نظرا لأغراضهم السيئة مجرمون في حقّ الشعوب والأمم، والذين يغلبهم الجهل على الكلمة فتصدر منهم هذه الكلمات عن جهل هم من أضرّ من يضرّون الناس بجهلهم.

ومن أين تأخذ الكلمة استقامتها وانحرافها؟

تأخذ ذلك من عقل سليم أو سقيم، ومن قلب طاهر أو قذر.

وحتى سوء التعبير، ووقوع أهله في أخطاء فادحة مهلكة له مصدر من الجهل، وعدم الدراية بمقتضيات التعبير الدقيق.

فلو طلبنا العلم، وصحة التفكير، وعالجنا أمراض العقول، وفساد المنهج العقلي، وتخلّصنا من خبث السريرة، وتوفَّرت قلوبنا على تقوى الله، ولم يكن لها ميل للفساد في الأرض، ولا تساهل في حقّ إنسان لعفّت كلّ جوارحنا، ومنها اللسان عن أذى الخلق، وما يثير العداوة بين الناس، ويشعل الفتن، ويهدم الأمن؛ أمن الأفراد والشعوب والأمم.

ولا يمكن لاختفاء الظواهر الهدّامة المدمّرة، ولا لتواجد الظواهر البنّاءة الكريمة أن يحصل في حياة النّاس إلا باتباع منهج الدّين، وقيام بناء الإنسان في ضوء هداه، وحكم شريعته، وفي ظلّ قيادته.

فلتكن هذه الأمة أسبق الأمم في العودة إلى الله، والأخذ بدين الإسلام القويم في كلّ مساحة حياتها.

وليكن هذا الشعب من أشدّ المبادرين لهذا الشرف والعزّ والهدى والنور.

وليكن المؤمنون أكثر الناس حماسًا وأشدهم انطلاقا، وأقومهم إخلاصا وجديَّة في تطبيق الإسلام في أنفسهم وحياتهم الخاصة والعامة ما استطاعوا ليكونوا القدوة الحسنة الأولى في هذا السباق الكريم؛ ليهتدي بهم غيرهم بما سينعكس على واقعهم من خيرات هذا السبق، وعظمة الإسلام التي تجتذب من عرفها من قريب أو بعيد.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم ما لنا من هدى فمن عندك، وما بنا من ضلال فمن أنفسنا، ولا شرّ فينا إلا من جهلنا وتقصيرنا وإسرافنا على أنفسنا؛ فاهدها بهداك، وردّنا عن الغيّ، وصحّح نياتنا وعملنا، وأصلحنا يا من هو فعّال لما يريد، يا رؤوف يا رحيم يا كريم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([2]).

 

 

 

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي يشهد لعظمته، ويسبّح بحمده، ويعلن عن قدرته، وعلمه، وحكمته، وجميل فعله، وجميل عطائه كلّ مؤمن وكافر، وكلّ حيّ وميّت، ومن كان في نوم أو يقظة، وفي شدّة أو رخاء، وفي سرّاء أو ضرّاء، إذ لا صاحب نعمة إلّا ونعمتُه من عند الله، ولا وجود لشيء إلّا به سبحانه، ولا حياة لحيٍّ لطرفة عين أو أقل إلّا من فضله. له الحمد دائما أبدا بلا انقطاع حمدًا لا يُحصى ولا يُعدّ، وكما هو أهله، ويليق بجلاله وجماله وكماله.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله كلّ نفس تطلب لنفسها النجاة من الشرّ، ونيلَ الخير، وألَّا توافي شيئًا من الندامة، ولا تقع في شيء من الخسارة، وأن تلقى نجاحًا كبيرًا، وتبلغ من الفوز أعظمه.

       ولكن ما كلّ نفس تأخذ بما فيه نجاتها من الشرّ، ونيلها الخير. يمنعها من ذلك حبّ الدنيا ولهوها، وعدم النظر في العاقبة، وعدم الاستذكار لشأن الله عزّ وجل والنسيان لقيمة النفس، وما يُصاب به الإنسان لتفريطه من كِبْرٍ وغرور قتّال.

       ولو لم يكن ذلك لما ضلّت نفس طريق الهدى، وما قدّمت الدنيا على الآخرة، وما استوفت كل نصيبها في هذه الدنيا لتخرج منها خاسرة خائبة خالية الوفاض من أيّ زاد للآخرة، محرومة من خيرها، ليس لها فيها إلّا حياة الشقاء والعذاب.

       فلنستذكر الله، ولنعرف للنفس قيمتها، ولنحترس من غرور الدنيا، ولا ندع للكبر أن يتسلل إلى نفوسنا، ولنتّق الله حتى ننجو مما علينا أن نحذر منه من خسارة الآخرة، ونفوز بما علينا أن نطلبه وهو النجاة فيها، والتنعم بحياة السعادة التي ينعم بها أهلها.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم إن تهدنا نهتدِ، وإن تضلّنا فلا هادي لنا من بعدك، وإنك لا تضلّ إلا من طلب الضلال بسلوك طريقه، ولا تمنع الهدى إلّا عمن أعرض عن هداك الذي يسّرته لعبادك فاجعلنا ممن يطلب الهدى، ويسعى إليه سعي طالبيه حقّا، وممن لا يسلك طريق الضلال، ويفرّ منه جدًّا، وذدنا من موارد الضلال والهلكة، وزدنا هدى يا كريم يا رحمان يا رحيم.

اللهم صلِّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين.

اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى هذا الحديث:

الإنسان والعجلة:

يقول سبحانه في كتابه العزيز:{ وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً}([3]).

الإنسان فقيرٌ في ذاته، والفقير يريد أن يغنى، والحاجة إلى الخروج من ضِيق الفقر إلى سعة الغنى تجعل الإنسان يستعجل ما يتصوّر أنَّ فيه غناه ونفعه ومصلحته، وإن كان ما استعجله هو في واقعه شرًا عليه، أو كان في تعجيله له ضرر له.

يريد الإنسان أن يزرع الآن ويحصد بعد لحظات، ويتمنّى هذه السَّاعة ما يتمنّاه، فينال ما تمناه فيها، ويشرب الدواء فيبادر إليه الشفاء، وهكذا يستعجل الإنسانُ النتائجَ التي يرغبها من كل عملٍ يقوم به من أجلها ولو لم يُتمّه بما يحقق تلك النتيجة المطلوبة.

وعلى هذا القياس تجري الشعوب في حركاتها الإصلاحية وبصورةٍ أكثر تطلّعًا للنتائج الكبيرة، وأشدّ استعجالًا لتحققها.

ويزيد هذا الشوق وهذا الاستعجال عندما يجد شعبٌ أنه بذل الكثير، وضحى بالكثير، ولم يحصد بعدُ النتيجة.

وهنا امتحان يواجه هذا الشعب([4])، وأثرٌ غير حميدٍ لهذا الإحساس؛ حيث قد يدفعه استبطاء النصر إلى اليأس، فيقعد به ذلك عن الحركة، ومواصلة طريقه إلى المطلوب، أو قد يخرج من عقلانيّته، وانضباط حركته، وأخلاقيّاتها الرفيعة إلى مسارٍ آخر فيه أبلغ الضّرر.

بينما لو واصل حراكه على ما كان منه مع التطوير النافع ما أمكن، وعلى الخط نفسه، والعقلانية والأخلاقية المعهودة منه لتحقّق له ما يُريد، وربما لم يكن فاصله عن تحقيق النتيجة التي يُسرّ لها بذلك الكبير، وربما وجد النتيجة المطلوبة على بُعد خطواتٍ لو صبر، وواصل الطريق.

وللنصر في تقدير الله سبحانه وقته النافع للمؤمنين، وقد يكتشف المستعجلون للنصر مفسدةً في تقدُّمه لو جاء كما يشتهون، ولو تأخّر عمّا قدّر الله، وهو لا يمكن أن يتأخر عمّا قدّر عزّ وجلّ، لفاتت فوائد وفوائد جمّة بالغة([5]).

وربما رأى الناس أنهم بذلوا الكثير على طريق النصر المطلوب لهم، وربما أصابهم بذلك الغرور، وعند الله سبحانه وفي علمه الذي لا يُخطئ، وحكمته التي لا يعرضها ضلال، ولفائدتهم وتربيتهم، وتقديرهم لشأن النصر الموعود عند تحققه بما يجعلهم يحمونه، ويُقيمون له وزنًا، ولا يجهلون كيفية التعامل البنّاء معه، عند الله، وفي حكمته، وفي علمه أنَّ عليهم أن يبذلوا المزيد، وأن لابد من صبرهم وانتظارهم أكثر ممّا انتظروا يومَ النصر([6]).

وجهاد اليومين لا يُرّبي التربية التي يُعطيها جهاد السنوات، والنصر العاجل لا يملك في نفس المنتصر القيمةَ التي يمتلكها نصرٌ اشتد الشوق إليه، وامتدّت الأعناق لطول انتظاره في تطلّعها ليومه، ولا ينال من اهتمامٍ وعنايةٍ به، واستثمارٍ له على الطريق الصحيح ما للنصر حين يأتي بعد طول جهاد وصبرٍ وتطلّع مديد، والسائر على الطريق قريب المسافة، والصبر سلاح السير الطويل.

الحرية ليست واحدة:

الحرية تكوينية وتشريعية؛ والحرية التكوينية إطارها، وما يحدّها مدى قدرة الإنسان على الحركة والتصرّف كما يريد، وتحكُّمه في قوانين الكون وجودًا وعدمًا وتأثيرًا وفاعلية وأثرًا([7]).

ومعروف أنَّ الإنسان محكومٌ في حياته وبقائه للقوانين والأسباب التي ليس شيء منها من صُنعه، ولا يملك أن يحذف منها أو يزيد أو يُغيّر، فحريته وحركته التكوينية لا تخرج عن هذه الشبكة الواسعة المُحكمة من الأسباب والقوانين، وهو وكلّ الكون وقوانينه مقهورٌ أمام إرادة الله سبحانه.

وهناك الحرية التشريعية؛ وتتمثّل في مدى السّماح والمنع القانونيّ الاعتباريّ للفعل الذي يمكن للإنسان ممارسته، والتخلّي عنه، مما تتسع له قدرته تكوينًا.

قد يكون الشيء مقدوراً لك تكوينًا غير مقدورٍ لك تشريعًا، وقد يكون مسموحًا لك تشريعًا لكنه لا يمكن لك من ناحية القدرة التكوينية أن تأتيه، والحريَّة التشريعيّة تتسع وتضيق حسب نوع الشرائع والقوانين التي منها الإلهي ومنها الأرضي والبشري.

ولا يوجد قانونٌ إلهيّ أو بشريّ يطلق للإنسان في مجتمعٍ يراد له الاحتفاظ بالبقاء وصفته الاجتماعية أن يفعل كل ما يريد، ويترك كل ما لا يريد بلا قيدٍ ولا شرط، هذا شيء([8]).

والحرية التشريعية الإلهية فيها مراعاة لحقيقة الإنسان، وتركيبته الطبيعية، وحاجاتها المختلفة ما كان منها حاجات روح، وما كان منها حاجات بدن.

وكثير من شرائع الأرض يكون تركيزها على الجانب الماديّ من وجود الإنسان، وحاجات بدنه، وإشباع الشهوات المتصلة بهذا الجانب منه فحسب، والإسلام العادل لا يُفرّق في الحقوق والواجبات الموضوعيّة لتنظيم حياة الإنسان ومجتمعه الصالح، وعلى طريق غايته الكبرى بأن يبخسَ حاجةَ روحٍ لبدن، أو حاجة بدنٍ لروح، إلا فيما إذا وضعت الإنسانُ ظروفَه القاهرة بين أن يخسر دنياه أو يخسر آخرته([9])؛ أو يبخس المرأة للرجل، أو يبخس الرجل لصالح المرأة([10])، أن يُثقّل الواجب على هذا، ويُوسّع حق ذاك لأي اعتبار غير اعتبار العدل والصلاح والقدرة وطبيعة الذكورة والأنوثة اللتين لا يمكن إنكار الفرق بينهما، وهو فرقٌ لا مساس له بمستوى إنسانيتهما.

وللإسلام بشأن العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الإنساني أحكامه الخاصة التي تنظر إلى وحدتهما الإنسانية وتساويهما فيها، وإلى ما يفترقان فيه من خصائص الجنس النفسية، وما لها فيه دخل في بعض الوظائف والأحكام في نظرةٍ عادلة شاملةٍ مستوعبة، تُراعي مصلحة الطرفين، وتُنسّق بين دوريهما، وتحسب لما للانفتاح في العلاقات الجنسية بينهما، وانعدام الضوابط التشريعية والسلوكية في هذا المجال من آثارٍ بالغة السّوء على العلاقات النَّسَبية والاجتماعية والخُلُقِية، وتأثير سلبيٍّ هائل على السلوك الهادف في الحياة لما يُحقِّق الغاية السامية، والمبتغى العقلي والفطري والدّيني منها.

وكل حرية تنفع الإنسان ومجتمعه رجلاً كان أو امرأة فهي مطلوبة للإسلام وفي تشريعه، وكلُّ حرية لرجلٍ أو امرأة أو شعبٍ أو حاكم فيها ضرر لا اعتبار لها في هذا الدين العظيم.

والتقدير الأدقّ والأصوب، والتقدير الحق للمصلحة والمفسدة إنما هو تقدير الله عز وجل لا تقدير العباد.

وأن ينطلق الرجل أو المرأة([11]) وراء رأي الشخص نفسه أو آراء أمثاله القاصرة من الناس، ويركض وراء ما يقضي به الهوى، ويميل إليه ذوقه الخاص وشهوته البدنية فيما يقول ويُعلن، ويتعرَّى ويستتر، ويدخل في أيِّ علاقة جنسية مع الجنس الآخر، وينفتح على كلِّ منظر مثير للشهوة، ويستثير الغريزة الحيوانية عند ذكر أو أنثى، وأن تُظهر المرأة فتنة اللباس وفتنة الجسد لإيقاع الآخر في الرّذيلة، وأن تكون حياة المجتمع الذي يُقيمه الإسلام على انتشار المراقص والملاهي([12]) التي تدفع للغليان الجنسي، واباحية السلوك المرتبط بالجنس كما في الثقافة الغربية وما تتبناه أخلاقيّتُها، فذلك كله مما يبرأ منه الإسلام، ويُجانبه ويعاديه، ويعاقب عليه من فَعَلَه، ونتائجه لا تخفى، والسّقوط الأخلاقيّ الذي يُؤدّي إليه، وتُمثّله مظاهره لا تغيب عن النظر.

لا سياسة في الدين:

تقول السياسة الدنيوية لا سياسة في الدين، ولا مِساس للدين بالسياسة ولا صلة له بها.

ومن أدخل الدين في الشأن السياسي ومسألة الحكم مثّل ذلك منه انحرافًا بالإسلام، وتزويرًا لطبيعته، ولابد أن تُواجهه السياسة الحامية للدين بأشد العقوبات.

ولا تعجب أن تدّعي السياسة الدنيوية القائمة على مناقضة الدّين أنها حريصة على حمايته، فالزمن زمن الأعاجيب والألاعيب والمغالطات.

سلّمنا جدلًا بأن إدخال الدين في أمر السياسة، والشأن العام للمجتمع والأمة المسلمة إقحام غريب معيب له في أمرٍ لا ينبغي إقحامه فيه، حمايةً للدين من أرجاس السياسة كما قد يُقال، أو حمايةً للسياسة فيما هو الحقُّ من طُهر الدين، وعدله، وإنصافه، وأخلاقيّته الرّفيعة([13]).

ولكن من أين كان الكلام من الدّين وعلى لسان علماء الدين إقحامًا له في السياسة، ومرتكبه يستحق العقوبة إذا كان هذا الكلام في صالح العدل والمظلوم والشعب، وهو أمرٌ طيّب ومستساغ، ومجازى عليه بالعطاء والتقريب لأصحابه إذا كان في نفع الظلم والظالم والأنظمة الحاكمة؟!([14])

ومن جهة أخرى، أليس عالم الدين المواطن ثابتًا له كلّ ما للآخرين من حقوق المواطنة؟! ثم أليست الكلمة السياسية في الشأن العام في الحدود التي لا تتجاوز الحرية السياسيَّة الصالحة حقًّا من الحقوق الثابتة للمواطن؟! فبأي وجه بعد ذلك تُمنع هذه الكلمة على عالم الدّين من حيث كونه واحدًا من المواطنين؟! وكيف أُبيح لهذه الكلمة أن تنطلق من جمعية سياسية من لسان عالم الدين، بينما عليه أن يحبس لسانه إذا كان يتحدث من مسجد؟([15])

أسئلة هي الأخرى تنتظر أجوبة منصفة يرتضيها العقل، ولكن لا جواب!

على أنَّ عزل الدين عن السياسة، والذي لم يعزل نفسه عنها؛ لأنه الدين الذي بنى أقوم سياسة، وأعدل وأنجح سياسة، منافٍ للدين تمامًا، ومصادمٌ لفعله وهدفِه وثابتِه الذي لا ريب فيه.

أَوَلا يعني منع الدين من أن يقول كلمته في السياسة منعًا لله عزّ وجل من أن يقضي بشيء في أمر عباده في هذا المجال، وتعطيلًا لحقه ومصادرةً له؟! وهل ينسجم هذا مع إيمان مؤمن، وإسلام مسلمٍ في عقل أو وجدان؟! وهل من جرأة وغرور فاسد مهلك يصاب به إنسان أكبر من هذا الغرور؟!

ومن ناحية عملية سياسيّة بحتة لو عطَّل المسلمون آثمين الإسلام فإنَّ من حقِّ أيّ مواطنٍ أن يُبدي رأيه مع أيّ مشروع له صلة بالشّأن العام أو ضده([16])، وأن يعلن عن هذا الرأي في جوٍ آمن لا خوف فيه، هذا من جهة الحق السياسي في لغة الدساتير والحقوق المقررة عالمياً في هذا المجال بغض النظر عن حقانية هذا الرأي وبطلانه وصوابه وخطأه.

إذا أعطيت نفسك حقَّ إعلان رأيك في الانتخابات، والدعوة إليها كنتَ مؤيدًا، فعليك أن تُعطي غيرك الحق في إعلان رأيه الذي لا يرتضيها([17])، ولك أن تختلف معي في الرأي، ولي أن أختلف معك في الرأي، وأن تُبيّن خطأ رأيي، وأن أُبيّن خطأ رأيك، بلا أن أُخوّنك أو تخوّنني، أو أسقطك أو تسقطني. أليس هذا هو العدل لو كان العدل هو المُتبّع؟

وأين لانتخابات يُدّعى أنها من الديمقراطية وهي تبتني من أولها إلى آخرها على وجهة نظر واحدة، وعلى الولاية المطلقة للسلطة، أن تنتسب للديمقراطية بشيء من الواقعية والصدق، أين لها من ذلك وهي تتهدد وجهة النظر الأخرى بالعقوبة المشدَّدة إن عبّرت عن رأيها بالتعبير العلمي المحترم اللائق؟ قول تتكاذب معه أحداث الواقع.

تنبيه: خبران من محض الافتراء:

خبران صارخان كذبًا نشرتهما صحيفة محلية:

أولًا: اجتماع دبلوماسيين من سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في منزلي لعددٍ من المرات لإجراء مشاورات بين طهران وعيسى أحمد قاسم بشأن الانتخابات القادمة.

ثانيًا: انتهاء هذه المشاورات إلى حسم الموقف؛ وذلك باتخاذ قرار المشاركة؛ الشيء الذي لا أعلم به أصلًا ولا بمقدمة ولو بسيطة من مقدماته، والظاهر أنَّ الناشر المحترم يظنُّ بأن موقفي الشخصي على خلاف المشاركة، وقد تعمّد الترويج للعكس([18]).

وللخبرين دلالات أوسع من ذلك، وأكثر من ذلك، وهي لا تخفى على من أمعن النظر، وشكرًا للصحيفة.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم أصلح ما فسد من أمور المسلمين، وأصلح فهمهم للإسلام، وردّهم عن معاندته، واحم دينك، وعبادك المؤمنين من تضليل المضلّين، وتحريف المحرّفين، ومن الزور الذي ترتكبه السياسات الظالمة، والبهتان الذي لا تتورع مما يسيء إليه، ويوقع من يوقع في الشبهات.

اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، وردّ الحجّاج والغرباء من المؤمنين والمؤمنات أجمعين إلى أوطانهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([19]).

[1]– أي وباللسان يُنتصر للمظلوم أو الظالم.

[2]– سورة التوحيد.

[3]11/ الإسراء.

[4]أعني أيَّ شعب.

[5]– لنا تقديرنا ولله تقديره، وتقديرنا مخطئ وتقدير الله لا يخطئ الصواب.

[6]– هتاف جموع المصلين (طال الزمان أو قصر * الشعب سوف ينتصر).

[7]– قدرتك التكوينية تتمثل في هذا، فيما وهبك الله من قدرة وحرية في التصرّف، من حرية طبيعية في التصرّف في قوانين الكون وفي حركتك، كم لك من قدرة على الحركة والتصرف بالأشياء من ناحية تكوينية، ذهنية، يد، أدوات، هذه قدرتك التكوينية.

[8]– هذا شيء لا يوفّره لك قانون إلهي ولا قانون بشري. لا قانون يقول لك تصرف كيف تشاء في كل ما تستطيعه، لا يوجد لا من السماء ولا من الأرض قانون يقول افعل ما تشاء على الإطلاق واترك ما لا تشاء على الإطلاق.

[9]– هنا الإسلام يقول لك اخسر دنياك في سبيل ربح آخرتك، ذلك لأهمية جانب الروح وجانب الآخرة.

[10]– هذا ليس في الإسلام.

[11]– كما تريد بعض الآراء.

[12]– هكذا تدفع بعض السياسيات، هكذا تطرح بعض الآراء، هكذا يُتحدث عن الحرية.

[13]– كما هو الصحيح.

هذا الإقصاء هل هو من أجل طهر الدين أو من أجل أن تبقى السياسة محتفظة بنجاستها؟ الصحيح هو الثاني.

[14]– هناك يكون معاقبًا عليه، هنا يكون مجازى عليه بالإحسان، سؤال يريد العقل جوابًا منصفًا له، فهل يملك أحدٌ هذا الجواب؟

[15]– من أين هذا؟

[16] لكل مواطن أن يعلن رأيه مع هذا المشروع أو ضد هذا المشروع.

[17]– إذا كنت مؤيداً لك أن تعطي حق إبداء الرأي للطرف المعارض، إذا كنت معارضاً وترى أن لك أن تبدي رأيك بذلك فعليك أن تعطي هذا الحق نفسه لمن يؤيد.

[18]– يظهر من الأمر ذلك.

[19]– 90/ النحل.

 

(( إضغط هنا للاستماع للخطبة صوت ))

 

زر الذهاب إلى الأعلى