خطبة الجمعة (620) 30 ذو القعدة 1435هـ – 26 سبتمبر 2014م

الخطبة الأولى: البشر والبشاشة
الخطبة الثانية: نحن والدّين – من سفه الإنسان – إلى أيّ حدٍّ سيشارك الشعب في الانتخابات المقرّرة؟

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الحقّ المبين، الذي لا يفعل إلّا الحق، وكلّ تدبيره حقّ، ورزقه حقّ، ويُحيي ويميت بالحقّ، ويقضي بالحقّ، وكلّ أمره ونهيه به، وبالحقّ تقوم السماوات والأرض، وتبقى الأرض من إذنه، وهو العزيز الحكيم، العليّ القدير، الفعّال لما يريد.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله ما نصح عبد نفسه بمثل ما نصحها بطاعة الله وعبادته، والتزام نهجه، ومن أخذ نفسه على هذا الطريق فقد اهتدى إلى سعادته، وما أضرّ عبد بنفسه إضراره بها ما اتّبعها في هواها فأركبته كلّ مراكب السّوء، وسلكت به شُعب الهلاك.

       وإن تنصح أحدًا فلا نصح له كنصحك لنفسك، ولا نصح مني كنصحي لنفسي([1]). فلننصح أنفسنا بما يُنجيها، وما تُدرك به الفلاح من طاعة المولى تبارك وتعالى، وطلب رضاه.

       ولنتّق الله، وننصح النفس والأهل والولد، وكلّ من نحبّ ونشفق عليه بأن لا نعدل عن طاعته أبدًا، ولا نبتغي عن مرضاته بدلا، أخذًا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا…}([2]).

       اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       ربّنا قلوبنا في قبضتك تُصرّفها كيف تشاء، وفعلك العدل والإحسان فلا تحملنا على عدلك، وعاملنا بإحسانك، واصرف قلوبنا عن معصيتك إلى طاعتك لتنتهي بنا إلى جنّتك ورضوانك يا من هو على كلّ شيء قدير، يا أرحم الراحمين.

       أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في موضوع:

البشر والبشاشة:

       وإذا كان البشر والبشاشة في وجه الغير يحملان في ظاهرهما رسالة مودّة للآخر، وترحيب به، وإقبال عليه، فلنكن صادقين في ما نبعثه له من رسالة، ونوصل له من معنى، ولا تكن رسالتنا إليه كاذبة، ورسالة مكر أو خديعة([3]).

       وإذا كان من البشاشة ما قد يأتي مجاملةً لدرء الشرّ فإنّ شيئًا من ذلك لا يصحّ أن يأتي للإيقاع في السّوء والإضرار.

       والمؤمن أعفّ من أن يظلم أحدًا، ويأثم في حقّ الآخر.

       ولنتابع الحديث في ضوء النصوص الواردة:

       البشاشة بين الإطلاق والتقييد:

       ليس في الإسلام خُلُق يعين على باطل أو يقرّه، ويشجّع على فساد ويفتح له الطريق، ويرحّب به. فالإسلام يريد للمسلم أن يطفح على محيّاه البشر، وتعلوه الابتسامة إلّا أنّه يتّخذ موقفًا مضادًا من أهل المنكر، وما فيه إنكار على منكرهم حسمًا لمادة الفساد في المجتمع، ورحمة به وبهم([4]).

       عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“من سلّم على صاحب بدعة أو لقيه بالبشر واستقبله بما يسرّه فقد استخفّ بما أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وآله”([5]).

       وعنه صلّى الله عليه وآله:“تقرّبوا إلى الله عزّ وجل ببغض أهل المعاصي، وألقوهم بوجوه مكفهّرة”([6]) والاكفهرار: العبوس.

       وهو اكفهرار يحمل رسالة إلى مرتكب المعصية بالإنكار، وبغض معصيته، وسوء ما كسب, وأن المجتمع سيكون في مجافاة له وعداوة لو لم يقلع مما هو عليه مما يغضب الله ولا يرضى به دينه.

       وعن الإمام عليّ عليه السلام:“أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وآله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهّرة”([7]).

       ذلك لننقل إليهم النفور من المعصية وأهلها، وشذوذ مرتكبها عن الخطّ القويم، وعدم مهادنته.

       ويتحدّث المنقول عن الإمام العسكري عليه السلام عن انقلاب الموازين في المجتمع المنتسب للإسلام زمن أن يتدهور وضع الأمّة، وينحدر عن خطّ الدين، وتغرق في دنياها.

       ففي الحديث عنه عليه السلام لأبي هاشم الجعفري:“يا أبا هاشم سيأتي زمان على النّاس وجوههم ضاحكة مستبشرة وقلوبهم مظلمة منكدرة، السنّة فيهم بدعة، والبدعة فيهم سنّة، المؤمن بينهم محقَّر، والفاسق بينهم موقّر”([8]).

       نعم، مع تراكم الانحرافات عن الإسلام في مجتمع المسلمين، وانحصار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصل الأمر إلى أن المعروف في الإسلام يكون منكرًا في مجتمع المسلمين، والمنكر عنده يكون معروفا عندهم([9]).

       وإذا كان السائد في التعامل مع أهل المنكر بالإعراض واكفهرار الوجوه ردعًا عنه، إلا أنه لو فُرض في حال من الأحوال كان إبداء شيء من الطيبة والمرونة أنجع في تخليص مرتكب المنكر من منكره فإنّ الدين لا يقدّم الشدّة عليه، بل هو بطبيعته وحكمته يُقدّمه على الشدّة([10]).

       ماذا يمثّل البشر؟

       عن الإمام علي عليه السلام:”البشر أوّل البر”([11]).

       والبر هو الخير والصنع الجميل، والفعل الصالح المفيد.

       وعنه عليه السلام:“حسن البشر أول العطاء، وأسهل السخاء”([12]).

       سخاء لا يكلّف صاحبه ولكنّه عطاء كريم.

       والبشر ينمّ عن مروءة، ونفس شريفة لها خلق جميل، فعن الإمام علي عليه السلام نفسه:“أول المروءة البشر، وآخرها استدامة البر”([13]).

       وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر”([14]).

       وعنه صلّى الله عليه وآله:“إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق”([15]).

       يقف العطاء المالي عما يمتدّ إليه عطاء البشر وطلاقة الوجه، ولا يمكن التودّد ببذل المال بقدر ما يمكن بناء المودّة وفتح أبوابها عن طريق البشاشة والابتسامة الصادقة.

       حيث ينفد المال، ولا ينفد خلق البشاشة والبشر ممن رزقه الله إيّاه.

       وعُدّت البشاشة صدقة من صاحبها على الآخرين، وهي مما يملك الغنيّ والفقير، وقد يغنى بها فقير في المال ويكون أكثر من غنيٍّ في هذا الخلق.

       عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“كلّ معروف صدقة، ومن المعروف أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط”([16]).

       هذه هي المنطلقات:

 البشاشة، والاتّسام بها منطلق عقلي ونفسي، ومنطلق من إيمانٍ وتقوى وحياء حميد.

       عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“حسن البشر بالناس نصف العقل”([17]).

       والعقل نظريّ وعمليّ؛ النظري أسس متينة من هبة الخالق العظيم لفطرة الإنسان ينطلق منها النّظر الصحيح، ويقوم عليها الفكر المنطقيّ المنضبط، وما يقوم على هذه الأسس من بناء علميّ ومعرفيّ سليم.

       والعقل العمليّ إدراك لما ينبغي أن يُفعل، وما لا ينبغي أن يُفعل، وابتناء المواقف العملية في حياة الإنسان على هذا الإدراك، وعدم مخالفته.

       والبشاشة بما هي خلق كريم مريح بنّاء داخلة في العقل العملي وهي من وحيه، ودليل عليه.

       عنه صلّى الله عليه وآله:“من أخلاق المؤمن حسن الحديث إذا حدّث، وحسن الاستماع إذا حُدِّث، وحسن البشر إذا لُقي، ووفاء الوعد إذا وعد”([18]).

       فالإيمان منطلق الخلق الكريم الذي يطبع شخصية أهل الإيمان الذين تغنى به أنفسهم، ويعون ما تعنيه مدرسة الإيمان، ولذلك لا يأتي منهم إلا العطاء الحسن، والخلق الكريم.

       وللنفس الحرّة والبريئة من الأحقاد والعقد وأمراض الجهالة وأرجاسها ([19]) طيبة وأريحيّة وانفتاح. ولذلك يكون من شيمة الأحرار بهذا المعنى البشر والبشاشة.

       تقول الكلمة عن عليّ عليه السلام:“البشر شيمة الحرّ”([20]).([21])

       وللحياء الكريم للنفس ونزاهتها دور في تمتّع صاحبها بالبشاشة. عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“أما الحياء فيتشعّب منه اللين والرأفة والمراقبة لله في السرّ والعلانية، والسلامة، واجتناب الشرّ، والبشاشة، والسماحة، والظفر، وحسن الثناء على المرء في الناس، فهذا ما أصاب العاقل بالحياء، فطوبى لمن قبل نصيحة الله، وخاف من الله أن يفضحه” ([22]).

       إن الحياء ليمنع صاحبه من أذى جليسه، وتعكير خاطره، وتكديره، ويحمله على أن يلتمس له أسباب الأنس والراحة والإكرام مما يحلّ الله فيجد من بشاشته لمن يخالط ويلتقي استجابة لهذا الحياء الجميل.

       والنفس الكريمة يصدر عنها الخير بلا تكلّف، ويرشح منها العطاء النافع بلا معاناة، وقد جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام:“يُستدل على كرم الرجل بحسن بشره، وبذل برّه”([23]).

       والبشاشة حين تكون طبعًا، وأمرًا تلقائيًّا عند إنسان تكون دليلًا على كرم نفسه.

       وللبشاشة بركات تذكرها الأحاديث الشريفة وكلمات المعصومين عليهم السلام، منها: أنس الرفاق، المودّة والمحبّة، الصلة والتعاون بين الناس القريب والبعيد، وتأكيد الإخاء، وفوق كل ذلك أن من قصد نشر الخير من ذلك، والأهداف الكريمة الصالحة منه كان له منه سبيلٌ إلى القرب من الله والجنّة.

       عن الإمام الباقر عليه السلام:”صنيع المعروف، وحسن البشر يُكسبان المحبّة، ويقرّبان من الله، ويدخلان الجنّة”([24]).

       أضف إلى ذلك أن البشر يكسر من حدّة العناد عند خصمك ومجادلك، فعن الإمام علي عليه السلام:“البشر يطفي نار المعاندة”([25]) فهو في هذه الكلمة الكريمة أكثرُ من كونه يكسر حدّة العناد كونه يطفي ناره.

       وفيه غسل للسيئات مما يقرّب للمولى عزّة وجل، ويعيد الشخص إلى الطريق.

       “إذا لقيتم إخوانكم فتصافحوا، وأظهروا لهم البشاشة والبشر تتفرّقوا وما عليكم من الأوزار قد ذهب”([26]) ([27]).

       إنه من تبادل الإحسان بين المؤمنين، والاستجابة لمقتضى آصرة الإيمان، وفيه صلاح المجتمع المؤمن، وتقويته، فيُقابله من كرم الله الذي يحبّ لعباده كل ذلك أن يُسقط عنهم بذلك أوزارهم، وثقل الذنوب الذي يُرهق الظهور([28]).

       وعن الإمام الصادق عليه السلام تعدّ وتجاوز بثواب الجنّة لصاحب البشر عن دائرة بشره مع المؤمن للبشر لجميع العالم وذلك مع المنطلق الصحيح للبشر الذي يرضاه الله سبحانه، وحين يكون المقصود من ذلك رضاه، وحيث يأتي هذا البشر في مورده الموافق للشريعة.

       فعنه عليه السلام:“ثلاث من أتى الله بواحدة منهنّ أوجب الله له الجنّة: الإنفاق من إقتار([29])، والبشر لجميع العالم، والإنصاف من نفسه([30]).

       ولا عجب أن يُعطى العبد الجنّة العظيمة بهذا الخلق لأنّه لا يكون إلا في مؤمن يعرف الله، ويطمع في ثوابه، ويرى كلّ العِوَض في التقرّب إليه، وموافقة نيّته وشعوره وقوله وفعله لرضوانه.

       والحمد لله رب العالمين، وأستغفر الله لي ولكم وللؤمنين والمؤمنات أجمعين، وصلّى الله عليه على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

       اللهم اجعل أخلاقنا من أخلاق أوليائك، ونيّاتنا صادقة سليمة خالصة في طلب مرضاتك كنّياتهم، واجعلنا منهم في حياتهم السائرة على طريقك وفي مماتهم ومبعثهم، واحشرنا معهم، وصر بنا جميعًا إلى جنّة الخلد والنعيم.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}([31]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله بديع السماوات والأرض الذي يخلق ما يخلق بلا مثال ولا اقتباس، ولا معين ولا مشير، ولا يكون خلقه للأشياء لمعالجة أو مكابدة، ولا يعجزه خلق شيء مما يقبل الخلق، ولا تقف قدرته عند حدّ، وليس لإبداعه نهاية، وفي كلّ يوم هو في شأن.

       اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       عباد الله إنما الدّين من جعل الله وحده، ولم يجعل لأحد من خلقه أن يستقلّ في شيء منه، وأن يزيد فيه أو ينقص ما اشتهت له نفسه، وما من عبد مؤمن يجرؤ على الله بأن يدخل في دينه ما ليس منه، أو ينسب إليه ما هو أجنبيّ عنه.

       فلنحذر في أمر الدين كلّه؛ حجّه، وصومه، وصلاته، وكلّ عباداته ومعاملاته من أن يُدخل فيها أحدٌ بجهله ما يستحسنه، أو يسقط منه ما لا يدرك حكمته، متّبعًا هوى نفسه، وقاصرِ رأيه.

       وما اتّقى عبد ربّه العظيم وهو يُقدم على هذا الزّور، ويَحْدُثُ منه هذا الافتراء على الله ودينه الحقّ المبين، فيفسد بذلك دين الله.

       ألا فلنتّق الله، ونذعن لشرعه القويم، وإلا فالعاقبة نار الجحيم، والعذاب المقيم الأليم.

       اللهم اجعلنا ثابتين ما بقينا على دينك، والالتزام بنهجك الذي أنزلته لسعادة عبادك لا مُغيّرين ولا مبدّلين، ولا نستحسن إلا ما استحسن دينك، ولا نردّ منه ما رضي به، ولا نؤمن في داخلنا بما خالفه، ولا تميل أنفسنا إلى الخروج عن الحقّ الذي أحقّ، أو الأخذ بالباطل الذي أبطل يا رحمن يا رحيم، يا رؤوف يا كريم.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد أيّها الأحبّة في الله فهذه بعض كلمات:

       نحن والدّين:

       الدين وإن كان مأخذه في الأصل العقل، والعقل هو الذي يصير بنا إليه، إلا أن المرجع في أحكامه الوحي، وما يكشف العقل عنه من هذه الأحكام إنّما هو بعض الكلّيات العريضة الكبرى منه.

       ولا قيمة لمرجعية الظنّ والرجوع للعقل الشخصيّ، ولو كان الشخص عالمًا.

       فالرأي منه في نفسه لا عبرة به، وإنما دور هذا العقل([32]) مع التخصص المطلوب أن يتوصّل إلى الأحكام من أدّلتها الشرعية.

       أما الهوى فطريق مضادّ للدّين، وتحكيم العقليّة العامّية في الأحكام الإلهية مفسد للدّين، ومؤدٍّ إلى الخروج عليه([33]).

       أفسدت العقليّة العامّية([34]) وغير المتخصصة بما فيه الكفاية مساحات من الدين بما أدخلت فيها من مفردات جهلها. ولو تُرك لهذه العقليات أن تذهب إلى آخر مداها في إدخال ما تراه في دين الله وحيث تشاء لفسد الدين كلّه([35]).

       ما صاغته وتصوغه العقلية العامية حول قضية كربلاء مثالًا، وهي مدرسة إسلامية نقيّة كبرى من خرافات استطاعت أن تأخذ مكانها للمنبر والموكب والشعار، وعموم مسألة الإحياء لذكرى الطفّ في قديمه وحديثه، لا زال يُسيء إلى هذه المدرسة الهادية.

       ولم تَسْلَم الصلاة في بعض المناطق من تأثيرات هذه العقلية وإنتاجها من زيادة لا أصل لها في الدين.

       ولم تسلم أيضًا زيارة الأئمة عليهم السلام هي الأخرى مما امتدّ إلى الشعائر من هذه العقلية من الغريب عن الدّين.

       والحج قد تزحف إليه البدعة كما تُنذر بعض البدايات المنقولة على ألسنة ملاحظين من الحجّاج والمرشدين الواعين الكرام([36]).

       وكل هذه المساحات الدينية تحتاج إلى حماية من العلماء، وكلّ الواعين والغيارى على الدين من هذه الأباطيل، ومن تصرّف العقلية العامّية المؤدّي حتمًا إلى دين ممسوخ بعيد عن واقع الدين([37]).

       وما يمكن اليوم تداركه لا يمكن غدًا، أو لا يكون تداركه إلا بفتنة كبرى، وخسائر فادحة.

       من سفه الإنسان:

       من سفه الإنسان أن أراد له الله سبحانه أن يكون كبيرا، وأعدّه لأن يكون كبيرا، وهو لا يريد لنفسه إلا أن يكون صغيرا وحقيرا، وأن يسّر له سبحانه طريق الهدى وهو يصرّ إلا أن يكون ضالّا، ووفّر له منهج السعادة وهو يستهدف إلا أن يكون شقيّا.

       يرتكب كلّ ذلك حين يتولّى عن الله عزّ وجلّ، ويقيم حياته، ويبني حضارته على هذا المنهج أو ذاك المنهج من مناهجه الأرضية المبتدعة على يده.

       من سفه هذا الإنسان وجهله أن أقام حضارة مادية جاحدة لله، منفصلة عن القيم الإلهية، والتي تنادي بها فطرة النفس البشرية الناطقة بالحقّ وبما فيه استقامة مسيرة الحياة وصلاحها، وتحقيق سعادة الإنسان الآن في هذه الحياة وفي الأبد.

       حضارة يهدم فكرها وقاعدتُها وأخلاقيّتها المادية غرضَها، وتضادّ هدفها بوسائلها. لو كان غرض حضارة المادّة أمنَ الإنسان في دنياه، وغناه، وسعادته فيها فإنَّ قاعدة الكفر التي تنطلق منها فاقدة للرادع عن الظلم والفساد والاستحواذ على كل أسباب اللذة البدنية، واستجماع الثروة، وإن كان في ذلك شقاء الآخرين، وفقرهم، وتدهور العلاقات الاجتماعية. وشيوعُ هذه الظواهر يجعل المسبَّب لها محل استهداف للملايين مما يسلب الراحة والسعادة من الجميع([38]).

       والأخلاقية الماديَّة، وروح الأنا تتعملق وتتمدد في أحضان هذه الأخلاقية والتي أنتجت القنبلة الذرية ثم القنبلة النووية والأسلحة الكيماوية الفتاكة تضع حياة أهل الأرض جميعا على كف عفريت، وتُحطّم ما بنته حضارة المادّة لقرون من الزمن في لحظات([39]).

       وهذه الأخلاقية التي تلهب السباق والتنافس المادي الشرس والمجنون، وتستبيح كل شيء في سبيل الاستحواذ على الثروة، ومضاعفتها، والهيمنة الظالمة على الآخرين قد أدّت إلى تسميم البحر واليابسة والجو بما أفسد البيئة، وأحدث خللًا خطيرًا في طبقة الأمازون الحافظة للأرض من التأثيرات السلبية المهلكة للشمس، والتي ليس أشدّ ما تؤدّي إليه هو ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان بين النّاس إلى جنب الآثار المدمّرة الأخرى.

       إن الحضارة المادية التي تحكم الأرض اليوم بقوّتها الفتّأكة المبيدة الشرسة المتغطرسة، وأخلاقيتها السقيمة المفسدة تعمل على طريق انتحارها على بُعدين:

       البُعد المعنوي؛ حيث تستمر جاهدة في تحطيم الجانب الروحيِّ، والأخلاقيات المعنوية للإنسان، وحكومة الضمير مما يطلق يد الشر والفساد، ويسقط الحواجز القويّة عن التعدّي على الآخر([40])، وشنّ الحروب الظالمة الاستكبارية التي تأتي على الحرث والنسل.

       والبُعد الثاني الذي تعمل حضارة الحيوان القائمة على اللعب به وتحطيمه هو البيئة الطبيعية بحرًا وبرًّا وجوًّا على سبيل الأطماع المادية، والنزف المادي، والاستعلاء والاستكبار، وبناء القوة الكافية لتدمير العالم، وتكديسها ومضاعفتها تمكّنًا من الهيمنة على الآخر.

       لا سعادة لهذا العالم ولا بقاء لبناء مادي بناه الإنسان، ولا وجود لمعنويات تحفظ له الأمن والاستقرار، ولا عدل يُنهي فوضى البغي والعدوان والإرهاب والاقتتال إلا بالرشد؛ ولا رشد، ولا تمسُّك بهدى ما لم تصدق عودة الناس إلى الله ودينه الصادق، والقيادة الربّانية التي يرتضيها هذا الدين.

       والبشرية اليوم تذوق بعض ما جنته يدها من آثام وأخطاء، وهي آخذة في غيّها إلى حين أن يضاعف ذلك من محنتها، ويريها صدق وعيد الله في الدُّنيا قبل الآخرة لتطلب العدول إلى طريق النجاة والنجاح، لتلقى من وعده الكريم في الحياة الأولى قبل حياة الأبد الآتية([41]).

       إلى أيّ حدٍّ سيشارك الشعب في الانتخابات المقرّرة؟

       أما أصل المشاركة فمعلوم بحسب طبيعة الأمور إذ من الشعب من يرى في نفسيته وفي نظره أن يصوِّت بنعم، وإن كان التصويت على إبادة الشعب. لو جاء تصويت على إبادة الشعب هناك مستعدّون أن يصوّتوا بنعم على إبادة الشعب، فهذا مفروغ منه.

       ومن الناس ممن لا يحسب إلا لمصلحته الشخصية المادية، ولذلك فإنه مستعد للترشيح والتصويت إذا كان ذلك ثمنًا للحفاظ على موقع أو كسب موقع جديد له قيمة في نفسه على كل التقادير خسر الشعب أو ربح، خفّ الظلم أو زاد على سائر الناس.

       وهذا قليل، وخاصة الأوّل قليل في الناس.

أما عن سؤال: إلى أي حد ستكون المشاركة؟ فهذا هو المهم.

من يدري بالإجابة الدقيقة على هذا السؤال بدرجة أكبر وآكد من بين الناس هي السلطة([42]). ذلك بعد أن يكون تمّ جزمًا تخطيطها للانتخابات، والصورة التي ستأخذها من جمودها على ما كان، أو تغيّرها سلبًا أو إيجابًا، ومن موافقتها أو مضادّتها لمصلحة الشعب، فمن كل ذلك تكون الحكومة على بيّنة من حجم المشاركة، ومن سيشارك فيها([43]).

أما الدعاية المؤيّدة أو المضادّة فتأثيرها لو قُدّر لها تأثير في ظلّ وعي الشعب وانكشاف الصورة له فهو تأثير ثانوي ضعيف، والتأثير المحوري لقيمة هذه الانتخابات في نظر الشعب. ولن يفيد لخلق موقف شعبيّ مضاد لقناعته تزهيد أو ترغيب أو تخويف، أو عصى، والمال السياسي لا ينجح في تغيير الموقف عند غالبية الشعب.

والأمر لا يحتاج إلى فتاوى دينية؛ فمخطط الانتخابات هو الذي سيفتي الشعب بالمشاركة أو عدم المشاركة.

الانتخابات المغرية بطبيعتها وأجوائها ومقدماتها الإيجابية كإطلاق أحرار الشعب من السجون والمعتقلات لا يحتاج إلى إقبال الشعب عليه إلى دعاية مناصرة ودفعه([44]).

والانتخابات الضارة لن يجدي معها أسلوب لين أو قوة، أو تضليل أو وعود لدفع الناس للمشاركة.

والانتخابات التي لا نفع فيها ولا ضرر([45]) حسب تقدير الشعب لا يقدم عليها عاقل جاد، ولا تحمله رجله إلى صناديق الاقتراع فيها.

هذه هي الحقيقة وكل ما في أمر هذه الانتخابات والمشاركة فيها، وما عدا ذلك ضجيج بلا أثر، وخضخضة للبن بلا زبدة.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه، ولا تجعل لنا مفارقة له ولا عدولا، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ولا تجعل لنا مقاربة له ولا دنوًّا يا عاصم من استعصم به، وانصرنا ربّنا على كلّ عدوّ ظاهر أو خاف وردّ عنا كيده يا قوي يا عزيز، يا رحمان يا رحيم.

اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([46]).

[1]– ولا نصح لي لغيري كما لو نصحته بما أنصحها به.

[2]– التحريم: 6.

[3]– لا تبتسم لي ابتسامة كاذبة، ولا أبتسم لك ابتسامة كاذبة فيها خداع.

[4]– نحن لا نرحم صاحب المنكر حين نبتسم في وجهه. الرحمة به غير ذلك. وهذا قاعدة، ما لم يكن استثناء.

[5]كنز العمال ج3 ص82.

[6]– موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص325 ط1.

[7]الكافي ج5 ص59 ط3.

[8]إكليل المنهج في تحقيق المطلب ص128 ط1.

[9]– وهذا الزمن الذي نعيشه يشهد صورًا من هذا الانقلاب الجاهلي الخطير.

[10]– وهنا موازنات، قد ألاين صاحب منكر لكن هذه الملاينة تعين الآخرين على المنكر، وبدرجة أكبر من غرض ارتداع هذا الشخص، هنا لا تأتي اللينة والطيبة. هي موازنات بين الأهمّ والمهم.

[11]– موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص305 ط1.

[12]عيون الحكم والمواعظ ص228 ط1.

[13]موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص305 ط1.

[14]الكافي ج2 ص103 ط4.

[15]المستدرك للحاكم النيسابوري ج1 ص 124.

[16]كنز العمال ج6 ص418.

[17]الأمالي للشيخ الطوسي ص614 ط1.

[18]كنز العمال ج1 ص155.

[19]– يعني النفس المتخلّصة والبريئة من كل ذلك.

[20]موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص318 ط1.

[21] ليس حرّ الجسد، إنما الحر بالمعنى المتقدم.

[22]تحف العقول ص17 ط2.

[23]موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص319 ط1.

[24]المصدر السابق ص322.

[25]عيون الحكم والمواعظ ص50 ط1.

[26]الخصال للشيخ الصدوق ص633.

[27] إنه لجزاء عظيم من أعظم عظيم، والعظيم الذي لا تُدرك عظمته.

[28]– تعدّ بثواب الجنّة لصاحب البشر عن دائرة البشر مع المؤمن للبشر لجميع العالم، وذلك مع عدم كونه رسالة تساعد على الفساد والمنكر.

[29] على حال من تقتير الرزق لهذا الإنسان هو ينفق في سبيل الله ما استطاع، ولو بمقدار الدرهم الواحد.

[30]– الكافي ج2 ص103 ط4.

[31]– سورة الكوثر.

[32]– أي العقل الشخصي.

[33]– إذا أعمل أحدنا بعقليَّته العادية، غير الفقهية الاجتمهادية المتخصصة في أمر الدين، وقال ما يريد، أمر بما يريد، أو نصح بما يريد، وزهّد فيما لا يريد فهو مفسد لدين الله تبارك وتعالى، وهذا كله يستوي فيه أمر الدين كلّه بعباداته ومعاملاته وفي كل نسيجه. كل نسيج الدين غير قابل أن تدخل فيه العقلية العامية شيئًا من عندها. فلنحذر!

[34]– العقلية العامّية هنا في قبال العقلية الفقهية للفقيه المكتمل فقهيَّا الناضج في فقاهته.

[35]– فهم الدين بيد العقلية العامية لن تجد من هذا الدين صحيحًا.

[36]– هناك ملاحظات ينقلها حجّاج وينقلها مرشدون هي بدايات مخوفة ومنذرة بإدخال العقلية العامّية والمشتهيات النفسية من البدع ما تدخله في فريضة الحج. هذا إلى جانب ما يحصل من تهتّك عند شباب وشابات في مواسم من مواسم الحج في الديار المقدسة.

[37]– إن أردنا دينًا مسخًا فلنترك العقلية العامية أن تفعل ما تشاء في دين الله.

أقول: أن المساحات الدينية تحتاج إلى حماية من كلّ المعنيين، وإلا اشتركنا كلّنا في الجريمة؛ جريمة القضاء على الإسلام.

[38]– أنت حين تنطلق بحضارتك من قاعدة الكفر، والكفر معناه تركيز روح الأنا عند الإنسان، وتركيز روح الجشع، وهو قاعدة فقد القيم كل القيم إنما تصنع إنسانا شريرا، إنما تصنع إنسانا مفسدا، فأين السعادة والناس مفسدون، والناس أشرار؟! أين تكون السعادة التي تطلبها الحضارة المادية؟ حتى سعادة هذه الحياة، حتى أمن هذه الحياة كيف يكون؟!

[39]– هذه الحضارة يهدم فكرها غرضها أو لا؟ تهدم أخلاقيتها هدفها الدنيوي أو لا؟

[40]– هذا بُعد تُحطّم به الحضارة المادية نفسها.

[41]– ما تقرّبه العيون، وتنشرح الصدور.

[42]– السلطة تدري تمامًا أي مقدار من هذا الشعب سيشارك أصلا في التصويت.

[43]– بعد أن عرفت هذا تعرف هذا.

[44]– قدِّم مخطّط للانتخابات يعرف الشعب تمامًا أنه في مصلحته، وقل للشعب لا تشارك فسيشارك.

[45]– هناك انتخابات نافعة لا تحتاج إلى دفع، هناك انتخابات ضارة لا يفيد في المشاركة فيها أي عامل وأي محاولة، وهناك انتخابات بلا ضرر ولا نفع. ما النتيجة لهذه الانتخابات؟

[46]– 90/ النحل.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى