خطبة الجمعة (615) 17 شوال 1435هـ – 15 أغسطس 2014م

الخطبة الأولى: البصيرة
الخطبة الثانية: مستوى الشعوب هو الذي يحكمها – نهضة الأمم – هل يعود الربيع ربيعًا

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي لا فَتْحَ لباب خير، ولا غَلْقَ لباب شرٍّ إلّا تحت علمه وقدرته، ولا نفاذ لإرادةٍ في أرض أو سماء إلَّا بإذنه، ولا علم لأحد إلّا من عطائه. وكلّ شيء من دونه محدود وهو وحده الذي لا حدّ له، تحتاجه الأشياء كلُّها وهو وحده الغنيُّ بذاته، وغِنَى كلِّ شيء من عنده.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله للنفس ما يصلحها وما يفسدها، وصلاحها بما يوافق حقيقتها، ويقرب بها إلى كمالها، ويساعد على وصولها للغاية التي تسعد بها، وفي ما خالف ذلك سِرّ فسادها.

       ومَنْ غير الله وهو بارئ النفوس ومكوّنها يعلم بحقيقتها ودقائق تكوينها، ويُحيط بما يناسبها وما لا يُناسبها؟! ومن لم يُحط بحقيقة النفس وغوامضها وكل ظروفها وما يمكن أن يكتنفها كيف يتوصل إلى وضع المنهج الذي يناسبها وينقذها ويُصحِّح مسارها ويُحقق لها غايتها؟!

       فلنقصد منهج الله سبحانه الذي يسّره لهدى عباده وصلاحهم وسعادتهم، ولا نخلط به فهمًا آخر، ولنُخلِص له الطاعة، ونوحِّدْه في العبادة، ولنصدق في تقواه، ولا يكن لنا تخلٍّ عنها أبدًا.

       اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       يا من لا مرحوم إلّا من رَحِم، ولا مُنجي إلّا لمن نجّى، ولا عاصم لمن لم يعصم، ولا أَمْن لمن أخاف، ولا خوف لمن أمّن تولّنا برحمتك، ويسّر لنا سبل الهداية من فضلك وأنقذنا من كل سوء يا حنّان يا منّان يا ذا الفضل العظيم.

       أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في موضوع البصيرة:

       نور البصيرة قابل للضعف والاشتداد، وللغياب طويلًا والحضور، وللضيق والاتساع، وقد جعل الله سبحانه لذلك أسبابه ومكّن الإنسان من هذه الأسباب، وحمّله مسؤولية الأخذ منها بما يزيد من بصيرته، وتوقّي ما تنقص به منها.

       وقد تقدّم ذِكْرُ ما ينمّي البصيرة ويزيد في قوتها وانتشارها وهذا حديث في ما يُضعفها ويطمس نورها:

       عوائق البصيرة وموانعها:

  1. اتباع الهوى:

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}([1]).

حين يعلم الإنسان من هو الإله الحقّ وأنَّ كلّ من عداه وما عداه لا ألوهية له، ولا عبادة ولا طاعة، وإنما العبادة والطّاعة لله وحده، فيُعاند علمَه ويخرج على معرفته فيُقيم هواهُ ورغبته إلهًا له مقام الله عزّ وجلّ فيعبُدُه ويطيعه مختارًا هذا الاستبدال عن علم مُقدِّمًا به الباطل على الحق، مُعرِضًا عن التفاتٍ وقصدٍ عن الاستقامة إلى الانحراف والعِوج فهذا ضلال لا يُنتج إلّا الضّلال، وعمى لا يوقع إلا في مزيد من العمى، فالنتيجة في سنة الله من سنخ العمل، والمسبّب من طبيعة ومقتضى سببه. وإذا جرت سنة الله على عبده لم يكن لها مُعيق أو مُعطّل ولا مانع.

فاتخاذ الهوى إلهًا تخلٍّ عن الهدى – والهدى اتباع العلم والأخذ بمقتضاه – يُضعف البصيرة ويذهب بها.

وعن الإمام عليّ عليه السلام:“من ركب الهوى أدرك العمى”([2])([3]) فراكب الهوى كأن غايته أن يقع في العمى وهو بما يرتكبه من هواه مدرك لهذه الغاية، وواقع في العمى.

  1. الرغبة في الدّنيا:

عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“من يرغبُ في الدّنيا فطال فيها أملُه أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها”([4]).

وعن الإمام عليّ عليه السلام في صفة أهل الدّنيا:“سلكت بهم الدّنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في نعمتها، واتخذوها ربّا، فلعبت بهم ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها”([5]).

كل درجة من الرغبة في متاع الدنيا وزينتها وترفها وما تجاوز النافع منها، وكل استلانة أمام زخرفها ولذاتها، وكل استسلام من النفس لمحرماتها يضيع به شيء من عقل الإنسان، ويفقده شيئًا من حكمته، وتغيم به رؤيتُه، وتعشو بصيرته، ويصيبه تيه وضلال وذلك ما لذلك الاستسلام والدرجة من الاستنامة والاستلانة من قدر.

هذا الولع بالدُّنيا، والانجذاب لها يسلك بصاحبه طريقًا لا يسلكه إلا أعمى ضلّ الطريق، وضيّع الغاية. إنه تأليه للدنيا واتخاذ من هذا المتوله بها لها له ربًّا ليتحوّل لعبة بيدها، ووجودًا تعبث بعقله وقلبه، وتُفسد عليه وجوده، وتصرفه عن غايته([6])، وعابثًا في أيامه فيها، ويُحوّلها هذا التأليه عابثًا بغايتها وقيمتها.

  1. الغفلة:

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}([7]).

قل لي ما حال الأنعام لو تُركت لأن تدير شؤون حياتها وتُفرّق بين ما يصلحها ويفسدها وهي على ما هي من عدم الإدراك، ومن غير أن تأخذ بها غرائزها إلى ما يحفظ عليها وجودها وحياتها؛ فهل كانت تبصر مصلحة أو مفسدة، وتُميّز بين نافع وضار، وتملك أن تأخذ بما ينبغي، وتجتنب ما لا ينبغي؟! لا شك أنَّ ذلك كله سيكون بعيد المنال عليها. وهذا هو حال فاقد البصيرة، ومن عطّلت الغفلة منه فائدة سمعه وبصره، وسدّت منافذ الإدراك والتعقُّل عنده، وجعلته كالأنعام بل هو أضلّ سبيلا([8]).

وإن مثله لا يكون قادرًا على التمييز الصحيح، ولا الاختيار الصحيح، ولا معرفة الطريق، ولا الاهتداء إلى الغاية.

عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“… وأمّا علامة الغافل فأربعة: العمى، والسهو، واللهو، والنسيان”([9])([10]).

  1. الحبّ:

عن الرسول صلّى الله عليه وآله:“حبّك للشيء يُعمي ويُصمّ”([11]).

الحبّ العاطفي الذي يسيطر على النفس من غير خلفيَّة عقلية تحكمه، والانسياق وراءه هكذا يفعل بالإنسان؛ يسلب منه سمعه وبصره.

  1. ترك العمل بالعلم:

عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“من تعلَّم العلم ولم يعمل بما فيه حشره الله يوم القيامة أعمى”([12]).

العلم الذي يهدي إلى موقف من مواقف الفعل أو الترك في ميدان العمل مخالفته في الموقف ينتهي بصاحبه إلى أن يُحشر أعمى يوم القيامة، وعماه فيه كونه لا يجد سبيله إلى الجنة، وما ذلك إلا لفقده البصيرة في الدنيا وضلاله طريق الغاية؛ غاية الحياة فيها.

  1. معاندة الحق:

{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ}([13]).

من الناس من يعرض عن الحقّ، ويضادّه ويعانده ويقاومه، ولا يرضى السبيل القويم ويريد له أن يأخذ بالانحراف، ويحاول أن يدخل عليه ما يُفسد صفاءه وينحرف به. من الناس من يسعى دائما لتشويه الدين، لإفساد الدين، لتخريب الفكر، لتخريب مشاعر الإنسان، للانحراف بذات الإنسان عن خطّها السليم، وهؤلاء ساقطون في الضلال، غارقون في العمى، فاقدون لنعمة السمع والبصر([14]).

  1. وهناك عدد من الأمور الأخرى حاجبة:

منها عمل الشيطان. عن الرسول صلّى الله عليه وآله:“لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت”([15])([16]).

ومنها: استرشاد المضلين فعن الإمام عليّ عليه السلام:“من استهدى الغاوي عمى عن نهج الهدى”([17]).

ومنها: تجاوز طاقة القلب على الإقبال على العبادة فعنه عليه السلام:“إن للقلوب شهوة إقبالًا وإدبارًا فأتوها من قبل شهوتها وإقبالها، فإن القلب إذا أُكره عمي”([18]).

ومنها: ملء البطن فعنه سلام الله عليه:“إذا ملئ البطن من المباح غمي القلب عن الصلاح”([19]) وإذا كان هذا هو حال المباح إذا ملأ البطن فما بالك بمن يملأ بطنه من الحرام؟!

إنَّ الطرق أمام الإنسان مفتوحة لهداه وضلاله، وخيره وشرّه، وقد أعطي قدرة الاختيار على أن يسلك ما يراه لنفسه من طريق، والذي يتحمل به مسؤولية مصيره، وصنع حاضره ومستقبله.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم أعذنا من أن يُباغتنا الأجل، وتحِلَّ ساعتُنا للوفاة ونحن في معصيتنا لك، غارقين في دنيانا، لاهين عن ذكرك، غافلين عن يوم لقائك، قد غرّتنا دُنيانا، واستولى علينا شيطاننا، ونسينا يوم الحساب.

اللهم اجعل حياتنا حياة ذكر وحمد وشكر وعبادة وطاعة خالصة لك يا عليّ يا عظيم، يا جليل يا جميل، يا ذا المنّ الذي لا يُحصى، والحقّ الذي لا يقضى، والإحسان والفضل الجليل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([20]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي في السماوات والأرض آياته، وفي قلوب العباد هداياته، وتنطق بتسبيحه كلّ مخلوقاته، وفي البر والبحر عجائبه، وملزمة لكلّ منكر حججه، ومبدع كلّ شيء وبيده مصيره وإليه مرجعه، ولا يخفى عليه كبير ولا صغير مما ظهر وخفي من أمره.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله ما بنى امرؤ بناء أنفع له وأبقى من بنائه لنفسه، وما أصلح وضعًا من أوضاع خارجه كما أصلح نفسه، ولا ضرر على إنسان كضرر يلحقه من فساد نفسه، ولا عار عليه كعار سقوطها، ولا كارثة ككارثة انهدامها وخسارتها.

       ولا بناء لنفس يبلغ بناء الدّين لها، والدّين معرفة وتقوى وبهما معًا يقوم بناء النفس، ويتحقّق كمال النفس وسعادتها.

       عباد الله فلنطلب معرفة دين الله وتقواه نبنِ نفسًا قويمة، ونحقّق حياة كريمة، وسعادة أخروية دائمة جليلة مقيمة.

       اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم اجعل لعقلنا وديننا على نفوسنا سلطانا، ولا تجعل لها عليها شيئًا من سلطان، ولا لشيطان ولا مضلّ من الإنس والجنّ لإفساد قلوبنا سبيلا. عليك توكّلنا وأنت نعم الوكيل.

اللهم صلِّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، وصلّ وسلم وبارك على عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى بعض كلمات:

       مستوى الشعوب هو الذي يحكمها:

       قد يتيسّر لأمة أو شعب حَكْمٌ فوق مستواه كما في حكومة الأنبياء، ولكن لا يمكن لهذا الحكم أن يستقرّ في هذه الأمة أو الشعب ما لم يرتفع بمستوى من يحكمهم إلى ما يمكِّن لهم به أن يتعايشوا مع مستواه، ويستشعروا بذلك الرّاحة في ظلّه، والأنس بسياسته، ولا يتمرّدوا عليه([21]).

       وقد يجد حكم من مستوى ساقط فرصة لبسط سيطرته على أمة أو شعب من مستوى شامخ رفيع، ولكن ما لم يكن له أن يهبط بمستوى محكوميه بالسّرعة المطلوبة لبقائه فيهم لا يجد استقراره، ولا تثبت له قدم، ولابد أن يُطرد شرّ طردة.

       والحكم الذي يأتي نتيجة إرادة شعب من غير أن تخطئ ما تريد لا يمكن أن يأتي إلا من مستوى ذلك الشعب، ومن خلفية ما هو عليه من دين وعلم وهدف وتطلّعات. وإذا وقع مع ذلك خطأ غير مقصود في الاختيار تعجّل ذلك الشعب في طلب التصحيح وتدارك الخطأ وإزالة آثاره.

       وفي كل الصور لا يمكن أن يقر قرار حكم في أمة أو شعب مع تباين المستوى التباين الكبير والاختلاف بينهما اختلافًا واسعًا في التوجّهات. ومن ذلك أنه إذا نمت أمة أو شعب بما يبعد بهما عن مستوى الحكومة المتخلفة التي تبسيط نفوذها عليهما لابد أن تنتهي حالة الانسجام، ويبدأ الانفصام، وتأتي قضية التوترات.

       والنتيجة أن أيّ أمة أو شعب إنما يحكمهما أو لا يستقرّ في حكمهما حكم عادل أو ظالم، من مستوى عال أو هابط إلا على أساس من مستواهما.

       فعلى أي حكم يفوق مستواه مستوى محكوميه لكي يبقى أن يرقى بمستواهم ليقتنعوا به ويدعموه.

       ولابد لأي حكم متخلّف يبحث عن استقراره في أمة أو شعب يفوقه في المستوى أن يرتفع بنفسه، أو يعمل جاهدًا ودائبًا على تحطيم مستوى شعبه أو أمته، وفي العادة يتجه الاختيار من هذا النوع من الحكم إلى تحطيم من يحكمهم والهبوط ما استطاع بمستواهم، وفي ذلك مصيبة الأمم والشعوب المبتلاة بنوع من الحكم الظالم والجاهلي الرديء.

       نهضة الأمم:

       لا نهضة لشعب ولا أمة من غير علم، ولا استقامة لأي منهما بلا إيمان. والعلم قوة، والإيمان قوة كذلك، ووسيلة انضباط، ولا ترشد حياة فرد ولا شعب ولا أمة، ولا تستوي مع مستوى الإنسان ولا تُحقّق هدف وجوده من غير إيمان. فالضرورة قاضية بحاجة النهضة من أي شعب أو أمة إلى المركّب من العلم والإيمان.

       الإيمان من غير علم فاقد لوسيلة البناء، والعلم من غير إيمان قوّةٌ هائلة مدمِّرة، ووسيلة فساد وإفساد.

       وللدنيا علومها وللدين علومه والأمة مسؤولة عن تحصيل ما يمكن لها منهما، وليست المسؤولية المتعلقة بهما مسؤولية فرد أو مسؤولية فئة ضيقة ولا مسؤولية أفراد لا تتأدّى الحاجة بهما، على أنَّ من علم الدّين ما هو واجب عينيّ على كل مكلّف من النّاس([22]).

       والإيمان المطلوب لكمال إنسانية الإنسان وترشيد اختياره وسلوكه، وتحقيق هدف حياته، وضبط حركته، وأمن مجتمعه، وعدل علاقاته، ورقي خلقه ورضاه واطمئنانه يحتاج إلى علم صحيح بالدين، وعمق وسعة في هذا العلم يُكتشف به سموّ الدّين وعظمته وقدرة عطائه وعظيم أثره([23]).

       ومن هنا لا إيمان بالدّين الحقّ وبالمستوى الذي يعالج مشكلة الإنسان ويؤدي الوظائف المناطة به مع الجهل بالدين نفسه أو العلم الضحل والسطحيّ به. فالأمة المؤمنة بالمستوى المطلوب لابد أن تكون مهتمّة بعلم الدين الصحيح، والتواصل مع كنوز معرفته.

       وبالنظر إلى أهمية علم الدنيا وعلم الدين يكون على الأمّة:

  • أن تختار العناصر الكفوءة والصالحة دينًا وخُلقًا وتدعمها بكلّ ما يمكّنها من مواصلة دراساتها العالية المتخصصة بمقدار ما يُغطي الحاجة العامّة لهما([24]).
  • بناء هذه العناصر البناء التمهيدي المبكر برعاية المواهب والأخلاقيات والدين لأبناء الأمة في مراحل العمر والدراسة كلّها.
  • يتوجّب على كلِّ جيل من أجيال الأمة أن ينقل المعرفةَ الإسلامية الصحيحة للجيل الذي بعده حفاظًا على الإسلام وصيانة له عن التحريف، وأداءً للأمانة التي يتحمّلها لإبقاء هذا النور في الأرض ليهتدي به الإنسان.

ويُلفت نظر المؤمنين جميعًا إلى خطر غياب التربية الدينية علمًا وعملًا في مخطَّط المدارس الرسمية وتخلُّل ما يُضعف الدين ويضاد معرفته في أجواء هذه المدارس على حاضر الإسلام ومستقبله هذا من جهة، ومن جهة أخرى إلى تيسّر مشاريع التعليم الديني الأهلي وانتشارها بمقدار من النوع المأمون، وإلى عدم قيام الأسر بواجب التعليم الديني لأبنائها وحتى على مستوى الصلاة وقراءة القرآن، وإهمال الدور التربوي لسلوك الناشئة مع كثافة عوامل الانحراف والضلال والفساد وازدحام مساحة المجتمعات هذه الأيام بها من جهة أخرى.

وذلك مما يفرض على كل مكلف من الشباب والشابات أن يسعى لتحصيل المعرفة الدينية الضرورية وكذلك المحصِّنة له من خسارة الدّين بالالتحاق بهذه المشاريع المباركة، وعلى كلِّ أسرة مؤمنة أن تدفع بأبنائها وبناتها بكلّ جدّية إلى هذه المراكز من مراكز الإشعاع الدّيني تحمُّلًا لمسؤوليتها في تعليم دينهم وتربيتهم التربيةَ الصالحة، وأن يضيفوا إلى اهتمامهم بتحصيلهم العلمي للحياة الدّنيا والذي فيه قوة تحتاجها الأمة اهتمامًا عاليًا جدًّا ورئيسًا لتحصينهم بمعرفة الدين، وتبصيرهم بأحكام شريعته، وشدّهم إلى أخلاقه وقِيَمِه، ولا وسيلة إلى ذلك اليوم إلّا بحثهم على التلقّي من هذه المشاريع الأهلية الدينية للتعليم والتربية([25]).

علينا أيها المؤمنون ألا يضيع الدين على أيدينا وهو النعمة الكبرى التي رزقنا الله إياها والتي يأخذ وجودنا وحياتنا قيمتهما منها.

ولو فرّطنا في أمر أولادنا وبناتنا وأسلمناهم للجهل بالدين والتربية البعيدة عنه لكنا قد خنَّاهم أكبر خيانة، وضاع الدين على أيدينا.

هل يعود الربيع ربيعًا:

تقدم من الكلام حول هذا الموضوع الحديث عن مقوّمات ما يصح أن نسمّيه ربيع شعب أو أمة.

وعن خيبة الأمل التي أصابت الكثيرين من تحقُّق هذا الربيع لما شهده الواقع من مآس في أعقاب الثورات العربية التي تحقق لها أن تسقط عددًا من سلطات النظام العربي الذي رأت فيه نظامًا لا يليق بمستوى هذه الأمة الكريمة.

ويجري الكلام الآن بشأن بعض الأسباب التي تقف وراء تدهور الحالة في الساحة العربية بعد النجاح المذكور الذي حقّقته هذه الثورات:

  1. ما خلّفه النظام العربي القديم وما زال يخلِّفه في بقاياه والذي حكم الساحة طويلًا من آثار تدميرية على الأرض والثروة والإنسان؛ روحه وعقليته وحسّه الأخروي والاجتماعي وعقيدته وأخلاقه وهدفه، وإرادة الأمة….. آثار لم تُبقِ من إنسان هذه الأمة شيئًا إلا ونالت منه، وأضرّت به، ودخلت عليه بدرجة وأخرى من الفساد العميق… آثار شملت خاصَّة الأمة وعامّتها.
  2. الدور التخريبي المحارب لتلك الثورات الذي صارت تمارسه دول من الدول العربية القائمة التابعة للنّظام الغربي التقليدي انتصارًا لوجودها، ومنعًا من وصول الطوفان الثوري إليها بالدرجة التي تكتب نهاية لها.

ومن وسائل هذا الهدف تشويه التوجه الثوري بإفشال نتائج انتصاراته وتحويلها إلى كارثة تستوجب في نظر جماهير الأمة التوقّي منها، وعدم التورط من جديد في تجربتها، والصبر على مآسي النظام الرجعي لهول مأساة نتائج تلك الثورات كما تريد أن تقوله لجماهير الأمّة تلك الأنظمة المعادية. فليس سهلًا ما أسهم فيه هذا الدور المفسد المحارب للثورات من تحول الساحة العربية إلى ساحة قتال مستمر خارج عن القيم والدّين والخلق والضمير الإنساني وكلّ شيم النبل والكرامة…. ساحة رعب وفزع ودم وأشلاء ودمار شامل…. ساحة مشلولة الحركة إلا من حركة القتل والقتال.

  1. اعتماد أكثر الثورات في مرحلة الثورة والدولة على الدعم الخارجي المعادي للأمة المرتبط بها الطامع في استمرار قبضته الظالمة عليها وعلى خيرات أرضها، والسيطرة على دينها وتفكيرها وميراث حضارتها.

وذلك مما يُمكّن لأصحاب ذلك الدعم تخريب نتائج الثورات العربية وإقلاق الوضع وإشغاله بالمتاعب لتحسيس كثير من الأطراف المتصارعة بالحاجة إلى تواصل الدعم الخارجي تعزيزًا لموقفه في الصراع ولو كان الثمن هو تدخُّل الأجنبي في شؤون الوطن والشعب والحكم والأمة بدرجة أكبر مما كان عليه تدخُّله قبل الثورة.

  1. وجود مدخل جاهز لتدخّل الدّول المتضررة من الدول العربية من تيار الثورات وانتصارها والدول الأجنبية الطامعة في الأمة من انقسامات متعدِّدة طائفية وحزبية وقوميّة ومناطقية وقبليّة وطبقية ومن ذمم رخيصة باحثة عن المال الحرام ولو كان فيه ذهاب الدين وهلاك الأمة والتمكين لأعدائها في التحكُّم في وجودها.

وأربح ورقة وجدتها القوى المعادية للأمَّة لإنجاح دورها التخريبي هي ورقة الطائفية المقيتة فهي قوة هائلة في قدرتها التفجيرية وعلى نطاق واسع في صفوف الأمة، ومحرِّكة للرّوح الفدائيّة غير الواعية والواصلة إلى حد الجنون.

  1. نوع الحكومات التي وجدت سبيلها للسلطة على أثر هذه الثورات، ومارست الحكم باسم الإسلام على بعدٍ بعيدٍ عنه فهمًا ورحمة وحكمة وبصيرة مما شوّه الإسلام في نظر من لا يعرفه، وفارق بين هذا النوع من الحكم وبين من يعرف الإسلام. وللحديث تتمّة إن شاء الله.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أخرجنا ربّنا والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات جميعًا من الظلمات؛ ظلمات الجهل والشك في الحقّ، والتخلّف عنه، والحقد والحسد، والطمع في الدّنيا، وقسوة القلب وكل الظلمات إلى نور من عندك نستضيء به الطريق، ونهتدي  للغاية، ونفوز عندك بالرضوان.

انصر ربنا هذه الأمة نصرًا عزيزًا، وارحم شهداءها وموتاها، وفك أسراها وسجناءها المظلومين، واشف جرحاها ومرضاها، وردّ غرباءها سالمين غانمين يا من هو على كلّ شيء قدير، يا من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([26]).

[1]– 23/ الجاثية.

[2]– عيون الحكم والمواعظ ص455 ط1.

[3]– وهل من يطلب العمى، ويكون العمى غاية له يطلبها؟! نعم من ركب الهوى كأنه طلب العمى، لأن الهوى لا يؤدي إلا إلى غاية العمى.

[4]– بحار الأنوار ج74 ص163 ط3 المصححة.

[5]– نهج البلاغة ج3 ص50 ط1.

[6]– للدنيا غاية في أيامها هي أن تبلغ بالإنسان كماله، هو هنا يضيع غايته وغاية الدنيا التي وجدت من أجلها بأن اتخذها إلها وربا يعبده.

[7]– 179/ الأعراف.

[8]– كيف يهتدي هذا إلى الغاية، كيف يكون مصيبًا للطريق؟!

[9]– بحار الأنوار ج1 ص122 ط2 المصححة.

[10]– هذه نتيجة من فقد سمعه وبصره من الناس، وفرق بين ما وُهب الإنسان من سمع وبصر، وما وُهب من ذلك للحيوان، فمن سلب هذا العقل وهذا السمع وهذا البصر فنصيبه أن يكون على أربعة أحوال.

[11]شرح أصول الكافي ج6 ص320 ط1.

[12]– بحار الأنوار ج74 ص100 ط3 المصححة.

[13]– 19، 20/ هود.

[14]– تحريف الدين من أكبر الأخطار، وهو فعل السياسة الظالمة في كل مكان، وفعل الجهلة والمتعصبين.

هذا طمس أكبر نور في الأرض تحتاجها، هذا العمى عمر تحريف الدين يشوه ويطمس النور الأكبر الذي تحتاجه الأرض في كل حياتها.

[15]– بحار الأنوار ج67 ص59 ط3 المصححة.

[16]– الملكوت الذي لا يُبقي لهم إلا أن يعبدوا الله، يقصدوا إليه، يستسلموا إلى أمره. النظرة الواصلة إل الملكوت ترى من عظمة الله ما تخرّ له القلوب والعقول وكأنها تضطرها للتسليم لأمر الله العظيم.

[17]– عيون الحكم والمواعظ ص441 ط1.

[18]نهج البلاغة ج4 ص44 ط1.

[19]– العلم والحكمة في الكتاب والسنة ص176 ط1.

[20]– سورة التوحيد.

[21]– وذلك أول ما يبدأ به حكم الأنبياء وهو إصلاح الإنسان نفسه ورفع مستواه.

[22]– فإذا وسِع أحدا أن يترك شيئا من علم الدين فإنه لا يسعه أن يترك من علم الدين ما هو دخيل في تصحيح اعتقاده وعمله.

[23]– الإيمان المركّز، الإيمان الراسخ الثابت يحتاج إلى علم كثير بالدين.

[24]– متخصصون في الدين، متخصصون في علوم الدنيا، الأمة مسؤولة أن تمتلك كل هؤلاء المتخصصين وتشارك في إيجادهم.

[25]– أنت تقصّر في تربية ولدك وتقف موقف مسؤولا أمام الله عز وجل يوم القيامة هلا علمته علم دينه المطلوب لتصحيح اعتقاده وعمله، ألم تلحقه بمشروع متيسّر يقوم بهذه الوظيفة؟

[26]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى