الحديث القرآني الرمضاني – 30 رمضان 1435هـ / 28 يوليو 2014م

سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

في إضاءات قرآنية في رحاب (سورة لقمان)

الحلقة الثانية عشر

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

قوله تعالى: “لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ”[1].

“نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ”[2]، محكومون بأن نمتعهم في الأرض وانتفاشهم هنا وتحركهم التحرك الواسع ليس شيئا منه بخارج قدرة الله وإرادته فهم محكومون ولو أراد الله بهم سواء في أي لحظة من اللحظات لم يكونوا، والمنقلب منقلب بئيس فهو إلى عذاب غليظ وعذاب الآخرة عذاب لا يقاس به عذاب ووصف الله له بالغليظ يكفي في شدته وقسوته وهوله.

“لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”[3]، إذا كان هو الخالق تبارك وتعالى والمدبر فله ما في السموات والأرض، وإذا لم يكن خلق إلا ما يخلق وما يخلق هو ولا قيام لشيء إلا بقيام هذا الخلق المستمر وتدفق العطاء الإلهي الذي لا ينقطع والذي لو انقطع لحظة لنغمر الكون في ظلمة العدم فبعد هذه الحقيقة وهذا الواقع لا يبقى شيء في السموات والأرض لأحد من دون الله، وإذا كانت الأشياء كلها مملوكة لله فأثارها مملوكة لله عز وجل فإن الأثر موضوع ذو الأثر وذو الأثر موضوعه الله تبارك وتعالى وفعالية كل ذي أثر في الوجود إنما هي بتسبيب الله عز وجل فيكون كل شيء وأثر كل شيء مملوكا للواحد الأحد وهو الله تبارك وتعالى.

فبعد هذه الحيقية ما يحصل هو الخضوع وليس التكبر والتوحيد وليس الشرك والخوف من الله وليس الغرور والرجاء وليس اليأس يترتب على كون مملوكية كل شيء لله وحده أني أخافه وأرجوه وأشكره وأتعلق به وأعبده وحده لا شريك له وأن أتلقى تشريعي من عنده وكل أمر ونهي أخذه من عنده سبحانه وتعالى وأي مخالفة لهذا الترتيب وهذا الأثر هي مخالفة جنونية.

حركة قلبي ونبضة مربوط بسلك والطاقة النهائية في يد الطبيب فيأمرني فلا أءتمر وينهاني فلا أنتهي ولكن أسمع لواحد بعيد أجنبي عني فهذا جنون وليس من العقل أن أسترضي الطرف الأجنبي وأترك الطبيب وأعصيه وهو الذي بيده قلبي، فلقبك ووجودك وكل آثارك كلها بيد المالك الحق تبارك وتعالى.

فالقرآن الكريم لا يريد فقط أن يخبرنا بأن “لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ “[4]، وإنما يريد أثرا من عندنا ويريد أن يربنا وأن نقيم على هذا سلوكا ومشاعر وهذه الحقائق تطرح ليقام عليها فكر يتسق معها وينسجم مع خطها ويقام عليها مشاعر ونظام حياة وسلوك وعلاقات فلا أقدم علاقة مع أحد على العلاقة مع الله عز وجل أو أقيسها بالعلاقة بالله عز وجل، فحينما تخبرني بأن الشمس قد أشرقت وهي حارة جدا فمعنى هذا أن أتوقف وحينما تخبرني أن هناك خطر فمعنى ذلك أن أتوقف وذاك تخبره بأنه حصل الفرج ومعنى ذلك أن أخرج فلابد من مواقف مترتبة على الحقائق التي نتوفر على العلم بها.

“لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ”[5]، وإذا كان له ما في السموات والأرض فما يعني هذا بالنسبة لله من يتمع قليلا في الحياة؟ وماذا يهدد الله عز وجل منه وهو يتمع ويعصيه؟ هو لا يهدد الله عز وجل بل هو مملوك لله عز وجل ولا يهز ملك الله شيء ولا يؤثر على سلطانه شيء.

“إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”[6]، لماذا “لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ”[7]، لأنه هو ذاته ولأنه هو وحده الغني الحميد “إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”[8]، وليس غيره من أحد غني ولا حميدا في ذاته، فإذا لم يكن الغني والحميد إلا هو فلابد أن يكون له “مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ”[9]، أحضر أحدا ثاني غنيا في ذاته وحيد بذاته حتى  يكون له “مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ”[10]، هو الغني بذاته وبقدرته سبحانه وتعالى فيخلق ما يشاء ويملك كل شيء وهو وهو الحميد الغني من ناحية القدرة ومن ناحية الجلال والجمال الكلي المطلق وهو لا يحتاج إلى حمد حامد فهو حميد في ذاته -صيغة مبالغة- بمعنى أنه محمود أشد الحمد وآكد الحمد وأدوم الحمد فذاته محمودة لأنها الجمال المطلق والكمال المطلق والجلال المطلق فتكون محمودة، وكل فعل من أفعاله تكرم وإحسان اختياري لا يفرض عليه جزاءً والفعل الذي يستحق الثناء هو فعل الجميل الاختياري ولا ينطلق من منطلق طلب الجزاء وكل أفعال الله هي كذلك فهو الحميد وكل شيء في الكون يحمد لله عز وجل وهذا اللسان الوسخ القذر أحيانا يخالف أحيانا في نطقه واقعه وواقع اللسان هو أنه يسبح الله ويحمد الله وكل جوارحنا تشهد على نفسها بفقرها وحاجتها وفاقتها لله عز وجل وأن هذه الألسنة إنما تجد ما تجد من غنى وقدرة على النطق إنما هو من فضل الله عز وجل فهي تشهد له بالكرم والعطاء والحياة والقدرة والعلم فتسبحه وتحمد واللسان الكافر ينطق ويقول لا وجود لله. “لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ”[11]، فلا إله غيره ولا إله ثان وهنا قصر.

“وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”[12]، الآية الكريمة تقدم صورة بقدر ما يستطيع الإنسان أن يتصوره على أنه يندك صاغر أمام هوله وعظمته فتقدم مثالا وصورة لما عليه قدرة الله المطلقة ولما عليه علم الله المطلق الذي لا حدود له وتقدم صورة محدودة لا تقدم علم الله على حقيقته ولا قدرة الله على حقيقتها ولكن تقفون صاغرين مدهوشين مذهولين صعقين أمام سعة هذا العلم والقدرة.

شجرة واحدة وخاصة من البواسق في الأرض كم تنتج من قلم؟ وكم في الأرض من شجرة وشجرة هنا أسم جنس بمعنى كل ما يصدق عليه أنه شجرة وكم شهدت أجيال الأرض وقرون الأرض من أشجار وما سيأتي من أشجار فاصنع منها كلها أقلاما والقلم صغير ولا يمكن أن تحصي عدد هذه الأقلام وخذ البحر جنس البحر من المحطيات والبحار تمثل تقريبا ثلاثة أرباع الكرة الأرضية واعتبرها جميعها حبرا وهذا البحر أضف له سبعة أبحر من مثله واستعمل تلك الأقلام في كتابة كلمات الله هي تلك الكلمات المعبرة على علمه وفعل قدرته مثل “عيسى كلمة الله”، وكيف صار عيسى كلمة الله؟ أليس من وظيفة الكلمة أن تنقل الفكرة وأن توضح الحقيقة وأن تنقل الصورة؟ أنت أنا وكل شيء هو كلمة الله يتحدث لنا عن قدرة الله وعن علم الله وعن إرادة الله وعن أنّ الله حيّ وعن أنّ الله قاهر وعلى أنّ الله عليم،عيسى كلمة متميزة لما عليه من تميز وما أكثر كلمات الله المتميزة وعيسى من صنع الله ومن فعله ومن خلق الله وليس إلها في قبال إله سبحانه وتعالى وليس أبن الله عز وجل.

“وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ”[13]، فالأقلام الموجودة في الدنيا من الشجر الموجود والذي انطوى لا تتحمله الدنيا “وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ”[14]، فلا تنتهي كلمات الله ولا يأتي هذا الحبر ولا تأتي هذه الأقلام على كلمات الله ولعلم الله ولخق الله وتبقى فاعلية الخلق مستمرة ويبقى علم الله أوسع مما كتبته أقلام الشجر كله والبحور كلها مضاعفة سبع مرات وخزائن الله التي لا تنفد فهي ليست صناديق وإنما هي خزائن القدرة والقدرة على الخلق مستمرة وكيف تنفد خزائن الله وعطاء الله ومملوكات الله وقدرة الخلق قائمة دائمة؟

“وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ “[15]، فهو عزيز لا يمنعه مانع ولا يعطل إرادته مريد ولا يشل من قدرته قادر وهو نافذ الأمر قوي لا يهن تبارك وتعالى حكيم يعطي ما يعطي ويوصل من العلم للإنسان ما يوصل ويخلق ما يخلق ويحجب ما يحجب وكل ذلك عن حكمه وإذا لم يعطي فليس عن عجز وإذا أعطى ليس عن جهل وكل شيء من صنعه بمقدار يوافق الحكمة التي لا يأتيها جهل وكفى بأن يكون العزيز الحكيم أنه الله وأسم الله موضوع لحكاية الذات الكاملة بالكمال المطلق وذات الله ذي الجلال والإكرام.

“مَّا خَلْقُكُمْ”[16]، يوم القيامة  “وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ”[17]، وما هو خلقكم الإبتدائي والبعث فليكن خلق آخر، “وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ”[18]، فكيف نعاد وقد تحولنا إلى ذراتٍ منتشرةً في الكون وانتقلنا من جسد إلى جسد ومن نبتة إلى حيوان ومن أرض إلى نبتة وإلى حيوان من جسد إنسان واحد وسلسلة من التحولات تجري على جسد هذا الإنسان فكيف نبعث وكيف تجمع ذراتنا؟ ولما نبعث هل لنحاسب؟ وأي أعمال تحصى وأي أسرار من البشر أولها إلى آخرها وما يعلن وما يسر الإنسان والإنسانية والملائكة كلها وكل المخلوقات وكيف تحصى؟ فالجواب على هذا كله “إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ”[19].

وكأن المستبعد عندهم كثيرا هو إحضار الأعمال والأعمال والأقوال مبصرة لله عز وجل ومسموعة وهواجس القلوب مبصرة وخواطر القلوب مبصرة وهو خبير بها تبارك وتعالى وهذا لأنه الله “”إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ”[20]، فهو الكامل تبارك وتعالى وكيف تخفى عليه خافية؟ فأي ذرة من ذراتي توزعت إلى رماد وإلى عشرة ملايين ذرة وأكثر من ذلك وهذه الذرات في وجودها وفي الأشياء التي أنتقلت لها قائمة بالله وقدرته ووجودها مستمر بقدرة الله عز وجل وهو يعلمها ويعلم كل شيء والله يعلم بكل شيء لأن كل شيء في حدودثه وبقاءه واستمراره وجودا وحياة ووصفا وهندسة وتركيبا وتأثيرا وأثرا قائم بعطاء الله ومدد الله وبخلق الله فكيف يخفى عليه.

“مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ”[21]، لا يوجد فرق فقدرة الله عز وجل كن فيكون فكوني يا ملايين أو يا بلايين أو كوني يا نفس واحدة فهي توجه إرادة وتوجه مشيئة فقط  وكن هذه ليست لهوية وإنما تتوجه مشيئة الله لشيء فيكون ذلك الشيء وأهل الجنة تقول عنهم الآية الكريمة “لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ”[22]، بعض المفسرين يفسرها بأنك في الدنيا تشاء وبعد مشيئتك تبذل المحاولة بعد المحاولة وقد تصل لما تشاء وقد لا تصل إلى ما تشاء وهذا شأننا في الدنيا فنشاء الشيء ونتحرك في اتجاه طلبه ونسخر قوانا وحيلنا وعلمنا وعلاقتنا ووسائلنا من أجل الوصول لهذا الشيء وقد ننجح وقد لا ننجح، وأطلب بيتا وأسعه عليه وقد أحصل وقد لا أحصل وأسعى لزواج وقد ينجح وقد لا ينجح ولكن في الآخرة “لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ”[23]، فحال ما يشاء المؤمن هناك مطلب من المطالب وما يشاء إلا ما يرضي الله عز وجل فالنفسية والعقلية غير نفسية وعقلية الدنيا فليس فيها ضلال وسفه وجهالة وانحدار ولا يوجد مؤمن في الجنة يريد غير الحق  ويريد غير الهدى وغير ما يصلح ويريد غير العدل ولكن ما يشاءه لا يقوم على محاولات فيبحث عن بناء أو يسهر ليلا ونهار ليخطط وإنما “لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ”[24]، وهذا مؤمن يعطيه الله عز وجل له هذا الشيء ومشيئة الله عز وجل حتى تحدث الشيء لا تحتاج إلى ممارسة ولا مكابدة ولا إلى جهد.

فالمليون نفس والعشرة ملايين نفس حكمها عند الله واحد وليست النفس في إيجادها من الله عز وجل أيسر من المليون نفس، “مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ”[25]، زجرة واحدة وإذا بالقبور قد خرج منها الناس وكل الخلائق أحياء فلا حمل ولا تسعة أشهر.

والحمد لله رب العالمين

 

[1] سورة لقمان، من الآية 26 إلى الآية 28.

[2] سورة لقمان، الآية 24.

[3] سورة لقمان، الآية 26.

[4] سورة لقمان، الآية 26.

[5] سورة لقمان، الآية 26.

[6] سورة لقمان، الآية 26.

[7] سورة لقمان، الآية 26.

[8] سورة لقمان، الآية 26.

[9] سورة لقمان، الآية 26.

[10] سورة لقمان، الآية 26.

[11] سورة لقمان، الآية 26.

[12] سورة لقمان، الآية 27.

[13] سورة لقمان، الآية 27.

[14] سورة لقمان، الآية 27.

[15] سورة لقمان، الآية 27.

[16] سورة لقمان، الآية 28.

[17] سورة لقمان، الآية 28.

[18] سورة لقمان، الآية 28.

[19] سورة لقمان، الآية 28.

[20] سورة لقمان، الآية 28.

[21] سورة لقمان، الآية 28.

[22] سورة ق، الآية 35.

[23] سورة ق، الآية 35.

[24] سورة ق، الآية 35.

[25] سورة لقمان، الآية 28.

زر الذهاب إلى الأعلى