الحديث القرآني الرمضاني – 22 رمضان 1435هـ / 20 يوليو 2014م

سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

في إضاءات قرآنية في رحاب (سورة لقمان)

الحلقة الخامسة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

قوله تعالى: “هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ”[1].

“هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ”[2]، لا يستطيع أحد الإدعاء بأن هذا الخلق من خلق فلان أو خلق فرعون أو خلق أمريكا أو روسيا أو من خلق الملائكة، فإذا كنا نرى كل آيات الله عز وجل ولا نملك سبيلا للإدعاء بأن خلقا من هذا الخلق أو خلق غير هذا الخلق هو صنع من صانع آخر، وحينما نكفر بالله ونشرك بالله ونعصي الله فلا ظلم أكبر من هذا الظلم، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه فتقول عن الضعيف قوي وعن القوي ضعيف وعن غير الموجود موجود وعن الموجود معدوم وتقول عن الحق باطل وعن الباطل حق وتنكر الوجود القائم وتقر وتدعي وجودا معدوما.

“بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ”[3]، فالذين كفروا في ضلال مبين وهذا الظلم ظلم إنكار الله وظلم الإشراك بالله فيؤدي إلى الضلال المبين وهذا ما تدل عليه الآية، والضلال هو التيه ولا يهتدي الطريق، والطريق الذي يضله الإنسان هو طريق السعادتين السعادة المحدودة في الدنيا والسعادة المطلقة الأبدية في الآخرة. والغاية من الحياة هي أن أسعد في الدنيا وفي الآخرة، فأسعد بالدنيا بالحجم المتحصل من السعادة، وفي الآخرة تلك السعادة الحقيقة الأبدية.

فالظلم وضع الشيء في غير موضعه والطريق الذي يوصل إلى الطريق والمنهج الذي يريبك ويسعدك في الدنيا والآخرة وما يضبط علاقاتنا الاجتماعية والسياسية هو هذا المنهج،  فحين أنفلت عن هذا المنهج وأضيعه وأبتعد عن طريق الله عز وجل وعن عبادته، فلا طريق غيره يوصل للغاية فهنا ضللت ضلالا واضح وبيَّن وهناك ربط بين الوقوع في الظلم والوقوع في الضلال المبين، لا ترتقب من واقع في الظلم أن يهتدي لواقع الحياة ولا يوجد منهج ثاني غير منهج الله الذي يهتدي غاية الحياة ولذلك الآية الكريمة تقول “بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ”[4]، وكل الكفرة  ولم يرجع هذا الكون في كامل شعوره وفي سلوكه إلى الواحد الأحد فهو ظالم وبظلمه يكون واقعا في الضلال المبين.

تأتي بعد ذلك الآيات الكريمة من وصايا لقمان متخللة بأوامر من أوامر الله وبأكثر من وصية من وصايا من الله عز وجل “وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ”[5]، الآية مؤكدة بالام و “قد”، ” وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ” النون نون العظمة ومن موقع العلم ألا المحدودة ومن موقع القدرة ألا محدوة والحكمة ألا محدودة والاختيار الذي لا يدخله خلل ولا يمسه جزاف “وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ”[6].

وفي المشهور أن لقمان ليس نبيا وإنما هو عبد صالح من عباد الله عز وجل آتاه الله الحكمة، والحكمة عقل وعلم وفهم ومعه تقدير دقيق للأمور والقضايا فيما يمكن أن يتسع له علم الإنسان وتصله خبرته وبحسب مستواه والحكمة تتفاوت مستوى وسقفا، واختيار رشيد للأمور فلا أقدم المهم على الأهم والناس والقضايا ليست على وزن سواء فيما يتسع له عقل الإنسان، مع ذلك واختيار رشيد  وهذا يجمع بين الحكمة النظرية والحكمة العلمية.

“وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ”[7]، وهنا موقفان للمفسيرين موقف يرى أن في الآية تقدير وقلنا له أن أشكر لله، وموقف ثاني يقول أن في الآية مفسرة تفسر الحكمة التي أعطيت للقمان هي حكمة الشكر لله، والحكمة لابد أن تنتج الشكر لله، ففلان أوتي الحكمة فهو يعلم الله ويعرف من عظمة الله ما يعرف، فيهم ويعلم هذا ويقدر هذا ويقف الموقف الرشيد من مقتضى معرفة الله عز وجل وأنه أعظم عظيم وأن ليس من نعمة إلا من عنده الله عز وجل وأن هذا النعم لا يقبض عليها معطاها وإنما هي دائما في قبضة معطيها في أي لحظة من اللحظات ويعرف حاجته الدائمة إلى الله، فإذا كان عنده اختيار رشيد وهو من الحكمة فلن يهمل هذه المعرفة ولن يخرج على مقتضها ولن يخالف الله ولن يكفر بالله ولن يعطي الله ولن يذكر منعما وينسى إنعام الله، فهذه الحكمة تستلزم الشكر لله تبارك وتعالى فلا تحتاج تقدير وقلنا له.

“وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ”[8]، فلما رزقه الله عز وجل الحكمة يكون قد رزقه استلزاما نعمة الشكر، “وَمَن يَشْكُرْ”[9]، فإعطاء نعمة الحكمة ونعمة الشكر ليس لنفسه سبحانه وتعالى وليس لحاجته للشكر فأعطاها له، ولم يحمل نفسه على شكر الله تبارك وتعالى عن وعي وعن إرادة حتى يأنس الله عز وجل، والشكر فيه قسمان إما بالثناء اللفظي أو بالفعل النافع ، فأنت تشكر صاحبك الذي أعطاك بجمل الشكر ووتنوه بالثناء له عند غيره، والشكر الثاني أن تقوم بخدمات وفعل له، والعبد بأي منهما يشكر الله؟ هل بثناء يأنس المشكور ويحتاجه المشكور؟ فشكرك لي يجعني أفرح وتسعد نفسيتي وتعطيني معنويات ولكن ما ينبغي هو أن يأخذ الإنسان معنوياته من الله ومن طاعته له وأن يخاف من الثناء لبعضنا البعض، ولكن هذا يأتي في الخلق الحاجة النفسية والأنس بالثناء والناس تتفاوت، والله ليس محتاجا لأنس أنيس والله عز وجل ليس عنده شعورا بالنقص لينتظر ثناء فلان وفلان فالله لا يزداد كمالا أبدا أبدا لأن له الكمال المطلق والكمال المطلق لا يقبل زيادة، والصلاة والصوم والزكاة لا تزيد في ملك الله عز وجل فلا نعطيه أي شيء وجل وعلا ربي عن حاجات العباد، “وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ”[10].

فالذي يقدمه الشكر لله عز وجل لي احتفاظا بالإنسانية وسموا في الإنسانية ونضجا في إنسانيتي ويعطيني ثوايا عظيما من عند الله عز وجل مردوا دنيويا ومردوا أخرويا وزيادة الشكر يستوجب زيادة العطاء من الله عز وجل، فهذا الشكر يجعلك عاقلا ومقدرا للأمور بقدرها وليس إنسانا جامدا لا يقدر الجميل ونحن نرى أن الإنسان الذي لا يشكر معطيه الآدمي وهو يغدق ويغدق عليه وهو لا يبالي فيقال عنه إنه إنسان جامد ولا يملك ضمير، وعدم الشكر يهبط بإنسانية الإنسان في  نظر الإنسان نفسه، فاحتفاظا بإنسانيتي واحتفاظا بكرامتي وكوني في المستوى المعتدل من إنسانية الإنسان، وهذا له مرود النفسي وهناك مرود  من عطاء الله فيرفع من مستواك الفكري والروحي والمادي وإذا لم يقابل عطائك هنا بالعطاء الجزيل الذي تشعر به وأنه يغمرك فعطائه الأخروي على شكرك أكبر وأكبر.

والشكر المطلوب في الدين هو أن أضع النعمة في موقعها فعندما أعطاني مال فأضعه  في الإصلاح وهذا الإصلاح أصلح به شأن صحتي وأصلح به شأن فكري وشأن روحي وشأن بدني ووضعني فالشكر إعادة المردودات الإيجابية، فمرة أضع في الخمر ومرة أضع في الدواء والعسل النافع فهذا شكر وذاك كفر للنعمة من الله عز وجل، ومرة أضع المال في قتل الناس وذبحهم ومرة أضعه في إصلاح الناس وهذا سيعطيني أنا وعائلتي ومجتمعي آمنا وذاك سيحدث حالة فزع وخوف ورعب، المال والصحة والقوة فإما أن تفسد و إما أن تصلح فإفساد هذه الأدوات على يد الإنسان للصحة والبيئة والحياة والأمن كله على مردود سيئ على الإنسان نفسه ومردوه الإيجابي على الإنسان نفسه فصار الشكر لنفس الإنسان.

“وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ”[11]، الله غني لا يحتاج إلى نفع نافع لا من خدمات ولا عبادات ولا تبرعات، “حميد” محمود في السموات ومحمود في الأرض مسبح باسمه من كل شي وما من خلق إلا يسبح بحمد الله،وأنا العاصي وكل ذرة من ذرات وجودي تشهد بعظمة الله ةتثني على الله وتسبح بحمد الله، وأكفر كافر الدنيا فقره الذاتي وغناه الغيري يشهد بعظمة الله وتسبيح بحمد الله وثناء على الله، فكل شيء مضطرا اضطرارا تكوينا من خلال ما هو عليه من فقر الذات وما عليه من غنا محدود من عطاء الله بأن يشهد بجميل الله وعطاء الله ويعلن ثناءه، اللسان يكفر وكل ذرة من ذرات اللسان في تكويتنها تشهد بعظمة الله وتعلن الثناء على الله عز وجل، فاللسان كافر بنطقه وهو بكل وجوده وبكل تركيبه وبكل أسرار وجوده وكل دقائق صنعه لا يشهد بحياة صاحبه ولا بعلم صاحبه ولا يشهد بدقه وحكمة صاحبه ولا يشهد بعظمة فرعون بل يشهد بعظمة الله وجميل الله وحكمة الله وكرم الله.

فالغني الحميد غني في ذاته والحميد في ذاته والذي كل شيء مما نتصور أنه وجد أو يوجد يسبح بحمده، وهذا لا يحتاج أن أقول شكرا لله شكرا لله في سجودي وأن أقول لك أن الله أعطاني خيرا كثيرا.

والحمد لله رب العالمين

 

[1] سورة لقمان، الآيتين 11 و 12.

[2] سورة لقمان، الآيتين 11.

[3] سورة لقمان، الآية 11.

[4] سورة لقمان، الآية 11.

[5] سورة لقمان، الاية 12.

[6] سورة لقمان، الاية 12.

[7] سورة لقمان، الاية 12.

[8] سورة لقمان، الاية 12.

[9] سورة لقمان، الاية 12.

[10] سورة لقمان، الاية 12.

[11] سورة لقمان، الاية 12.

زر الذهاب إلى الأعلى