الحديث القرآني الرمضاني – 18 رمضان 1435هـ / 16 يوليو 2014م

سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

في إضاءات قرآنية في رحاب (سورة لقمان)

الحلقة الثانية

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

قوله تعالى: “الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ”[1].

“الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ “[2]، تأكيد واستمرار، تأكيد لإيمانهم وإيقانهم بالآخرة وهذا الإيمان يصل إلى درجة اليقين والذي لا يشوبه إشكال ولا يعترضه تردد وهم على هذا الحال دائما، “وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ “[3]. للاستمرار والجملة اسمية تدل على الثبوت، وحالهم أنهم متلبسون بالإيمان بالآخرة إلى حد اليقين وأن هذا التلبس لا ينفكون عنه وليس لهم انفصال عنه، وهذا الإيقان يغذيهم بالقوة والأمل ويردعهم عن الباطل.

والآخرة ثمنها الاستقامة على الحق وعدم مقارفة الباطل، وما دامت الآخرة نصب عينة فهي تأخذ به دائما إلى الحق وتردعه عن الباطل والسيئة، فهم بهذا الإيمان بعد إيمانهم بالله وإيمانهم بالأخرة هو من منبع الإيمان بالله عز وجل، ولم من يؤمن بالله لم يتئتا له الإيمان بالآخرة، والإيمان بالآخرة  يلازم الإيمان بالله، وكذلك الإيمان بالله يلزم منه الإيمان بالآخرة، لأن الله القادر الحكيم العليم الذي كلف عباده فأطاعه بعضهم وعصاه بعضهم والبعض أفسد والآخر أًصلح، والدنيا ليست مسرحا الجزاء الكافي الوافي، الكافر يتمع فيها ويعيش الصحة الكاملة والمؤمن يلقى فيها درجة وآخرى من شقاء البدن والمتاعب والفقر، فالدنيا نعلم أنها ليست ساحة للجزاء الإلهي والإقتصاص من الظالم للمظلوم، هناك تشريعات إلاهية تقتضي الإقتصاص فكثيرون يفرون بظلهم والكثيرون حتى مع انكشاف ظلمهم يفرون من عقوبة هذا الظلم من الدنيا.

أين المظلوم وأين جزاء العابد من جزاء المفسد، العابد المصلح لا يساويه الله عز وجل بالمفسد العاصي، فمن واقع الإنسان وانقسامه في الدنيا بين صالح وطالح ومصلح ومفسد وكون الدنيا ليست الساحة التي يقوم فيها اقتصاص الله لعباده المظلومين وليست الساحة التي نشهد فيها رد كل المظالم ومن جانب آخر قدرة الله مطلقة وعلمه مطلق وحكمته مطلقة فمن هذا وذاك يستلزم الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر، ولا يمكن أن يكون هناك إيمان باليوم الآخر بلا الإيمان بالله عز وجل. فهؤلاء على إيمان ويقين بالله عز وجل يجعلهم دائما في خط الاستقامة وخط الاستقامة هو خط السلامة.

” أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” تصور نفسك انك محمول في كل حياتك وكل في أيامك ولياليك وساعاتك وظروفك المتقلبة والصعبة والرخاء والشدة والصحة والمرض على نور من الله يسير بك، فهل تضل من هذا الفرض؟ وهل تنحرف بك الطريق؟ وهل يخاف عليك؟ لا فأنت في مأمن دائما، وهؤلاء الذين أوقنوا بالله عز وجل يقيمون الصلاة  ةيؤتون الزكاة والذين استفادوا من هدى ورحمة القرآن بما أحسنوا من عمل فهؤلاء هذه صورتهم وهذا واقعهم رفعت اية من مقامهم كثيرا كثيرا فما عبرت عنهم بهؤلاء ونما عبرت عنهم اؤلئك أصحاب المستوى الرفيع العالي الأفق البعيد، وأصحاب الإنسانية الكريمة الثرة وأصحاب الهدى وأصحاب الشأن الكبير وعملاقة الروح، “أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ”[4] أحدنا هل يريد أن يكون على هدى من ربه؟ أو محمول على ضلالات الشيطان ومحمول على مركب من مراكب الشيطان الغوي المضل المغري بالسوء المهلك؟

“أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”[5]، كلمة عطف فتدخل كلمة ربهم لإبداء العناية واللطف والرحمة، وربهم الذي يعلمهم والذي بيده صلاحهم وفسادهم ويعلم ماذا يحيطهم من ضر وسوء ومن غزو للقلب وغزو للفكر واغتيال أي قابلية من قبلياتهم وما يحيط بهم من سوء.

“أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ”[6]تأتي كلمة ربهم لإظهار العناية الشديدة واللطف الإلهي لأولئك الذي يحملوهم هداه إلى الغاية وهذا الحمل إلى حيث الغاية الكبيرة الكريمة وهي ما  يطيقون من كمال وأقصى ما يتحمل وجودهم من الوصول إلى نطقة من طريق الكمال، ودرجة من درجات الكمال وإلى الجنة وإلى رضوان الله، وهم محمولون على رضا من الله إلى حيث توافق نفسيتهم وفكرهم وعملهم مرضاة الله عز وجل.

“أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”[7]، تكرار للمستوى والرفعة والأفق البعيد ” وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”، فالهابط ليس مفلحا والساقط ليس مفلحا ومن يلزم الأرض ليس مفلحا ومن طوال حياته ضياع في الطين ليس مفلحا ومن يقضي طوال حياته مع شهوات الطين وأماني الطين وطموحات الطين ليس مفلحا، بل المفلح على المحملون هدى الله والواصلون إلى الأفق البعيد والقريبون من مرضاته سبحانه وتعالى الذين عرفوا بتوفيقه كيف يتقربون إليه.

“وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”[8]، لم يخشروا شيئا من حياتهم وأنتجت حياتهم أعظم نتيجة وأطيب ثمرة وأحسن مصير “مفلحون”، وماذا عن فلاحك؟ سمّي الفلاّح فلاّحا لأنه يشق الطريق إلى حياة الزرع والفلاح هو النجاح يحافظ على قيمة الحياة بكل لحظاتها ويعطيها أكبر نتيجة من نتائجها وأكبر فلاح تصير الحياة بصاحبها به -أي ذلك الفلاح- إلى الجنة وإلى رضوان الله وإلى حياة الأبد والتي لا تغيب فيها لذة من اللذات التي يأنس بها الإنسان ولا نعمة من النعم يسعد بها عن تلك الحياة، حياة لا تغيب عنها نعمة ولا تفتقد لذة ولا تنقص كرامة ولا يتهددها خوف ولا يشوبها كدر ولا تسمع فيها كلمة نابية ولا منظر مزهود فيه وكل محيطها راقي ومؤنس وكل محيطها نير وكل أناسها يدخل برؤيتك لهم السرور على نفسك، محيط لا تشك في إخلاص أحد من أهله وفي وفائه وصدقه وطهره، ومحيط تأمن فيه كل الأمن من كل الجهات والحيثيات ومحيط مطمئن فيه ومتيقين فيه على بقاء خيره وعلى عدم أي تسلل إليه وأنه لا تنقضي حياته الطيبة، لا أكبر من هذا النجاح وهم فريق المحسنين الذين تكون آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة لهم بالفعل.

وعلى مستوى التحقق الخارجي فريق يقيم الصلاة تربيه وتزكيه وتستقيم به على الطريق وترفع درجته وتكمله، ويؤتون الزكاة ليصنعوا الحياة العادلة والحياة القويمة والحياة السعيدة على طريق الله عز وجل، فريق يملهئم الإيمان والإيقان بالآخرة فيسلهم عن كل مصائب الدنيا ويهون عليهم كل كوارثها ولا تستطيع الدنيا أن تستقطبهم لحظة وهم يرون نعيم الآخرة ونعيمها، فريق حملهم هدى الله إلى حيث الغاية الكريمة والمصير السعيد، فريق مفلح وناجح وفلاحه لا يعادله فلاح ونجاحه لا يصله نجاح.

فريق آخر فيه السقوط والسفه وأنظر إلى الجنون والضياع وإلى التيه وإلى عدم الوعي وإلى العبثية وإلى الدور الضائع، ” وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ”[9]. هناك شخص يسمى النظر بن الحارث بن علقمة بن كلده بن عبد الدار بن قصي وهو تجار ويذهب إلى فارس ومن تجارة المهمة وقد تكون الأولى أن يشتري لهو الحديث، يسمع قصص اسكنديار وكسرى ومختلف أكاسرة الفرس، يسمع القصص ويبذل من أجلها ويستثمر وقته استثمارا خبيثا؛ ليرجع بذلك بضاعة تعارض القرآن وتلهي عن سماع القرآن وتزاحم القرآن على قلوب الناس فتغوي تلك القلوب وتستقطبها وتصرفها عن سماع القرآن وعن الاقتراب من رسول الله صلى الله عليه وآله.

كم هم الآن الذين يستجلبون الثقافة الغريبة والشرقية للإفساد لمعارضة القرآن؟ هل هم مئات الألوف؟ والذين يستعرضون الأغاني من كل مكان واللهو والطرب والفساد ويقيمون هنا مراكزه كم هم في البلاد الإسلامية؟ كل ذلك لمعارضة القرآن والإسلام وصرف الناس عن الحق، وكم هم أصحاب القصص الخيالية والساحرة بأدبها وقدرتها البيانية وأساليبها الأدبية المؤثرة من أجل الصرف عن قراءة والقرآن والأقتراب من ثقافة القرآن.

وأنا شاب أجد لي قصة وأراها مغرية من بدايتها وتصل لمائة صفحة فاتابعها وأقرأها ففنها يجتذبني ويسحرني إلى أقرئها إلى أخرها والنتيجة لا يوجد أي شيء، بل زرع مشاعر خبيثة وتعليم ضلالات وفيها تجفيف عاطفة نبيلة، وفيها جريمة من أي نوع وأنا طوال هذه المدة ليس لي رغبة حتى أن أقٌراء دروسي المدرسية.

فكان النظر بن الحارث وقل معه خمسة أو ستة، أما الآن بلايين في الأمة الإسلامية والمستشرقون وحكومات وأحزاب وكل ذلك من أجل أن تصرف عن فكر القرآن، وجامعات تنتج فكرا مشككا ودعوى أنهم يستطيعيون أن يبارون القرآن.

“وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ”[10] ومنهم من يشتري السلاح لمعارضة دين الله ومنهم يقيم التحلفات لهدم الأمة الإسلامية، طرق عدة وجيوش والإسلام صامد ومقاوم ومستمر والإسلام ناهض، أليس هذا بمعجز؟ وكفى به معجزا.

الشيوعية كم أخذت وإلى أين ذهبت؟ وورائها دولة هي الدولة الثانية في العالم وكانت الدولة التي في عرض أمريكا قوة كما تخاف من أمريكا وترسنتها النووية كانت أمريكا تخاف منها ومن ترسانتها النووية ودعوتها أخذت امتدادا خاصة في الأمة الإسلامية وما كان للأمريكا منه شيء فالذي كان على مستوى الحكام وبعض العملاء وأما الجماهير كانت مع الدولة الروسية فالغزو كان شيوعي وأين فكر الصين هذه الدولة القوية العظيمة، فالإسلام بقي بلا دولة طوال قرون ودول داخل أمته معادي له وتحيك ضده المؤامرات وتحارب أهله ويبقى مجلل الصوت طويل القامة ولا توجد قوة قادرة على إسقاطة.

“وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ”[11]، فالإسلام الذي وصلنا إلينا كانت يواجه التحديات على طول الطريق وهزم كل التحديات.

“وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ”[12]، الغرض من الأموال والحركة وهذه العملية لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ “[13] بغير علم من المضل أو من المضَلْل؟ بعضهم يرجع “بِغَيْرِ عِلْمٍ”[14] للمضل، فهو لو كان يعلم العلم الصحيح والعلم المنقذ لما فعل ولما أضل عن سبيل الله عز وجل، وهذا المضلل به لو كان على علم لما ضلّ، ولو كان يعلم بالإسلام وتعلم الاسلام وما فرطنا وأخذنا بثقافة القرآن وربينا أولادنا لما سقط أحد من أبنائنا في شيوعية أو فكر رأسمالي أو فكر مجانب لفكر الإسلام، وما هان على أحد أن ينفصل عن ثقافة القرآن بعد أن يستذوق حلاوتها، ولكن هناك ضلال وجهل.

فالذي يستجيب لدعوة الإضلال عن سبيل الله فهو على غير علم، فلو كان عنده علما كافيا لسقطت كل الشبهات وكل البضاعة التي تعرض قبال القرآن كلها ساقطة لا تساوي شيئا،وحقائق لا يمك نأن تناقش وفي قبالها أوهام وخرافات وتزيفات ودعاوى وكلام إنشائي، ولكن ليس لدينا علما بالقرآن ولأننا لم نربي أولادنا وما عمرنا مساجدنا وهي محاربة وحوازاتنا محاربة وفكر القرآن محارب في داخل دار الإسلام.

“لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ”[15] وليس إضلالا فقط وصد عن سماع القرآن وثقافة تلهيك وتأخذ وقتك وتريك أنك على غنى ثقافي بهرائها، وليس هذا فقط بل “وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا” والتي يتخذها هزوا هذا المضل آيات الكتاب الحكيم حسب لعض المفسرين، وقال بعضهم سبيل الله والمرجح واحد، ففي الخطوة الأولى يلهي عنه ويصرف عنه، والآن يسقط قيمته في نفسه المسلم  ويجعله محل استهزائه واستخفافه وسخريته وكم يحدث هذا في المسلمين وما أكثره.

“وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ”[16] المقابل لهم الله الذي لا تغيب عنه غائبة ويعلم منهم لخفية وكل حركة ويزن منهم الوزن العادل الدقيق في كل كلمة وكل فعل وكل تصرف.

“أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ”[17] ألم يهينوا القرآن؟ ويهينوا سبيل الله؟ ألم يتخذوها هزوا؟ ألم يستخفوا بها؟ جزاهم عذاب من نوع مذلا مهينا مخزيا، هذا يعادل ذاك في العدل الإلهي ولكنهم لا يبلغون ما يريدون والله بالغ أمره.

والحمد لله رب العالمين

 

 

[1] سورة لقمان، من الآية 5 إلى 6.

[2] سورة لقمان، الآية 5.

[3] سورة لقمان، الآية 5.

[4] سورة لقمان، الآية 5.

[5] سورة لقمان، الآية 5.

[6] سورة لقمان، الآية 5.

[7] سورة لقمان، الآية 5.

[8] سورة لقمان، الآية 5.

[9] سورة لقمان، الآية 6.

[10] سورة لقمان 6.

[11] سورة لقمان 6.

[12] سورة لقمان 6.

[13] سورة لقمان 6.

[14] سورة لقمان 6.

[15] سورة لقمان 6.

[16] سورة لقمان 6.

[17] سورة لقمان 6.

زر الذهاب إلى الأعلى