خطبة الجمعة (612) 27 شهر رمضان 1435هـ – 25 يوليو 2014م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : البصيرة

الخطبة الثانية : تجفيف المنابع – يوم القدس العالمي – في أيّ وضع نحن؟!

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي ينال إحسانُه كلَّ محسن ومسيء، وينعمُ برحمته المطيعون والعاصون، ويتمتّع بآلائه المهتدون والضّالّون، وهو المتكفّل لكلّ مخلوق برزقه، ولكلّ ذي أَجَلٍ قدّره له بإبلاغه أجلَه، والحافظ لكلِّ ذي فضلٍ فضلَه. ولا يجد أحدٌ من دونه وليًّا، ولا متكفّل لأحد من خلقه بخير سواه، وكلّ الخلق مدينون إليه، ويغمرهم تفضّله وجميله.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله للإنسان في عُمُره المعتاد فورة شباب يعقبها تراجع وفتور، وطفرة قوّة يأتي عليها تقهقر وانتكاسة، واندفاعةٌ ونشاطٌ ينتهي إلى كَسَلٍ وخمول حتى يَهِنَ منه كلّ شيء، وتضعف فيه كلّ قوّة من قِوى فكره وبدنه. وهو في أشد حالات فتوّته وقوّته وحيويّته ضعيف أمام الله مملوك لإرادته، محكوم لقضائه وقَدَرِه فلا غرور من إنسان عاقل لصحّةٍ أو قوّة، وحيوية ونشاط أو  غنى أو ظهور لأنَّ من كان كلُّ أمره وما لَه من خير في نفسه أو يده ليس له وخاضعًا لغيره ومن عطائه وفيضه، ومنعه في تصرفه كان الضعيف الفقير المسكين الواهن في قوّته وغناه، وسيطرته([1]).

       وما اغترّ عبد من عبيد الله بخير عنده إلَّا في غياب من عقله، وسيطرة من وهمه، وبخداع من شيطانه، وفي عَمًى من بصيرته.

       فلنذكر الله ولنخشَه، ولا ننسَ تقواه، ولا نخرج من طاعته وإلَّا فذلك هو الخسران المبين.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم إنّ لنا نفسًا أمّارة بالسّوء لا تكفّ عن مخادعتنا، وشيطانًا قريبًا منّا لا يتوقّف عن الوسوسة لنا، ومُضلّين من الناس يسعون دائبين في إضلالنا فاكفِنا شرّ كلّ أعدائنا، وسلِّم منه قلوبنا، وثبّتنا على صراطك المستقيم برأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

       أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فهذا حديث في البصيرة:

       البصيرة نفاذ في العقل، ونفاذ في القلب، ورؤية قويّة تصل بهما إلى واقع الأمور، والتفريق بين ما هو حقٌّ، وما هو باطل، وبين ما هو صحيح وخطأ، وهي حكمة في الاختيار تعصمُ من تقديم ضارّ على نافع، ومُهمٍّ على أهمّ، وخطأ على صحيح، وتجعل الاختيار دائمًا للأحسن.

       فالبصيرة على هذا عاملُ سلامة ونجاح ولابد منه، ومن فقدها كانت فريسة للوقوع في الأخطاء والخسائر والنكسات.

       الدنيا تحتاج إلى بصيرة، والآخرة محتاجة للبصيرة، والسائر في أمر الدنيا أو الآخرة ممن لا بصيرة له خبّاطُ عشوات كما هو التعبير عن الإمام علي عليه السلام لا يُؤمَنُ عثاره، وفي خبطه قد تكون مهلكتُه.

       فببصيرة العقل والقلب والدّين يكون الإنسان في نور، وطريق مأمون، وحيث لا بصيرة فالظلمة والخوف، والخطر الشديد.

       ومن النّاس من لا بصيرة له بماضٍ، أو حاضرٍ، ولا مستقبل وهو أعمى وفي تِيْهٍ وضياع. ومنهم من يرى من حاضره، أو مما مضى شيئًا لكن لا نفاذ لرؤيته في المستقبل([2]).

       وحياة الفرد واختيارُه الطريقَ الصحيح، وكذلك هي المجتمعات في حاجة لرؤية نافذة لمستقبل الأيام لتقدير المواقف الدقيقة، واختيار ما هو الصحيح من الخطأ المؤدي إلى السلامة والفلاح.

       ومَنْ انتظر هجمة الأيام المقبلة بغوامضها فاقدًا للرؤية والتقدير المقارب بالنظرة النافذة فاجأته بما لا يكون متهيّئًا لمواجهته ومقاومته أو تحمُّلِه.

       الإسلام والبصيرة:

       يُعطي الإسلام للبصيرة وتربيةِ مَلَكَتِها في الإنسان أهمية بالغة لما لها من الأهميّة.

       وكفى بالبصيرة أهمية وشرفًا وقيمة عالية في الرؤية الإسلامية أن يصف القرآن الكريم الكاملَ المطلقَ سبحانه وتعالى بوصفِ البصير من مثل قوله تبارك وتعالى في الكتاب العزيز:{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}([3])، {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}([4])، {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}([5])، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}([6]).

       كلُّ إبصار من دون إبصار الله محدود ومن عطائه، وهو وحده البصير المطلق، وهو بصير لا من عطاء أحد، وإنما بصرُه ذاتيٌّ بذاته وبكلِّ شيء سواه، وعلمه نافذ في كلِّ خَلْقٍ من خلقه مما أوجد، وما لم يوجد، ولا يخفى عليه أبطن باطن في الأشياء، ولا أعمق عُمْق، ولا كبير ولا صغير من كلِّ الذوات والحقائق.

       ومِن كونه كذلك يقضي بالحق، ولا يشوب قضاءه باطل، ويُفوِّض أهل العقل والحكمة واليقين أمرَهم إليه تفويضًا مطمئنّين راضين مرضيّين، ولا يكون من وحيه وكتبه إلى عباده ورسالاته إلّا ما هو حق لا يَمَسّه باطل، ولا يدخل تدبيرَه لشيء من الكون الوسيع العريض نقصق ولا خلل كما تُوضّحه الآيات الأربع السابقة([7]).

       والإنسان المؤمن يطلب البصيرة، والإسلام يأخذ بخطاه على طريق طلبه ليحصل على محدود منها يتزيَّنُ به من عطاء ربّه، ويتقرّب إليه به، ويكون على تشبُّهٍ ضعيف بصفة من صفات الكامل المطلق الثابتة له.

       وللإنسان عِلْمٌ حِسيّ يقف به عند حدود عالم الحس وعطاءاته الحسية كذلك، وله علم أعمق وأبعد وأشرف وأسمى وأنفع وهو ما تعلَّق بآخرته.

       والمقتصر على العلم الحسّي والانتفاع بعطاءاته الحسية كأنه لا علم له، ولا خير في ما أكسبه إياه ذلك العلم من منافع حسية مترتبة عليه إذا كان فاقدًا لعلم الآخرة. اقرأ معي قوله تبارك وتعالى من كتابه العزيز:{وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}([8]).

       فبرغم أنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا ويقفون على قوانين حسية من قوانينها التي تتيح لهم أن يطوّروا من أوضاعهم المادية، وحياتهم الحسّية إلا أنهم وهم غافلون عن الآخرة تَعُدّهم الآية الأولى أنهم ممن لا يعلمون. إنَّ علمهم هذا بالدنيا وقوانينها ليس بشيء وهم في جهل من الآخرة([9]).

       ولنقرأ في هذا السياق هذه الكلمة عن الإمام علي عليه السلام:“ما كلّ ذي قلب بلبيب، ولا كل ذي سمع بسميع، ولا كلّ ناظر ببصير”([10]).

       هذه طائفة من الناس وكأنها بلا ألباب ولا أسماع ولا بصائر وإنْ كان منها من له معرفة جمّة بظاهر الدنيا وعالم الحس في حدود ما هو حسي، والعطاءات الحسية والمنافع الدنيوية، وله سمع مرهف في مجال مصالح الدّنيا ومكاسبها، وله بصيرة المنافسة عليها، وجَمْع ما يمكن من زينتها ومتعتها. وهي بلا لُبٍّ ولا سمع، ولا بصيرة لغفلتها عن الآخرة، أو إعراضها عنها.

       وهذه كلمة أخرى عنه عليه السلام نافذة البصيرة:“إنّما الدّنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر مما وراءها شيئا، والبصير ينفذها بصرُه([11])، ويعلم أن الدار وراءها، فالبصير منها([12]) شاخص([13])، والأعمى إليها شاخص([14])، والبصير منها متزود، والأعمى لها متزود([15])([16]).

       من رأى الدنيا ووقف بنظره عندها، لا يرى ما وراءها من غاية ودار حياة وسعادة وشقاء ولا يزن من تلك الدار شيئًا ولا يعطيه قيمة فهو أعمى، وهذه الرؤية منه للدنيا لا تخرجه عن صدق هذا الوصف.

       والبصير الحقُّ هو من عبر بنظره منها إلى ما وراءها من دار، وكان همُّه في قضية السفر منها إلى ما تُفضي إليه من يوم القيام، وكان سعيُه فيها بلحاظ ذلك اليوم والتهيّؤ للقائه.

       أما من كان سفره وسعيه وكده وتفكيره في الدنيا من أجلها فهو أعمى. وكلُّ تزوّدِ البصير وتهيئه للآخرة، وكل تزود الأعمى وتهيئه للدنيا، بينما وهو يتهيأ لها ويضحي من أجلها وإذا به يُنادى بنداء لا تخلُّف له عنه بالرحيل المفاجئ عنها.

اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       ارزقنا ربّنا صادق العلم، ونافع النظر، وحسن البصيرة، وحكمة الاختيار والتوفيق لما تُحبُّ وترضى يا حنّان يا منّان، يا كريم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([17]).

 

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي لا يخرج عن علمه معلوم، القدير الذي لا يخرج عن قدرته مقدور، وهو الذي لا شيء خارج علمه، ولا خارج قدرته، القاهر المستكين لقهره كلُّ شيء، الجبّار الذي لا يفلت من جبروته شيء، وهو في قهره رؤوف، وفي جبروته رحيم، ولا يظلم ربّنا أحدًا أبدًا.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله ما كان لعبد أن يأمن وهو معاند لله لو لا سباتُ عقله، وعمى قلبه وضلاله، وماذا يُؤمِّن هذا المعاندَ من بطش الله وأخذه وعقوبته([18])؟!

       وما كان لعينٍ وراءها نفس يقِظة، وقلب مفتوح، وضمير حيّ، وعقل سليم أن تنام على معصية الله، وماذا يقيها من محذور غضبه، وشديد عذابه، ومن موت مباغت ينقل تلك النفس إلى سوء المصير؟!

       وكيف يُصبح من يُصبح من الناس ناويًا معصية ربّه، مُتهيّأ لمكابرته في أرضه لولا موت قلب، وذهاب رأي، وضلال مبين؟! كيف يكون من عبد من عبيد الله أن ينوي هذه النيّة، ويقصد هذا القصد وهو محتاج لله كلّ الحاجة في وجوده وحياته وكلّ حول وقوة له، لا يختلف في ذلك في حال عن حال، ولا لحظة دون لحظة لو كان له مُسكة من عقل، أو شيء من ذِكْر، أو بصيص من نور؟!

       عبادَ الله ليس لأحد من وليّ غيرُ الله، ولا مناصَ لأحد من تقواه، ولزوم طاعته طلبًا لنجاته ونُجْحِه وفوزه وأمنه وسعادته فعلينا بدوام طاعته والتمسُّك بتقواه وهو أرحم الراحمين.

اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين الصَّادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين: حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا ربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا مقيمًا. اللهم انصر عبادك المؤمنين في كل مكان نصرًا عزيزا.

       أما بعد أيّها الأخوة في الله فإلى بعض كلمات:

أولًا: تجفيف المنابع:

       للفكر منابع بقاؤها مفتوحة، والتعامل معها قائمًا ويُستقى منها يسمح بالتصاعد في الحركة الفكرية واتساعها واشتدادها وتعمّقها في المجتمعات. وهذا من شأنه أن يُرشِّد حركة الحياة عند الناس ويُنشِّطها ويدفع بها إلى مستويات متقدِّمة، ويوقظ روح الإبداع والإضافة النافعة في المسارات المختلفة التي تشهد حركةً وتقدّمًا في الفكر نفسه.

       فكلُّ تقدّم فكريّ إيجابيّ صالح له نتاجاته الثرّة النافعة مما يضيف خيرًا إلى خير المجتمع الإنسان وقوة إلى قوّته وصلاحًا فوق ما له من صلاحه.

       وتجفيف منابع الفكر، أو الحيلولة بين النّاس وبينها، وقطع تواصلهم بها، أو تعطيلها يُجمّد الحركة الفكرية في أوساطهم، والنشاط الفكري ويشلّهما.

       ولا عليك حتى تتخلّف بحياة مجتمع أو جماعة من النّاس، وتتراجع بها مسافات في مستواها، وتصيبها بالضعف والوهن والضمور، وتُخضّعها لإرادتك إذا كنت من أهل الإرادة الظالمة إلّا أن تقطع التعامل بينهم وبين المنابع الفكرية ذات المردود الجيد الكريم والعطاء العملي البنّاء.

       والذي يظهر واضحًا من السياسة القائمة في البحرين أنها تبنّت بصورة جِدّية وممنهجة هذا التوجُّه الهدّام في استهدافٍ للشّعب أو مكوّن رئيس خاص من أبنائه. والاستهداف يتناول كلّ منابع النهوض والقوّة ومنها منابع الفكر الدّيني والسياسيّ الإيجابي الرشيد.

       فكلُّ المنابع من هذا النوع في إطار هذا المكون على الأقل مستهدَف لشلِّ الحركة المعطاءة النافعة في حياة هذه الجماعة والقضاء على أسباب تقدُّمها لتكون تحت السيطرة الكاملة والتصرُّف الكيفيّ المطلق.

       وصارت هذه السياسة آخذة في تساعر الخُطا التنفيذيّة في هذا الاتجاه تعجُّلًا في تحقيق النتائج المدمِّرة المطلوب لها تحقيقُها.

       الاتجاه لهذه السياسة الجهنمية التصفوية المدمِّرة ألّا يشع نور دين، ولا تنطلق كلمة معرفة دينية صادقة، ولا يكون وعيٌ دينيّ لهذه الجماعة، ولا يسلم لها مذهب ودين، وأن تعيش عزلة تامّة عن فكرها المذهبيّ، وتُحرم فهم مذهبها، وتُطمس معالمه، ويُصاب بالتحريف والتشويه، ويخسر هُويته، ويُعاد إخراجه ممسوخًا موافِقًا لهوى السياسة الدنيوية المنحرفة صالحًا لتسخيره لخدمتها.

       من الخُطا التنفيذية لهذه السياسة الجائرة ما حصل ويحصل من زجِّ علماء الدّين الأحرار في السجون قبرًا لكلمتهم الواعية المخلِصة، وتغييبًا لهداهم الرّساليّ المشعّ، وتهجيرُ البعض منهم، والمحاكمةُ لآخرين من أصحاب الدور التربويّ الرّشيد، والتهديد لقسم آخر.

       ومن هذه الخُطا المتتابعة المرسومة لسياسة الاضطهاد والتصفية على أكثر من مستوى غلق جمعية العمل الإسلامي وهي جمعية سياسية مرخَّصة، وما تلى ذلك من غلق المجلس الإسلامي العلمائي وهو أكبر مؤسسة إسلامية رساليّة في البحرين، ويأتي في السّياق نفسه ما بدأته السياسة من التحضير لغلق جمعية الوفاق السياسية الإسلامية.

       وعلى خطّ الاضطهاد والتصفية نفسه ما كان من هدم المساجد والتخريب لعدد من الحسينيات، والمنع المستمرّ لحدّ الآن من إقامة الصلاة في عدد من بيوت الله المهدَّمة ظلمًا وعدوانًا وجرأة على الله العزيز القهّار.

       كلُّ هذه الحوادث التي شهدتها البحرين في فترة قصيرة وفي صورة متسارعة والتي لا يُدرى إلى أين تصل في مداها تكشف عن مخطط لتجفيف كل المنابع الصافية التي تسمح بحركة فكرية قويمة بنَّاءة([19])، أو حتى بالمحافظة على أدنى مستوى لفهم ديني ومذهبي صحيح، وأقلّ درجة من الارتباط بهما، والإبقاء ولو على درجة مقبولة من الفهم والحسّ السياسيّ والحقوقيّ الذي يُمكن أن يقف وراء المطالبة بالحقوق، والموقع السياسيّ اللائق.

       أليس هذا اضطهادًا؟! أليس هذا استئصالًا؟! أليس هذا مصادرة للوجود؟!

       ثانيًا: يوم القدس العالمي:

       هو يوم فلسطين التي نسيَتها الأكثرية من الحكومات العربية، أو باعتها رخيصة لحساب تبعيتها لخارج الأمة وتنكّرًا لها. وهو يوم الشعب الفلسطيني الذي خذلته هذه الحكومات وتاجرت بقضيته استشفاعًا عند أعداء الأمة والإسلام لدعم بقائها. وهو يوم الأمة ودينها اللذَين لا تقيم هذه الحكومات وزنًا لهما.

       ومع إهمال القضية الفلسطينية والتآمر أحيانًا عليها كيف لا يُهمل يوم القدس ولا يُحارب، وكيف لا تُقمع المسيرات التي تحاول أن تبقي له صدى في الأمة؟!

       إحياء يوم القدس العالمي فيه إحياء القضية الفلسطينية ولقيمة القدس والمسجد الأقصى في فكر الأمة وضميرها ووعيها وشعورها وواقعها. وكل ذلك لا يتلاءم وإهمال القضية والتآمر عليها، والتخلص من شبحها وهو الشيء الذي تسعى إليه الحكومات المتخاذلة المتآمرة. ومن هنا لابد أن يُمنع إحياء يوم القدس ولا بد أن يُواجَه بالقوة وإن استلزم الأمر استعمال لغة النّار والحديد.

       وإنما أنتج يوم القدس العالمي همٌّ إسلامي كبير، وحسٌّ رسالي وقَّاد، ووعي إيماني، ورؤية موضوعيَّة ثاقِبة، وإصرار على وحدة الأمّة، وحرص على عزّتها وحرّيتها، واستعلاء على الآفاق الطائفيّة الضيّقة، وإلمام بخطورة الوجود الصهيوني في المنطقة، ويأس من جدّية الموقف الرسميّ للغالبية العظمى من أنظمة الحكم في الأمّة من القضية المركزيّة في الصِّراع الوجودي القائم بينها وبين أعدائها الحضاريين؛ قضية القدس، قضية المسجد الأقصى، قضية فلسطين، قضية الأمة، قضية قرآنها، قضية رسولها، قضية حرّيتها، قضية وجودها كلّه.

       وإذا كان يوم القدس نتاج هذا كله، وكلُّ ذلك لا تعيره كثير من حكومات الأمة أي درجة من الاهتمام بل ترى فيه منافاة لوجودها فكيف سيكون موقفها من إحياء يوم القدس الذي يستدعي معه كلَّ هذه القضايا ويثير الاهتمام بها؟!

       ويتميّز يوم القدس في عامه هذا عن أعوامه السَّابقة بما تتعرَّض له غزّة اليوم بشيوخها وأطفالها ورجالها ونسائها وبُنيتها التحتية ورَطبها ويابسها من حملات صهيونية تصفوية استئصالية لا تستثني إنسانًا ولا ثروة، ولا مقدّسًا، ولا حرمة من استهدافها بالتدمير والاجتثاث بترسانة أسلحتها المتطورة جوًّا وبرًّا وبحرًا([20]).

       والموقف العربي يزداد تخاذلًا على تخاذله، وفضائح على فضائحه، وتقهقرًا على ما هو عليه من التقهقر، وتآمرًا على ما هو عليه من التآمر.

ثالثًا: في أيّ وضع نحن؟!

       في أيّ وضع نحن؟! في أي بلد نحن؟! في أي موقع في هذا البلد نحن؟! في ظلّ أي قانون نحن؟ أمام أي حالة استهتار بالحقوق نحن؟! أمام أي لون من إساءة الحكم لنا نحن؟! أمام أيّ حالة صبيانية منفلتة متسيّبة وفوضوية تُمارَس باسم الصحافة نحن؟! أمام أي تمادٍ في التجنّي والاستخفاف بمذهب آل محمد نحن؟!([21])

       ومتى صار هذا المذهب الحقّ المأخوذ من عليّ بن أبي طالب وبنيه المعصومين عليهم السلام جميعًا الذي لا يأخذون إلّا من القرآن، ومن الرسول صلّى الله عليه وآله، والذي كان من أتباعه الأوائل سلمان المحمدي، وأبو ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر، ثم أمثال حجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، ومن بعدهم حبيب بن مظاهر الأسدي، وبرير، وزهير بن القين وكل الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله بين يدي الإمام الحسين عليه السلام من صفوة أبناء الأمة ذلك اليوم ذَودًا عن حريم الإسلام والإمام الحقّ…. متى صار هذا المذهب النقيّ الشّامخ محل سخرية كل ساخر، وهُزء كلّ هازئ، ومحل جرأة واعتداء كل ساقط، وصار التهجُّم عليه وسيلة المرتزِقة، والباحثين عن المال الحرام([22])؟!

       ومتى سمح الإسلام لمن ارتكب البدعة بشتم أحبّاء الله ورسوله صلّى الله عليه وآله أن يرتكبوها أولًا ولمن يُعيدها الآن ثانيًا بالنيل من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وما أقدم على ذلك إلّا ضالّ مضِلّ لا يرعى للقرآن حرمة([23])، ولا يقيم للإسلام وزنًا، ولا يرى لرسول الله صلّى الله عليه وآله شيئًا من شأن. ولا يرتكب هذه الجرأة إلا من لا حياء له، ولا نور للإيمان في قلبه.

       وأيّ حكومة تُدين بالإسلام، وتدّعي الحفاظ على الوحدة الإسلامية وتقدير أهل البيت عليهم السَّلام تسمح لصحفييها وجرائدها بالإهانة الممعِنة والمحاربة السافرة، والاستخفاف البالغ بقدر أهل هذا البيت الذي لم يُساوِ الإسلامُ بيتًا آخر من بيوت المسلمين به، وجعله القِبْلة الخالدة لكلِّ بيوت المسلمين ما قامت هذه الأمة؟!

       إنّه لا كلمة لنا في أمر ما نشرته صحيفة البلاد لأحد صحفييها وأمثال ذلك من قبل ومن بعد مع مجهول هنا أو مجهول هناك، أو جريء على الله ورسوله من هذا أو ذاك، وإنما كلمتنا في أمر هذا التعدّي كله سابقِه ولاحقه مع السُّلطة، ولا نراه إلّا تعدّيًا منها. كيف لا وهو صادر ممن يأتمرون بأمرها، وينتهون بنهيها، وتُروِّج له صحفها، ولا تحاسب ولا تعاقب أحدًا ممن يقوله أو يروج له؟!

       وما صدر أخيرًا من اعتذار من صحيفة البلاد بعد وقت طويل من التجنّي على سليل النبي صلّى الله عليه وآله وإمام الحقّ المهدي بن الحسن إنما هو جزء من موقف مسؤولة عنهوموقف رسمي منتظَرٍ واجب في صيانة حرمة الدين والكفّ عن التعدّي على المذاهب الدينية([24]).

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اعف عنّا ربّنا واغفر لنا يا تواب يا رحيم.

       يا ناصر المستضعفين، يا قاهر الطغاة والجبارين، يا شديد الأخذ، يا واسع القدرة، يا غالب كلّ مُغالِب انصر مجاهدي هذه الأمة ممن في جهاده نصرة الدّين وعزّ الأمّة ووحدتها وهداها وظهور الدّين الحقّ، واقمع أعداءها، ومن في نصره شرُّ الدين، وفي عزِّه هوانه، وفي غَلَبَتِه تشويهه، واحمِ عُقْدِ الأمة من الانفراط، ووحدتها من التبعثر.

      اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة وأمن برحمتك يا أرحم الراحمين.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([25]).

 

 

[1]– فضلًا عن وقت ضعفه ووهنه وفقره.

[2]– بأي حال من الأحوال، وعلى أي درجة من الدرجات.

[3]غافر: 20.

[4]– غافر: 44.

[5]– فاطر: 31

[6]– الملك: 19.

[7]– كل ذلك يرجع إلى كونه عزّ وجلّ هو البصير الحقّ.

[8]– الروم: 6، 7.

[9]– حال كونهم في جهل عن الآخرة هذا العلم الدنيوي جهل، ينتهي إلى جهل، لا يقوم مقام العلم المنقذ.

[10]– نهج البلاغة ج1 ص155، 156 ط1.

[11]– يعني ينفذ الدنيا بصره، يخترق.

[12]– من الدنيا.

[13]– مسافر.

[14]– منتهى بصيرته.

[15]– الأعمى كلّ ما يتزوده من أجل دنياه، والبصير إنما يأخذ الدنيا محلّ تزوّد للآخرة.

[16]نهج البلاغة ج2 ص16 ط1.

[17]– سورة التوحيد.

[18]– وهو على عناده واستكباره عليه.

[19]– هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).

[20]– هتاف جموع المصلين: الموت لإسرائيل، الموت لأمريكا.

[21]– في أي مأساة هذا البلد؟!

[22]– الذين يجدون من يغذّيهم بهذا المال من خزائن الدولة؟

[23]– من رعى حرمة القرآن، من رعى حرمة رسول الله صلّى الله عليه وآله، رعى حرمة وصاياه في أهل بيته، رعى شأن أهل البيت عليهم السلام الذين أعلى الله مقامهم في قرآنه لا يتفوّه بكلمة مما يتفوّه به هؤلاء الجاهلون.

[24]– على أنّ الموقف الرسمي لحد الآن لم يحرّك ساكنًا.

[25]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى