الحديث القرآني الرمضاني – 1 رمضان 1435هـ / 29 يونيو 2014م

سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

في إضاءات قرآنية في رحاب (سورة الشورى)

 

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلاة على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

 

يقول سبحانه وتعالى: “وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ”[1]. وآية أخرى: “لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”[2].

الآية الأولى فيما يفهم منها أنها تنفي بسط الرزق لما يسببه من ارتكاب الظلم من العباد، حيث يأتي التعليل، والآية الثانية تقول: ” يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ “[3]، فهما بسط وإقدار، وهنا إثبات لبسط وإثبات لتقدير بمعنى التضييق، ” إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ “[4]، هنا في هذا الفعل الذي يتمثل في إثبات بسط الرزق هو بكل شيء عليم وفي حد ما يصلحون به، فهنا ثلاثة متقابلات، بسط يقابله تقتير وتضييق وتقدير يوافق مصلحة العباد، وإصلاح العباد وتربيتهم التربية الرشيدة، وكل من المفهويمن الآخرين يقابل مفهوم البسط كما يقابل صاحبه.

وتقول الآية الكريمة ” وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ “[5]، فالآية الكريمة تثبت أن هنا إقباضا بمعنى نوعا من التضييق، وهناك بسط، فكيف نجمع بين نفي للبسط وإثبات له؟

على أن الرزق ليس ماديا فقط، وإنما الرزق مادي ومنه معنوي،  الذكاء القوي جدا الذي يعين على الاكتشاف والاختراع وعلى التطوير السليم للأوضاع الحياة وعلى القفزة بمستواها المادي مثلا هذه نعمة معنوية، والذكاء نعمة معنوية، وهذا ليس مبسوطا البسط بلا حساب، كما لا نتحمل ما فوق طاقتنا كذلك لا نتحمل ذكاء فوق طاقتنا، كما أن المال الزائد الزائد يطغي ويحدث تجبرا في النفس، فكذلك هو الذكاء المفرط، يسبب غرورا إعجابا ويسبب تألها من النفس إلى النفس، كل هذا يمكن أن تسببه بعض النعم المعنوية.

والإنسان وجد بمقدار معين يختلف به في جنسه عن جنس الملَك ونوعه، فلابد أن يكون بمقدار معين، وهل هناك مانع من بسط الرزق؟ المانع ليس نقصا  في الحكمة ولا الرأفة ولا العلم ولا القدرة، فكل ذلك مطلق عند الله سبحانه وتعالى، فقدرة مطلقة وعلم ملطق ورأفة واسعة وحكمة بالغة مطلقة، فما الذي يمنع من البسط؟ له مقاليد السماوات والأرض، الأرض والسموات خزائن معطاءه مهيئة إلى أن تثري وتثري وتثري، على أن ما في غيب الله وما في قدرته أكبر من السموات والأرض، ذلك هي قدرة الله، وذلك هو علم الله، وتلك هي إرادة الله المطلقة، فلما لا يكون توسيع وبسط؟

الآية تقول: ” وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ”[6]، هناك تقدير ووزن، كم تتحمل أيها الإنسان؟ والكلام مع أهل الأرض كلهم كفارا ومؤمنين وفي كل الأجيال، كم تتحمل عقلية هذا الإنسان؟ نفسيةهذا الإنسان، وصبر هذا الإنسان على فقر شديد، أم فقر متوسط، أم على غنى زائد طاغي أم على غنى متوسط؟ كم تصبر وكم تتحمل وكم يناسبها؟ هناك وزن دقيق لا خلل ولا نقص في دقته لما عليه كل ذرة من ذرات الإنسان، ولما عليه كل إمكانية من إمكانيات الإنسان، وكل موهبة فيه من الله سبحانه وتعالى، نعطي المواهب وكل شيء لهذا الإنسان، علمه تام بما أعطى، الإنسان في علم الله موزن وزنا لا يختلف عما هو عليه في شيء، وكم يناسب هذا الإنسان موزن كذلك.

أهل الأرض يصلحون بالتربية السلمية الرشيدة الحكمية بمقدار من الرزق إذا نظر إلى هذا الرزق بصورته المجملة وليست التفصيلة بحسب الأفراد[7]، جميع أهل الأرض كم يصلحهم من مؤنه؟ وكم يصلهم من العطاءات، وتبقى هذه السنة الأولية في الرزق، وهي سنة التوافق بين مستوى الإنسان في نوعه وبين مستوى الرزق المتنزل عليه، سنّة التوافق والانسجام ويوجد تناسب، وهذا ما تقرره الآية الكريمة ” وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ”[8]، هذا القدر الذي يقدره الله عز وجل آت على أساس أن الله خبير بصير، وعلى أساس إنهم عباده، فإذا كانوا عبادة فرزقهم عليه ولا رازق لهم إلا الله، وهل من حكمة الله أن يخلق عباده ويحويجهم إلى الطعام والشراب والكسوة والمنزل ثم يتركهم بلا شيء؟

الآية الكريمة تقول ” إِنَّهُ بِعِبَادِهِ”[9]، فعباده محل رأفته، ومحل توجيهه، ومحل قضاء حوائجهم من عنده؛ لأنهم عباده وليس لهم أحد غيره سبحانه وتعالى، ولأنهم عبادة بالعبودية الحقة التكوينية وليست الاعتبارية، فول امتلكت عبد اعتبارا وقانوا فهل يلزم من هذا أن أكون به خبيرا بصيرا؟ فول كنت عبدا واشتراني حرا فهل يتحول بشراءه لي إلى خبيرا بصير بي ولكل احتياجاتي العلقية والروحية والنفسية والجسدية ويعلم مني كل ذرة وبكل خلية؟ لا يلزم هذا؟

فالعبودية التي تستلزم أن يكون بعباده خبيرا بصيرا هي العبودية التكوينية المحضة الخالصة، وعبودية تعني أن كل ذرة من ذرات هذا الموجود من عطاء الله عز وجل حدوثا وابتدائا واستمرارا، وهذا المملوك الذي تتنزل ذراته بقدرة الله وفيضه في كل لحظة، والله عز وجل ينزل الوجود على ذراتي وخلاياي فهو يعلم كم هذا الوجود، ومن الضروري أن يكون بي خبيرا بصيرا، ويحيط بكل شيء مني علما؛ لأنه هو من ينزل وجودي في كل لحظة فلابد أن يكون بي خبيرا بصيرا، ويبصر مني كل شيء، ما يصلح وما يفسد، خبرة حقيقة وخبرة وزن وخبرة مكونات، وخبرة ما تقتضية هذه المكونات وهذا الوجود وما يحتاجه هذا  الوجود، ” وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ”[10].

هناك رزق للأفراد ورزق للجماعات والأقوام، الأول الذي تتحدث عنه الآية فيما يظهر أنه الرزق للعباد بصورة عامة بصورة المجموع، أهل الأرض كم هم وما هم وماذا يناسب تربيتهم التربية الصالحة؟ وهناك رزق للأفراد، لهذا الفرد وذلك الفرد وهذه الجماعة وتلك الجماعة وهؤلاء القوم وأؤلئك القوم، هنا تأتي سنن غير سنة التوافق والتناسب والتوازن التي مر الحديث عنها، بمعنى بين الحاجة ومقتضاها من رزق، ما هو الوزن وما هي الحاجات وماذا يصلحها، يقدر أن هذا الذي يقضي حاجات الإنسان ويصلح حاله -الإنسان بما هو نوع-.

أما هنا فتأتي سنن للحالة الفردية والفئوية والقومية بمعنى الأقوام والأفراد والجماعات، تأتي سنة الإبتاء فتبتلى هذه الأمة وتلك الأمة وهؤلاء القوم وأؤلئك القوم وهذه الفئة وتلك الفئة وهذا لافرد أو ذلك، بمعنى تمتحن وتوضع تحت الاختبار الخاص، فهذا عنده غرور وتبجح بإيمانه فحتى ينكشف لنفسه وحتى يظهر وزنه لها وينكسر هذا الغرور إذا نحج في الامتحان، فهنا يأتي مزيدا من الرزق أو يأتي إنقاص للرزق. فسنة الإبتلاء تكون بزيادة الرزق كما تكون بنقيصة الرزق.

“وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ”[11]، وخاتمة الآية الكريمة تقول هذا الفتنة لا تفتتنوا بها بحيث تسقطون، بحيث إذا أعطكيتم من الأموال فلا تجذبكم وتشلكم بكم إلى الأرض وتنسوا الله سبحانه وتعالى، وتنسوا الأجر العظيم عند الله على مواجهة تحدي المال وإغراءه وسحره في النفس، هذا يفهم منه بأنه فتنة بزيادة المال.

وآية أخرى تقول “وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ”[12]، مزيد المال يجتاج إلىمواجهة من الصبر، ومواجهة بالصبر، ونقص المال ومحنته يحتاج إلى مواجهة بالصبر كذلك، والصابرين في الموردين يبشرهم الله ” وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ”[13] والآية سكتت عما بشر به الله وهو أكرم الأكرمين وهو القادر على كل شيء، والكريم من الناس إذا بشر أرتقب المبشر الخير الكثير منه، والشريف من الناس إذا بشر ليس كما يبشر اللئيم، فكيف والمبشر هو الله عز وجل؟

والحمد لله رب العالمين

 

[1] سورة الشورى، الآية 27.

[2] سورة الشورى، الآية 12.

[3] سورة الشورى، الآية 12.

[4] سورة الشورى، الآية 12.

[5] سورة البقرة، الآية 245.

[6] سورة الشورى، الآية 27.

[7] ملحوظ المجموع بما هو مجموع.

[8] سورة الشورى، الآية 27.

[9] سورة الشورى، الآية 27.

[10] سورة الشورى، الآية 27.

[11] سورة الأنفال، الآية 28.

[12] سورة البقرة، الآية 155.

[13] سورة البقرة، الآية 155.