خطبة الجمعة (603) 23 رجب 1435هـ – 23 مايو 2014م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : سنَّة الابتلاء

الخطبة الثانية : السيف أو العدل والإفساد أو الإصلاح – من أين جوع البطون؟ – لقد دفع الثمن – أهكذا سياسة في أرض الإسلام؟

 

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي جعل لكلّ خلق من خلقه قدرًا، وكَتَبَ لكل نفس أجلًا، وللدّنيا منتهى، وجعل جزاء كلّ ساع ما سعى، وضاعف الثواب لمن أحسن عملا، وهو أحكم الحاكمين، وأحسن المحسنين.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله لئن اهتدى مهتدٍ فَبِهُدًى من الله، وإن ضلّ ضالٌّ فمن نفسه ؛ فليستعن العبد على نفسه باللجأ إليه، وطلب الهداية منه. وقد جعل الله طاعتَه سببًا للهداية، ومعصيته طريقًا للضلال. فمن طلب الهداية من ربّه فلا يُخالف له أمرًا، ولا يرتكب له نهْيًا، وليتدرّع بتقواه ينجُ من الضلالة، وينأَ عن الغواية. ومن عاند الله فقد اختار لنفسه العمى والحيرة والتيه والخسار.

       اللهم صل وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم. اغفر لوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا ومن علّمنا علمًا نافعًا في دين أو دنيا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.

       اللهم اجعلنا على بصيرة من أمر الدنيا والآخرة، وارزقنا هداية الدنيا والآخرة، وافعل بنا ما أنت أهله، واجعلنا من أهل خاصّة رحمتك، ومن أهل الكرامة لديك.

       أما بعد أيها الإخوة المؤمنين والمؤمنات فهذه مواصلة للحديث في موضوع سنَّة الابتلاء:

       السنّة تبقى مع الزمن، ولا يفترق فيها مكان عن مكان، ولا قوم عن قوم، ولا أمة عن سائر الأمم. وسنّة الابتلاء لم يستثنَ منها تقيّ أو فاجر، ولا نبيّ أو غير نبي. إنّها لتعمّ الإنس والجنّ والملائكة.

       ويعترضُ حياةَ المكلّف ابتلاءٌ من الابتلاءات فيسقط فيه ليأخذ به سقوطُه من خطٍّ إلى خطّ معاكس([1])، وينتهي به إلى غاية غير الغاية التي كان على طريقها([2]).

       إبليس وقد اختُبِر بالسجود لآدم خضوعًا لأمر الله سبحانه فاستكبر، فصار به استكبارُه على أمر ربّه من طريق الطاعة إلى لزوم طريق المعصية ما دام حيًّا، ومن المثوى الكريم في الجنة إلى المثوى الأليم في النّار.

       وسقوط عمر بن سعد في اختبار كربلاء انتهى به إلى أخزى خزي وأذلّ ذلٍّ وأهون هوان والمصير إلى النّار.

       وتجاوز الحرِّ لامتحان ذلك اليوم خَتَمَ حياته بأكرم شهادة، وأروع مصير، وأدخله في قائمة الشرفاء السعداء المحظوظين.

       فليحذر العبد من السّقوط في امتحانٍ من الامتحانات الإلهية فيكونَ ذلك خاتمته في الحياة.

       وليحرص على النجاح في كلّ امتحان إلهي يواجهه في مسيرته فربما كان في ذلك الخاتمة السعيدة لما عاشه من عمر، وما كُتِبَ له من مدة حياة.

       والإخفاق في الابتلاء بالنعمة تُختتم به الحياة كان بنعمةِ الصحة أو الغنى أو النصر أو أي نعمة أخرى كنعمة المال أو غيرها يُحوّلها([3]) في حق المرء وعلى يده وبسوء اختياره إلى أشدّ النقم وأسوأ ما وافاه في الحياة.

       والنجاح في الابتلاء بالشدّة تُختتم به الحياة يجعلها من أروع النعم، وأكبر الخير، وأحسن ما لاقاه المرء في ما كُتِب له من العمر، وفي ما كان له من ليال وأيام.

       وعن الإمام الصادق عليه السلام:“إنّ الله عزّ وجلّ أنعم على قوم بالمواهب فلم يشكروا فصارت عليهم وبالًا، وابتلى قومًا بالمصائب فصارت عليهم نعمة”([4]).

       وإنما صارت مواهب الله لهم وبالًا ضاقوا به حيث بطروا، وخرجوا بها من طاعة الله إلى معصيته.

       وإنما صارت مصائبهم نعمةً عليهم بما وُفِّقوا إليه من الصبر عليها والاعتبار بها وبما أيقظت فيهم من روح التوجُّه لله وتفويض الأمر إليه والرّضا بقضائه وقدره وملازمة طاعته.

       وتقول الكلمة عن الإمام العسكريّ عليه السلام:“ما من بليّة إلّا ولله فيها نعمة”([5]).

       لأنَّ هذه البلية لمن تدبّر الأمر وعَرَفَ الله وحكمته وما يرمي إليه ابتلاؤه لعباده قد تنعطف بالإنسان إلى يقظة منقذة، وتوبة نصوح، وتدارك لما فرّط، وإلى استقامة دائمة بعد انحراف([6]).

       ولنمر مرورًا سريعًا بصور من الابتلاء، ولنُحدِّث النفس بها ونُسائلها كيف تتعامل معها وما مدى صبرها عليها فإنّا لا ندري ما يُفعل بنا اليوم أو غدًا([7])، ولنطالبهابالوقوف منها الموقف الذي يُرضي الله سبحانه، فيكون فيه رشدها ونُجحها.

       وهذه بعض الصور:

       من الابتلاء بالنعم الابتلاء بالعلم ورفع الدرجة في الدّنيا والسلطة والشهرة والغنى في المال، والجمال، وكثرة المريدين والأتباع، وقوة البدن وجرأة النفس، وسعة الخبرة ووفرة الذكاء، ومنعة العشيرة.

       وفي كلّ نعمة مما أنعم الله على عبده – وما أكثر ما أنعم – فتنةٌ تختبر شكرَه وحسنَ تصرّفه أو سوء ما يعمل.

       وكم من إنسان أهلكه تفوّقه العلميّ، وتوقُّد ذكائه، أو ما هو عليه من جمال أو صحّة أو قوة. وكم من امرء فتك به غناه أو شهرته، وأصابه الغرور والبطر وأفقده رشده أنْ كثر أنصاره وأتباعه. وكم من نصرٍ لم يحتمله أصحابه فأَضلّهم وأعماهم وجعلهم يخوضون خوضًا لا حدّ له في مظالم العباد والمفاسد.

       وفي كلِّ دافع من دوافع المادّة عند الإنسان بلاء، وفي كلّ مشتهى من مشتهيات الدنيا اختبار، وفي كل لذّة من لذّاتها فتنة فعن الإمام عليّ عليه السلام:“احفظ بطنك وفرجك ففيهما فتنة”([8]).

       وفي كل ضائقة تصيب الإنسان فتنة وفي كل ما تصعب منه الحياة، ويوقع في المعاناة ابتلاء. في الفقر، والمرض، والهزيمة، وفقد الأحبّة، وكثرة الأعداء والحسّاد، وما يقع على الإنسان من ظلم، وما ينالُهُ من تُهَمٍ باطلة، وما يواجه من خسارة، وما قد يلحقه من خيانة الآخرين، وفي كوارث الطبيعة ونوازل الحياة ابتلاءٌ من الابتلاء العظيم.

       عن الإمام الصادق عليه السلام:“إنَّه ليس شيء فيه قبض وبسط مما أمر الله به أو نهى عنه إلّا وفيه لله عزّ وجلّ ابتلاء وقضاء”([9]).

       وفي كلّ تكليف إلهي فتنة، والقليل القليل من الناس من يخرجون من كلّ أنواع الابتلاء بنجاح، ويُحقّقون نتائج مرضيّة.

       اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم كن لنا عونًا في كلّ بلاء، ومُنقِذًا في كلّ فتنةٍ، ولا تحدث بنا شرًّا، ولا تصرف عنا خيرًا، ولا تخذلنا في الشدّة، ولا تتركنا للنفس الأمّارة بالسوء وفي أي حال من الأحوال يا حنّان يا منّان، يا رحمان يا رحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([10]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي لا ملك إلا ملكه، ولا سلطان إلا سلطانه، ولا أرض ولا سماء ولا شيء إلّا ما خلق، ولا نفسَ إلّا ما برأ.

       وأمر كلّ شيء بيده ولا مرجع إلّا إليه، ولا حاكم في الأمر الكبير والصغير من أمور الكون والحياة والموت والرزق والهدى والضلال غيره.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله من طرح عقله جانبًا وتخلّى عن مقتضاه ضلّ في الحياة سعيُه، وانتهى إلى السوء والشقاء مصيره. ومن أخذ بنصح العقل اهتدى وكان إلى الخير منتهاه وموئله.

       والعقل لا يرى غير الله سبحانه وتعالى مبدئًا ومعيدًا، ومالكًا وربًّا وإلهًا، ولا يُشرك به شيئًا. وهو قاضٍ بعبادة الله وطاعته والخضوع التامّ إليه والتذلّل بين يديه.

       فمن طلب الصلاح لنفسه والنُّجْح في سعيه، وبلوغ الغاية الكريمة لحياته فليتّق الله، ولا يتخلّف عن شيء من طاعته، ولا يقترف شيئًا من معصيته، وليكن الشاكر لأنعُمه، الصابر على بلائه.

       نسألك اللهم صدق الطاعة لك، والذّلّ بين يديك، والإخلاص في عبادتك، والجدّ في طلب مرضاتك، وأن تكفينا السّوء، وتُجنّبنا الشر، وترزقنا نعمة العافية عافية الدّنيا والآخرة يا خير مؤمَّل، وأحسن مرجوّ يا من هو الجواد الكريم القادر الرّحمان الرَّحيم.

       اللهم صل على محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، اللهم صلّ وسلم على وليك أمير المؤمنين وإمام المتقين، اللهم صلّ وسلّم على فاطمة الزهراء الصدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى أبنائها المعصومين الإحدى عشر أئمة الهدى: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن عليّ العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرَّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد أيّها الأحبّة في الله فهذه بعض الكلمات:

  1. السيف أو العدل والإفساد أو الإصلاح:

البحرين التي يجب أن تكون عزيزة على جميع أبنائها وأبناء الأمّة واحدة من البلدان التي تُعاني من أزمة سياسيّة حادّة مؤثِّرة سلبًا على كلِّ الأوضاع، وفي استمرارها خطر محدِقٌ عظيم.

       والبعض يختار أن يستمرَّ الاحتكام للسّيف، وأن يزداد فتكُه ضراوة، وأن يُحمى استمرار الفساد بكلِّ أشكاله وصوره ومجالاته من فسادٍ سياسيٍّ واقتصادي واجتماعي، وكلّ فساد يُنتجه الخلل السياسي والظلم السياسي ما وُجِد وطال بقاؤه.

       هذا البعض لا يريد حوارًا، لا يريد تفاهمًا، لا يريد عدلًا، لا يريد أن يُعترف بحقٍّ لمظلوم، باعتبارٍ لمهمَّش، لا يريد إصلاحًا للوضع خاصة الوضع السياسي السيء وهو منبع لكلّ المشاكل.

       يحرص هذا الرأيُ كلَّ الحرص على بقاء التمييز السياسي الطائفي والعائلي وتسييجه بكلّ ضمانات البقاء والذود عنه دستوريًّا وقانونيًّا ومن خلال كلِّ أسباب القوة، وبالبطش والفتك وأعلى درجات القسوة.

       وتُعلن هذا الرأي أقلامٌ وألسنٌ لعلماء دين وسياسيين، ومثقّفين من مقرّبين للحكم ومتنفّذين ونفعيين ومنتهزين ومتسلّقين.

       والسؤال هل هذه الألسن والأقلام التي تصرّ على بقاء الفساد والرّكون إلى السّيف لحمايته واستمراره وترفض أيّ عدلٍ وإنصاف وإصلاح وتُعلن رأيها الصريح أو المبطّن بهذا الأمر هل هي مندفعة إلى ذلك ابتداء، أو أنها مدفوعة ومأجورة لأن تقول هذا الرّأي وترفع رايته؟

       ولا شكَّ في إثم هذه الفئة ومسؤوليّتها أمام الله سبحانه ومن ثمّ الوطن والتاريخ وإضرارها بالشعب سواء كان تبنّيها لهذا الرّأي والترويج له عن اندفاعة ذاتية ابتداءً أو استجابة لأمرِ آمر، وعن تنسيقٍ مع الغير وتوزيعٍ أو تكامل في الأدوار.

       والمُطْمَأَنُّ إليه على كل حال أن هذا الدور السيء من هذه الفئة غير المستقلّة لا يمكن أن يأتي بعيدًا عن التنسيق مع أهل السلطة نهائيًّا. وعلى خلاف ما يريدون، والسلطة هي الأولى بحماية مكاسبها والذّود عن مصالحها وإن كانت على خلاف الحقّ والعدل، وعلى حساب حقوق الشعب وحرّيته وكرامته. والتابع لسان الأصل، ولا منطق للتابع غير منطق الأصل.

       فالفكرة فكرة نابعة من السلطة ولو بعضا، ويشارك في التعبير عنها من يقوم بذلك بالنيابة.

       ولعلّ هذه الضجة العالية المعارضة للإصلاح هي نوعٌ من الضغط المشدد على المعارضة وتحضير للاعتذار عن الإصلاح بدرجة مؤثِّرة وبقصد أن تتفكّك المعارضة، ويتبعثر وجودها.

إنّ ما تريد أن تُقدِم عليه السلطة من موافقة على شيء تُسمّيه إصلاحًا هو بعيد عن كلّ الإصلاح، وعن سقف الإصلاح الذي كلّف الشعب ما كلّف، وبذل من أجله ما بذل. إنه إصلاح لا صلة له حقيقية بمطالب الشعب التي بذل من أجلها كلّ غالٍ ورخيص، وما ودّع من شهداء، وما لاقى من عذاب، وما ذاق من ضيق السجون، ما فقد من أمن، ما اعتراه من إعلام مشوّه، من آلام لا يمكن أن تُحصر في هذا المقام.

       وحجة أخرى تسوقها السلطة لا حاجة لذكري لها.

       وبغض النظر عن أي انتصار وضغط رسمي داخلي أو خارجي يمكن أن يُدّعى وجوده ضد الإصلاح والتغيير أو معه فإن حركة شعوب العالم لصالح التغيير والحريّة والعدل وإشراك الشعوب في إدارة شأنها العام وتقرير مصيرها، وكذلك حركة شعوب الأمة بدأت تخرج عن حدِّ السيطرة من قبل الحكومات وتفرض نفسها في أكثر من مكان، ولا شيء يوقف هذه الحركة. وكلُّ أوضاع العالم تتجه إلى التغيير، ومحاولاتُ منعه لا نجاح لها على الإطلاق.

       ومطلب الإصلاح في البحرين لا يُمثّل طفرة في سقفه، ولا يستهدف بالتهميش مكوّنًا كبيرًا أو صغيرًا من أيّ اتجاه من مكوّنات الوطن، وكلّ ما يحاوله أن يؤسس لحياة العدل والمساواة والإخاء والمحبة. ووضعٌ هذا قوامُه لا يعود بضرر على داخل أو خارج، وإنما كل عائده خير.

  1. من أين جوع البطون؟

في الأرض جوع كثير من البطون، عِريُ كثير من الظهور، ضياع بلا مأوى، انتشار للأوبئة، خوف مرعب يكتسح العالم، حروب ظالمة طاحنة، عبث بالثروة، رحلات موت يُقدم عليها كثير من الباحثين عن لقمة العيش، وكثير من ملاحَقي السُّلطات الجائرة، بيع دين، بيع عرض، بيع أولاد بدافع سدّ الجوعة، إقدام على ما هو من أكبر الإثم وأخسّ دور يمارسه إنسان من تعذيب الأبرياء والسّعي بهم إلى السلطات الجائرة سعيًا وراء اللُّقمة لسدّ أبوابها الشّريفة الحلال أمام طُلّابها أو بفعلِ سوء التربية المادية الجشعة التي توقع الناس فيها الأنظمة الجائرة، الإقدام على العيش في أجواء الغربة مع ما تُسبّبه من الانسلاخ من الدين والقيم المعنوية الرفيعة، ومع ما يواجهه هؤلاء الغرباء من كراهية شعوب البلدان المضيفة وحالات الإذلال والازدراء التي يتلقّونها.

كل أرضنا اليوم تشهد هذا كلّه، وفيها هذا كلّه وما هو أكثر منه فمن أين هذا كلّه؟

       وراء كل ذلك جنونان: جنون سلطة وجنون مال. جنونان يحكمان عقلية بشرٍ من البشر، ويسيطران على نفوس فئة من النّاس بصورة شاذّة فريدة تسلبهم إنسانية الإنسان. جنونا شرٍّ متآخيان مترابطان متناصران. كلّ منهما لا بدّ له من الآخر، ولا غنى له عنه، ولا استمرار له إلَّا به([11]).

       الظلم الاقتصادي ونهب الثروات العامة والخاصة لا يستمر ولا يتوسع إلا بدعم من تسلُّطٍ سياسي، وإلا لانتهى على يد المنهوبين والمحرومين.

       والتسلُّط السياسي الظالم لا يتركَّز ولا يضمن استمراره، ولا يحمي ذاته إلا بعدد من الترتيبات والإجراءات الباغية المفسدة من مثل:

1)نهب الثروات الطبيعية وسرقة جهود الأمة واستثمار عرقها بصورة جائرة لسدّ حاجة الجيوش التي تتبع إرادة السلطة من غير مراعاة دين أو خلق أو إنسانية، مدفوعة في تنفيذها لتلك الإرادة الظالمة بحاجة المال ونهمه والإغراء به.

ومثل الجيوش المستسلمة لإرادة السلطات أجهزة الشرطة والمخابرات وأجهزة القضاء والتنفيذ… إلخ([12]).

2)إسقاط قيمة الدين في النفوس إلا بمقدار ما يصلح توظيفه لخدمة السّياسة الظالمة واستغفال الشّعوب.

3)نشر حالة اللهو والفساد والسّقوط الخلقي لتأمن السلطات الظالمة من يقظة الشعوب وما تستتبعه من تحرُّك لاسترداد الحق ورفع الضيم.

وَنَهَمُ التسلُّط والروح الطاغوتية يتنامى عند أهلها ويتعملق ويتوسّع فلا يقف عند حدٍّ جغرافي، ولا يقتنع بالسيطرة على وطن أو قومٍ أو أمة فهو دائمًا في طلب المزيد وعلى هذا الطريق تُحرق الثروات([13])، وتستنزف الأموال الطائلة وتعطل الجهود المنتجة وتأتي على الأخضر واليابس وكل ذلك مما يُخِلُّ بالوضع الاقتصادي ويعطل حركة النمو في هذا المجال.

       ومن أجل التعملق المالي وطاغوتية المال تُقام المصانع والصناعات الضارّة في العالم. ومشاريع التسلُّح الفتّاك في تسابق مجنون، وكل ذلك مما يعود على البيئة بالفساد بما تبثه تلك المصانع من سموم تقتل الإنسان والحيوان والزرع وتُخِلّ بالتوازن البيئي مما يُؤثِّر على مجمل الحياة ونقاء المياه وسلامة البحار، وعطاء الأرض فتضمر الثروة.

       وللحروب الدولية وفي البلد الواحد كُلفة عالية تلتهم ثروات الشعوب والأمم على أكثر من بُعد.

       خذ البحرين مثالًا صغيرًا في هذا المجال فكم كلّفت المواجهة للحراك الشعبيّ على سلميّته من ميزانية ضخمة وإلى أيّ حدٍّ دفعت السلطة للاعتماد على الخارج في تغذية الموازنة لهذه المواجهة بما تطلّبته من شراء العقول والضّمائر وجيوش التجنيس وتوفير المغريات الجاذبة لهم، وإقامة السّجون واستئجار شبكات العلاقات المكلِفة وغير ذلك.

       وانظر كم تسبّبت هذه المواجهة للحراك السّلميّ من تعطيلٍ لطاقات عاملة منتجة وأضرّت بحياة عوائل وضيّقت على أرزاق الكثيرين.

  1. لقد دفع الثمن:

لقد دفع النائب المحترم أسامة التميمي الثمنَ لكلمةِ حقّ قالها في مجلس النوّاب بشأن الإساءة في معاملة السجناء. أُسقطت عضويته من المجلس النيابي وكأنَّ هذا المجلس ليس للانتصار للشعب وإنما هو للانتصار لظلم السلطة، ودفع بذلك الثمن لكن لو كان إسقاط عضوية هذا المجلس خسارةً حتى تعدَّ ثمنًا لكلمة حقّ قالها الرجل.

  1. أهكذا سياسة في أرض الإسلام؟

يا سياسةٌ جاهلية جهلاء لا تُبقي على حرمة لنفس، ولا عرض، ولا مال، ولا قرآن، ولا مسجد، ولا بيت، ولا مذهبٍ حقٍّ، ولا رجل صالح وامرأة صالحة، ولا عالم دين، ولا علمٍ يخدم الدّين، ولا مؤسسة ساهرة على مصلحته، حريصة على نفع الوطن، ووحدة الشعب، ووحدة الأمة؟

أهكذا سياسة في أرض الإسلام؟

أعالم بعد عالم من صالحي علماء الأمة إمَّا أن يُقبر في السجن، أو يُستدعى باسم التحقيق ليتلقّى وجبة غليظة خسيسة من المهانة وإنْ كانت لا تملك أن تنال من مقامه عند الله سبحانه أو عند المؤمنين، أو تنال من عزّته الإيمانية أو تفُلَّ من صموده على طريق الحقِّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما لهذا العالِم أو ذاك من ذنب إلا أنّه قال كلمة حقّ تنتصر لمظلوم على ظالم، وطالبَ بفكّ القيد عن مغيَّبين من العلماء الصَّالحين والأحرار؟

أهكذا سياسة في أرض الإسلام؟!

أزَهْقًا زهقًا لأرواح الأبرياء المسالمين بهذه الدرجة البشعة من الحطّة والاستخفاف والاسترخاص لحرمة الدم، وحياة الإنسان، وكرامته من أجل ألا ينكر على ظلم، ولا يطالب بحقّ، ولا يرتفع صوت للحريّة؟

أهكذا سياسةٌ في أرض الإسلام؟!([14])

ثم أين الإرهاب؟ ومن هو الإرهابي؟

الإرهاب في تشييع شهيد، أو قتيل مسلم، أو في القتل للمشارك في تشييعه، وإمطار المودّعين له إلى مثواه برصاص الموت؟([15])

الإرهابيُّ هو من شارك في تشييع جنازة مؤمنٍ مشاركة سلمية أم أنَّ الإرهابيَّ من قتله عمدًا برصاصٍ غادر حاقد دنيء لينال جائزةً من آمر؟

وكم ضاع على يدك يا سياسة من حقِّ دمٍ بريء، وأخفيتِ قاتله أو برّأتيه، وكان بدل قتله لضحيّته على يدك التكريم؟ وكم حُكم بالسجن المؤبّد أو الإعدام، وكم عُذِّب من بريء على يدك باسم الإرهاب؟! أهكذا سياسةٌ في أرض الإسلام؟!

لئن قيل عن هذه السياسة بأنها سياسة فهي سياسة غاب جاهلية مفرطة في الوحشية لا تعرف القيم.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم أحلل عدل دينك في الأرض محلّ ظلم الظالمين، والصلاح مكان ما شاع فيها من فسادهم، والأمن مكان ما عمّها من خوفٍ بجورهم.

وأبدل أمة الإسلام عن ذُلِّها عِزًّا، وعن فُرقتها التئامًا واتّحادًا، وعن الشرّ الخير، ورُدّها إلى الحق الذي كانت عليه، والرُّشد الذي اتّسمت به يا مجيب الدّعاء يا رحمان يا رحيم.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([16]).

 

[1]– من خطّ الاستقامة إلى خطّ الانحراف.

[2]– ينتقل به من غاية الجنّة إلى غاية النار.

[3]– ضمير يحوّل يعني الإخفاق في امتحان تلك النعمة.

[4]بحار الأنوار ج68 ص41 ط3 المصححة.

[5]تحف العقول ص489 ط2. بحار الأنوار ج75 ص374 ط2المصححة.

وقد جاءت في نهاية الحديث في المصدرين المذكورين إضافة (تحيط بها).

[6]– وهذا هو الكائن دائمًا من وراء الابتلاءات لمن تعقّل واحتفظ بشيء من العلاقة بالله سبحانه وتعالى.

[7]– اليوم الإنسان صحيح الجسم، وغدًا يصيبه السقم، اليوم غنيٌّ، وغدًا يشمله الفقر، إلخ، لا يستسلم لظروف النعمة، وإنما عليه أن يعرض على نفسه أيام البلاء والمصيبة.
أنا اليوم أتحمّل ظرف المرض، وحين يتبدّل المرض صحّة هل أتغيّر؟ يتحمّل فلان ظرف الفقر، حين يتبدل ظرف فقره إلى غنى هل يصبر على الغنى؟

 

[8]موسوعة معارف الكتاب والسنة ج10 ص201 ط1. وقد ورد في المصدر: عيون الحكم والمواعظ ص78 بدل (وففيهما) (فهما).

[9]موسوعة معارف الكتاب والسنة ج10 ص187 ط1.

[10]– سورة التوحيد.

[11]– الجنون الاقتصادي، جنون المال، وجنون السلطة.

[12]– والتي تحتاج إلى ميزانيات ضخمة.

[13]– من أجل التوسع.

[14]– هتاف جموع المصلين (لن نركع إلا لله).

[15]– أيهما الإرهاب، في ذاك الموقف أو هذا الموقف؟!

[16]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى