خطبة الجمعة (594) 19 جمادى الأول 1435هـ – 21 مارس 2014م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : معرفة الله

الخطبة الثانية : متى نُصْدِقُ الدِّينَ عملًا؟ – ماذا تغيّر من عنف السلطة؟ – سلطة الأمن والسلام

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي لا حركةَ ولا سكونَ في الكونِ كلِّه سمائه وأرضه ومن أوّله إلى آخره، وابتدائه وامتداده إلّا بإذنه، ولا متحرّك ولا ساكن إلّا من خلقه([1])، ولا شيء مما مضى منه، وما جرى فيه، ولا شيء يأتي أو يجري إلّا في علمه، ولا مالك لأمرٍ أو نهي في التكوين غيره، ولا تحريم، ولا إيجاب، ولا ترخيص في تشريع إلّا له. مالكٌ حقَّ الملك لا يُحاسَب ولا يُسأل، ومحاسِبٌ ومعاقِبٌ لمن أساء، وهو ذو المغفرة الرّحمان الرحيم.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله لا يسقطنَّ أحدٌ قيمة نفسه ولا يهلكنّها بالدخول في معصية جبّار السماواتِ والأرض، ولا يستهيننَّ بأمرٍ من أوامره أو نهي من نواهيه.

       وليتّعظ مؤمنٌ بما عليه علاقتُه بالنّاس، وما هم عليه به من علاقة.

       فهل يدخل أحدٌ منّا في معاندة ومكابرة لمن يُحبّه أو يخافه أو يرجوه فيثيره على نفسه، ويتعرّض لما لا يَحتمِلُ من غضبه الذي لا حيلةَ له في التخلُّص مما يترتّب عليه من صارم عقوبته من دون أن يَرُدَّ عنه ذلك عقوبةً أقسى، أو يُكسبه ربحًا أعظم؟!([2]) ومَنْ أحقّ بِحُبِّ الإنسان، وبخوفه ورجائه من ربّه؟ ومَا أعظم من يُحَبُّ ويُخَاف ويُرجى من الله المنعم المحسن، القويّ العزيز، الجواد الكريم؟!

       لا يصبر أحدنا على الهجرِ من زوجه، ومن صديقه ومن جاره وقريبه، ولا على غضبه، ثم يستهين بهجران الله عزّ وجلّ له، وسخطه عليه لمعصيته ومكابرته، وبالتعرُّض لحلول نَقِمَتِه؟!([3])

       فلنتّق الله عباد الله، ويا أيها المؤمنون، وليكن الله وهو العظيم الحقّ لا عديلَ لشأنه وحقّه في نفوسنا وإلّا كانت النَّفْسُ على أسْفَهِ السَّفَه، وفي أسقط السُّقوط، وأشدّ الخَسار.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       ربّنا احمِ عقولنا من الوَهْم، وقلوبنا من الزيغ، ونفوسنا من الضّلال، ومن غَلَبَةِ الهوى، وسقوط الرّأي، وخداع الشيطان الرّجيم.

       أما بعد أيُّها الكرام من مؤمنين ومؤمنات فالحديث في موضوع:

       معرفة الله سبحانه:

       وتم ما كان منه من عنوان الطرق إلى معرفة الله عزّ وجلّ –والتي تتلخّص في معرفة النفس، والدليل العقلي، والتربية النفسية بالتزكية- الكلام في الطريق الأول.

2. الطريق العقلي الاستدلالي:

عن الإمام علي عليه السلام:“الحَمدُ للّهِ… الدّالِّ عَلى قِدَمِهِ بِحُدوثِ خَلقِهِ، وبِحُدوثِ خَلقِهِ عَلى وُجودِهِ… مُستَشهِدٌ بِحُدوثِ الأَشياءِ عَلى أَزَلِيَّتِهِ، وبِما وَسَمَها بِهِ مِن العَجزِ عَلى قُدرَتِهِ، وبِمَا اضطَرَّها إِلَيهِ مِنَ الفَناءِ عَلى دَوامِهِ”([4]).

أيها المؤمن، أيها العبد لله..

أمام الإنسان عالمٌ قائمٌ شاخصٌ يجعله يسأل أهذا العالم حادث أو قديم، حادث بمعنى أنه لم يكن ثمَّ كان. وقديم معناه أنه لم يسبِقْه وجود ولا عَدَم على الإطلاق([5]).

ولكنَّ أشياء الكون في تغيّر دائم، ولا شيء منها يحتفظ بوجوده، أو بحال يثبت عليه، وما ذلك إلّا لأنه لا يملك ذاتَه ولا أيّ حالٍ من أحواله([6])، ولحاجته لمن سواه ممن لا يُشاركه فقره. وما كان كذلك لا يكون قديمًا لأنَّ القديم بالمعنى المتقدِّم لا يكون إلا غنيًّا بذاته، ومن كان غنيًّا بذاته، قادرًا بذاته، عزيزًا بذاته وليس أحدٌ مثلَه يُؤثِّر ولا يتأثّر، يُغيِّر ولا يتغيّر.

وحدوثُ الخلق بمعناه الذي سَبَقَ دليلٌ لا مراءَ فيه على حاجته إلى الخالق، وأنَّه من صنعه وعطائه.

وفناءُ الخلائق وهو أمرٌ مشهود للإنسان، واستمرار الكون وحركته، وتَجدُّد الأحياء دالٌّ هو الآخر على دوام المدبِّر الحيِّ القادر العليم الحكيم الخارج عن طبيعة هذه الأشياء وعن حدّ الإمكان الذي يحكمها.

ويستدلّ الإمام الصادق عليه السلام على الله سبحانه بوجود نفسه([7]).

لما سُئِل ما الدليل على أن للعالم صانعًا؟ جاء جوابه كما جاء عنه عليه السلام:“أَكثَرُ الأَدِلَّةِ في نَفسي([8])؛ لِأَنّي وَجَدتُها لا تَعدو أَحَدَ أمرَين([9]): إِمّا أن أَكونَ خَلَقتُها وأنَا مَوجودٌ، وإِيجادُ المَوجودِ مُحالٌ([10]). وإِمّا أن أكونَ خَلَقتُها وأنَا مَعدومٌ([11])؛ فَكَيفَ يَخلُقُ لا شَيءٌ؟([12]) فَلَمّا رَأَيتُهُما فاسِدَتَينِ مِنَ الجِهَتَينِ جَميعا عَلِمتُ أنَّ لي صانِعا ومُدَبِّرا”([13]).([14])

الإنسان لو افترض أنه أوجد نفسَه يأتيه هذا السؤال: أَوْجَدْتَ نفسك حين هي موجودة، أو حين هي معدومة وأنها لا شيء؟ ولا يوجد فرض ثالث.

لكن كيف يُوجِدُ الموجودُ نفسه، بينما الموجود يستحيل أن يُوجَد، ولا موضوع لأن يوجد بعد أن كان وجوده مفروغًا منه.

وفَرْضُ أنَّ النفس أوجدت نفسها في حال كونها معدومة يردُّه أنَّ ما هو لا شيء، وعَدَمٌ محض لا يملك أن يخلق شيئًا.

وعليه كان وجود النفس دالًّا يقينًا على أنَّ لها صانعًا مدبّرًا. وهو الصانع الخالق المدبّر لكلِّ ما في الكون والوجود مطلقًا ممن هو مثلها في كونه شيئًا له وجود ولكنه ليس حقيقتُه هي حقيقةَ الوجود كما هو الله سبحانه([15]).

ولأنَّ ظهور كل المخلوقات بخالقها([16])، والمربوب بالرَّب، ولولاه لما كان لها نصيبٌ من الظهور فالحق أنه هو الدّال عليها، وليست هي الدالّ عليه([17])، ولا تملك نفسٌ أي دلالة على ذاته، ولا على صفةٍ من صفاته وأسمائه الحسنى. والاستدلال عليه سبحانه بخلقه إنما هو بما أعطى هذا الخلق من دلالة عليه من خلال تجلِّي شيءٍ من عظمته فيه([18]).

3. تزكية النفس:

متابعة شهوات النفس فيها عمى القلب، وانحجابه عن الرؤية.

وتزكية النفس وتهذيبها يُخلِّصها من أسر الشهوات، وينفتح بها على الأخذ بالحقّ، ويجعل لها أُنسًا به، ويجعلها مشدودةً إليه، طالبةً له.

وفي جوِّ نفسٍ من هذا النوع يتمتع القلب بكامل بصيرته، وينفتح أمامه مدى الرؤية، وترتفع من أمامها الحواجز المصطَنعة، فتصحّ المعرفة، وتكبر، وتزداد في الصّفاء.

وبذا تكون تزكية النفس بالنأي بها عن ظلمات المعاصي، وإضاءتِها بنور الطاعة سببًا من أسباب أعلى معرفة وهي معرفة الله سبحانه، وزيادتِها ونقائِها. وأنتَ هنا تزيد من نماء مَلَكَات الخير والاستقامة في النفس، وتقضي على ملكات الشّرّ والانحراف فيها. والتزكيةُ للنفس إنما هو لخيرها، وتقويمٌ للعِوَج فيها واجتثاثٌ لحالة الفساد، فتعطيها فرصةً كبرى للنهوض والصَّلاح، والتطلّب للحقّ والعشق له.

ولتزكية النفس لمزيدٍ من معرفتها للحقّ والتعلُّق به، وتركيز هذه المعرفة والتمسك بها عدة طرق من وَصْفِ الدّين وهدى الشريعة تنتهي بسالكها إلى هذه النتيجة العظمى الرابحة.

من هذه الطرق:

1-          ذكر الله جلَّ وعزّ:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا([19])، هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}([20]).

وهو القائل سبحانه:{… نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ…}([21])، والقائل جلّ وعزّ:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ…}([22]).

والآية الأولى تأمر المؤمنين بذكر الله كثيرًا وهو ذكر تعظيم وتسبيح وحمد لينالوا صلاةً منه عليهم، وصلاتُه تبارك وتعالى عليهم هي رحمته بهم. وأكبر رحمة بهم إخراجهم من ظلمات العقل والقلب والرّوح وجعلهم في نورٍ ومعرفةٍ تقيهم كلّ ضلالة وانحراف.

وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“يَقولُ اللّهُ تَعالى: إِذا كانَ الغالِبُ عَلى عَبدِيَ الاِشتِغالَ بي جَعَلتُ نَعيمَهُ ولذّته في ذِكري، فَإِذا جَعَلتُ نَعيمَهُ ولذّته في ذِكري عَشِقَني وعَشِقتُهُ، فَإِذا عَشِقَني وعَشِقتُهُ رَفَعتُ الحِجابَ فيما بَيني وبَينَهُ …” ([23]).([24])

2-          الصلاة:

عنه صلّى الله عليه وآله:“الصَّلاةُ مِن شَرائِعِ الدّينِ، وفيها مَرضاةُ الرَّبِّ عز و جل، وهِيَ مِنهاجُ الأَنبِياءِ، ولِلمُصَلّي حُبُّ المَلائِكَةِ، وهُدىً وإِيمانٌ، ونُورُ المَعرِفَةِ”([25]).

وعن الإمام عليّ عليه السلام في تفسير مقاطع الأذان والإقامة:“ومَعنى «قَد قامَتِ الصَّلاةُ» فِي الإِقامَةِ، أي حانَ وَقتُ الزِّيارَةِ وَالمُناجاةِ، وقَضاءِ الحَوائِجِ، ودَركِ المُنى، وَالوُصولِ إِلَى اللّهِ عز وجل، وإِلى كَرامَتِهِ وغُفرانِهِ وعَفوِهِ ورِضوانِهِ”([26]).([27])

والصلاة بنيّتها وأقوالها وأفعالها اشتغالٌ من قلب العبد بذكر الربّ، والتفاتٌ إلى جلاله وجماله وعظمته.

وتُعطي هذه الصلاة بما هي ذكرٌ حيّ لله سبحانه للعبد معرفةً بربّه، وشوقًا إليه، وتعلُّقًا شديدًا به.

ويتوقّف هذا الحديث الآن هنا لِيُتابع من جديد في الجمعة القادمة إن شاء الله.

اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم اجعل ذكرنا لك متّصلًا، واجعل ذكرنا لك كما تريد، واجعل لنا منه نورًا، ومزيدًا من هُداك ومعرفتك، ورحمتك يا محسن يا متفضّل يا جواد يا كريم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([28]).

 

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله البيّنةِ آياته، السَّاطعة براهينه، الظاهرة حجّته، الواجب حمده وشكره، الشّافي ذكرُه، السابغة نعماؤه، الواضحة سُبُلُ الوصول إليه، والفوز برضاه، ونيل السعادة والكرامة بطاعته وعبادته.

       أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا.

       عبادَ الله ما قلَّ ذنبُ عبدٍ من عبيد الله إلا وكان عظيمًا، وما كَثُرَت طاعة منه له سبحانه إلّا وضألت لو نُظِرَ لِمالَه عزّ وجلّ من حقّ على عباده وما عليه جلاله وجماله وكمال ذاته وصفاته، ولعظيم نِعَمِه وآلائه.

       فكلُّ جِدٍّ في الطاعة له تبارك وتعالى دون حقه، وكل تقوى وخشية دون شأنه.

       ولكن من بَذَلَ جُهده أُعذر، ونال من المغفرة ما يُؤْمنه، ومن مضاعفة الثواب ما يُرضيه.

       فلنكن على جدٍّ في الطاعة لله، والسعي في سبيله، والتزيُّن بخشيته وتقواه نكنْ من الآمنين، وأهلِ جنّة النعيم.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم بيِّض وجوهنا يوم تسودّ فيه الوجوه، ولا تُسوّد وجوهنا يوم تبيضّ فيه الوجوه، واجعلنا من أهل النصيب الأكبر، والربح الأعظم، والفوز الأعلى في يوم المعاد يا جواد، يا كريم، يا رحمان، يا رحيم.

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائما.

أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الإيمان فمع هذه الكلمات:

متى نُصْدِقُ الدِّينَ عملًا؟

متى نكون صادقين مع إسلامنا وإيماننا فلا يكون لنا طريقٌ غير طريقه، ولا أخذٌ بغيره؟

والكلام عنّا نحن المنتسبين للدين المصدّقين به اعتقادًا المطبِّقين له بمقدار، والمخالِفين له في الكثير من مساحة حياتنا، وفي مواقفَ تدلّ على الاستغراق في الغفلة بل على عدم الاكتراث والمبالاة، وتُسجِّل علينا استخفافًا بأمر الدّين، ومظهرًا فاضحًا من مظاهر العناد لكبرياء الله وجبروته.

حين تُصِرُّ فتاةٌ مؤمنة على التبرّج الخارج عن حدِّ الشرع([29])، وعلى الميوعة التي لا يرضاها وعَرْض زينتها الذي يأباه، وحين يُصِرّ فتى على التميُّع واللباس البعيد عن اللياقة الشرعية، وحين تُلغى أية محاسبة للشّريعة في توجيه الاتهامات الباطلة، ويُعمل على تسقيط الطرف الآخر من غير حقّ، ويُحكم على الأفراد والجماعات المؤمنة بسوء الظنّ لا لشيء وإنما لأغراض دنيوية وسياسية دنيئة، وحين لا تُراعى حُرُمات الله عزّ وجلّ في حفلات من حفلات الزّواج وفي سفرات من سفرات الحجّ والعمرة والزّيارة، ومناسبات من المناسبات الدّينية في ذكريات المعصومين الأطهار عليهم السلام، وحين لا يُراعي مؤمن في بعث بنته الشّابة للدراسة إلى عاصمةٍ من عواصم دنيا الفِتْنةِ الجنسية العارمة، ودنيا الجنس الصَّارخ وشأن الدّين من غير أن يُعير نظرًا ما لشرفها من قيمة، وما للإسلام من حرص على سلامة عرضها في صورة خالية من أي احتياطٍ لحفظ هذه الحرمة، وحين ينطلق الشّاب المؤمن والشّابة المؤمنة في التعامل مع الفِسق والفجور وجوِّ الدعارة التي تبثّه قنوات التوصيل من مراكز الرذيلة العالمية والمحلية من غير أدنى اهتمام بشأن الدين وقيمه ونواهيه([30])، أليس ذلك كلّه من الاستخفاف بالدّين، وعناده، والتحدّي لله سبحانه؟!

من نعاند، من نكابر، من نتحدّى؟ من نحن، ما وزننا، ما قوّتنا، ما مقاومتنا؟([31]) نتحدّى قاهر كلّ قاهر، والعالم بما أعلن الإنسان وما أسر، وبكلّ ظاهرة وخافية.

من لا حاجة له في تكليفنا، وكلُّ الحاجة منا لتكليفه، والتمسُّك بما كلف. بمن توعّد العاصين المعاندين من عباده بالعقاب الأليم، ولا يمنعه مانع من أحد عن إنفاذ ما توعَّد به.

ونحن الضِعاف الصّغار الفقراء المملوكون لقدرته وتصرُّفه والذين لا نتحمل عذابًا أقلّ من عذابه.

الهوى وحبّ الدنيا وعدم التفكر والتدبر في الأمور ونسيان العواقب يُوقِع في أسوأ النتائج وأشدّ المهالك، ويُضلّ ويُعمي، ويُفاجئ أصحابه بكوارث لا تدخل في الحسبان.

إنَّ من احترم دين الله احترم نفسه، ومن أهانه أهان نفسَه، وأوقعها في أسوأ عاقبة، وأسود مصير، وقد يرى في دنياه قبل آخرته من سوء ما فعل ندمًا قتّالًا، وكان([32]) ما كان من شدّةٍ فإنه لا يُساوي شيئًا من ندم الآخرة([33]).

المجتمعات التي تتساهل مع بدايات ظواهر التميّع والتبرج الجاهلي وفيها من يُروّج لها وينشرها في صفوف النّاس، ولا تواجَه إنكارًا اجتماعيًّا مبكّرًا واسعًا تنتهي إلى فوضى مخيفة في هذا الجانب وتتعدّى إلى تهديد كلّ أمن مادي ومعنوي.

مصر العزيزة، مصر الإسلام، والعلم([34]) تتعرّض اليوم كما تتحدّث وسائل إعلامها وعدد من رجالها ونسائها عن ظاهرة فاحشة من التحرّش الجنسي بالفتيات الكريمات علنًا في الشوارع وحتى وصلت الظاهرة حريم الجامعة.

أما بلاد الغرب فالتسيّب الجنسيّ، وفوق ذلك العدوانية الجنسيّة فهي ظاهرة طافحة وواسعة من الظواهر السّلوكية السّاقطة التي صارت ملازمة لحياتها. تسمع وتقرأ عن بريطانيا أنَّ كلّ عشرين امرأة تتعرّض لنوع وآخر من التحرش الجنسي، وليس لمجرد فحشاء الجنس([35]) التي ربما عُدّت فضيلةً لا رذيلة في الأعراف العامة والمفاهيم التربوية في تلك البلاد إذا كانت باسم الصداقة والتمتُّع بحق الحرية والانفتاح، ولم تكن عن إكراه ومصادرة للحرية الشخصية.

أنريد نحن مجتمعًا من هذا النوع، وحياة خسيسة منحدرة من لون هذه الحياة؟

تَرْكُنا للتميّع والتبرّج الجاهلي أن يأخذ طريقه كما يراد له، ويُخطِّطُ له المخططون، وللتسيّب الذي دشنته حفلات مختلفة من حفلات الزواج وغيرها، ووسائل أخرى للفساد كالتواصل الاجتماعي السيء والاختلاط البعيد عن ضوابط الدين في العوائل والجمعيات وغيرها طريقٌ حتميٌّ لما انتهت إليه المجتمعات المنفلتة المتهتكة([36]).

ماذا تغيّر من عنف السلطة؟

ماذا تغيّر من عنفها، من ظلمها، من استئثارها، من كلِّ الأسباب والخلفيّات التي انطلق من أجل التخلُّص منها الحراكُ السلميّ في البحرين؟

الكلُّ يعرف أنه لا شيء وأن الأوضاع تصير إلى الأسوأ، مما يعني أن المطالبة بالإصلاح والتغيير لابدَّ أن تستمر، وأن تشتد.

الرّموز العلمائية والسياسيّة الثلاثة عشر وهم أبطال من أبطال الحراك الشعبيّ الإصلاحيّ لا يزالون يُقبرون أجسادًا في غياهب السّجون وإن كان صوتهم المنطلق من أجل حرية شعب كامل وأمّة كاملة يخترق كلّ الجدران والسّدود ويُغذّي الحركة المطلبيّة بالقوّة وروح الصمود.

ومكانهم ليس هو السجن لو كان عدل ودستور يُعمل به، وقانون يُحترم، ودين يُقدّر، وقِيَمٌ عالية يُحسب لها حساب.

وأعداد السّجناء والمعتقلين في تزايد مستمر وتدفُّق دائم على السجون والمعتقلات التي صارت تضيق على كثرتها بالألوف البريئة من أبناء هذا الشعب المظلوم. والذنب واحد وثابتٌ وهو المطالبة بالإصلاح، والتحرُّك السلمي في سبيله.

ولا مكان لهذه الألوف في السجن وإنما مكانهم مقاعد الدراسة، وميادين العمل المنتج لخير هذا الوطن المختلفة لو كان عدل ودستور يُعمل به، وشيء مما مرّ ذكره.

الشّهداء يتساقطون بين شهيد تحت التعذيب، وشهيد بفعل الرّصاص الحيّ، وشهيد بتأثير الغازات السّامة، وشهيدِ تصفيةٍ بسلاح الشوزن.

وتتعدّد الأسباب والظلم واحد، والاستخفاف بحرمة الدم مشتركة في جميع الحالات، وروح الانتقام ثابتة، وآلام الشعب تتراكم، وتضحياته تتضاعف على الأيام.

ولكنّ صبرَه يشتدّ، وعوده يقوى، وعزمه في مُضيٍّ وقوّة على طريق الإصلاح، وروح التغيير والإصلاح فيه تتصاعد.

ورحم الله جوادًا وهو الملقّب بالحاوي، وكلّ من مضى على طريق العزّة والكرامة والحرية، وانتصر للعدل، وضحَّى من أجل الحقّ والدين.

الوطن غارق في عديد من الأزمات والأساس فيها أزمةٌ سياسيّة سيئة حادّة ثقيلة ما لم يتم الخروج منها فلا حلّ. والأزمات في استمرار وتزايد ما دامت هذه الأزمة مستمرّة، ولا مخرج للوطن منها ومن غيرها من الأزمات إلَّا بالإصلاح الصّادق القائم على أساس ثابت متين، من هذا الأساس دستور عادل من إرادة الشعب الذي عليه أن يُحسِنَ إرادته([37]).

والسلطة تعاند وتعاند وتستمر في عنادها وتصلُّبها وترفض فكرة الإصلاح أو تريد من الإصلاح ما هو اسم من غير مُسمّى ولا حقيقة له.

ولكن كلّ شيء يقول للسلطة بأن هذا العناد لابد أن يكون إلى حدّ، لابد أن ينتهي أرادت أم لم تُرِد.

وبعد قَدَر الله سبحانه الذي لا يردّه راد، يأتي دور إصرار الشعب على مسيرته السلمية في المطالبة بالحقوق.

وقد أثبت هذا الشعب بأنه شعب لا يركع، ولا يُستغفل، ولا يُغرَّر به، وأنه لن يعود من حراكه من دون أن يتحقّق الإصلاح والتغيير.

ولو عدنا لعنف السلطة واستمراره وتصاعده لأعطتنا واحدةٌ من مظاهره صورةً عن أنَّ البحرين لا تعيش حراكًا سلميًّا، وإنما تخوض المعارضة فيها وبكامل فصائلها ومكوّناتها ضد الدولة ثورة دموية عارمة، وحربًا قتاليّة عامّة([38]).

فإن هذه الأعداد من السجناء والمعتقلين وتزايدهم، وكثرة الأحكام المشدَّدة بالسجن لعشرات السنين وعلى مجموعات كبيرة وبصورة غير متقطّعة إنما يناسب أجواء حرب دموية وثورة عنف وإرهاب من النوع الثقيل، ولا يناسب حراكًا سلميًّا ومظاهرات ومسيرات سلميّة.

وهل كلّ هذه الألوف من السّجناء والمعتقلين وهذه الدّفعات المستجِدّة للسّجون في استمرارٍ منهم كلُّهم إرهابيون وكلهم قتلة وكلهم أصحاب مؤامرات خطيرة([39])… كل هذه الأعداد الضخمة من هذا الشعب القليل العدد هم كذلك؟!

سلطة الأمن والسلام:

تقول السلطة في البحرين عن نفسها أنها سلطة للأمن والسلام، ولكن ما على الأرض يشهد أن السلطة لم تُبْقِ للمواطنين سلامًا ولا حرمة.

إنه إذا كان مئاتُ الألوف من هذا الشعب القليل في عدده من أبناء المعارضة مواطنين فإنَّ السلطة لم تُبْقِ لمواطنيها سلامًا ولا حرمة.

لا سلامًا لما مِنْ حقّه السلام، ولا حرمةً لشيء ثابت الحرمة.

لم تُبقِ حرمة دم، ولا مال، ولا عِرض، ولا سُمعة شريفة، ولا حرمة قرآن، ولا مسجد، ولا مقدّسات عقائدية، ولا بيت. فماذا قد بقي بعد هذا كلّه من سلام، ومن حرمات؟! الصِّدْق أنه لم يَبْقَ اليوم للمواطن حرمة في هذا البلد ولا سلام([40]).

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم اجعل هذا البلد آمنًا واجعله غامرًا في الخيرات وكذا كلّ بلد من بلدان المسلمين، وأحيي الأرض بعد الظلم الذي يُغرقها.

اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد مبعدينا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة وأمن وسلام.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([41]).

 

[1]– أي بخلقه سبحانه.

[2]– من يفعل بنفسه ذلك؟!

[3]– زوجي أهابها وربّي لا أهابه؟!

[4]– نهج البلاغة ج2 ص115 ط1.

[5]– فكوننا من الأول وهو الحادث أو من القديم؟

[6]– مثلاً الانسان يخسر الحال الحسن، تذهب ذاته، ولو كان الغني بنفسه لما حدث له شيء من ذلك.

[7]– أي نفس الإمام الصادق عليه السلام.

[8]– أجدُ أن أكثر الأدلة في نفسي، أجد أن أكبر الأدلة والدليل الحاضر في نفسي.

[9]– نفسك، ونفسك، أشرف نفس، وأخسّ نفس لا تخرج من أحد فرضين.

[10]– أنت موجود الآن، يمكن إيجادك مرّة ثانية؟! وأنت في حال كونك موجودا هل يمكن إيجادك؟!

[11]– يوم أن كنت معدومًا خلقت نفسي من عدمي!

[12]– الذي هو لا شيء كيف يخلق غيره وكيف يخلق نفسه؟! عدم!

[13]– روضة الواعظين ص31.

[14]– رأيت كلّ من الفرضين الذين فرضتهما وجدتهما باطلا مستحيلا غير منتجَين. فمن بطلانهما لا يبقى إلا أنّ نفسي قد أوجدها غيري، وهذا الغير لا يمكن أن يكون مثلي في فقر الذات.

[15]– فرق بين كل المخلوقات وبين الخالق أن الله محض الوجود ولا غير، بينما نحن أشياء وحقائق وماهيات صغيرة محدودة أكسبها الله عز وجل وألبسها ثوب الوجود.

[16]– لا يظهر مخلوق إلا بخالقه.

[17]– أنا لا أدلّ على الله، وإنما الله عز وجل دلّ عليّ.

[18]– أنا أرى منك قدرةً محدودة من قدرة الله المطلقة، أنا أرى منك علما محدودا من علم الله المطلق، أنا أرى الله سبحانه وتعالى فيك، أنا أرى فيك الله عز وجل في صورة تجلٍّ محدود بقدرك وليس أكثر.

[19]– ماذا يحصل؟

[20]– 41 – 43/ الأحزاب.

[21]– 67/ التوبة.

[22]– 152/ البقرة.

[23]– موسوعة العقائد الإسلامية ج3 ص249 ط1.

[24]– والحجاب المرفوع هنا حجاب ظلمات النفس. ولله عز وجل حجب من عزّته وقدرته تلك حجب تمنع من رؤية ذاته تبارك وتعالى.

[25]– مستدرك الوسائل ج3 ص77 ط2.

[26]– التوحيد للشيخ الصدوق ص241.

[27]– فمن نتائج الصلاة الوصول إلى الله بمعرفة حقٍّ من حقّه، وعظمة من عظمته.

[28]– سورة التوحيد.

[29]– لا ليوم ولا ليومين.

[30]– وهذا بعض أمثلة.

[31]– ما استغناؤنا عن الله عز وجل؟!

[32]– هذا العقاب الذي يلقاه في دنياه.

[33]– كم سيبلغ عقاب الله للعبد في الدنيا؟ هو هيِّن بالنسبة لعقاب الآخرة.

[34]– وهي واحدة من بلدان كثيرة وليست مصر وحدها.

[35]– الفحشاء أمرها آخر وأوسع، ولكن هذا هو التحرُّش وهو الاغتصاب.

[36]– المقدمات المنتجة تُنتج في لندن، في نيويورك، في واشنطن وتنتج على حدّ ما تنتج هناك في البحرين وفي مكة.

[37]– في اختياره لطريق حياته والمصير الذي يريد أن يصير إليه.

[38]– لمّا تجد كل مظاهر العنف من قبل الدولة لا تحسب نفسك أنك في بلد يعيش حراكًا سياسيًّا سلميًّا، ولكنك في بلد يعيش ثورة دموية عارمة.

[39]– واحد، اثنان، عشرة، عشرون، أتقول عن مئات الألوف من هذا الشعب الصغير، من هذا الشعب القليل العدد أتقول عن مئات الألوف أنهم كلهم إرهابيون؟!

[40]– هتاف جموع المصلين (الله أكبر، النصر للإسلام).

[41]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى