معرفة الله تعالى (الحلقة الثالثة)

آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

 بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد أيها الملأ الكريم المؤمن فالحديث لا زال في موضوع: معرفة الله تبارك وتعالى:

الطرق إلى معرفة الله عزّ وجلّ:

1. بين معرفة النفس ومعرفة الرَّب:

{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[1].

{وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[2].

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ…}[3].

وفي الحديث: ”مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ”[4]، وفي الحديث الآخر: ”أَعرَفُكُم بِنَفسِهِ أَعرَفُكُم بِرَبِّهِ”[5].

لو جهل الإنسان بكلّ ما حوله من هذا العالم، وقضاياه ما كان منه أن يجهل نفسَه وهي حاضرةٌ لديه وهو هي وليس شيئًا غيرها.

والآيات القرآنية الكريمة تُشير إلى ما تَعُجُّ به نفس الإنسان من آيات الله التي لا تدعُ مجالًا للشكّ في معرفته، ولا تغيمُ لدلالتها التامّة بصيرتُها عن رؤيته.

ونفسُ الإنسان وجودٌ قائمٌ لا يغيب عنه وليس من خَلْقِه، ولا يَدَ لَهُ فيه، وطاقة تفكير لم يوجدها[6]، ولم يكن المُقدِرَ لها على التفكير، ومشاعرُ تتناوب على داخله ليست من صنعه ولا يملك أن يمنع ورودها، ولا اجتثاثَ نبتتها في ذاته، ولا الحيلولة دون تأثيرها فيه، ودوافعُ لاهبةٌ تُحرّك سلوكه ليست من فعله ولا سبيل له أن يُلغيَها من وجوده، وأشواقٌ كماليّةٌ عالية هي بُعْدٌ أصيل من أبعاد كيانه ولم يكن له دورٌ في إنباتها فيه وإدخالها عنصرًا في عجينته، وإرادةٌ متخيّرة ما كان شرفُه بها بقدرته.

الإنسان يشهد ذاته شهودًا واضحًا حيًّا وأنّه مزاجٌ من قِوى وأبعاد متعدِّدة، وطباعٌ مختلفة تأتلف منها[7] لا حيلةَ لها في خلقها ولا إلغاء شيءٍ منها ولا إبقائها ولا الملاقاة بينها في الصورة المنسَّقة التي تجمعها، ولا التفكيك التكويني لواقع الترابط الذي يحكمها[8].

ولا تنفكُّ هذه المعرفة بالنفس عن أثرها الحتميّ فيها من المعرفة بالربِّ تبارك وتعالى، ولذلك فلا عُذْرَ لدعوى أحد بأنه لا سبيل إليه لمعرفة الخالق والحاجة إليه[9].

وأنه[10] غير كلّ نفس خاضعةٍ لما تخضع له هذه الذّات أو تلك من فَقْرِ الذات في نفسها وحاجتِها الدائمة لمن يمُدّها بكلّ مالها مِن وجودٍ وقٍوى ومواهب، وما هي عليه من حالة ائتلاف وتلاقٍ وتنسيق بين مكوّناتها[11].

ثم إنّ معرفة النفس على مراتب، وأعماقُ هذه المعرفة وسَعَتُها متفاوتة. وكلّما عمُقت المعرفةُ بالنفس كانت معرفة صاحبها بربّه أعظم، وبشأن خالقه أجلّ. وما انكشف لنفس عن أيِّ طريق من الطُّرق الموصلةِ سرٌّ من الأسرار التي تغنى بها خلْقتُها إلا كَبُر شأن الله عندها، وزاد تسليمُها لعظمة بارئها.

ولذلك جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: ”أَعرَفُكُم بِنَفسِهِ أَعرَفُكُم بِرَبِّهِ”[12].

فالنفس الإنسانية ناطقة بأنها أَثَرٌ للخالق العظيم العليّ القدير العليم الحكيم الحيّ الرازق القائم الذي لا يموت[13].

وكلّما عرفت النفسُ نفسَها زاد يقينها بربّها جلّ وعزّ، واستسلمت مريدة إليه[14].

وتُقدِّم معرفةُ النفس من نفسها ما يتداولُها من تقلُّب الأحوال، وتبدّل الأوضاع العارضة على داخلها، وكونها عاجزة عن التحكّم فيها، والتصرُّف بما يخلّصها منها وقت شاءت[15]، أو إبقائها وقت ما رغبت، وأنْ لا مالك لهذا الأمر من غيرها من الخالق أنّ لها خالقًا قديرًا عليمًا مالكًا هو المتصرف الحقّ فيها[16].

النفس الإنسانية تكون على عزم فعل شيء فلا تجد إلا وقد انتقض عزمها، وتكون على غَضَبٍ لا تملك ذاتها أمامه فلا تجد إلا وقد هدأ غضبها وربما تحوَّل إلى رضا، أو أسف، وتكون الحزينةَ وإذا بها تصير إلى فرح. وفي كلّ ذلك لا تعرف لهذا التحوُّل سببًا، ولا تملك وهي التي تعيش هذا التحوُّل تفسيرًا من أيّ سبب قريب أو بعيد على أنه لا شيءَ إلا بسبب فيكون عليها أن تُرجِعَ الأمر إلى مسبِّب كل الأسباب ومالكِها، وإلى من بيده كلُّ أمرها.

عن الإمام الحسين عليه السلام: ”إِنَّ رَجُلاً قامَ إِلى أَميرِ المُؤمِنينَ عليه السلام، فَقالَ: يا أَميرَ المُؤمِنينَ، بِماذا عَرَفتَ رَبَّكَ؟ قالَ: بِفَسخِ العَزمِ، ونَقضِ الهَمِّ؛ لَمّا هَمَمتُ فَحيلَ بَيني وبَينَ هَمّي[17]، وعَزَمتُ فَخالَفَ القَضاءُ عَزمي، عَلِمتُ أنَّ المُدَبِّرَ غَيري”[18].

و”سُئِلَ أَبو عَبدِ اللّهِ عليه السلام – كما عن هشام بن سالم -، فَقيلَ لَهُ: بِما عَرَفتَ رَبَّكَ؟[19] قالَ: بِفَسخِ العَزمِ، ونَقضِ الهَمِّ؛ عَزَمتُ فَفَسَخَ عَزمي، وهَمَمتُ فَنَقَضَ هَمّي”[20].

فالنفسُ تهمّ بالشيء أي تتوجه إلى فعله وترى أن تقدم عليه بدرجة من درجات العزم غير البالغ لكنّ هذا الهمَّ يتراجع وينتهي لا لسببٍ تُدركه، وتعزم العزمَ أشُدّه فَيَنْحسِرُ هذا العزم عنها وتفقدُه وهي لا تملك لفقده تفسيرًا ولا تسبيبًا فيكون عليها أن تعرف أنها المخلوقُ الخاضعُ في كلِّ أمره إلى خالقه، المربوبُ المدبّر من ربّه.

والإنسان ليس له استقرار على حال رَغمًا عليه[21]. يستوي في ذلك في شأن بدنه وعقله ومشاعره وهمّه وعزمه وإرادته وكلّ أحواله. وأمر التحولات البطيئة والمفاجئة يحكم حياة كلّ الناس.

الخطبة الأولى / خطبة الجمعة / 12 جمادى الأولى 1435هـ – 14 مارس 2014م

——————————————————

[1] 20، 21/ الذاريات.

[2] 4/ الجاثية.

[3] 53/ فصلت.

[4] بحار الأنوار، ج2، ص32، ط2 المصححة.

[5] روضة الواعظين، ص20.

[6] نفسنا طاقة تفكير ومشاعر إلخ.

[7] أي نفسه وذاته.

[8] كل ذلك لا حيلة له فيه.

[9] حجّة كلّ نفس مقطوعة، يعني ليست لها حجّة، الحجّة قائمة عليها في معرفة الربّ وليس لها.

[10] وهو الله تبارك وتعالى. 

[11] أنا أراك فقيرًا، وأنت تراني فقيرًا مثلك، أنت تعرف من نفسك أنك فقير ذاتا كما تعرف عني أني فقير ذاتا، فلا تتوقع عندئذ أني خلقتك، ولا أتوقع أنك خلقتني. وكل الكون خاضع لهذا الفقر؛ واقع الفقر الذاتي الذي لا يمكن أن يخرج من ظلمته بنفسه.

[12] روضة الواعظين، ص20.

[13] كلّ هذه الأسماء الحسنى تحتاجها كلّ نفس لأن توجد، لأن تبقى، لأن ينتظم أمرها. وهي أسماء ليست لأحد غير الله العظيم.

[14] هناك استسلام تكويني لا حيلة لنا فيه، وهناك استسلام إراديّ لله عز وجل هو من مسؤوليتنا.

[15] تأتي علينا أحوال متقلّبة، تتعاور علينا الظروف المؤثّرة، في داخلنا وفي خارجنا، ونحن نعرف من نفسنا أن الحزن الذي يأتي علينا لا نستطيع أن نقتلعه بإرادتنا، أن الفرحة تأتينا من حيث لا ندري، إلخ.

[16] حيث ترى أنك تحزن، أنك تفرح، أنك تخاف، أنك تأمن، أنك تعزم، أنك تتراجع عن عزمك ولا تملك تفسيرا لهذا من نفسك ولا من غيرك ممن حولك وممن هو مثلك في الفقر الذاتي لابد هنا أن يُرجعك العقل إلى الخالق العظيم المتصرف فيك كيف شاء.

[17] الهمّ أول العزم عند بعضهم.

[18] التوحيد للشيخ الصدوق، ص288.

[19] السؤال للإمام الصادق عليه السلام.

[20] بحار الأنوار، ج3، ص49، ط2 المصححة.

لا يدلّني عقل ولا فطرة على أن الذي نقض عزمي أخي، زوجي، قويّ أو ضعيف ممن حولي، أحدٌ غير الله.

[21] من يملك أن يُبقي فرحته إلى ما شاء؟! أن يبقي عزمه إلى ما شاء؟! أن يبقي أي شعور من مشاعر نفسه إلى ما شاءا؟ لا أحد.

زر الذهاب إلى الأعلى