معرفة الله تعالى (الحلقة الثانية)

آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات، فالحديث لا زال في موضوع:

معرفة الله سبحانه:

تقدَّم أن أصل معرفة العبد لربّه سبحانه من صنع الله عزّ وجلّ في نفسِ العبد وأنّه قد فطرها بقدرته في هذه النفس.

وهذه الفطرة روحيَّة قلبية لا تحتاج إلى استدلال ولا لأكثر من شعور الرّوح بنفسها، والقلبِ بنفسه مع صفائهما ونقائهما وانعدام الحواجب المكتسَبَة من النفس[1]. فما شَعَرت روحٌ بنفسها، وقلبٌ بنفسه والحال هذه إلا وعرفا الله، وسلّما أمرهما إليه. فمعرفة الله تبارك وتعالى لا تحجبها عن النفس، ولا تُنسيها إياها إلَّا الذنوب، وإلّا كفى لها أن تلتفت النفس إلى ذلّتها لتلتفت إلى الله.

وهناك المعرفة الفطرية العقلية وهذه يكفي في حضورها عند العقل أن يتوجَّه إلى الكون وما عليه نظامُ الكون من دِقّة ورصانةٍ وبناء حكيم متين من غير دخولٍ في عملية استدلال معقّدة أو بسيطة، وبلا حاجة إلى مقدّمات من غير هذا التوجّه.

فالمعرفة الأولى وجدانية بدرجة أكبر على أنَّ الثانية ميسَّرة لكلّ نفس إنسانية ولا تحتاج إلى شيء غير التوجّه لما عليه الكون العظيم.

2. العقل الاستدلالي:

أعطى الله بكرمه الإنسان وبتشريفه له العقل الاستدلالي الذي يأخذ به في مسار علمي برهاني طويل يبني له به معرفةً متراكمة متنامية تقوم عليها بصيرة واسعة وسعادته في آخرته ودنياه. وهو نور يمشي به في هذه الحياة، ويسلك به طريقَه إلى الحياة الأخرى مبصرًا راشدًا.

وليس معنى ذلك استغناءَ الإنسان بعقله في بلوغ أهدافه، وإنما لأنَّ العقل مع عطائه للإنسان ودلالاته الرَّاشدة له، له دلالةٌ كبرى، وإراءةٌ واضحة للإنسان في حاجته لأخذ منهج حياته الكامل المصيب في دائرة الفرد والمجتمع من الله[2]، والرجوع في ذلك لرسالاته فلا بُدَّ للإنسان إذًا من طلب العلم بمنهج الله، والأخذ به حتى يمكن له أن يبلغ أهدافه الكريمة فيها، وأن تتحقَّق له الغاية التي كانت من أجلها هذه الحياة.

عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل:

“قيلَ لَهُ – أي لأبي عبد الله عليه السلام -: فَهَل يَكتَفِي العِبادُ بِالعَقلِ دونَ غَيرِهِ ؟ قالَ: إِنَّ العاقِلَ – لِدَلالَةِ عَقلِهِ الَّذي جَعَلَهُ اللّهُ قِوامَهُ وزينَتَهُ وهِدايَتَهُ – عَلِمَ أنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ، وأنَّهُ هُوَ رَبُّهُ، وعَلِمَ أنَّ لِخالِقِهِ مَحَبَّةً، وأنَّ لَهُ كَراهِيَةً، وأنَّ لَهُ طاعَةً، وأنَّ لَهُ مَعصِيَةً، فَلَم يَجِد عَقلَهُ يَدُلُّهُ عَلى ذلِكَ[3]، وعَلِمَ أنَّهُ لا يوصَلُ إِلَيهِ إِلّا بِالعِلمِ وطَلَبِهِ، وأنَّهُ لا يَنتَفِعُ بِعقلِهِ، إِن لَم يُصِب ذلِكَ بِعِلمِهِ، فَوَجَبَ عَلَى العاقِلِ طَلَبُ العِلمِ وَالأَدَبِ الَّذي لا قِوامَ لَهُ إِلّا بِهِ”[4].

ولنقف عند الحديث الشريف الذي يرينا ما يفتينا به العقل وهو هبة من الله لنا، وما نحتاج إليه معه بلوغًا للغاية.

أ- قوام الإنسان في حياته، وما به استقامة هذه الحياة ورشدها بالعقل وهو زينته وميزته من بين سائر ما على الأرض من أنواع جمادٍ وحيوانٍ مسخّرات له.

ب- علّم العقلُ العبادَ أن الله هو الحقُّ وهو أصل الوجود كلّه، وأن لا ربّ لهم وللكون سواه.

ج- أفاد العقلُ العبادَ بأن الله عزّ وجلّ محبّ للحقّ والخير، كارِهٌ مبغض للباطل والشرّ، وأنَّ لله عزّ وجلّ حقَّ الأمر والنهي لعباده وأنّ من رحمته بهم أن يأمرهم وينهاهم، وأنَّ ما أمر به عليهم أن يأخذوا به، وما نهى عنه عليهم أن ينتهوا عنه ويدعوه.

د- مع ذلك ليس للعباد من عقلهم ولا لأيِّ شيء من ذواتهم ما يعرّفهم بكلّ ما هو متعلّق لأمر الله ونهيه.

هـ- عندئذ يكون التطلُّع إلى منهج الحياة المتمثّل في الشريعة العليمة السديدة من وحي الله وتبليغ الرسل المصطَفَين. وعليهم أن يسعوا السعي العلمي لتلقّي هذه الشريعة وفهمها، وأن يُقيموا كلّ حياتهم على أساسها، وطِبقًا لأحكامها فهذا هو الطريق الوحيد المضمون للبلوغ بالإنسان نضجَه وتحقيق فلاحه وسعادته.

ومن حَجَبَت قلبَه الذنوب، وأعمت عقلَه الآثام فصار به ذلك إلى أن لا يرى الله سبحانه، ولا يعرفه وَقَعَ في الشّكِّ المغرق دون أن يملك من عقله وقلبه ما يجعله يُنكر الله، ويُوفّر له على إنكاره الدليل[5].

والشّاك في مثل هذا الأمر العظيم الأعظم من بين كلِّ الأمور العقل إنما يقول له أنّ عليك الاحتياط.

وعن عدم القدرة على إنكار الله ممن سدّ على نفسه قدرة التصديق به لسوء ما كسبت يده تقول الكلمة عن الإمام عليّ عليه السلام: ”الحَمدُ للّهِ… الَّذي بَطَنَ مِن خَفِيّاتِ الأُمورِ، وظَهَرَ فِي العُقولِ بِما يُرى في خَلقِهِ مِن عَلاماتِ التَّدبيرِ، الَّذي سُئِلَتِ الأَنبِياءُ عَنهُ فَلَم تَصِفهُ بِحَدٍّ ولا بِبَعضٍ، بَل وَصَفَتهُ بِفِعالِهِ، ودَلَّت عَلَيهِ بِآياتِهِ، لا تَستَطيعُ عُقولُ المُتَفَكِّرينَ جَحدَهُ؛ لِأَنَّ مَن كانَتِ السَّماواتُ وَالأَرضُ فِطرَتَهُ، وما فيهِنَّ وما بَينَهُنَّ، وهُوَ الصَّانِعُ لَهُنَّ؛ فَلا مَدفَعَ لِقُدرَتِهِ”[6].

ومعرفة القلب لله معرفته له جليلًا لا يُحدّ جلاله، جميلًا لا يتناهى جماله، كاملًا لا أُفُقَ لكماله، ممتنعًا أن يُدرك أي عقل وأي قلب حقيقة ذاته، أو صفةٍ من صفاته فلا عقلَ ولا قلبَ على الإطلاق يمكن من بعد ذلك أن يدنو من ذلك فضلا عن أن يناله حقيقة ذات الله أو حقيقة صفة من صفاته.

خطبة الجمعة (الخطبة الأولى) / 5 جمادى الأول 1435هـ – 7 مارس 2014م

 ———————————–

[1] التي تحول بينهما وبين معرفة الله عزّ وجلّ.

[2] العقل يشعر بالحاجة إلى أخذ منهجه الكامل للحياة من الربّ سبحانه وتعالى، وهذا ما يكمّل له معرفته ويجعلها مثرية لحياته، بالغة به هدف هذه الحياة.

[3] يعني على تفاصيل ما هو طاعة، وتفاصيل ما هو معصية، العقل لا يملك هذا، لا يملك أن يشخّص ما هو أمر الله هذا في كل مورد مورد، وما هو نهيه.

[4] الكافي، ج1، ص29، ط5.

[5] ليس من عقل على الإطلاق يمكن أن يملك دليلا على نفي ألوهية الله سبحانه وتعالى. العقل يقع في الشك، القلب يقع في الشك لسوء ما كسبت اليد، لكن أن يكون لأحد دليل على نفي الوجُودِ فذلك مما هو مستحيل تمامًا.

[6] الكافي، ج1، ص141، ط5.

زر الذهاب إلى الأعلى