خطبة الجمعة (590) 21 ربيع الآخر 1435هـ – 21 فبراير 2014م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : أعلى معرفة

الخطبة الثانية : مسيرةٌ حجَّة – نقد ولكن – هذا هو العدل فاسكتوا

 

الخطبة الأولى

            الحمد لله القادر الذي أشهد كلَّ شيءٍ من خلقه بقدرته على عظمته، والذي أشهد كلّ موجود بعلمه، الحكيم الذي أقام من كلِّ شيء دليلًا على حكمته، العدلِ الذي يُصرّح كلّ شيء من صنعه بعدله. هو الذي أنطقَ الكونَ كلّه بأنّه لا تخلُّف ولا غيابَ لعلمه، ولا انقطاعَ لرزقه، ولا شُحَّ في عطائه، ولا خَلَلَ في صنعه.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

       عبادَ الله من طلب لنفسه الخير كان عليه أن يسعى إليه، وأن يسلك إليه طريقه، وليس أيسر، ولا أوضح، ولا أضمن، ولا أهدى من طريقٍ بيَّنه الله جلَّ وعزَّ لخير عباده، وكل مقترح من طريق للخير من النّاس مغاير لما جاء به الله  فهو دونه، ولا وزن له أمامه.

       وأين يجد الطالب لنفسه النجاةَ من الشرِّ جادَّةً تنأى به عنه كجادّة الدِّين من عند الله؟! وأنَّى له أن يهرُبَ منه وهو يسلك غير تلك الجادّة؟!

       وهل لطالب هذه النجاة إلا أن يسلُكَها وإلا أوقع نفسه في أسوأ ما يحذرُه حاذر؟!

       يا من لا خيرَ إلا من عنده، ولا دالَّ على الخير غيرُه، ولا توفيقَ لخيرٍ إلّا منه خُذْ بيدنا إلى ما فيه خير ديننا ودنيانا، ونجاتنا من شرِّ الأولى والآخرة، ولا تَكِلْنا إلى النفس وضلالها وسفهها، ولا لأحد من خلقك طرفة عين يا كريم يا رحمان، يا رحيم.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       أما بعد أيّها الأعزّاء فالموضوع عنوانه:

أعلى معرفة:

       معرفة أيّ مخلوق ومنه الإنسان لله سبحانه لابد أن تكون معرفةً محدودة مهما بَلَغَت من حدّ([1]). والسبب واضح لأنَّ كلّ مخلوق محدود فلا يزيد شيء مما عنده، ولا أَثرٌ من آثاره عليه قدرًا([2])، ولا يتجاوز ماله من مدارك ومواهب.

       وبذلك لا تبلغ معرفةُ عقلٍ ولا قلب مما خَلَقَ الله سبحانه كُنْهَ الذات الإلهية المتعالية، ولا أيَّ صفة من صفاته سبحانه، وذلك واضح جدًّا لأنَّ الله كامل بالكمال المطلق، وليس بإمكان المحدود أن يصل إلى حقيقة المطلق، وليس بإمكان الناقص أن يلمّ بِكُنْه الكامل.

       هذا أمرٌ، والأمر الآخر أنَّ معرفة العبد ربَّه العليَّ العظيم على محدوديّتها إذا صحَّت كانت الأعلى والأشرف والأنفع من بين كلِّ ما يُمكن أن يناله من معارف.

       والسرُّ لذلك أنْ لا كمال لشيء ككمال من تعلَّقتْ به هذه المعرفة([3])، ولا مالك لخير على الإطلاق ممن دونه.

       وإنّها للمعرِفةُ الألحُّ حاجةً للإنسان من بين كلّ المعارف النافعة([4])، وأكبر كلِّ المعارف ضرورة، والمعرفة التي لا تُغني عنها معرفة.

       الحاجة إلى معرفة الله:

       هذه وجوه من وجوه الحاجة إلى معرفة الله سبحانه:

  1. طمأنينة الإنسان:

فَقْدُ الإنسان الطمأنينة فَقْدٌ للراحة في الحياة، واضطراب لها، وتقويض لمالها من هناءات.

       ولو طَلَبَ الإنسان لنفسه الطمأنينة من نفسه وهو الفقير ذاتًا، والمحدود ذاتًا أو من غيره وكلُّ غيره من دون الله سبحانه واقعٌ في أسر المحدودية، والفقر في ذاته، والحاجة في كلِّ أمره وفعله وما لَه من حول إلى ربّه القادر العليَّ العظيم لما كان له أن يجد شيئًا ولو قليلًا من الطمأنينة التي يطلبُها، وكان طلبُه لها من عند غير الله وهمًا وسُخْفًا بعد أن يكون كلّ من عداه سبحانه وما عداه ليس له في نفسه من الملْك في نفسه شيء، ولا يملك فعلًا مستقلًّا([5]).

       فلكي يطمئنّ عاقلٌ ملتفت([6]) إلى خير من خير الدُّنيا أو الآخرة، وتستريح نفسُه إلى حاضرٍ أو مستقبلٍ لابدّ له من الاعتماد على مالكٍ قدير عليم حكيم رحيم ضامن له ذلك الخير مطلقًا أو بشرط وإلّا بقي محكومًا لقلقه واضطرابه وفزعه.

       والمالك القدير العليم الحكيم واحدٌ لا ثانيَ معه، ولا شريكَ له وهو الله العليُّ الكبير.

       فمن لم يعرف الله عزّ وجلّ لم يكن له سبيلٌ لأن يتخلَّص من القلق في هذه الحياة، ويجدَ ما يدفع عنه الاضطراب، ويُوفِّر له الطمأنينة التي فيها راحته([7]).

       ولذلك يهربإلى ألف طريق معوَجّ، ويتعلق بألف وسيلة مدمِّرة كحالة السكر في طلب الطمأنينة التي يحتاجها([8])، وهو فيما يأخذ به من هذه الطرق والوسائل يُفسد نفسَه ويضرّ بمن حوله ويُعكِّر جوّ الحياة، ولا يوصله إلى ما طَلَبَه، وإنما يأخذ به إلى الغفلة والسُّبات الذي يُعقبه أسفًا فوق الأسف.

  1. الاهتداء إلى الغاية:

الأكل والشّرب والمأوى واللباس والنكاح وكل ما ماثل ذلك وما هو من مقدّماته من علم وعمل أسبابٌ تُطلب لبقاء الحياة، وفيها لذائذ لا بقاءَ لشيء منها بعد موت؛ فإن لم تكن حياة بعد الموت فلا غايةَ لهذه الحياة.

فلا يمكن الإيمانُ بغاية لحياتنا التي نحياها حاضرًا في غياب معرفتنا لله سبحانه القادر على إعادة الحياة لمن قد ماتَ والتصديق بوعده بهذه الإعادة، والحياةِ الأخرى التي لا انقضاء لها، وهي حياةٌ ذات سعادة أبدية لمن أحسن عملًا في هذه الحياة([9]).

ومعرفة الله سبحانه وما تؤدّي إليه من التصديق بوعده ووعيده، وأنَّ حياتنا الدنيا من أجل تكميل الإنسان نفسه بهدى وتوفيق من ربّه، وإعمال إرادته الموهوبة له منه تبارك وتعالى، والإعداد للمستقبل الكريم الموعود هي وحدها التي يتّضح معها أنَّ لحياتنا هنا غاية، وتتحدّد هذه الغاية، وأنّها غاية تَعْظُم في ضوئها قيمة هذه الحياة.

  1. معرفة الطريق:

لا يكفي الإنسانَ أن يعرف غاية الحياة ويُجلَّها، ويُعطيَ من نفسه الاستعداد للتهيّؤ لها، وإمضاء حياته في سبيلها.

إنّه لا يهتدي الطريق بنفسه إلى ذلك بعد أنْ كان يعيش الجهلَ الكاملَ بأمر آخرته، وهي غيبٌ كامل بالنسبة إليه لا يعرف عنها شيئًا من نفسه وإنْ عَرَفَ أنها كائنة ولابد منها بأيِّ مُعرِّفٍ له بذلك.

فالطريق إلى كسب الآخرة، ومعرفة إعداد النفس لما تقتضيه طبيعتُها وأجواؤها وشروطُ السعادة فيها، وما يُوجب شقاءها كلُّ ذلك يحتاج الإنسان إلى أن يتلقّاه من الله العليم الخبير، مُعيدِ الحياة، وخالقِ الآخرة.

فصار لابدّ من معرفة الله سبحانه لمن أراد التعرُّف على طريق الغاية، وكيفيّة إعداد الذّات إعدادًا يتناسبُ معها.

معرفةُ الغاية لهذه الحياة، والتصديقُ بها، والتوفُّر على طريقة تكييف النفس لمقتضاها محتاجٌ كلُّه قطعًا إلى معرفته سبحانه، والانسجامِ مع ما تستوجبه هذه المعرفة.

  1. حاجة الحياة الحاضرة:

يعلم الإنسانُ بفضل من الله سبحانه قليلًا من أمر الدنيا، وهو على تراكُمِه، إلّا أنّه يبقى جاهلًا بالكثير من أمرها.

يكفيك أنَّ الواحد من النَّاس جاهل بذاته، أعمى عمّا يفاجئه في غده، ينسى ما ينسى من ماضي حياته.

وهو أجهل من أنْ يُحيط علمًا بمن في مجتمعه فضلًا عن المجتمع الإنساني في امتداده وسعته، وبكلّ ما يدخل في إصلاح الإنسان ومجتمعه، أو يحيط علمًا بكلّ ما له من تأثير عليه من بيئته والكونِ الذي يعيش فيه.

وعِلْم النّاس مجتمعًا لا يمكن له أن يتوفر على هذه الإحاطة.

ووضع منهجٍ للحياة الدنيويَّة ومجتمع الإنسان يحتاج لكي يكونَ صحيحًا مُوفيًا بحاجات الحياة، وسلامة المجتمع، وتقدّم أوضاع البشرية على الأرض لأن يتوفّر على هذا العلم والإحاطة.

وخالقُ الإنسان والكون وحده هو العليمُ بمن خَلَقَ وما خَلَقَ، فلا منهج يمكن أن يقود الحياة على خطّها الصحيح، ويكفل للإنسانية أن تبني مجتمعها الناجح بكفاءة كاملة إلّا المنهج المتلقّى من خالق الإنسان والكون والحياة.

ومن أين يتوفّر للإنسان هذا التلقّي لهذا المنهج الربّانيّ القدير من غير أن يعرف ربَّه العزيز الحكيم العليّ العظيم؟!

والتشريع لمجتمع صغير أو كبير لا يكون صحيحًا إلَّا باعتماد العدل، والنظر للناس بمنظارٍ واحد لا يُفرّق بينهم في القيمة في مقام التشريع على أساسٍ من عرق أو لون أو لغة، أو قرابة، أو صداقة أو على أيّ شيء آخر مما يُماثل أو يُشابه هذه الأمور.

والإنسان الشخصُ والمجموعة أحبّ لنفسه من غيره، وأميلُ لأهله وعشيرته ممن سواهم، ولقومه ولذوي العلاقة الحميمة من الآخر، ولذا يفقد النظرة الواحدة، والروح العادلة لمن يُشرّع لهم، وهذا ما عليه واقع الحال للمشرِّع الأرضي في عموم الزمان والمكان.

  1. درأ الظلم والعدوانية والفساد:

لا يكفي لسلامة الإنسان وسلامة مجتمعه، وتحقيق السّعادة لهما أن يعرف المنهج الصحيح المتكفّل بذلك.

للإنسان دورٌ إراديّ إنْ انحرف عن الخطّ لم تُجْدِ معه خطّة صحيحة ولا خارطة طريقٍ، ولا منهج متنزّل من السماء.

ولا ضابطَ لإرادة الإنسان على الخطّ القويم من قانون يُسنّ، أو حقٍّ يتبيَّن، أو عقوبة يمكن الفِرار منها.

الإنسانُ يخضع لتأثير الأنا، ويرى مصلحتَه قبل مصلحة غيره، وله تقديره الكبير للذائذ الدّنيا وخضوعه لحساباتها. للإنسان دوافعُه المادية الضاغطة على عقله وإرادته وتصرُّفه، والحاملةُ له للتجاوز حتى على القِيَم المعنوية والخُلُقية التي يؤمن بها.

كفُّ الإنسان عن الظلم والعدوان والفساد والنهب والسَّرِقة والقتل من غير حقّ وإنْ كان في ذلك أكبر مصلحة مادية لمجتمعه، وإفلات من الخطر الأخروي المُحتمَل عنده على الأقلّ لا يكفي فيه إلّا الإيمانُ والشعور الحيّ برقابة الله، والتصديقُ بعقوبته، والخوفُ الجادّ منها.

والمنطلق لهذا الإيمان والشعور معرفته سبحانه.

فهي المعرفة التي تبني للإنسان إيمانًا برقابة العزيز الجبّار، والشعورَ بالخوف من عقوبته فَيَكُفّه ذلك ويَشُلّ كلّ جارحة من جوارحه عن مقارفة الظلم، وارتكاب العدوان.

اللهم صل وسلم وزد بارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم عرّفنا نفسك، وعرّفنا نبيك ورسولك، وعرّفنا وليّك، وكلّ دينك الحقّ يا وليّ الإحسان، وعظيم الامتنان، يا هاديَ من لا هاديَ له، يا كريم يا رحمان، يا رحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([10]).

 

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله مُظهر ِكلِّ ظاهر ولا ظهورَ لشيء كظهوره، وهو الظّاهر في كلّ شيء إذْ كلُّ شيء مخلوق له، قائم به، والباطنِ وراء كلّ باطن، ولا بطون كبطونه، البعيدِ وراء كلّ بعيد، ولا بُعْدَ كَبُعْدِه إذْ لا عقل ينال ذاته، ولا قلب يحيط بكنهه، ولا شيء يلمُّ بحقيقته.

       لا يصِلُ قهره قهرُ قاهر، ولا تبلغ قدرتَه قدرة قادر، ولا يوازي علمَه علمُ عالم. يستحيل أن يساوي قهرٌ قهرَه، أو قدرةٌ قدرتَه، أو علمٌ علمه إذ لا كامل بالكمال المطلق سواه.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله قد اختار لقلبه الطُّمأنينة، ولنفسه الرّاحة، واكتفى واحتمى وتوقَّى، ورَبِح وسعِد وفازَ من توكَّل على الله سبحانه، وفوَّض أمره إليه، ومن رَزَقه الله سبحانه حُسْنَ التوكّل، فأصدَقَ تفويض الأمر إليه، والرّضا بقضائه وقَدَره فقد رزقه رزقًا جليلًا عظيمًا. فلنطلب هذا الرزق الكريم السنيَّ منه تبارك وتعالى وهو أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.

       وآيةُ توكُّل النفس على الله أن تُسلِّم لثابت تشريعه أدركت حكمتَه أم لم تُدرك؛ إذ لا يجتمع صدقُ التوكُّل مع الشكِّ في علمِ وحكمةِ ولطفِ ورأفةِ وقدرةِ من تتوكّلُ عليه([11]).

       والنفسُ المتوكّلة على ربّها العظيم مسلّمة بكلّ قضائه وقَدَره([12])، رضيّة بما جرت به مشيئته أيًّا ما كان ما قضى وقدّر.

       فلندفع النفسَ دفعًا حثيثًا للرّضا بشرع الله وقضائه وقدره نَكُنْ قد أحسنّا لأنفسنا، ولنأخذ ما بقينا([13]) بتقوى الله نَكُن قد اخترنا لأنفسنا خير الخير، والنجاةَ من النار، والفوز بسعادة الأبد.

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين.

       يا من منه المبدأ، وإليه المصير، يا مالك الأمر كلّه، يا من هو على كلّ شيء قدير اهدنا هُدى المهتدين، وارزقنا صِدْقَ اليقين، وامنحنا تقوى المتّقين، واجعلنا ممن حَسُن توكّله عليك، وتفويضه كلَّ أمره إليك يا من لا إحسان كإحسانه، ولا امتنان كامتنانه، ولا تفضُّل كتفضّله.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، اللهم صلّ وسلم على وليّك المطيع إليك أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب  العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى بعض كلمات:

       مسيرةٌ حجَّة:

       مسيرة الخامس عشر من فبراير لهذا العام كانت حجّة قَطَعَت بحجمها الهائل المتميّز، وتنوُّع الشرائح والفئات والمستويات المشاركة فيها من رجال ونساء، وبوضوحِ مطلبِها الإصلاحي، وانضباطها، وسلميّتها العذرَ لكلِّ شكٍّ يمكن أن يُراود أحدًا في التمثيل الشعبيّ مما هو فوق الكفاية والذي يقف وراءَ الحراك الإصلاحيّ السياسيّ القائم ومنذ ثلاث سنوات وحتى الآن، وأنّه ليس حراكَ فئة خاصّة من فئات المجتمع، وفي كون مطالبه إصلاحيّة وبالمقدار الجدّي القادر على إنقاذ الوطن من مستنقع الأزمات المتتالية من غير غموض، وأنّه بعيدٌ كلَّ البعد عن التخريب والإفساد وقِسْمة المجتمع سواء على مستوى أهدافه وأساليبه، وكونِه قادرًا على ضرب أروع مَثَلٍ في التزام السلميَّة، وأنه لا تراجع له، ولا عن سلميّته، وأنّ شدّة المعاناة وطول المدّة لم يفلّا، ولن يفلّا من عزمه، وليس فيه استعداد لأن يتخلّى عن مطالبه.

       هذا ما بَرهَنَ ويُبرهن عليه واقع نخبه وجماهيره العريضة الواسعة.

       مسيرةُ الخامس عشر من فبراير حجّةٌ قوية دامغة بحقّ تقوم من جديد للوزن الثقيل لحراك الشعب من حيثياته المختلفة بعد ما تقدّمتها حُجَجٌ كُثْرٌ مماثلة.

       فلو كان الأمر أمر حجّة على الحقّانية والإصلاحية والجدية والشعبية الواسعة والانضباط فَقَدْ تمّت الحجّةُ وتكررت كثيرًا، وتتكرر كلّ يوم في هذا التواصل الجادّ من الحَراك الذي طال من غير تخلُّل لفتور أو انقطاع.

       فإذا كان في الأرض من بين دُوَلِها، وهيئاتها السياسية، والإنسانية ومنظّماتها الحقوقية، والشّخصيات المؤثّرة من له حِسٌّ دينيّ كريم، أو شعور إنساني نبيل، أو ضمير حيٌّ بالحياة، يجعله يسمع صوت الشعوب المظلومة المقهورة ويتأثّر لها، ويُحرّكه لأن يقول كلمة، أو يقف موقفًا، ويتّخذ خطوة مقدورة له في وجه الظُّلم والقهر، والاستعباد، والغطرسة المستعلية انتصارًا للعدل، والاعتدال، والحرية، واحترام الإنسان لأخيه الإنسان فعليه أن يحكم على الحَراك السياسيّ الإصلاحي في البحرين أو له ليقف ضدّه أو معه، ويُطالب الطرف المخطئ بتصحيح موقفه، والرجوع إلى الحقّ([14]).

       وفي المنطقة الإقليمية، وفي الأمة العربية والإسلامية وفي العالم على مستوى الدول وغيرها من يملك في هذا المجال الكلمة المؤثرة، والموقف المؤثر، والخطوة الفاعلة.

       ومالكُ الموقف لا تكفي منه الكلمة، والقادر على الخطوة العملية المصلحة لا يقوم مقامها العَتْب.

       ثمَّ أمِن بعد هذه المسيرة، وكلّ ما سبق للحراك من صدق وفاعلية وسعة وانتشار وسلمية وانضباط وطول نفس وصبر وصمود تبقى السلطة في موقع الامتناع أو التردُّد أو الانتظار بقضية الإصلاح والإهمال لمطالب الشعب أو محاوِلَةً الإقناعَ بالحلول السقيمة؟! وتبقى مع ممارسة الأسلوب الأمنيّ المتشدّد والذي يزيد شدّة على الأيام ولا يريد التراجع؟!

       ذاك ما تراه، ولكن بئس ما تراه في هذا الأمر، وما أضرّه بها وبالشّعب وكلّ الوطن!!

       إنَّ الشعب قد أوصل رسالته الحجّة الدامغة للجميع وبكلّ جدية وأمانة وأسلوب حضاري رفيع وعلى الجميع أن يتحمَّل مسؤوليّته.

       نقد ولكن:

       جاء في خطبة جمعة في هذا الجامع مثل هذا التعبير: متى احتاجت مؤسسة من المؤسسات التي يأمر بها الدّين إلى إِذْن سُلطات الأرض ؟!

       وحملت الصحافة نقدًا لهذا الطرح بالتهافت العمليّ عند القائلين به مفادَه أنه سَبَقَ منذ عشرات السنين أنْ لجأوا إلى مسألة الاستئذان لمؤسسة ثقافية إسلامية فكيف جازَ هناك ولا يجوز الأمر نفسه بالنسبة للمجلس الإسلاميّ العلمائيّ؟([15])

       ومنطلق هذا النقد الذي يُراد به الإلزام هو أنَّ الاستئذان دليلُ شرعيّةِ توقّف العمل الشرعي والتبليغ الدينيّ على إذن السياسة الدنيوية، وثبوتُ الشّرعية هناك ثبوت لها هنا([16]).

       الصورة صورة منطق، والواقع أنه لا دقة ولا منطق في هذا الاستنتاج ومحاولة الإلزام.

  1. ما حصل بالنسبة للمؤسّسة المعنية([17]) هو أن ليس شرعيتها الدينية متوقفة على الإذن الرسمي، أنَّ طلب الإذن يعني الاعتراف بالتوقّف المذكور والكذب على دين الله بأنَّ التعبُّد به أو بشيء من واجباته أو مستحبّاته وكلّ مشروعاته متوقّف في شرعيّته على إذن السياسة الدنيوية وأهوائها([18]).

الأمر الصحيح في طلب الإذن للمؤسسة لا لتوقُّف الصحة والشرعية وإنما لتوقُّف الوجود أي وجود المؤسسة لخدمة الإسلام وقدرتها على ممارسة دورها في التثقيف وذلك للاضطرار بسبب المنع الظالم الجائر لحريّة مثل هذه المؤسّسات([19])، المنعَ المنافي للإسلام، وللعبودية لربّ العباد([20]).

       وما هو شرعيٌّ ألا يكون هذا الظلم وهو التحكم في أمر الدين، ولا تضطر حكومة من حكومات الأرض أحدًا إلى هذا الاستئذان.

       ثم إنَّ ظرف الاضطرار([21]) ليس من الصحيح الإبقاء عليه وعلى أيّ مجتمع أن يتخلّص منه ويواجهه خاصة إذا كان مما يضرّ بالدّين، ويُعطي الحاكمية لهوى الأرض على حركته ومصيره([22]).

       فالاستئذان لمؤسسة إسلامية تحت عنوان ثانوي كما في حالة إنشاء مسجد في موسكو أو واشنطن ومن منطلق الموازنة بين ضَرَرَين وتقديم أحدهما على الآخر حسب الظرف المؤقّت لا يُعطي الشرعيَّة لتوقف خدمة الإسلام على إذن سلطات الأرض، ولا المبرِّرَ الدائم لقضية الاستئذان.

       ويومَ يحتاج العلماء فرادى أو جماعةً إلى الإذن الرسميّ في تبليغ كلمة الدين وتبصير المسلمين به تكون رَقَبَةُ الدّين قد سلّمها علماؤه إلى يد سياسة تُفارقه في مصالحها وخططها وقوانينها، وهل من أَمْنٍ على سلامة الدين بعد ذلك؟! أو هو الخوف كلَّ الخوف، والخطر كلَّ الخطر؟! الصحيح بالتأكيد هو الثاني لا الأول.

       ويُطرح على صاحب النقد وهو وزارة العدل وهي تذكر استئذانًا لمؤسسة إسلاميّة معيَّنة، ورفضًا للاستئذان لمؤسّسة أخرى إسلامية هي المجلس العلمائيّ وهما الموقفان اللذان لا تملك وجهًا للجمع بينهما هذا السؤال الوجيز: أيُّ الموقفين تُخطّئينه يا وزارة، وأيّهما تصوّبينه؟([23])

       إنْ كنتِ تخطّئين موقف الاستئذان، وتصوّبين موقف الرفض فنحن نُرحِّب بهذا الرأي وعليك الالتزام وعدم التعرُّض لأيّ عمل تبليغي يأمر به الإسلام وعدم المطالبة بأخذ إذن له أو إجازة.

       ولتُسجِّلي علينا موقفًا خطأ فيما سبق وإنْ كنتُ قد بيّنتُ الوجه.

       أما إذا كان الرأي عند الوزارة أن ما أمر الله به سبحانه عبادَه يبقى ناقص الشرعية أو بلا شرعيّة أصلًا ومن حقِّ القانون أن يُعاقِب عليه فذلك ما يُحوِج إلى أن يذهب صاحب هذا الرأي إلى القول بأنَّ هناك إلهًا مع الله سبحانه أو أنَّ ذلك الغير هو الإله الحقّ دون الله سبحانه، أو أنَّ الله هو الإله الحقّ ولكن ليس له حقّ التشريع لمن خَلَقَ ومَلَكَ ورَزَقَ، وأنَّ التشريع إنما هو حقّ من حقوق بعض عباده وليس له سبحانه أن يُنازع ذلك البعض في حقِّه([24]).

       لا نسمح لأنفسنا بأن نتّهم الوزارة بشيء من ذلك اللازم، والوزارة لا يمكن أن تقول ذلك، ولا ترضى أبدًا أن تُتّهم به.

       فالوزارة أصدرت نقدًا أحسنُ ما يُقال عنه بأنّه بلا دراسة.

       هذا هو العدل فاسكتوا:

       هذا هو الإصلاح وهو أنْ تستمر كلّ المظالم والمفاسد على يد السُّلطات فاسكتوا.

       هذه هي الديموقراطية بأنْ تُكمَّم الأفواه، وتُخرس الألسن، وتكون الحكومة المنتخبة مُنكرًا، ومساواة صوت المواطن لصوت أخيه المواطن ضربًا من الجنون، وأن يَحكم الوضعَ كلّه دستور لم يؤخذ فيه رأي الشعب فاسكتوا.

       هذا هو العدل بأن تستمرّ وتتزايد أحكامُ الحبس المؤبّد، والحكم بالإعدام لأفراد الشعب بحجّة الاعتراف بالجريمة الموجِبة تحت الإكراه ووطأة العذاب، وأن يُحكمَ القاتل عمدًا من رجال السلطة بأشهر من السجن أو يُبرّأ، وأن لا تتوقّف المحاكمات للمطالبين بالحقوق طيلة سنوات، وأن تنطلق التهديدات الراعدة، والتوعّدات النارية في وجه كلّ الداعين للإصلاح والحرية والسلمية والأخوّة الوطنية والأمن والسلام فاسكتوا([25]).

       ولا يكفي السكوت بل لابد لكم من الجهر بأننا بخير، والإصلاح عندنا لا ينقصه شيء ولا يحتاج إلى زيادة، والديموقراطية من أكمل الديموقراطيات في العالم، والعدلَ هنا ليس فوقه عدل، وإلّا فأنتم لا وطنيةَ عندكم، ولا تستحقّون شرف الانتماء إلى هذا الوطن يا غرباء أصلًا جَمَعَكُم سوء حظّ البحرين من مختلف الآفاق.

       هذه هي اللغة، هذا هو الواقع المفروض على المواطنين، هذه هي القّصة، هذه هي المأساة.

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم أنطِقنا بالحقّ واجعلنا من أوّل مَنْ يتّبعه، وجنّبنا القول الباطل والعمل به، واحمِ دينَك، وانتصر لشريعتك، وأيّد وسدِّد وانصر عبادَك المؤمنين يا حنّان يا منّان يا أكرم الأكرمين.

       اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، واشفِ مرضانا وجرحانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة ونصر.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([26]).

 

[1]– المعرفة بالله عزّ وجلّ لنبيٍّ أو ملك هي دون ما عليه شأن الله سبحانه وتعالى.

[2]– يبقى كل شيء منه محدود ما دام هو محدوداً.

[3]– لِمَ كانت هذه المعرفة عظيمة، وإن كانت محدودة؟ ولِمَ كانت أعظم معارفنا؟

[4]– يمكن لك أن تُضيِّع أي معرفة، لكن لا يمكن لك – إذا أردت السعادة – أن تُضيِّعَ المعرفة بالله سبحانه، وإن كان في تفويت كل معرفة نحتاجها ضياع مصلحة وضرر.

[5]– إذا كان كلّ من عدا الله وما عداه صفراً على الشمال، كان كل شيء من دونه عدما في نفسه. فالاتكال عليه، واللجأ إليه، والاستعانة به عند عاقل لا تجوز.

[6]– أقول عاقل وملتفت!

[7]– وليطلبها من كل الأسباب فإن الأسباب كلها لا تُعطيه هذه الطمأنينة.

[8]– لا يحمي من ذلك مال ولا جاه ولا أي شيء آخر. يصطدم بأمور، بتحديات، بمآزق لا يجد منها مخلصا من شعوره باليأس مهما كان. وهنا تبرز الحاجة لله عز وجلّ بشكل جليّ.

[9]– وهنا تبرز غاية الحياة.

[10]– سورة التوحيد.

[11]– أقول توكلت على الله وأنا أشك في قيمة، في صحة، في دقة، في حكمة حكم من أحكام شريعته الثابتة؟! كذب. ليس هناك توكّل أصلا.

[12]– كما تُسلّم لتشريعه تُسلّم لقضائه وقدره. حين تأتيني ملمّة أسخط، هذا السخط يناسب التوكُّل؟ التوكّل يقوم على الثقة، على اليقين بما يفعله من نتوكل عليه.

[13]– أي ما بقينا على قيد الحياة، كلّ مدة بقائنا.

[14]– ولتكن كلمتُه وموقفه منطلقهما هو عقله، دينه، حسُّه الإنساني، ضميره الذي يغنى بشي من الحياة.

[15]– هذا اعتراض، ونحن نقبل الاعتراض. إذا كان عندنا تهافت، فلابد أن نقرّ بهذا التهافت. لكن..

[16]– مؤدّى الاعتراض هو هذ: إذا كان الاستئذان هناك صحيحًا وشرعيا فلا بد أن يكون هنا في المجلس الإسلامي العلمائي صحيحا وشرعيا فعليكم الالتزام في الأمرين. وإذا لم يكن شرعيا فكان منكم خطأ كبير حين استئذنتم بالنسبة لجمعية التوعية الإسلامية. هذا هو الإشكال.

[17]– أي جمعية التوعية الإسلامية.

[18]– الاستئذان ما كان يعني من ذلك شيئاً أبدًا. وأن شرعية جمعية إسلامية وأي مؤسسة إسلامية أخرى وأن الأخذ بأي واجب أو مستحب أو مباح مِمَّا تغنى به شريعة الله عز وجل تتوقف شرعيته على إذن سلطة رسمية.

[19]– جمعية التوعية الإسلامية وغيرها من المؤسسات الإسلامية مدفوعة ظلمًا من قبل القانون لكي تكون على الأرض أن تطلب إذنًا، كل الأمر هذا، وليس لأن شرعيتها متوقفة على الإذن والاستئذان.

[20]– على السلطة أن تسأل نفسها أنها في هذا الأمر مقرّة بالعبودية لله، مقرّة بشرعه، أو ترى أن لها الاستقلالية في التشريع للعباد، وأن لها أن تشرع على خلاف ما شرع الله؟ عليها أن تسأل نفسها.

[21]– كان هناك اضطرار يدفع للاستئذان من أجل الوجود، وليس من أجل الشرعية، ولِمَ لا يكون هنا في المجلس الإسلامي العلمائي؟

[22]– إذا كنتُ محكومًا للاضطرار هل أبقى مأسورا لهذا الظرف، ولا أسعى للخروج منه؟

[23]– هناك موقفان: موقف الاستئذان وموقف رفض الاستئذان. فأنت مع أيٍّ منهما؟

[24]– هل تلتزم الوزارة بهذا اللازم الباطل وهي مسلمة؟!

[25]– هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).

[26]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى