خطبة الجمعة (589) 14 ربيع الآخر 1435هـ – 14 فبراير 2014م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : الألفة

الخطبة الثانية : الذكرى الثالثة للرابع عشر من فبراير – عظيمةٌ أنتجت ما هو عظيم

 

الخطبة الأولى

            الحمد لله الذي دلّ على ذاته بذاته، وهو المظهر لكلّ شيء، ولا ظهور لشيء إلا به، ولا مظهر له سبحانه ممن دونه، وهو المتنزّه عن أن يُجانسه مجانس، أو يُماثله مماثل، أو يشابهه مشابه، أو يرقى راقٍ لكماله، وأن يصل جلال لجلاله، وجمال لجماله.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله لا يستوي علم وجهل، ولا غفلة وذكر. العالم بالله عزّ وجلّ، الملتفت إلى عظمته مستغن به، راج له، مطمئن إليه، خائف من كلّ معصية تُسخطه، وارتكاب قبيح يُبعّد عنه، شاعر بالأمن في ظلّ رحمته الخاصّة لمن أطاع.

       ومثل هذا الإنسان العالم الذاكر لربّه سبحانه، الخاضع لطاعته، لا تُبطره الدنيا، ولا تُطغيه، ولا تهزمه مصيباتها، ولا تذيبه، ولا تفقده عزيمته.

       أمّا من جهل الله تبارك وتعالى وغفل عنه فهو لعبة في يد الدنيا؛ فإن كانت له استكبر واستعلى، ويوم أن تكون عليه لا يجد نفسه شيئًا، ويخسر كلّ شيء من راحته واطمئنانه وأمله ورضاه لأنّه لا شيء عنده غيرهما في ما يراه.

       فلنطلب عباد الله معرفته، ولنحرص كل الحرص على ذكره، والاستقامة على تقواه وطاعته يكن لنا من ذلك خير الدنيا والآخرة، والوقاية من شرهما.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم جد علينا بما هو صدق من معرفتك، ومؤدّب ومؤنس من ذكرك، ولا تفرّق بيننا وبين طاعتك، ولا تُدخلنا في شيء من معصيتك، واجعل لنا رادعًا من تقواك عن الميل لمخالفتك يا رحمان يا رحيم، يا جواد يا كريم.

       أما بعد أيها الأخوة المؤمنون والمؤمنات فالحديث لا زال في موضوع الألفة:

       وقد كان من الحديث السابق التعرّض لما يمثّل أساسًا لبناء واقع الألفة، ولما يُساعد على تمتينها عمليّا، أو يُخفّف من حالة التوترات بين الناس، وتقدم شيء من ذلك.

       ومن ذلك ما يأتي:

  1. المصاهرة:

       والصهر ما كان من خلطةٍ تشبه القرابة يُحدثها التزويج. وفي ذلك عن الإمام الهادي عليه السلام في خطبة النكاح:“أمّا بَعدُ، فَإِنَّ اللّهَ جَلَّ وعَزَّ جَعَلَ الصِّهرَ مَألَفَةً لِلقُلوبِ، ونِسبَةَ المَنسوبِ، أوشَجَ بِهِ الأَرحامَ، وجَعَلَهُ رَأفَةً ورَحمَةً {إِنَّ فِى ذَلِكَ لَاَيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}([1])([2]).

       فعلاقة المصاهرة إذا قامت على أساس صحيح كان من بركاتها ربط القلوب بما يتعدّى الزوجين إلى عدد من أرحامهما وقراباتهما، وامتدّ أثر ذلك إلى القبيلة والقبيلة الأخرى، وكان في ذلك تقريب للأباعد، وتشديد للعلاقة بين الأقارب.

  1. الوفاء:

عن الإمام علي عليه السلام:“سَبَبُ الاِئتِلافِ الوَفاءُ”([3]).

  1. الإنصاف:

عن الإمام نفسه عليه السلام:“الإِنصافُ يَرفَعُ الخِلافَ، ويوجِبُ الاِئتِلافَ”([4]).

من ظلمك باعد بينك وما بينه، أو زاده بُعدًا، أما من أنصفك من غيره وخاصّة من نفسه، ورَحِمه، وقريبه، والمحسوبين عليه، والمقرّبين منه فلا شكّ أنّ ذلك يجتذبك منه، أو يُقلّل المسافة بينك وبينه.

فهل يأخذ الناس بالإنصاف ولو من أنفسهم، وخاصة الحاكمون منهم فيجتذبون لهم القلوب؟ ذلك ما هو قليل، وقليل جدًّا في الناس، وفي الحاكمين بالخصوص.

  1. التبارّ([5]):

وهو تعاطي البرّ بين النّاس، وتبادل الخير، وصناعة المعروف بينهم.

فعن الإمام علي عليه السلام:“اِجمَعوا يَجمَعِ اللّهُ شَملَكُم، وتَبارّوا يَصِلِ اللّهُ اُلفَتَكُم”([6]).

فبالاجتماع من المؤمنين والمسلمين في الجماعات والجمعات يتوفّرون على سبب قوي فعّال للألفة إذا أخذوا بأدب الجماعة والجمعة، وعاشوا جوّهما الرسالي الروحي والتربوي الهادف الزكيّ الكريم.

وإذا ساد التعامل البارّ بينهم متّن العلاقات بينهم، وزادها قوة ورسوخا وديمومة واتصالا.

  1. الدعاء:

والدعاء وارد في طلب كلّ هداية وخير، وما تصلح به الحياة وتستقيم النفوس، وكل خير يطمع فيه الإنسان لنفسه ومجتمعه وأمّته، والنّاس يجب أن يدعوه طلبه له، وطمعه فيه إلى اللجأ إلى الله سبحانه والاستعانة برحمته وكرمه.

ونقرأ عن هذا الأمر ما عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“اللّهُمَّ اغفِر لِأَحيائِنا وأمواتِنا، وأصلِح ذاتَ بَينِنا، وألِّف بَينَ قُلوبِنا”([7]).

وعن الإمام الرضا عليه السلام في خطبة النكاح:“نَسأَلُ اللّهَ أن يَلحَمَ ما بَينَكُم بِالبِرِّ وَالتَّقوى، ويُؤَلِّفَهُ بِالمَحَبَّةِ وَالهَوى([8])، ويَختِمَهُ بِالمُوافَقَةِ وَالرِّضا، إنَّهُ سَميعُ الدُّعاءِ لَطيفٌ لِما يَشاءُ”([9]).

والهوى في هذا السياق بمعنى الحبّ الشديد الطاهر فيما يظهر.

  1. التواصل الاجتماعي:

عدم اجتماع الناس، وانعزالهم عن بعضهم البعض، وإهمال الالتقاء في المجالس والمحافل يجعلهم لا يعرف بعضهم بعضا، ويجعل قلوبهم في تباعد أكثر من تباعدهم في الأجساد، وعزلتهم الشعورية أشدّ مما عليه عزلة أبدانهم، والجار لا تلقاه ولا يلقاك، أو لا تجتمع معه ولا يجتمع معك، ومثله القريب نسبا أو مصاهرة بعيدان وإن قربت الدار من الدار، وكان النسب قويّا، والمصاهرة لصيقة.

عن الإمام الصادق عليه السلام:“إذا لَم تَجتَمِعِ القَرابَةُ عَلى ثَلاثَةِ أشياءَ تَعَرَّضوا لِدُخولِ الوَهنِ عَلَيهِم، وشَماتَةِ الأَعداءِ بِهِم، وهِيَ: تَركُ الحَسَدِ فيما بَينَهُم؛ لِئَلّا يَتَحَزَّبوا فَيَتَشَتَّتَ أمرُهُم، وَالتَّواصُلُ؛ لِيَكونَ ذلِكَ حادِيا لَهُم عَلَى الاُلفَةِ، وَالتَّعاوُنُ؛ لِتَشمِلَهُمُ العِزَّةُ”([10]).

       القرابة والاشتراك في النسب من شأنه أن يخلق حالة من الألفة، لكنّ ذلك حتّى يوجد الألفة فعلًا وبصورة واضحة يحتاج إلى دعم، وبدونه يضعف أثر القرابة بل قد ينعدم، ويتحوّل من الوئام في بعض الظروف كتفشّي الحسد بين الأقرباء إلى الخصام([11]).

       وتجد القرابة دعمها في خلق الألفة وتقويتها بين الأقرباء في ثلاثة أمور كما في الحديث بين سالب وموجب: عدم الحسد، والتواصل بمثل الزيارة والتهادي، والتعاون فيما هو خير.

       ومما يعين على الألفة أن يوجد المصلحون والسّاعون بالخير ممن يعملون على التقريب والتأليف بين القلوب مكان تباغضها وتنافرها كما سيأتي عن قريب.

       ومثل ما هناك عوامل داعمة لحالة الألفة هناك عوامل مضادة مانعة وهادمة:

       عن الإمام الباقر عليه السلام:“إن الشيطان يُغري بين المؤمنين ما لم يرجع أحدهم عن دينه، فإذا فعلوا ذلك استلقى على قفاه وتمدّد ثم قال فزت”([12]).

       الإيمان قاض بالألفة بين المؤمنين دافع ومولّد لها، والشيطان يؤلمه ذلك ودوره هنا أن يشكك المؤمن في أخيه المؤمن، ويثير العداوة والبغضاء بينهما، ولا يزال يفعل ذلك ويحاول تحقيق أمنيته في التفريق بين الطرفين، حتّى إذا ما تحقّق ذلك بأن تنازل أحدهما للشيطان وتخلّى عما يقضي به الإيمان من الألفة بينه وبين أخيه استراحت نفسه وأهنأه ذلك، وهو الأمر الذي عبّر عنه الحديث بـ”استلقى على قفاه وتمدد” تجسيدًا لفرحه وشماتته. و”قال فزت”.

       وتقول تكملة الحديث عن الإمام علي عليه السلام:“فرحم الله امرأ ألّف بين وليّين لنا. يا معشر المؤمنين تألّفوا وتعاطفوا”([13]).

       ومن قام بالتأليف بين المؤمنين فهو يُشيد ويصلح ويرمّم أهمَّ بناء، ويبذلُ جهدًا مشكورًا في إقامة أعظم صرح فيه قوّة الدّين وصلاح المجتمع، وربح الإنسانيَّة.

       ومما يضرّ بالألفة تشتت الآراء والاختلاف في التوجّهات العملية العامة، وتعدد الزعامات وتباين مناهجها.

       عن الإمام علي عليه السلام:“ليس مع الاختلاف ائتلاف”([14]).

       وعدم النضج في طرفي العلاقة وحتى مثل علاقة الزواج الرابط بين الزوجين يصعّب بناء حالة الألفة بينهما.

       فعن الإمام الصادق أو الكاظم عليهما السلام لما قيل له: إنّا نزوّج صبياننا وهم صغار، قال: فقال:“إذا زُوّجوا وهم صغار لم يكادوا يتألفوا”([15]).

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا، ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم اجعل لهذه الأمة من رباط معرفتك وحبّك وتقواك ما يجمع قلوبها على ما فيه رضاك، واجعلها أقوى قوّة في الأرض تأخذ بأهلها إلى هداك، وتدعوهم إلى طاعتك، وتوحّدهم تحت راية دينك، وفي ظلّ رحمتك، لا ترتكب جورا، ولا تفعل إثما، ولا تميل لظلم، يا من هو على كل شيء قدير، وبالاستجابة لدعاء الخير حقيق جدير.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([16]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله المحيط بكلّ شيء علمًا بداية ومسارا ومنتهى، وهو الذي بيده تقدير كلّ شيء، ولا تقدّم لشيء على إرادته، ولا تخلّف عن الانقياد لها أبدًا. كل صغير وكبير خاضع لإرادته، محكوم لمشيئته، ولا تنقسم الأشياء إلى سهل وصعب أمام قدرته، فكلّ ممكن في قدرته يسير، ولا عسير من ذلك أبدًا في قبال هيمنته وسلطانه.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله لقد جاء عنه سبحانه الوعد الصادق بثواب الجنّة للمطيع لأمره ونهيه، والوعيد القاطع غير المردود لمن عصاه فيما أمر ونهى، واستكبر على دينه واستعلى.

       فمن أيقن بوعد الله ووعيده فلا مناص له في عقل ولا وجدان من طاعته، ومن عاند فقد اختار لنفسه الهلاك، ومن شكّك فلا عذر له بعد سطوع البرهان، وما يؤدي إليه هدى الفطرة، وما ضربه الله عز وجل من أمثال.

       وإن شكّ شاكٌّ بعد ذلك فإن منشأ شكّه فساد نفسه ومرضها الذي صار بها إليه من سوء فعله، فلنسع ما وسع السعي لنيل الثواب الذي وعده سبحانه، وتجنّب العذاب الذي توعّد به رحمة بأنفسنا، ولنُلزِم النفس بالتقوى لتنتهي عن أمرنا بالسوء لنبلغ الغاية الكريمة الحميدة ونصير إلى أحسن المصير.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       ربّنا احملنا على طاعتك كما حمّلتنا إيّاها، وعاملنا بعفوك ولا تعاملنا بعدلك، واكتب لنا ما هو خير لنا في ديننا ودنيانا يا حنّان يا منّان، يا حميد يا مجيد.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب  العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا.

أما بعد أيها الأحبة في الله فإلى كلمتين:

الذكرى الثالثة للرابع عشر من فبراير:

بدأ الحراك السياسي الجديد في الرابع عشر من فبراير 2011م، وها هو يُنهي عامه الثالث في قوّة وعنفوان، وقضى هذه المدة بلا توقّف ولا فتور، واستمر كما بدأ وبدرجة تتعالى؛ استمرّ على عزيمته وصموده واندفاعته رغم كلّ ما وُوجِه به من قسوةٍ وعنفٍ وبطشٍ وتنكيل.

وهو اليوم محطةٌ مهمّة جدًّا من التاريخ السياسي في البحرين، وله من القوة والحضور والسعة والانتشار والتركّز والفاعلية والتضحيات والآلام ما يجعله شاهدًا ثابتًا من شواهد تاريخ هذا الوطن، وصفحةً لا تُنسى من صفحات الظلم المستمرّ الممارَس في حقّ هذا الشعب، والكفاح الدائم كذلك في وجه هذا الظلم، وقد صار غير قابلٍ لأنْ يُمحى من سجلِّ مآسي وأمجاد هذا الوطن مهما كانت محاولات الطمس والتعتيم والتزييف.

وللحراك السياسي المتصاعد الذي بدأ قبل ثلاث سنوات من القابليّة الهائلة ما يُرشّحه للإسهام الفاعل في الدفع بالواقع السياسيّ المنحرف إلى الطريق الصحيح، وأنْ يتطوّر على خطّ العدل والرشد والمساواة واحترام قيمة الشعب وبخطواتٍ سريعةٍ متتالية لا جمود فيها حتّى حدوث النقلة التي يسابق بها الوطن أصلح النماذج السياسيّة في الأرض من غير انتظار زمنٍ طويل إذا بقيت العزائم هي العزائم، والعقلانيّة هي العقلانيّة، والرشد هو الرشد، والسلميّة هي السلميّة، والصمود هو الصمود، وكان استحضارٌ فاعلٌ دائم لقيم الدين، وأحكام الشريعة، وكان المقصود رضا الله العزيز الحكيم([17]).

كلّف هذا الحراك الكثير، ولا يمكن أنْ يقنع بالقليل، فكما كَثُر بذله لا بدّ أنْ تكبر نتائجه، ولا يمكن أنْ يُقبَل بنتائج تافهة هي أقرب إلى الهزل، ولا حلولٍ مازحةٍ مغرِّرة وما يُسكت الأطفال. نتائج من هذا النوع ليست عملية ولا منصفة، ولا ينبغي أن يُفكّر بها أحد.

كان حراك الشعب منذ بدايته لاستراجاع حقوقه، ولأن يتبوّأ موقعه الطبيعيّ في إدارة الشأن العام لوطنه، والموقع الطبيعيّ للشعب في هذا المجال إنّما هو موقع الصدارة.

المطلوب إصلاحٌ حقيقيّ، والإصلاح الحقيقي له لونٌ وطعمٌ ورائحةٌ وحقيقةٌ واضحةٌ متميّزة، وإذا كان هذا الإصلاح على خطّ الديمقراطيّة كما هو المطروح عند الشعوب والحكومات اليوم فلا ديمقراطيّة إلّا بانتخابٍ حرٍّ مكتمل الشروط للمؤسّسة التشريعيّة المستقِلّة التي لا يُضايق حريّتها صوتٌ واحدٌ معيّن ولا يشاركها في التشريع([18]).

وثلاثة الأعوام التي مرّت من عمر الحراك زادت إيمانه بضرورة الإصلاح الشامل، والمعالجة الجذرية للوضع السياسي، وأن يتبوّأ موقعه، ويأخذ مكانته.

والحاكم الأوّل في قضيّة الحراك جماهيرُه العريضة، وهي المرجع في الموافقة وعدم الموافقة على أيّ حلٍّ مقترَح، ولها الكلمة النهائيّة في ذلك.

النخبة أعطت للحراك كثيرًا، وأصابها من قسوة السلطة وعنفها الكثير الكثير، ولكن تبقى الجماهير العريضة هي الوقود الأكبر والأكثر في الحراك، وهي التي تمتلىء بها الساحات وتتلقّى الرصاص، ويتوالى منها الشهداء، وتعاني من المآسي اليوميّة، وتُقدّم القربان بعد القربان، وهي التي يعني رفضها لأيِّ حلٍّ سقوطه، ولأيّ اتفاقٍ فشله.

ولن يفيد أيّ اتفاقٍ لا تتفّق معه الجماهير، وهذا واضحٌ كلّ الوضوح عند كلّ الأطراف، ولا ينبغي لشاكٍّ أنْ يشكّ فيه.

وبالنسبة للمطالبة بالحقوق العادلة، وبإصلاح الوضع السياسيّ غير السويّ، والوضع العام بكلّ أبعاده لا ينبغي الشكّ في أنّه وظيفةٌ شرعيّة سياسيّةٌ عامّة في حياة كلّ المجتمعات لمعالجة الأوضاع الجائرة، وردّ أمر السلطة إلى المسار الصحيح. والأسلوب المُنتخب لذلك هو المطالبة السلميّة الواسعة المستمرّة ذات الطابع الجدّي، والمستوى القادر على التأثير.

وتتميّز المناسبات السياسيّة الخاصّة ومحطّاتٌ مهمّة من محطّات التاريخ السياسيّ لأيّ بلدٍ بحضورٍ شعبيٍّ مكثّفٍ وهائل لأكبر قدرٍ ممكن للتعبير عن إرادة الإصلاح والتغيير، والإسراع به، وأنْ يكون إصلاحًا جادًّا قادرًا على الحلّ والإنقاذ الذي تتطلّع إليه.

ومثل هذه المناسبات تلقى عناية خاصّة شديدةً واهتمامًا بالغًا في الإعلان عن طموحها وتطلُّعها، وحضورًا فاعلًا يميّزها عن مسيراتها واعتصاماتها في هذا السبيل في سائر الأيّام.

وأنتم هذه الأيّام في ذكرى محطّة هي الأهمّ في مسيرتكم المطلبيّة الإصلاحيّة، ويوم السبت تنتظركم مسيرةٌ كبرى يُراد لها أنْ تكون لافتةً ومعبّرة بأكبر طاقةٍ ممكنة، وبأكبر عددٍ ممكن، وبأرقى أسلوبٍ يتوفّر، وفي سلميّة تامَّة([19])؛ ذلك لتسجّلوا في تاريخكم المجيد أكبر حضورٍ من أجل الحقّ، ولتعلنوا للعالم أجمع عن إصراركم على الإصلاح، وأنّكم ليس الصوت الذي يمكن أنْ يُهمل أو يُستغفل في هذا العالم.

كلّما جاء حضوكم واسعًا وقويًّا، وأكبر من كلّ التوقّعات حجمًا وانضباطًا وتوحُّدًا وجديّةً ووعيًا وتركيزًا على المطالب، والتزامًا بالخلق العالي واللفظ النظيف، وأبعد عن العنف وأعمال التعدّي والإتلاف فرضتم احترامكم واحترام مطالبكم على العالم، وكنتم أقرب إلى إنجاز ما تتطلّعون عليه. ولا تقتلوا حراككم بالتخلّف والقعود عن مثل هذه المشاركة، ولا تقبلوا بالوزن الضئيل لمسيرتكم فتستخفّ بكم الجهات المختلفة.

كُن نصيرًا للحقّ لا خاذلًا له، معه لا عليه، ولا متخلّيًّا عنه([20])، ابتغوا الخير الذي يحبّه الله ويدعو إليه لكلّ الشعب ولكلّ النّاس، لا تستجيبوا لحسٍّ طائفيٍّ مفرِّق، لا تريدوا ظلمًا لأيّ فئةٍ من فئات المجتمع، لا تدخلكم عصبيّةٌ جاهليّة لتعصُّب متعصّب، واستفزاز مستفزّ، وبذاءة بذيء، واعتداء ذي عدوان.

كونوا المثال النموذجيّ الكريم الذي يحتاجه الوطن، وتحتاجه الأمّة، وتحتاجه المجتمعات وكلّ النّاس.

وإنّ على الشعب في مسيراته واعتصاماته مسؤوليّة، وعلى السُّلطة مسؤوليَّةً أخرى، وقبل ذلك كان على السُّلطة أنْ لا تدفع الشعب لمسيرةٍ أو اعتصامٍ ولو واحدٍ مضطرًّا بسبب ما تعامله به من تهميشٍ وتحقيرٍ واضطهاد وعزلٍ عن موضع القرار.

وبعد أنْ كان ذلك منها([21]) فإنّ من مسؤوليّتها ألّا تقف في وجه مطالبته بحقوقه، ولا تقمع تحرّكه للإصلاح باستعمال البطش وإعمال القوّة الظالمة، ولا تمنع ولا تعطّل ولا تعرقل له مظاهرةً أو مسيرة أو أيّ فعاليّة سلميّة احتجاجيّة أو تواجهها بأيّ نوعٍ من أنواع السلاح، ولا بقتل ولا جرح ولا إعاقة بسبب استعمال السلاح في هذا إلّا وتحمّلت مسؤوليّته شرعًا وقانونًا لأنّه من الاستعمال الظالم.

ومسؤوليّة الشعب وهو يمارس حقّه في التعبير عن مطالبه وعن الإصلاح السياسيّ الشامل الذي يضمن اعتبار رأيه وكرامته، ويخلّصه من الظلم الواقع عليه وعبوديّته أنْ يلتزم الأسلوب السلميّ في تعبيره، ولا يتزحزح عنه، ولا يحدث منه اعتداءٌ على نفسٍ ولا مُلك، وأن لا يخرج على الشرع الإلهي الذي يحكم الجميع في كل كبيرٍ أو صغيرٍ من الأمر في ممارسته لحقّه، وأنْ يكون الحريص كلّ الحرص على مصلحة هذا الوطن العزيز.

والتزام الشعب بما عليه في هذا المجال هو ما مثّل ظاهرةً واضحةً دائمة في ما اتّسم به حراكه الفعليّ طوال مدّته التي قضاها في الطابع العامّ له، وهو ما يعتزم البقاء عليه لا يعدو عنه ما احتاج إلى الاستمرار حتّى يتحقّق هدفه في الإصلاح والتغيير.

وعندئذٍ فعلى السُّلطة أنْ تفي بالتزاماتها الدستوريّة التي ارتضتها، وبإعلانها المتكرّر عن احترام حريّة التعبير السياسيّ السلميّ، وبواجبها الذي تحتّمه عليها شريعة الله من احترام الدماء، ومراعاة حقوق النّاس، وإقامة العدل الذي لا يبقي حاجةً للتظاهر والاحتجاج.

سيري أيَّتها الجماهير المطالبة بالحقّ والعدل والإصلاح والتغيير على هدى الله، وفي توجيه دينه، وعلى بركةٍ من عنده راشدةً مفلحةً ناجحة.

اطلبوا نصر الله بنصر دينه، والتزام أمره ونهيه ينصركم ويثبّت أقدامكم ويقرّ أعينكم بما تطمحون إليه من عزٍّ وكرامةٍ وانعتاق.

اطلبوا رضاه، والتزموا منهج دينه الحقّ يُعجّل لكم الفرج الذي تتطلّعون إليه([22]).

ابذلوا جهدكم على طريق تصحيح الوضع، وتقويم عوجه، وكثّفوا من مشاركتكم في التعبير السلميّ عن مطالبكم لتستحقّوا النصر من عند الله، وما النصر إلّا من عنده.

وأذكّر أنَّ من لا يُعطي للدين والعدل والحريّة واسترداد الحقوق بضع ساعات لمسيرةٍ يُراد لها أنْ تشهد للحراك الإصلاحيّ على مستوى العالم في هذه المحطّة المهمّة من محطّاته وهي ذكرى انطلاقته مع قدرته على المشاركة فهو غير جادٍّ في موقفه من نصرة المطالب العادلة، وكأنّه لا يهمّه شيءٌ من أمرها، وهذا أقلُّ ما يمكن أنْ يُقال عن هذا الموقف السلبيّ المتخاذل.

عظيمةٌ أنتجت ما هو عظيم:

تلك هي ثورة الإمام الخميني على الوضع الجاهليّ المتخلّف من صنع الشاه في إيران فجاءت نتائجها مثلها عظيمة.

كانت ثورةً عظيمة بمبدئيّتها الإلهيّة، ورساليّتها الإسلاميّة، وبقائدها الشرعيّ المتميّز الذي كان من صنع الإسلام العظيم، وخرّيج مدرسة أهل البيت عليهم السلام الأصيلة الصادقة.

وكانت عظيمة بالنخبة الناضجة المخلصة الواعية، وبقاعدتها الشعبيّة العريضة المؤمنة الوفيّة المضحية، وبالالتفاف الواثق القويّ من النخبة والقاعدة بقيادتها الكفوءة الموحَّدة النموذجيّة ذات البصيرة الدينيّة والميدانيّة النافذة والمتفانية في سبيل الله بدرجةٍ عاليةٍ نادرة.

وجاءت نتائج الثورة عظيمةً من جنسها، وأذكر هنا بعض الأمثلة لنجاحاتها:

  1. أهمُّها الاحتفاظ بالنقاء الذي كانت عليه الثورة في مرحلة الدولة، والتزام الخطّ الذي آمنت به في أصعب الظروف رغم ما كان عليها أنْ تدفعه ضريبةً لهذا الثبات والمبدئيّة الصادقة وهي ضريبةٌ باهظة عانت منها الحكومة والشعب معًا وهي ضريبةٌ يفرضها الوضع الجاهليّ والغطرسة الاستكباريّة التي تتحكّم في مقدرات العالم وتستسلم لها كلّ الدول.
  2. التلاقي العمليّ الرائع في مرحلة الدولة بين اعتبار رأي الشعب واحترام إرادته في كلّ مفاصل الحكم ومؤسّساته، وبين الحفاظ على سلامة الطرح الشرعيّ في مجال بناء الحكم والدولة بعيدًا عن تأثير كلّ الضغوطات الشادّة والقاسية.
  3. بقاء التلاحم القويّ بين الشعب ومبادىء ثورته ونظامه الحاكم وقيادته المؤمنة الشرعيّة الكفوءة والملتحمة شديدًا بالإسلام رؤية ومنهجًا وعملًا كلّ هذه المدّة من عمر الدولة المباركة، والحضور الشعبيّ العارم في دعم الحكم والأطروحة والقيادة رغم كلّ المعاناة والعقوبات الظالمة وحملات التشويه والتشكيك المستمرّة التي تستهدف البعد بالجماهير عن خطّ ثورتها وقيادتها.
  4. الانتقال بالشعب الإيرانيّ من العصبيّة القوميّة بأفقها الضيّق الخانق كأيّ عصبيّة من عصبيّات الأرض إلى الفضاء الرحب الذي يتمتّع به أهل الرساليّة السماويّة.
  5. التقدّم العلميّ والثقافيّ والتقنيّ والاجتماعيّ وفي سائر الأبعاد الإيجابيّة البنّاءة الذي أحرزته وتحرزه باستمرارٍ هذه الثورة في مرحلة الدولة التي انبثقت من رحمها وكانت معها في كلّ المواقف.
  6. حالة الاستقرار الذي تنعم به الدولة رغم كثرة الأعداء، وشدّة التربُّص بها، وخبث محاولات الزعزعة وشراستها مع مرور هذه المدّة الطويلة والتي لن تتغيّر بإذن الله تبارك وتعالى.
  7. النقلة الكبيرة التي أحدثها التقدّم الواسع في الموقع الإقليميّ والعالميّ للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران حتّى صار لها حضورها الفاعل على مستوى السياسة العالميّة بعد أنْ كانت أيّام الحكم المتخلّف قبل الثورة من الذيول التابعة الذليلة لسياسة الاستكبار العالميّ وهي اليوم تعيش مجد الاستقلاليّة المتميّزة.
  8. إيقاظ الروح الثوريّة الرافضة للظلم والعبوديّة والاضطهاد عند عددٍ كبير من شعوب الأمّة والعالم.
  9. بعث الرؤية الإسلاميّة عامّة وفي مجال الحكم وإيقاظ الضمير الإسلاميّ في أوساط الأمّة الإسلاميّة.
  10. تعزيز الثقة بالذات في أمّة الإسلام، وتنشيط روح العزّة والكرامة والاستقلال والانعتاق.
  11. تحوُّل مفجّر الثورة ومؤسّس الدولة وقائدها الأوّل بإيران من خندق إسرائيل وداعمٍ رئيسٍ لها في المنطقة إلى خندق القضيّة الفلسطينيّة ونصيرها الأوّل من بين كلّ الدول الإسلاميّة، ومضت الدولة مستقيمة على هذا الخطّ بلا تردُّدٍ إلى اليوم متحمّلةً مشاكل جمّة في هذا السبيل.

إنّها الثورة التي أعطت دولةً تتوالى انتصاراتها من دون هزائم، وهكذا هو الإسلام في ثورته ودولته ونتائجها. فلتطلب الأمّة كلّ الأمّة عودتها للإسلام([23]).

رحم الله المؤمنة الكريمة أسماء التي ودّعتها قلوب المؤمنين المفجوعةُ لتكون شاهدًا جديدًا على الوحشيّة والاضطهاد الذي يتعرّض له هذا الشعب على يد من يُفترض أنْ يكونوا حماةً له.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا، وأرحامنا، وقراباتنا، وجيراننا وأصحابنا ومن علمنا علما نافعا في دين أو دنيا من المؤمنين والمؤمنات.

اللهم أعزّ هذه الأمة بالتحصُّن بقلعة الإسلام، وانصرها بانتصارها لك، وأخرجها من كل مآسيها باتباع منهج دينك، والتزام شريعتك يا رحمان يا رحيم، يا من هو على كل شيء قدير.

اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([24]).

 

[1]– 22/ الروم.

[2]– الكافي ج5 ص373 ط3.

[3]– عيون الحكم والمواعظ ص282 ط1.

[4]– المصدر السابق ص26.

[5]– من البرّ.

[6]– مصباح المتهجد ص757 ط1.

[7]– المعجم الأوسط ج6 ص97.

[8]– هوى خير.

[9]الكافي ج5 ص374 ط3.

[10]– تحف العقول ص323 ط2.

[11]– قريبك، لكن بدل أن يكون بينكما ائتلاف يكون بينكما خصام واحتراب.

[12]– الكافي ج2 ص345 ط4.

[13]– المصدر السابق.

[14]– تحف العقول ص85 ط2.

[15]– الكافي ج5 ص398 ط3.

[16]– سورة التوحيد.

[17]– هتاف جموع المصلين (ثورة ثورة حتى النصر).

[18]– من دون هذا لا بداية صحيحة للديمقراطيّة ولا أساس لها.

[19]– هتاف جموع المصلين (لبيك يا فقيه).

[20]– لا تقف على التلّ وتنتظر نتائج رابحة.

[21]– وهو أن اضطهدت وظلمت وعزلت.

[22]– قبل أن نرفع أيدينا بالدعاء لله بالنصر علينا أن نلتزم بأمره ونهيه.

[23]– هتاف جموع المصلين (لبيك يا إسلام).

[24]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى