معرفة الله تعالى (الحلقة الأولى)

آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات، فالحديث في معرفة الله سبحانه:

من أين تبدأ المعرفة؟

لا وجود على الإطلاق إلَّا واللهُ مبدؤه ومنتهاه، ولا معرفةَ لأيّ مخلوق من الإنسان وغيره من غير إلهامٍ منه عزّ وجلّ، ومن غيرِ منافذَ تُوصِلُ إليها موهبة من عطائه إذ كلّ شيء من دونه فقير ذاتًا في وجوده، وكلِّ ما لَه، وكلّ أَثَرٍ من آثاره، ونعمة من نِعَمِه، وخطوةِ رقيّ تتحقّق له.

فالإنسان وهو يخضع لهذا الفقر الشَّامل كسائر خَلْق الله غير مكلَّف بأن يوجد منابع معرفته ومنها معرفتُه لربّه تبارك وتعالى، أو أن يؤسّس من نفسه لنفسه أيَّ معرفةٍ لا يملك لها منبعًا ولا آلة توصله إليها.

ومن هنا كان لابد كي يعرفَ الإنسان[1] أن يُوجِد الله سبحانه له المعرفة أو أن يمدّه بوسائل توصله إليها.

وقد تكفّلت العناية الإلهية بمنح الإنسان درجة من المعرفة، وبوسائل تمكِّنه من المزيد من المعرفة، وتبلوُرِ المعرفة.

وقد غَرَسَ سبحانه معرفته في نفوس عباده، وأعطاهم من أدواتها ما يُصحِّح تكليفهم بالتوسُّع فيها وطلب المزيد حسب ما وَهَبَ لكلّ عبد من ذلك على أنه لا معرفة لأحد من خلق الله عزّ وجلّ يمكن أن تُحيط به علمًا، أو تُدرك حقيقة ذاته أو صفةٍ من صفاته.

وكيف تبدأ معرفةُ الإنسان لربّه العظيم الجليل، وماذا وَهَبَ ربُّه له من وسائل تركّزها ونموّها وتوسُّعها؟

المبدأ الفطرة:

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[2].

{صِبْغَةَ اللَّهِ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ونَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}[3].

{وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ…}[4].

والفطرةُ لغة الخلقُ والإيجاد.

والآية الأولى تتحدّث عن أنَّ الدّين وأولُه معرفة الله سبحانه مفطور عليه الإنسان وداخلٌ خَلْقةً في عجينة إنسانيته.

أصلُ الدين، والمنطلق الأوّلُ، والأساسُ الذي يقوم عليه بُنيانه من معرفة الله عزّ وجلّ وتوحيده شيء من تكوين الإنسان، وبُعْدٌ أصيل خَلْقةً من أبعاد إنسانيته لا سعي له فيه[5]، ولم يُكلَّف بطلبه[6]، وإن كان استكمال فهم الدّين محتاجًا إلى السعي العلميّ من الإنسان الذي رزقه الله وسيلة من العقل المدرِك المستدِلِّ الذي وهبه له.

فمن مواهب الله الكبرى لهذا المخلوق قوّةُ الإدراك والاستدلالِ والانتقالِ بالتفكير المنطقيّ من المقدّمات إلى النتائج، ومن حاصل العلم إلى جديده، وكذلك بديهيات العقل من مثل حاجة المعلول إلى العلّة، وعدم تأخُّر المعلول عن علّته، وعدم اجتماع النقيضين مما يُمثّل الأصول التي يعتمد عليها السعيُ العلميُ عند الإنسان وبناءُ معرفته.

أضف إلى ذلك أصول السّلوك الصّحيح، والأخلاق الكريمة عنده، وكذلك دوافعَه المعنوية الرفيعة، وشوقه الذي لا ينقطع إلى الكمال.

والآية الثانية تتحدث عن صبغة الله، وأنَّ الإنسان قد صبغه ربُّه الخالق المبدع بصبغة الدّين والتوحيد، ووفّر له هذا النّور في أصل خلقه.

وتلك الصبغة بها طُهْر الإنسان وجماله وروعته ورفعته، فإنْ ضيّعها وتخلّى في سير حياته عنها تخلّى عن كلّ طُهْره وجماله وهداه.

ولا صِبْغةَ يمكن أن تأخذ مكان هذه الصبغة وتقوم مقامها وتعطي ما لها من عطاء.

ولا يمكن فرض صبغة أحسنَ من صبغةٍ من صنع الله تبارك وتعالى.

هذه الصبغة العظيمة كما في الحديث هي الإسلام. ”ففي صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عزّ وجلّ {صِبْغَةَ اللَّهِ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} قال: الصبغة هي الإسلام”[7].

والمسيحيون يغسلون المولود في يومه السابع بماءٍ عمودية، وبذلك يعطونه الطهارة كما يقولون ولكن أين هذا من طهارة عقل وقلب وروح من خَلْقِ الله في عجينة إنسانية الإنسانية؟!

طهارةُ بدن خارجية عابرة تزول بأدنى سبب أينها من تلك الطهارة الثابتة في باطن الإنسان ولا تنفكُّ عن خلقته وإن حاول أن يطمسها الأشقياء من أبناء الإنسان ويطفئوا نورها لتكون عليهم بسوءِ اختيارهم حُجّةً من دون أن ينتفعوا بها؟!

ومن وحي فطرة التوحيد ومعرفة الله عزّ وجلّ في الإنسان تجده لا يتخلَّف ولا يتردّد في الإجابة على سؤال من خَلَقَ السماوات والأرض وحيث يتخلّى عن جحوده وعناده ولا يخضع لجاهليّته منطلِقًا من محض الفطرة عن الجواب بأنه الله، وهو إذا عاند مكابرًا أجاب داخله[8] أنّه الله لا شريك له.

والحديث عن الرسول وآله صلَّى الله عليه وعليهم أجمعين غنيٌّ ببيان فطرة الدّين الحقّ والتّوحيد في كيان الإنسان كما أثبت ذلك القرآن.

عن الإمام الباقر عليه السلام: ”قال رَسولُ اللّهِ صلى الله عليه وآله: كُلُّ مَولودٍ يولَدُ عَلَى الفِطرَةِ؛ يَعني عَلَى المَعرِفَةِ بِأَنَّ اللّهَ عز وجل خالِقُهُ، كَذلِكَ قَولُهُ: {وَ لَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[9].

فهذا الجواب جواب الفطرة، وهذا ما تنطق به على لسان الطفل عندما يرده هذا السؤال ما لم تتدخّل التربية الفاسدة في التشويش عليه وحرفه[10].

وعن زرارة:سَأَلتُ أبا جَعفَرٍ عليه السلام عَن قَولِ اللّهِ عز وجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[11] قالَ: ”فَطَرَهُم عَلى مَعرِفَتِهِ أنَّهُ رَبُّهُم، ولَولا ذلِكَ لَم يَعلَموا إِذا سُئِلوا مَن رَبُّهُم، ولا مَن رازِقُهُم”[12].

وعن الإمام علي عليه السلام: ”اللّهُمَّ خَلَقتَ القُلوبَ عَلى إِرادَتِكَ، وفَطَرتَ العُقولَ عَلى مَعرِفَتِكَ، فَتَمَلمَلَتِ الأَفئِدَةُ مِن مَخافَتِكَ، وصَرَخَتِ القُلوبُ بِالوَلَهِ، وتَقاصَرَ وُسعُ قَدرِ العُقولِ عَنِ الثَّناءِ عَلَيكَ..”[13].

وعن الإمام الرضا عليه السلام: ”بِصُنعِ اللّهِ يُستَدَلُّ عَلَيهِ[14]، وبِالعُقولِ تُعتَقَدُ مَعرِفَتُهُ، وبِالفِطرَةِ تَثبُتُ حُجَّتُهُ”[15].

فالعقول مشدودة شدًّا لا ينفكُّ ومن خلقتها – وتبقى على ما خلقت – بمعرفة بارئها سبحانه، فكلّما حَضَرَ العقلُ حضرت معه معرفته لله الذي أودعه معرفته[16].

ومهما جحد الجاحدون بالله فإنَّ معرفتهم الفطريّة به، والتي أودعها في كيانهم وأصمّ عن ندائها الأكثر منهم سوءُ ما كسب على نفسه، وما شوّهت التربيةُ المنحرفة من داخله ناطقةٌ عند الوقوع في الشدّة التي لا يجدون مَخلَصًا منها من كلّ الأسباب، وفي كلّ الحِيَل حيث يثور عندئذ في النفس الجاحدة قبل ذلك تطلُّعٌ صادق إلى القادر الذي لا تحكمه الأسباب، ولا يمتنع عليه شيء[17]، وهو مطّلع على جميع الخلق، ولا يغيب عن علمه شيء. وليس من هو هكذا إلا الله سبحانه وتبارك وتعالى[18].

عن الإمام العسكريّ عليه السلام: ”(اللّهُ) هُوَ الّذي يَتَأَلَّهُ إِلَيهِ عِندَ الحَوائِجِ وَالشَّدائِدِ كُلُّ مَخلوقٍ عِندَ انقِطاعِ الرَّجاءِ مِن كُلِّ مَن هُوَ دونَهُ، وتَقَطُّعِ الأسبابِ مِن جَميعِ ما سِواهُ[19]. والتألّه التعبّد.

وتألُّه العبد إلى الربّ العزيز العليم الرحيم عند الشدّة[20] بالانقطاع إليه، والاستعانة به، والتوكّل عليه[21].

خطبة الجمعة (الخطبة الأولى) / 28 ربيع الآخر 1435هـ – 28 فبراير 2014م

—————————————————-

[1] أي كي يقدر على المعرفة.

[2] 30/ الروم.

[3] 138/ البقرة.

[4] 38/ الزمر، 25/ لقمان.

[5] الإنسان لم يسع لإيجاد هذا الأصل وإنبات هذه المعرفة وغرسها.

[6] نحن نُكلَّف بمثل الصلاة والصوم، ولم نُكلّف بأصل معرفة الله عزّ وجلّ. نعم أُعطينا القدرة على التوسُّع في معرفته، والتركيز الأكبر لمعرفته في قلوبنا فنكون مكلفين بذلك.

[7] الكافي، ج2، ص14، ط4.

[8] رغمًا عليه.

[9] التوحيد للشيخ الصدوق، ص331.

[10] وهو حين يسألك من خالق هذا الكون؟ فهو يؤمنُ في داخله وبكلّه بأن هذا الكون لابد له من خالق.

[11] ما هو معناها؟

[12] بحار الأنوار، ج3، ص279، ط2 المصححة.

[13] بحار الأنوار، ج92، ص403، ط3 المصححة.

[14] هذا طريق آخر.

[15] عيون أخبار الرضا (ع)، ج2، ص136.

فأصلُ الحجة على الإنسان في معرفة الله هو ما وهبه الله عز وجل من هذه الفطرة خلقا.

[16] لا معرفة لي بالله عز وجل معناه لا حضور للعقل عندي.

[17] وهو يحكم الأسباب، وهو خالق الأسباب.

[18] هو لا يُسمّيه الله عز وجل، لكن يتطلّع قلبه، وتنشدّ نفسه إلى ذلك القادر العليم الذي لا يمتنع شيء، ومن هو ذلك الذي يشير إليه أو الذي ينادي به قلبه وتعجّ إليه نفسه في تلك اللحظة الحرجة الحاسمة؟

[19] التوحيد للشيخ الصدوق، ص231.

[20] ما هذا التألُّه؟ يُصلّي؟ يصوم؟ لا.

[21] وهذه هي حقيقة ولبّ التعبُّد.

زر الذهاب إلى الأعلى