خطبة الجمعة (587) 29 ربيع الأول 1435هـ – 31 يناير 2014م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : الأُلفة

الخطبة الثانية : لك أن تضحك.. لك أن تبكي – البحرين الأولى، البحرين الأخيرة – وداعًا أيها المظلومون

 

الخطبة الأولى

الحمدلله الذي يُعقِب الليل بالنهار، والنّهارَ بالليل، ويُنزل القطرَ ويُحيي به مَيتَ البلاد، وهو مُحيي الأحياء ومميتها وباعثُها بعد الموت، وتجدُ كلُّ نفس ما قدّمت من خير أو شرٍّ عنده مُحضَراً، ولا يفوت علمَه شيء، ويجزي كلّ نفس ما كسبت، ولا يظلم ربُّنا أحداً.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

عباد الله اليومَ عمل وغداً جزاء، واليومَ السِّباق، والفوز غداً، وقد تكون الأمة الواحدة، والمجتمع الواحد، والأسرة الواحدة اليوم غداً أُمّتين، ومجتمعين، وفريقين. هذا في جنة وذاك في النّار، وما ذلك إلاّ من جنس ما يُقدّم الناس في هذه الحياة لأنفسهم من عمل.

فلا ننسى المصير وخطره، وحياة البقاء وعَدم انقطاعها، وعظمةَ النعيم وشدّة العذاب الذي لابد من موافاته بعد الممات. ولنحسن العمل، ونصلح النية، ولا شيء من ذلك إلاّ بأن يأتي العملُ كما أمر الله وموافياً لرضاه، وأن يكون عمل الخير من أجله.

اللهم إنا نسألك حياةً خالية من سوء العمل، وفساد النيّة، وخُبث الطوّية، وشرّ المنقلَب، واجعل حياتنا زاهرة كلّها بعمل الخير وصلاح النية وسلامة القصد، وطُهر السريرة برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم صل على خاتم أنبيائك ورسلك، المجاهد في سبيلك، والناشر للواء دينك، والذائد عن حريم شريعتك، والسبّاق في ميادين طاعتك محمد بن عبدالله الصادق الأمين وآله الطيبين الطاهرين.

أما بعد فالحديث في موضوع الأُلفة:

أهمية الألفة:

الألفةُ مطلبٌ أساس لبناء المجتمعات المتماسكة الصَّالحة، ولا يمكن أن يُبنى مجتمع من هذا النوع بعيداً عن حالة الائتلاف.

فمن تشمئز منه نفسك كيف تقبل على معاشرته فضلاً عن الدخول معه في تعاون دائم وتكامل في الأدوار؟! الدخول في تعاون وبناء مشترك يحتاج إلى انسجام، إلى ثقة، إلى ائتلاف.

إنَّ من أراد أن يبني مجتمع التعاون والتناصر والتضامن لابد له أن يبحث عن أسباب الأُلفة بين الأفراد والوحدات الاجتماعية المختلفة والتقائها أولًا وإلا طلب النتيجة من غير الطريق، وما نالها، وتآلف القلوب ينقل الجماعة من الفرقة والعداوة إلى التّوحد والمحبة.

يقول سبحانه في كتابه العزيز:{… وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا…}([1]).

وعن الأُلفة التي أقامها الإسلام بين قلوب أهل الإسلام والإيمان بأُسسه ومفاهيمه ورؤاه وأحكامه وخُلُقه وقِيمه ومنهجه القويم نقرأ هذه الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة 192 من نهج البلاغة([2]):“فإن الله سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة فيما عَقَدَ بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلِّها([3])، ويأوون إلى كنفها([4])بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنها أرجح من كل ثمن، وأجلّ من كل خطر”([5]).

وكما أنَّ أُلفة القلوب حيث تقوم على أسبابها الكريمة وتُوحِّد بينها على الطريق القويم تبني الجماعة الصالحة المتماسكة، وتقيم البناء الاجتماعيّ الشّامخ النافع فإنَّ ذهاب هذه الألفة وذوبانها يُحطّم هذا البناء ويُهيره.

فما جاء تكملة للكلمة السابقة لحكيم الأمة بعد نبيها صلّى الله عليه وآله وهو أمير المؤمنين عليه السلام هو“واعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا، وبعد الموالاة([6]) أحزاباً. ما تتعلّقون من الإسلام إلاّ باسمه، ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه”([7]).

حدث تخل عن الإسلام وهو الرباط الصالح المتين بين القلوب ومؤلّفها فخسرت الجماعة أُلْفَتها فصارت من بعد الموالاة والمحبّة والتناصر والتضامن بين أفرادها إلى أحزاب وشراذم متعادية متقاتلة.

ويتبيّن من ذلك أن بناء المجتمع الصالح المتماسك والمتضامن يبدأ من البحث عمّا يؤلف بين القلوب ويوحّدها ولا يملك هذا الصنع كالإسلام الذي يجمع القلوب على توحيد الله تبارك وتعالى، ويجمع عمل جوارح العباد على طريق طاعته وبناء المجتمع الإنسانيّ الرّاقي الطّاهر الذي يرتضيه.

ونلتقي مع هذا المضمون في أكثر من مقطع من الخطبة 192 من نهج البلاغة ومنها:“فانظروا إلى مواقع نِعَم الله عليهم حين بعث إليهم رسولاً فعَقَدَ بملّته طاعتهم([8])، وجمع على دعوته أُلفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفّت الملة بهم في عوائد بركتها. فأصبحوا في نعمتها غرقين، وعن خضرة عيشها فكهين….”([9]). والخطبة تتحدث عن عزٍّ وقوة ونصر وملك وسيادة وكرامة وعلّو شأن مما تُؤدي إليه ألفة القلوب وتوحّدها على الدين الحق([10])، والمنهج الإلهي الصدق، والقيادة الإلهية المختارة([11]).

وعن الضعف والمهانة والذلّ والتشتّت والانحدار والتبعيّة الخسيسة في التخلي عن دين الله، والمنهج السّماويّ، والقيادة العليمة الأمينة الكفوءة التي اصطفاها لعباده.

المنطلق للقوة، للنصر، للعزّة، للنفوذ، للبناء، للمجد العريض الصالح للمجتمع، وللألفة الكريمة البناءة المصلِحة التي تعطي كل ذلك إنما هو الاهتداء بهدي الله، والأخذ بدينه، والتزام منهجه الذي اختاره لحياة النّاس، واتّباع القيادة الربانية التي أمر بها([12]).

ولا يجتمع الهدى، وكمال الإنسان والرقي والنصر والعزة، وغضارة العيش وكرامة الحياة لأيّ مجتمع إنساني إلا عن هذا الطريق لا غيره على الإطلاق، ولو تكثّرت التجارب، وتعدّدت المحاولات، ودخلت مليون أطروحة على خلاف ذلك حيّز التنفيذ في حياة المجتمعات([13]).

مطلب صعبٌ ومهَّمة شاقة:

إذا نظرت إلى قضية تأليف القلوب في نفسها وجدتها صعبة يشقّ على طالبها من الناس تحقيقها. وتقف كثير من الأسباب الفاعلة عاجزاً دون أن يحقق فيها النجاح المطلوب على أنه ليس لأي سبب من الأسباب فاعلية إلاّ بأن يريد الله عز وجل له ذلك.

المال يمكن أن يستميل قلباً لقلب، ويوجد عاطفة انجذاب إليه ولكن لا يملك أن يفعل شيئًا من هذا دون إذن الله وتوفيقه.

يقول الكتاب العزيز:{… لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}([14]).

المال والفضل والإحسان من وسائل تأليف القلوب وتأثيرها الشأنيّ([15])، أما تأثيرها الفعليّ وكأيّ وسيلة أخرى وفي أي مورد من الموارد إنما هو بإذن الله([16]).

وفي صعوبة تأليف القلوب يأتي هذا القول عن أمير المؤمنين علي عليه السلام:”إزالة الرَّواسي أسهل من تأليف القلوب”([17]).

والاختلاف في مستوى الأرواح طُهراً ورجساً، والتحاماً بالحقّ ونأيًا عنه يجعلها تتنافر ويستوحش بعضها من بعض وتتباعد.

وتقاربها مستوًى في درجة الإيمان أو استواؤها فيه يوجد بينها الائتلاف والتعاطف والمحبّة ففي الرسالة عن الإمام الصادق عليه السلام في رسالته إلى أصحابه من أهل الحق:“عليكم بمجاملة أهل الباطل.. ولولا أن الله يدفعهم عنكم لسطوا بكم، وما في صدورهم من العداوة والبغضاء أكثر مما يبدون لكم، مجالسكم ومجالسهم واحدة وأرواحكم وأرواحهم مختلفة لا تأتلف، لا تحبونهم ولا يحبونكم”([18]) فالحق والباطل يباعدان بين قلوب أهليهما بمقدار ما هما متباعدان. وتجاور الأجساد لا غنى فيه مع تباعد الأرواح، وتبايُن محتوى القلوب فيما هي عليه من حقٍّ وباطل.

وفي حديث الأمالي عن سدير قلت لأبي عبدالله عليه السلام وهو الإمام الصادق:“إني لألقى الرجل لم أره ولم يرني فيما مضى قبل يومه([19]) ذلك فأحبّه حبّاً شديداً فإذا كلّمتهُ وجدته لي على مثل ما أنا عليه له، يخبرني أنه يجد لي مثل الذي أجدُ له([20]).

فقال صدقت يا سَدير إن إئتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا وإن لم يُظهروا التودّد بألسنتهم كسرعة اختلاط قطر السماء على مياه الأنهار([21])، وإنّ بُعد إئتلاف قلوب الفجّار إذا التقوا وإن أظهروا التودّد بألسنتهم كبُعد البهائم من التعاطف وإن طال إئتلافها على مذود واحد”([22]). والمذود مَعلف الدابّة.

فالمجتمع الإنسانيّ الذي يريد لنفسه الأُلفة الصادقة والوحدة الحقيقية وضمان ذلك عليه أن يسلك بكل أبنائه طريق البناء الروحيّ السّليم والتلاقي على منهج الله وعبادته([23])، وإلا كان طلبه بلا سعي، أو كان سعيه على خلاف ما يطلب، ومن كان كذلك لا يصل إلى ما طلب.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم أخرج أُمّة الإسلام من الفرقة إلى الاجتماع، ومن الشّتات إلى الاتحاد. وحدّ ربنا قلوب أبنائها وصفوفهم على هدى دينك وتوحيدك، واتّباع شريعتك.

اللهم شدّ قلوب المؤمنين إلى الإيمان شدّاً قويّاً، واربطها برباطه ربطاً محكماً، واجعل كلمتهم واحدة، وسعيهم إليك، وجهادهم فيك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا قريبًا عاجلًا يا قويّ يا عزيز يا رحمان يا رحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا،  فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}([24]).

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي تعرَّف لعباده ليهتدوا لطاعته، ويسلكوا طريق رحمته، وتستقيم ذواتهم على الحقّ، وتكمُلَ ما أمكن لها من الكمال، فتنال ما أعدّه لها من جنّته، وتفوز بالكرامة لديه. والحمدلله الذي امتنع بكماله المطلق، وعظمته التي لا تتناهى عن أن يحيط بذاته علم مخلوقاته، أو تدرك كنهَهُ معرفتُهم، أو يقرب له منهم وهم، أو يدنو لهم من حقيقته خيال.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

عباد الله نفس تطلب الخير لنفسها لا تعاندُ الله خالقها ومالكَ أمرها ولا تعصيه، وإن تفعل فقد اختارت لنفسها شقاء لا تحميها منه قوة. ومن لم يمسسه عقاب الله لعناده ومعصيته في الدّنيا، فقد أُجِّل له العذاب الأغلظ يوم يلقى ربّه، ويوافي الحساب.

وما سَعِدت نفس، وما شَقِيت إلا بما كسبت لها أو عليها وما أتت في دنياها من خير أو شر.

فلنفعل الخير لنجد لأنفسنا عند الله خيراً فوق الحِسبان، وننال منه الكرامة فوق ما نتمنى، ولتطلب كلّ نفس لنفسها النجاة من عقاب الله الشّديد بالفِرار من معصيته، وعدم الوقوع في معاندة أمره ونهيه.

علينا عباد الله بتقوى الله الذي لا مالك لضرٍّ ولا نفع في دنيا أو آخرة غيرهُ، وليكن كلّ جدنا في طلب رضاه.

اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم اجعل لنا من رحمتك هدًى لا نضِل بعده، وتوفيقًا لا خذلان منك لنا معه، واستقامة على طاعتك لا ميل يُخالطها، ولا انحراف عن طريقك بعدها أبدًا يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على خاتم أنبيائك ورسلك الصادق الأمين محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزَّهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا دائما قائما.

أما بعد أيها الأحبّة في الله فإلى أكثر من عنوان:

لك أن تضحك.. لك أن تبكي:

لك أن تضحك لو كان الهدف من الحكم المتخذ من السلطة في حق المجلس الإسلامي العلمائي هو مصادرة النشاط الدينيّ، وتعطيل حركة الدّين على الأرض توصّلًا للقضاء عليه، لأن هذا ضربٌ من ضروب الخيال، وتفكيرٌ من تفكير الأطفال أو المجانين([25]).

أسقط الدين كل محاولات الجبابرة وسلطات الجور في الأرض من شرقٍ وغرب دون أن تقضي عليه، أو توقف عملية تبليغه والدعوة إليه. وأبى علماء الأمة الأمناء على الدّين الحقّ أن يلينوا لشيء من هذه المحاولات اليائسة العابثة واستخفّوا بأهلها، ووقفوا لها بالمرصاد، مواصلين عملهم الرّسالي في أمانة واصرارٍ وقوة واندفاع.

ولك أن تبكي للسياسة التي انطلق منها الحكم بإلغاء المجلس العلمائي لما هي عليه من واقع العبثية الصّارخة في بلد الإسلام والإيمان والصّلابة الإيمانية، عبثيةٌ طالت كلّ المقدسات ونالت بسُخفها كلَّ حرمة.

       طالت الأموالَ والدماءَ والأعراض والقرآن والمسجد والحسينيّة، والموقع الرئيس لتبليغ دين الله سبحانه في هذا الوطن، ولم ترعَ حقًا، ولم تعرف قيمة لأيّ مقدّس.

وأقول لكم إنّ غلق المجلس العلمائي قرارٌ قديم ومنذ أن فرض على الأرض ولادتَه على خلاف إرادة السلطة التي أيقنت من وعيه وإيمانه وصدقه وإخلاصه لإسلامه ووطنه أنه لا يوافق سياستها.

هذا القرار قديم، وقد اختير لإعلانه هذا التوقيت الخاص محاولة لقطع الطريق على دعوة حوارٍ قد تُفضي بمقتضى نوع الظروف القائمة إلى إصلاحٍ مطلوبٍ لسلامة الوطن.

وطال التشبّث في محاولة إيجاد مخرجٍ شكليّ لحلّ المجلس بعدم شرعيّته القانونية لعدم استناده إلى إجازةٍ من الجهة الرسمية. ونحن لا نناقش هذا التشبُّث بما يُقرّره الدستور المعتمد من قبل السلطة نفسها من حقّ الحريّة الدينيّة وشعائر الدين، لأننا سواءٌ قرّر الدستور ذلك أو لم يُقرّره فلا تنازل منّا أبدًا عن ديننا الحق([26])، ولا توقُّف لنا في الأخذ به على إذنه([27]). ولا شأن لنا بتجويز دساتير الأرض كلّ الأرض ومنعها لدين الله بعد تلقّي الأمر الإلهي به، وما يدفع إلى امتثاله من منطق العقل، وهدى الفطرة.

       ومتى احتاج دين الله إلى إذن أو إجازة من سلطات الأرض حتى تحتاج إلى ذلك شرعية مؤسسة من مؤسساته، وعملية تبليغه، والدّعوة إليه، والتبصير بمفاهيمه، ورؤاه، ومقتضياته، والتربية للمجتمعات على أحكامه وأخلاقه، والدّفع في اتّجاه التمسك به؟!([28])

ومتى اعتمدت الشعائر والواجبات الدينية في هذا البلد على الضّوء الأخضر من السلطة، وانتظرت إذنها، أو توقّفت لمنعها([29])، حتى تأتي المحاولة بعد المحاولة لفرض الهيمنة على الدّين وتبعيته للقرار السياسي وهوى السياسة؟!

وإنه للأمر الذي يأباه الوعي الديني لهذا الشعب وتمسّكُه بالعروة الوثقى لدينه.

ويكفينا دين الله حجة ومرجعًا ومستندًا، ولا نحتاج للاحتجاج بقانونٍ ولا دستور وإن كان الدستور مع الحرية الدينية وحقّ التعبير عن الدّين وممارسة شعائره.

فليس بعد دين الله من يُستفتى أو ما يستفتى فيما يجب أو يحرم، وما يجوز وما لا يجوز من كل أمور الحياة، وشؤون الأفراد والمجتمعات. ودين الله مع المجلس العلمائي والمؤسسات المماثلة ومع وجوبها في الحالات التي لا يتمّ القيام بعملية التبليغ وبيان أحكام الشّريعة وإيضاح العقيدة إلا بها.

وواضحٌ كلَّ الوضوح أنّ قضية المجلس العلمائي قضية دينٍ وشعب والنيل منه نيلٌ من حقِّهما وحرمتهما، وأنَّ الحكم المتّخذ ضدّه حكمٌ سياسيّ طائفيٌ عدائيٌ بغيضٌ ترتكبه السلطة في سياق محاولات لا تنقطع لإحداث شرخٍ طائفيٍّ خطير في بناء هذا الشعب الكريم، ولامتحان غيرة المؤمنين، ولإفساد أي محاولة فيها شمّة الاقتراب الأوليّ من قضية الإصلاح.

إنّ تغييب المجلس الإسلامي العلمائي الذي لن يغيب دورًا، وستبقى عودته مطلبًا ملحًا ودائماً إلى نشاطه العلنيّ باسمه الصريح، ولن ينساه الشعب والعلماء، إنما هو جزئية من وضعٍ سياسي فاسدٍ محتاجٍ بالضرورة للإصلاح([30]).([31])

البحرين الأولى، البحرين الأخيرة:

تستطيع أن تقول بأن البحرين هي الأولى من بين ما أُطلق عليه دول الربيع العربي، من حيث السبق الزّمني حراكًا سياسيًّا وذلك بلِحاظ أنه بعد الدستور الجديد غير المتوافق عليه والذي لم يؤخذ فيه رأي الشعب بدأت المطالبة بدستورٍ نابع من إرادة الشعب وموافقته، ولم تعد حالة الهدوء الذي سبقته على حالها، وبدأ التحرُّك قبل العام الحادي عشر بعد الألفين بالتقويم الميلادي([32]).

وبينما يمكن عدّ البحرين هي الأولى حراكًا سياسيًّا ومطالبةً عملية من قِبَل الشعب بردّ الحقوق التي سلبتها السلطة والاصلاح فهي الأخيرة والتي لا زالت تمتنع من تقديم أي استجابة للاصلاح من بين الدول الأخرى التي أعطت السلطات فيها – ما كان قد سقط منها([33])، وما جاء مكانه مباشرة، وما زال على مكانه الأول – لونًا وآخر من الاستجابة لعملية التغيير، إلا أنَّ البعض وهي السلطات التي أُقبِرت قد تأخرت باستجابتها التي قد تُبقيها لو جاءت مبكرةً في وقتها المناسب إلى ما بعد فوات الأوان([34]).

تونس شهِدت ما شهدت من تغييرات متدرّجة، اضطر في آخرها الطرف الذي انتخبته الأكثريَّة أن يعطي تنازلًا للطرف الآخر رُضوخًا للغة الواقع.

ليبيا أسقطت نظام القذافي وصار شيئًا مما كان وانتهى ولا زالت تعيش مخاضات صعبة إلى أن تنتهي إلى النتيجة التي تستقرّ عندها، ولن تستقرّ إلا بتوافق القوى الفاعلة القادرة سواء كانت على حقّ أو باطل.

اليمن وصلت إلى صورة من التغيير الذي بعدُ لم يستقر بعدما سقط حكم علي صالح المستبد الذي ضاقت به أكثرية الشعب.

مصر سقط فيها حكم حسني مبارك، وجاء سقوطٌ آخر لحكم مرسي، وبعد لم تستقر فيها الحال.

المغرب بادرت السلطة فيها بصورة سبقت تصاعد الأحداث إلى صورة من التفاهم والاصلاح الذي هدّأ من زوبعة جارفة خافت منها السلطة السقوط.

الأردن تستبدل حكومة بعد حكومة، محاولةً لتهدئة الأوضاع وتحاول أن تتحاشى استعمال القوة الباطشة في مواجهة الشعب حذرًا من ثورةً عارمة جارفة.

البحرين وحدها هي التي لا زالت السلطة فيها تراهن على استعمال القوة لإسكات صوت الشعب، وتواصل الإفراط في استعمالها وتمتنع عن الإصلاح، وتعتمد لغة القمع والشدّة.

 وهل تمتاز السلطة في البحرين عن كلِّ السلطات الأخرى وتمتلك ما لا يمتلك غيرها مما يسمح لها أن تشذّ في مسارها عن الجميع، وتتنكر لقضية الإصلاح والتغيير ما شاءت وزيّن لها المزيّنون؟!

لا يظن أحدٌ ذلك. وكل ما لدى السلطة هنا من وسائل القمع والتنكيل والقتل والتعذيب موجود عند السلطات الأخرى التي أجبرتها الأوضاع على ما أجبرتها وفرضت عليها ما لا تريد.

واذا سجّلت آلة القمع فشلها الواضح أمام إرادة الجماهير وأسقَطَ الإفراط في استعمالها عدداً من الأنظمة فيما سُمّي بالربيع العربي فهل سيُثبت في البحرين([35]) وحدها نجاحه ويحول دون إصلاحٍ أو تعديل؟!

هذا لو كان فإمّا لخصوصية في السلطة وقوتها، ولا خصوصية تمتاز بها في ذاتٍ ولا قوة، وإما لخصوصية نقصٍ في الشعب والشعبُ هنا من أوعى الشعوب، وأصبر الشعوب على المقاومة، ومن أسخاها بذلاً وتضحية في سبيل حقه وعزّه وحريته وكرامته([36]).

واذا كان من تصوّرٍ لأحدٍ بأن استمرار أزمة الوطن ينفعه، أو لا يضرّه اليوم ولا غداً، وأنَّ ضررها إنما هو على غيره، وأنّ من مصلحته هو أن يعرقل أي محاولة للإصلاح فهو غارق في الوهم جدًّا.

وكذلك من يتصوّر أنه يمكن له أي يُنهي الأزمة وقد بلغت هذا الحد بمعالجة سطحية مازحة وشبه إصلاحٍ كاذب. الواقع الذي لا شك فيه أنَّ الكل متضررٌ من استمرار الأزمة، وكلٌ مُصيبُه منها أثر، ومن لم يرَ هذا اليوم لابد أن يراه مع استمرارها وتفاقمها، وأنَّ السلطة مثل غيرها تُعاني وتخسر وتفقد من مصلحتها الكثير كلما طال أمدها.

وداعًا أيها المظلومون:

ودّعَتْكَ يا فاضل قلوبُ أبناء الشعب مفجوعةً بك، كما ودَّعَتْ مفجوعةً قبلك الكثير من شباب هذا الوطن وشيبه ورجاله ونسائه في مغادرتكم لهذه الحياة على طريق العزة والكرامة والمطالبة بالحق والعدل، ولتكونوا مشاعل على طريق الحرية والانعتاق والاستمساك بالدين.

وداعًا يا فاضل إلى رحمة من الله الكريم وجنة ورضوان بمنّه العظيم.

وداعًا يا شهداء هذه الأرض الطيبة جميعًا، والشعبُ لا ينساكم ولا ينسى أن يواصل الجهاد في سبيل دينه الذي لا عزّ ولا كرامةولا شيء من نصرٍ بحقٍّ بدونه، ولا غياب لشيءٍ من خيرٍ اذا انتصر.

وداعًا أيها المظلومون ولكم الجنة إن شاء الله، والنار لمن ظلم([37]).

اللهم افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله . اللهم إن لم نكن أهلاً للنصر فلا تجازنا بما نحن عليه من تقصير، ولا تحرمنا نصرك يا كريم، يا رحمان، يا رحيم .

اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفك أسرنا وسجناءنا، وأرجع غرباءنا سالمين غانمين في عز وكرامة.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([38]).

 

[1]– 103/ آل عمران.

[2]– الألفة لا تُصنع اعتباطًا ومن أيّ طريق، الألفة تُصنع على أساس عقيدة، على أساس منهج قويم، على أسس خلق كريم، على أسس متينة من هذا النوع.

[3]– انتقال آمن، الحركة الآمنة في مجتمع ما إنما تكون في ظلّ أُلفة، تُعطي الثقة، تُعطي الاطمئنان، تُعطي الأمن.

[4]– الكنف: الجانب.

[5]– نهج البلاغة ج2 ص154، 155 ط1.

[6]– كان أحدكم يوالي الآخر، يُحبّه، يتعاون معه على الخير، ينصره، ينصحه.

[7]– المصدر السابق.

هنا لابد من تفكّك اللحمة، هنا لابد من الانهيار، هنا لابد من الضعف، هذه هي النتائج.

[8]– هي طاعة المنهج الإلهي.

[9]– نهج البلاغة ج2 ص153، 154 ط2.

غمرتهم النعمة فصاروا في حالة ارتياح وأنس.

[10]– بهذا القيد.

[11]– هذا هو مضمون الخطبة إذا استكملنا قراءتها.

[12]– هذا هو الطريق، وأي طريق آخر هو طريق غير سالك لهذه النتائج.

[13]– كل ذلك لا يجدي.

[14]– 63/ الأنفال.

[15]– وهناك فرق بين أن يؤثّر الشيء حسب شأنه، أن يملك الشيء حسب شأنه وطبيعته ومقتضاه التأثير، وبين أن يؤثر فعلا.

[16]– مقتضاها الشأني بإذن الله، تأثيرها الفعلي بإذن الله تبارك وتعالى. ويبقى بعد إعطائها قابلية التأثير أن يأذن الله فعلا بالتأثير الفعلي. وإلا فالنار لها مقتضى التأثير لكنها لم تؤثر على إبراهيم عليه السلام فعلا.

[17]– بحار الأنوار ج75 ص11 ط12 المصححة.

[18]– الكافي ج8 ص2، 3 ط4.

ليس شيئا إراديا. قلب طاهر لا يمكن أن يلتحم بقلب فيه رجس. وقلب يملؤه الرجس لا يمكن أن يلتقي مع قلب كلّه طهر. هذه هي الحقيقة.

[19]– أول مرة يلقاه.

[20]– أجد منه حبًّا كحبّ له. وهما امرءان لم يلتقيان إلا اللحظة.

[21]– اختلاط المطر بمياه الأنهار لا ينتظر، بلا فاصل.

[22]– الأمالي للشيخ الطوسي ص411 ط1.

[23]– فلنتعلّم! تُفكّرون في مجتمع متآلف متضامن متلاحم خذوا بالإسلام، التزموا منهج الإسلام، وإما أن نشرّق ونغرّب ونخالف الإسلام سلوكيًا ونطلب مجتمع المحبة والتآلف فهذا خيال.

[24]– سورة النصر.

[25]– هتاف جموع المصلين (الله أكبر، النصر للإسلام، معكم معكم يا علماء).

[26]– افرض أن الدستور يمنع تبليغ الدين، فهل نتمثل؟ طبيعي لا.

[27]– لا يوجد عندنا توقّف عن ديينا وعن تبليغه على إذن الدستور، لا ننتظر إذنه، ولا نمتنع لمنعه.

[28]– كما أنّ الدين لا يحتاج إلى إذن فكلُّ ما فيه خدمة الدين، وكلّ ما يوجبه الدين لا يمكن أن يتوقّف عند المسلم الحقّ على إذن أهل الأرض. (هتاف جموع المصلين “لن نركع إلا لله).

[29]– مُنعت في يوم من الأيام كلّ مظاهر المذهب، وبقي المذهب، واستمرّ برغم كل الظروف حتى فرضت هذه الشعائر نفسها.

[30]– هتاف جموع المصلين (لبيك يا فقيه).

[31]– أمّا التعلُّل في غلق المجلس الإسلامي العلمائي والحكم الصادر بهذا الشأن بأن المجلس يُشجّع على العنف، يشجّع على الإرهاب فذلك لشيء واحد، منطلق ذلك أن السلطة ترى أن المطالبة السلمية بالحقوق إرهاب وتُعاقب عليه.

[32]– وهو عام الثورات العربية والحراك العربي.

[33]– يعني السلطات التي سقطت، والسلطات التي لم تسقط.

[34]– حسني مبارك أعطى تنازلات لكن بعد فوات الأوان، زين العابدين بن علي أعطى تنازلات لكن بعد فوات الأوان، قذافي – ليبيا – بدأ يعطي لينا إلا أنه بعد فوات الأوان.

[35]– أي استعمال القوة القامعة.

[36]– هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).

[37]– هتاف جموع المصلين (بالروح بالدم نفديك يا شهيد).

[38]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى