خطبة الجمعة (585) 15 ربيع الأول 1435هـ -17 يناير 2014م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : إمامة المسلمين

الخطبة الثانية : ذكرى المولد النبوي الشريف وأسبوع الوحدة الإسلامية – ماذا على الشعب وماذا على السلطة – ما كلّ إصلاح فيه حلّ

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي لا يأتي على مُلكِه زوال، ولا ينقصه كثرة النَّوال، ويحكم الأحوال، ولا تحكمه الأحوال، ولا يُغيّره ليلٌ أو نهار. تقديره أدقُّ تقدير، وتدبيره خيرُ تدبير، أحكم الحكمِ حكمُه، وأعدل القضاء قضاؤه، ولا رادّ لما حكم، ولا ناقضَ لما قضى، ولا مُغيّر لما قدّر.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله لقد رَزَقنا الله بمنّه وكرمه أسماعًا وأبصارًا وأفئدة، فلا نُفسِد على أنفسنا هذه النعم الكبرى الهادية باتباع الهوى ومطاوعة النفس الأمّارة بالسّوء، ومن استسلم لهوى نفسه وغواية الشَّيطان فقد لحق بالبهائم الضّالة السَّائمة في هذه الحياة، ثمّ كان مآله أنه وقود للنّار في الآخرة.

       ولا تُطلب البصيرةُ كما تُطلب في الدّين، ولم يُصَبِ الرشد كما يُصاب باتباعه، ولا مأمن للنفس من زيغها كما لو أخذت بتقوى الله فلنسلُكْ مسلكَ الصّالحين وأهل النّهى في كلّ ذلك.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم إنّا نسألك الصَّلاح والاستقامة والنُّجْح والفلاح. اللهم لا تُفسِد لنا عقلا، ولا تُزغ قلبًا، ولا تُضِلّ منّا نفسا، ولا تزلّ لنا قدمًا، ولا تُسئ عاقبة.

       أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فهذا حديث في موضوع إمامة المسلمين:

       ما من موضوع يَمَسُّ حياةَ الإنسان ويُؤثّر على واقعها، وعلى غايتها وعاقبتها إلّا ونال الاهتمام من الإسلام.

       وقد امتلكت موضوعات أربعة الاهتمام الأكبر منه رابعها موضوع الإمامة وأولها التوحيد الذي لا ينفصل عنه العدل الإلهيّ المطلق، وذلك نظرًا لشدّتها في الأهميّة.

       وقد تركّزت أحاديث متواترة في موضوع معرفة الإمام وأهمية الإمامة، وعدَّ الكثيرُ منها من مات وهو لا يعرف إمام زمانه أنه مات ميتة جاهليّة. ويُطالعك بهذه الأحاديث المتواترة كلٌّ من المصادر السنيّة والشيعية حتّى لا تدع لك شكًّا في أهمية المسألة أهمية بالغة واهتمام الإسلام فيها الاهتمام الذي لا يطرقه شكٌّ على الإطلاق.

       وقد جاء التركيز على هذه القضيّة بألسنة متعدّدة، وقد كثر من بينها هذا اللسان الذي يُصرّح بأن من مات من غير إمام أو لا يعرف إمامه أو لا إمام له مات ميتةً جاهلية، وتشترك في هذا اللسان مصادر الشّيعة والسُّنة كذلك.

       من ذلك:

       عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:“مَن ماتَ ولا يَعرِفُ إمامَهُ، ماتَ ميتَةً جاهِلِيَّةً”([1]).

       وعنه صلّى الله عليه وآله:“مَن مات بِغَيرِ إمامٍ ماتَ ميتَةً جاهِلِيَّةً”([2]).

       وكذلك:“مَن ماتَ ولَيسَ عَلَيهِ إمامٌ حَيٌّ يَعرِفُهُ، ماتَ ميتَةً جاهِلِيَّةً”([3]).

       “مَن ماتَ ولا إمامَ لَهُ، ماتَ ميتَةً جاهِلِيَّةً”([4]).

       وعن الإمام عليّ عليه السلام:“مَن ماتَ ولَيسَ لَهُ إمامٌ ماتَ ميتَةً جاهِلِيَّةً، إذا كانَ الإِمامُ عَدلاً بَرّا تَقِيّا”([5]).

       وعن الإمام الباقر عليه السلام:“مَن ماتَ ولَيسَ لَهُ إمامٌ ماتَ ميتَةً جاهِلِيَّةً، ولا يُعذَرُ النّاسُ حَتّى يَعرِفوا إمامَهُم”([6]).

       ويتساءل المسلم عن منشأ هذا الاهتمام العظيم من الإسلام بأمر الإمامة.

       وبيانُ حاجة الإسلام، والأمّةِ الإسلامية إلى الإمامة ووظائفها يُنهي التساؤل من هذا النوع لما في ذلك من إجابةٍ شافية لمن أراد الوصول إلى الحقّ وكان على استعداد للإذعان له والتسليم له.

  1. نعرف أن الإسلام قد جاء ليبقى النّور الهادي الذي يقود حركةَ الحياة على وجه الأرض ما دام للإنسان حركةٌ على ظهرها، وبحيث لا يُخالطه ظلام، ولا يتعرّض إلى تشويهٍ وانحراف.

وبقاءُ الإسلام كذلك يحتاج إلى ضمان، وضمانُ ذلك فَهْمٌ مأمون معصوم للإسلام لا ينقطع بانقطاع الوحي، ومرجعية إسلامية واحدة لا يشتبه عليها الإسلام في شيءٍ قاطِعةٌ لكلّ حجة، ومنهيةٌ كلَّ نزاع، ومانعةٌ من التعدّدية في الرأي والقول الحجّة، وموحّدة لفهم الدّين الذي على المسلم أن يتعبَّد به، ويتّخذه حجة بينه وبين ربّه.

ولا ضمان كذلك إلا بوجود الإمامة بعد الرَّسول الخاتم صلّى الله عليه وآله واستمرارها، ووحدة الإمام في كلِّ عصر من عصور الأمَّة، وجيل من أجيالها.

  1. ونعرف أنَّ الإسلام لم يأت ليُفهم ويُكتفى بفهمه، وإنما جاء – وكما تقدّم – ليقودَ فهمُه حركةَ الحياة، ويُقيمَ نظامَه العادلَ الهاديَ الذي تستقيم به الأوضاع في الأرض، وتسلك المسيرةُ الإنسانيَّة طريقها صاعدةً إلى أعلى درجة ممكنة لها من الكمال في اتجاه الخالق العظيم.

وهذا ما يحتاج إلى الإمامة والإمام مما يُحوّل إسلام القرآن والسُّنة في فهمهما الواقعي إلى واقع شاخص، وحركة حيَّة، وأوضاع مشهودة، وإنسان عابد راقٍ عظيم([7]).

والآن نسأل هل يَحتمل عقل، أو يَقبل ذوق، أو تسمح نظرة موضوعية بأن يكون الاهتمام الواسع البليغ المكثَّف من الإسلام بأمر الإمامة والإمام حتى لَيَكون من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة في نظره ناشئًا عنده ومنطلِقًا من تقديره واحترامه لإمامة الجاهل بأمر الدّين([8])، والفاسق عنه، والمتهاون فيه، والمقدِّم لنفسه عليه، أو المصيب مرّةً لمراده والمخطئ أخرى([9])، والذي كما يهدي يُضِلّ، وكما يُرشِد يُغوي، وكما يُصيب يَتيه، وكما يَقود الأمَّة إلى الله عزّ وجلّ في موقف يبتعد بها عنه سبحانه في موقفٍ آخر، ويكون هذا الإمام هو الإمام الذي ارتضاه الله سبحانه دليلًا إليه، وقيّمًا على دينه، وأمينًا على عباده، وهاديًا إلى مرضاته؟!([10])

وهل يدخل في عقلك، أو يستذوق وجدانك، أو يمكن لك أن تجد شاهدًا واحدًا من واقع دين الله في كلّ تاريخه، أو تجرأ أن تنسب إلى عظمة الله وعلم الله ولطف الله وحكمته ورحمته وعدله أن يوُكِل حِفْظَ دينه، وضمان البقاء لصفاء وحيه، ونقاوة شرعه، والأمانة الكبرى، والوظائف العملاقة للإمامة التي كان لا يُحمّلها([11]) ولا يتحمّلها إلا رسله المصطفَون العظاملمن لم يُحط بالإسلام علمًا شاملًا صائبًا، ولم يكن معصومًا عِلمًا، وشعورًا، وإرادةً، وتطبيقًا وعملًا؟!

وهل ترى أن يُقدِّم الله سبحانه في هذا الأمر العظيم أو فيما دونه من الأمور الكريمة جاهلًا على عالم، وفاسقًا على عادل، وناقِصًا على كامل؟!

وهل مَنْ اقتضت حكمته أن يُوجِد الرُّسل المعصومين لوظيفة حفظ الدين على واقعه في كلّ مراحل وصوله وتبليغه وبقائه وتطبيقه تخلّفت حكمته، أو تغيّرت قدرته، أو خفّت رحمته ورأفته، أو قلَّ اهتمامه بدينه فَعَدَلَ به شيء من ذلك عن إيجاد الأئمة المعصومين الذين يحفظون الدّين ويصونونه علمًا وعملًا كما كان على ذلك رسله؟!([12])

حاشا لكمال الله المطلق أن يتهم بقصور أو تقصير.

والحمد لله ربّ العالمين.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم أنزل برحمتك في قلوبنا نورًا لا تعشو معه أبصارها أبدًا ما أحييتنا، وثبّتنا على طريقك القويم وصراطك المستقيم حتّى نلقاك يا حنّان، يا منّان، يا محسن، يا متفضّل، يا جواد، يا كريم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([13]).

 

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي هدانا لدينه، ودلّنا على طريق أنبيائه ورسله، وجعلنا من المصدّقين بأئمة دينه وصادقي أوليائه، وحمانا من الضَّلالة، وسدَّ عنّا أبواب الغواية. الحمد لله على نِعَمِهِ كلّها حمدًا لا عدَّ له، ولا حدّ.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله من طَلَبَ الهداية من الله وَجَدَ سبيلها، ويسّرها الله بكرمه إليه، ومن اهتدى بهدى ربّه الحقّ لم ينقصه هدى، ولم تركبه ضلالة، ولم يفُتْه خير، ولم تصبه خسارة.

       ومن طلب الهدى من غير الله لم يجد له سبيلا، والسَّائر في الحياة على غير هدى من ربّه في ضلال، وما سار أحدٌ في طريق الضلالة إلّا كان نصيبه الضياع والخسار.

       وطالبُ الهدى من الله ليس له إلَّا أن يسلك طريقَ دينه، ويطلب منه أن يمدّه بنور من عنده، ولا يُفارقَ تقواه. وما خاب مَن أخذ بذلك.

       اللهم صل وسلّم وزد وبارك على خير خلقك محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم إنّا نعلم أنه لا هدى لنا إلّا من عندك، ولا نور إلّا من نورك، ولا عونَ إلّا من لدنك فاهدنا بهداك، ونوّر قلوبنا بنور من عندك، وأمّدنا بعونك وتوفيقك، فإنّا إليك مضطرون، وإليك ضارعون وأنت أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزَّهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد أيها الأحبّة في الله فالحديث في موضوعات ثلاثة:

       ذكرى المولد النبوي الشريف وأسبوع الوحدة الإسلامية:

       هذه أيام ذكرى المولد النبوي الشريف وأسبوع الوحدة الإسلامية التي بناها الدّين الحقّ على يد خاتم الرّسل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، والتي لا بقاء لها إلا ببقاء الإسلام عقيدة وشريعة.

       وما ثُلِمَ الإسلام، وما ابتعدت عنه الأمّة إلّا وانثلمت وحدتها، وابتعدت عن حقيقة الوحدة، وأخذ بُنيانها في التصدّع.

       وليس من كارثة على وحدة الأمّة بأشدَّ من أن يُكفِّر بعضها بعضًا بعيدًا عن موازين الإسلام نفسه حتّى ليكونَ من نتيجة التكفير الظالم أنه إذا استفحل أمرُه، وسرى ظاهرة واسعة في صفوف الأمّة وبنحو تبادل التُّهَم ضاع على أوساط الأمّة أن تُميّز بين كفر وإيمان، وما هو إسلام وغيره، وأدَّى ذلك أن تضيع هُويّة الأمّة في نظر أبنائها، ولا تعرف شخصيتها، وأن تُستباح بينهم الحرمات.

       وظاهرة التكفير اليومَ أخذت تزحف بقوة وتوسُّعٍ في أوساط الأمة وتُولِّد العنف والإرهاب، بل تُنتج البهيميّة والوحشيّة، والخروج على مقتضى الطبيعة والذوق الإنسانيّ العام، وتفعل الأعاجيب من ألوان السّقوط الأخلاقي والسفه والسرف في التهتّك باسم الإسلام وتحت راياته المزوّرة، وتحت مظلّة إمارته وزعامته المكذوبة.

       وبدأت حياة الرعب تأخذ امتداداتها في حياة الأمَّة وتُغطِّي مساحات واسعة منها من فعل هذه الظاهرة السقيمة.

       وقد شَعَرَ صانعو ظاهرة التكفير ومهندسوها من ساسة الأمة وخارِجِها ممن أعمت الدنيا بصيرتهم بأن مكرهم السيء بدأ يُهدّدهم بالمحق ولكنهم لا زالوا يمكرون.

       التكفير ومهندسو التكفير وقادة التكفير من علماء وأمراء الحروب التكفيرية يهدمون اليوم ما بناه الإسلام ورسول الإسلام من الوحدة والمحبَّة والأمن والسلام.

       فيا جماهير الأمة انتبهوا وتداركوا أمر هذه الأمة ووحدتها قبل فوات الأوان، واقطعوا على كلّ التكفيريين، أمنيتهم في تمزيق الأمة كلّ مُمزَّق وإنهاء وجودها.

       وإنَّ من جهل منهم ليس أقل خطرًا ممن قصد عامدًا عالمًا لارتكاب هذا الإثم وإغراق الأمة في الفتن من أجل دنياه وملكه وثروته وشهرته وحماية سلطانه.

       لا محيد لجماهير الأمة التي تعتزّ بإسلامها وتهدف لعزّتها، وتُقدّم قول الربّ على المربوبين من أن تأخذ بخطابه سبحانه لأهل هذا الدّين حيث يقول:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا…}([14]) ويُعلم أن أولئك الأخوان([15]) ليسوا على درجة واحدة من فهم الإسلام، والالتزام به، والتضحية من أجله، والتخلّق بخلقه([16]). وإلا لم يكن الموصوف في الآية بالأخوّة إلا من كانوا يشتركون في العصمة، على أن أهل العصمة يتفاوتون في ما بعد أفقها العالي في درجات القرب الإلهي مما هو محلّ السباق([17]).

       والكلُّ لابد أن يعرف أن الإسلام وأنَّ منه ما هو حدّ أدنى فيه جامع للأمة ما دامت تعيش الحياة على الأرض([18]).

       ماذا على الشعب وماذا على السلطة:

       البلد تعيش أزمة حادَّة لا يُنكرها أحد، ووضعًا استثنائيًّا مهدِّدًا لها، وتقف بين مستقبلين؛ مستقبل أشدّ بؤسًا، وأقتم ظلامًا، وأثقل وأخطر في ظلّ استمرار الأزمة وتفاقمها، ومستقبل التعافي من الأزمة والخروج من نفقها الأسود، والتخلُّص من آثارها الوبيئة ولو من بعد حين.

       فماذا تختار الأطراف التي يضمّها هذا الوطن وكلُّ هذه الأطراف متضرّرة؟ ماذا تختار لمستقبلها، ومستقبل وطنها، ومستقبل الأجيال اللاحقة بها من أبنائها: مزيدًا من الخسائر، والكوارث والرعب والتفكّك والانهيار الذي يقف للوطن بالمرصاد، والشقاء الذي يتوعّد الأجيال القادمة، أو وضعًا جديدًا يُخلِّف وراءه واقع الحاضر المأساويّ، وظلمته السّوداء، وينطلق بحياة هذا المجتمع على خطّ العدل والمساواة والاستقامة الدينيّة والإنسانيّة لتحفَل بالخير والرَغَد والتّقدُّم والرُّشد والهدى والسَّعادة؟([19])

       ولا ينبغي لأحد أن ينسى ما يتهدّد البلاد الإسلامية كلّها اليوم من خطر موجة التكفير العارمة المنطلقة بنارها ورُعبها ودمارها وجاهليتها ووحشيتها انطلاقة مجنونة زاحفة لا تنذر إلا بمزيد من التفكُّك والدمار وسفك الدماء وهتك الحرمات وتشتيت الأمة وإغراقها في محيط مهلك من الفتن الشِّداد.

       وإنّ كلَّ ذلك لَيَضع الكلّ أمام مسؤولية دينية ضخمة، ووطنية وإنسانية كبيرة تُحتِّم العمل على الحفاظ على ما تبقَّى من سلامة الأوطان وأمن الإنسان ومكانة الدّين، ولغة الأخلاق، وكرامة الإنسانية وعزّة الأمة ووحدة أبنائها، وإلّا فكلُّ شيء من ذلك إلى هباء.

       وإذا اخترنا أن نقف بالحديث عند مسؤولية أهلِ البحرين عن الأزمة المتصاعِدة التي تعبث بحاضرها وتحرقه، وتُهدِّد بكارثة أكبر لتدمير مستقبلها فهنا مسؤوليتان: مسؤولية السلطة من جهة، ومسؤولية الشعب والمعارضة.

       ومسؤولية كل طرف بمستوى ما يملك، وما تتسع له إمكاناته، وتنهض به قدرته، وبقدر ما بيده من حقٍّ اغتصبه من الآخر، وما عليه أن يمتنع عنه مما يزيد في درجة الاشتعال للأوضاع.

       ما تملكه المعارضة كلّ المعارضة هو أن تستقيم على طريق السلميَّة، وتستمر على التزامها بنبذ العنف وإدانته والتحذير من الإرهاب، وأن لا تغيّر من هذا الموقف المبدئي، ولا تميل عنه([20]).

       وليس بيد المعارضة شيء سلبته من السلطة سلطةً أو ثروة استحوذت عليه ظلمًا، واستأثرت به ليكون عليها إرجاعه. الشعب في هذا الأمر مطالِبٌ لا مطالَب.

       أما المظاهرات والاعتصامات ومختلف الاحتجاجات السلمية التي يُمارسها الشعب في مطالبته بحقوقه المسلوبة من أمنٍ منتهك، ودور سياسيّ مغيَّب، وعدل مضيَّع، ومساواة مطموسة، وحريّة مقهورة، وشعائر دينية ملاحقة، وقيمة إنسانية مهدورة، وكرامة وطنيّة مسحوقة وغير ذلك فهي إنما تُمثّل رأس المال الوحيد الذي بيده([21]) والوسيلة المشروعة دينيًّا ودستوريًّا وأخلاقيًّا وقانونيًّا وعلى مستوى العرف الدّولي واللغة العملية المقبولة في مجال الاحتجاج على المظالم في أوساط العالم ولا يُعدّ ذلك ظلمًا ولا عدوانًا ولا إثارةً للفتنة، ولا بَعثًا ولا نشرًا لروح الكراهية والفُرقة. وما يعدّ ظلمًا وعدوانًا هو سلب هذا الحق أو مضايقته.

       على أنَّ هذه الوسيلة السلمية في مواجهة الظلم لها موضوعها من فساد الأوضاع، واغتصاب الحقوق، والتضييق على الحريات والتي لابد أن تنتهي حالما ينتهي موضوعها، وتنتفي بانتفائه([22])، ويُستغْنَى عما لا تدعو إليه الظروف.

       وماذا تملك السلطة، وماذا تتحمل من مسؤولية، وماذا عليها أن تفعل؟

       تملك أن تعترف للشعب بحقّه السياسيّ في اختيار سلطته التشريعية والتنفيذية وصيغة دستوره الذي يحكم حياتَه وأن تُمكّنه عمليًّا من إعمال هذا الحقّ عبر عملية انتخابية حرّة تتساوى فيها أصوات الناخبين من أبناء هذا الوطن الواحد الذين لهم ممارسة هذا الحق بلا منٍّ ولا جميل لإنتاج مجلس نيابي يُمثّل إرادة الشعب بحقّ، ويتمتع بصلاحيات كاملة في مجال التشريع والرقابة ويتحمَّل مسؤوليته في ذلك أمام ربّه أولًا ثم أمام شعبه ووطنه من غير أن يتم الالتفاف على هذا الحقّ من مجلس شورى معيّن وبأيّ صورة من الصّور، كما له أن يُنتج الدّستور الذي تظهر فيه الإرادة الشعبيّة واضحة سافرة ناطقة جليّة.

       وللشعب رأيه التطبيقي المحترم الذي يؤخذ به في تشكيل الجهاز القضائي المستقل، وحقّ المشاركة المتساوية حسب الكفاءة والأمانة لا غير في كلّ أجهزة الدولة، ومرافقها ومؤسساتها بلا تفريق بين طائفة وأخرى، وهذه الفئة وتلك الفئة.

       ولا أرى من منصف أن يُسوِّغ لنفسه الاعتراض على هذا المنطق بعد القول بأنَّ الشعب مصدر السلطات وبعد تقديم العدل على الظلم.

       وواضح أن ما تتطلّبه ضرورة الواقع، وصالح الوطن، ومنطق الحقّ أن يُسارَع إلى إصلاح حقيقي شامل وبأقصى درجة ممكنة من السّرعة إنقاذًا لهذه الأرض وإنسانها من مضاعفة الأزمة، وما يجرّه ذلك من عاقبة أشدّ سوءًا، وأثقل وطأة، عاقبة تستعصي على كلّ الحلول المجنونة، ولا حلّ في أسلوب مجنون.

       الإصلاح ضروري، والإسراع به ضروري كذلك، لكن ما يجري على الأرض من جديدِ تضاعفِ أعداد المعتقلين، وصدور الأحكام المغلَّظة باستمرار في حقِّ المتهمين، ونشاط سوق المحاكمات بما لا يكاد يَعرِفه بلدٌ آخرُ في الدّنيا، ومطاردة التعبير عن الرّأيّ السياسيّ، وما يأتي من أخبار مفزعة فيما يتعلق بالتضييق على السجناء ومعاناتهم، والاستمرار في تغييب العلماء كما حصل أخيرًا لسماحة السيد محمود الموسوي وانقطاع أخباره بعد أخذه في مداهمةٍ لمنزله صاحَبَها حسب النقل المتداول مصادرة مقتنياته…. ما يجري من ذلك كلّه ومن استهدافٍ لقدسية المساجد، وتعدٍّ على مقام الصحابيّ الجليل صعصعة بن صوحان العبدي مناقِضٌ كلّ المناقضة لما يحتاجه الوضع من إصلاح لا يقبل يومُه التّسويف.

       ما كلّ إصلاح فيه حلّ:

       الإصلاح الشكليّ والسطحي لا يمثل الحل.

       الإصلاح الذي لا تضمن استمراره ضمانات عملية ودستورية كافية لا يمثّل الحلّ.

       والإصلاح الذي يقوم على تقسيم المواطنة وواجباتها وحقوقها إلى مراتب حسبما يمليه هوى السلطة وتذهب إليه ميولها بعيدًا عن واقع المواطنة وصدقها لا يمثّل الحل.

       والإصلاح المقاس إلى أوضاع ما قبل مائة عام أو أكثر، وقبل الوعي والصّحوة، وتنبُّه الشعوب على كامل حقوقها، ويقظة الأمة الإسلامية على حقيقة إسلامها، وانبعاث الشّعور المقبور ظلمًا للحريّة، والانتفاضات الثورية المتتالية في الأمّة والعالم، والتضحيات الضّخمة المبذولة من الشعوب ومنها هذا الشعب الكريم على طريق الحريّة والانعتاق والعدل والمساواة لا يُمثّل الحل([23]).

       والإصلاح الذي يسمح بتغيير التركيبة السكانية عن طريق التجنيس الظالم الإضراري، أو يوصد أبواب مؤسسات مختارة من مؤسسات الدولة أمام أهل مذهب معيّن لا يمثّل الحل.

       الإصلاح الذي لا يُلغي التمييز بين أصحاب الحقّ الوطنيّ المشترك لا يمثّل الحل.

       الحل في أي بلد هو غير ذلك، وفوق كلّ ذلك ونقيٌّ كلّ النقاء من هذه العيوب.

       ولا حلّ في ما لا توافق فيه مع إرادة الشعب إذا أُريد للحل أن ينهي موضوع الأزمة القائمة بين السلطة وشعبها، ولا شكَّ في أن هذا هو الحاصل وأن هذا هو المطلوب([24]).

       والإصلاح له إرهاصاته وأجواؤه الممهِّدة ومناخه المعِدّ. ومن أهمّ ما يُمثّل جوًّا مبشِّرًا بالإصلاح تفريغ السّجون من كلّ نزّالها الوطنيين الأحرار من المطالبين بحقوق الشعب، وتصحيح لغة الإعلام التي تجاوزت كلَّ المعقول، وهبطت إلى الدَّرَك الأسفل، وأسهمت ولا زالت تُسهِم بدرجة عالية في حالة الغليان، وبثّ روح الكراهية وتغذيتها، وإحداث الفرقة، وتمزيق شمل المجتمع وبعثرة وجوده.

       نسأل الله عزّ وجلّ أن تصير حكومات الأمَّة إلى رشد، وأوطان المسلمين وهذا الوطن الكريم منها إلى أمن ومحبة وسلام، وأن يعمّ الهدى والصلاح أرجاء المعمورة، وينكفئ تيار الفتن، ويرجع إلى العدل بعد الظلم، وإلى الهدى بعد الضلال.

       اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.

       أستغفر الله لي ولكم ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين، اللهم اغفر لنا إنك أنت التواب الرحيم.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([25]).

 

[1]الكافي ج2 ص20 ط4.

 [2]مسند أحمد ج4 ص96.

[3]بحار الأنوا ج49 ص267 ط2 المصححة.

[4]موسوعة معارف الكتاب والسنة ج4 ص192 ط1.

[5] مسند زين بن علي ص361.

[6]كمال الدين وتمام النعمة ص412.

[7]– وتكفي هاتان الوظيفتان عن حكم ومهمات وضرورات أخرى ثابتة للإمامة.

[8]– هذه الإمامة التي هي محلّ اهتمام عظيم من الإسلام هي إمامة جاهل بأمر الدين؟ أيصحّ، أيُحتمل؟!

[9]– تجاوزنا إمامة الفاسق جميعا نحن المسلمين والجاهل بأمر الدين، لكن تأتي مرتبة أخرى من الإمامة هي مرتبة من يهتدي مرة لحكم الإسلام ويضل أخرى. أيمكن أن يكون اهتمام الإسلام بأمر الإمامة حتّى ليعدّ أنّ من مات مات ميتة جاهلية إذا لم يعرف إمام زمانه وأن يكون تعويله في أن تكون ميتة المرء ميتة إسلام وإيمان وعلى هدى وحق على هذا النوع من الإمام الذي قد يصيب مرّة ويخطئ مرة ومرات؟!

[10]– اعرض هذا على عقلك ووجدانك!

[11]– الله عز وجل.

[12]– وُجِد عجز، وُجِد تغيير في الحكمة؟!

[13]– سورة التوحيد.

[14]آل عمران/ 103.

[15]– الذين تحدثت عنهم الآية.

[16]– ومع ذلك كلّه فإنهم إخوان حسب الآية.

[17]– فلو كان الأعلى في إيمانه يستنكف عن أخوّة الإيمان العام لمن هو أقلّ منه لم يبق معنى للأخوّة ولا موضوع بين المسلمين على الإطلاق.

هتاف جموع المصلين (وحدة وحدة إسلامية).

[18]– من هم المسلمون؟ الذين يحرم دم بعضهم على بعض، عرض بعضهم على بعض، مال بعضهم على بعض، انطبق خاصة من أهل الإيمان، أم جامع الإسلام يجمع كل من قال بالشهادتين، ولم يظهر منه كفر بإنكار ما ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.

[19]– أيهما تختارون؟ أيهما تختار الحكومة؟ أيهما يختار كل فرد من هذا المجتمع؟

[20] هذا بيد المعارضة.

[21]– أي بيد الشعب.

[22]– وحالما ينتفي السلب والتضييق على الحريات والاستئثار بالثروة إلى آخر المظالم فحينئذ لا موضوع حتى لمظاهرة سلمية واعتصام سلمي.

[23]– حلّ متقدّم بالنسبة لما قبل مائة عام مضت لا يساوي شيئا اليوم بالقياس إلى موازين اليوم، إلى وعي اليوم، إلى صحوة اليوم، إلى التضحيات المبذولة اليوم.

[24]– الحاصل هو نزاع بين السلطة والشعب وليس بين السلطة وشرذمة قليلة، والحل في ما نال موافقة الشعب.

[25]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى