خطبة الجمعة (584) 8 ربيع الأول 1435هـ -10 يناير 2014م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : الأمل

الخطبة الثانية : داعية عنف أو إصلاح؟ – تسأل ونسأل – ماذا تقول التجارب؟

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي لا يمنع من عطائه ضِيقٌ في مُلكه، فمُلكه واسعٌ لا حدّ لسعته، ولا خوفُ نفادٍ أو نقصٍ لخزائنه فخزائنُ رزقه لا تنفد، وكثرة العطاء لا يُنقصها شيئًا. ولا يُغني ربُّنا عن جهل، ولا يُفقِر عن بُخل، وكلُّ فعله عن علم وعدل وحكمة، وإحسانُه شامل لأهل الطّاعة والمعصية، والفجور والتقوى، وكلٌّ يأكلُ من رزقه ويعيش في عطائه مَنْ شَكَرَه، ومَنْ يكفر بنعمته، وكلٌّ مسؤول عمّا أُعطي، ومُختبَرٌ بما رُزِق.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًأ.

       عباد الله من فعل المعروف أمِن، ومن فعل المنكر كان عليه أن يخاف، وأوّلُ ما يترتّب على فعل المعروف ارتفاع مستوى النفس، وأنَّ كلّ ما أتى منه كان خطوة لها على طريق الاستقامة والكمال، وهذا ما يجعلها مَرضيّة عند الخالق العظيم، ومستحِقّة لإكرامه وجنّته.

       وأوّلُ ما يفعله المنكرُ في النفس أن ينحدر بها، وأنَّ كل ما يكون منها من ارتكابه يُفقدها هدى، ويُدخل عليها الضَّلال، وينحرف بها عن خطِّ الحقّ والاستقامة. وكلُّ ذلك ينأى بها عن رضا الله ويُوقِعها في سخطه، فلا يكون لها من بعد أن يَتُمَّ ضلالها، وتخرج من كلِّ رضاه إلى سخطه راحمٌ في الأرض ولا في السَّماء، وليس لها إلَّا الخسرانُ المبين.

       فلنرغبْ عباد الله في عمل المعروف وتقوى الله عزّ وجلّ، ولنفرّ بأنفسنا عن عاقبة فاعلي المنكرات.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم لا تجعل لنا قُربًا من أيّ فعلٍ يُسخطك، ولا ميلًا لشيء من معصيتك، واجعلنا من أهل رضوانك الملازمين لطاعتك، المجاهدين في سبيلك، الصَّادقين في الأخذ بدينك، المستقيمين ما حيينا على صراطك يا رؤوف يا رحيم يا كريم.

       أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى حلقة أخرى من الحديث في موضوع الأمل:

       تصغُر آمال المرء فتصغُر به، وتتفَهُ عند ذلك حياتُه، حتى تنتهي بلا أثر كبير، بل لا تكون حصيلته من الحياة إلا حسرةً وندامة، وسُوءَ مصير.

       وكلُّ ما أُمِّل من دون الجنّة صغير، ومن غير رضوان الله حقير.

       والأملُ بلا سعيٍ يزيد صاحبه حسرة وندامة ويثير عليه من نفسه اللوم الشديد.

       ومن طال أمله في الدّنيا، وبنى على بقائها له، وبقائه لها ألهاه أملُه عن آخرته، وأعطى حياتَه وجهدَه لما أمَّله من دنياه. ولذلك حثَّ الحديثُ الشريفُ على تقصير الآمال المتعلّقة بالدّنيا التي لا بقاءَ فيها.

       وإلى ما مرَّ من حديث في ذلك يُضاف مثل ما عن الإمام عليّ عليه السلام:“قَصِّر أملَكَ، فَما أقرَبَ أجَلَكَ”([1]). وإنه ما من أجل وإن طال إلا وهو آتٍ، وكلّ آتٍ قريب.“أفضَلُ الدّينِ قَصرُ الأَمَلِ، وأفضَلُ العِبادَةِ إِخلاصُ العَمَلِ”([2]).

       نعم من قصُر أملُه في الدّنيا نَما عنده وترسّخ أمل الآخرة فحسُنَ دينه وعَمِلَ لآخرته ولم يُفارق منهج الدّين في شيء. وفي ذلك كمال العقل والفطنة كما يقول الحديث الآخر عنه عليه السلام:“الكَيِّسُ([3]) مَن قَصَّرَ آمالَهُ”([4]).

       وحتى تقصُر الآمال في الدنيا لابد من معرفةٍ وانتباه، ومعالجة لما قد يلمّ بالنفس من أوهام وأكاذيب، ولابد من موعظة لها عند تعرّضها للخطأ والانزلاق.

       وهذه أمور يذكرها الحديث عن أهل العصمة عليهم السلام فيها نجاة للنفس من التشبُّث بالآمال الدنيوية القصيرة الصارفة عن الآخرة:

  1. تذكُّر الموت ومباغتته:

عن رسول الله صلّى الله عليه وآله من وصيته لأبي ذر:“يا أبا ذَرٍّ، كَم مِن مُستَقبِلٍ يَوما لا يَستَكمِلُهُ، ومُنتَظِرٍ غَدا لا يَبلُغُهُ([5]).

يا أبا ذَرٍّ، لَو نَظَرتَ إلَى الأَجَلِ ومَسيرِهِ لَأَبغَضتَ الأَمَلَ وغُرورَهُ”([6]).

والأملُ الذي ينبغي للمؤمن أن يُبغضه هو أملٌ دنيويٌّ يُغرقه في العمل للدنيا من غير هَمّ الآخرة، لا ما كان فيه عمرانهما وبناء أمة إسلامية مؤمنة قويّة عزيزة راشدة([7]).

  1. معرفة النفس:

عن الإمام عليّ عليه السلام:“مَن عَرَفَ شَرَفَ مَعناهُ، صانَهُ عَن دَناءَةِ شَهوَتِهِ وزورِ مُناهُ”([8]).

ما صغُرت نفس على صاحبها، وهانت عليه قيمةُ ذاته إلّا دنت آماله([9])، وخسَّت أمانيه، وما عرف أحدٌ نفسه بما هو إنسان ومخلوق كريم لله سبحانه، وأنَّ له دورًا خلافيًّا كبيرًا في حياته، وعرف أنّ ذاته مهيئة باستعداداتها الممنوحة لها من ربِّه الكريم لأكبر السَّعادة وأبقاها بعد مماته إلَّا سَمَت آمالُه، واستطال طموحُه، ورمى بنظره إلى أُفُقٍ جليل رفيع بعيد، يتجاوز كلَّ فانٍ وكلَّ طَمع مما يتسع له كرم المخلوقين المحاويج المحدودين وكان له نظر لا يُشبعه إلا سعادةُ الأبد، ورضا الخالق العظيم.

معرفةُ النفس، وما هي عليه من شرف نفخة الروح الجليلة من الله سبحانه تحميها من أن تَأْسَنَ وتقف أمانيها عند دناءة الشَّهوة، وأن تتشبث بالمُنى الزور الكاذبة للدّنيا، وتتجمَّد عندها.

  1. الكيس: وهو العقل والفطنة:

عن الإمام عليّ عليه السلام:“أكيَسُ الأَكياسِ مَن مَقَتَ دُنياهُ، وقَطَعَ مِنها أمَلَهُ ومُناهُ، وصَرَفَ عَنها طَمَعَهُ ورَجاهُ”([10]).

من كان له عقل وفطنة ونظرة دقيقة لابد أن يعرف هوان الدّنيا، وتفاهةَ وزنها، وأنّها أشبه بالسّراب لو قِيست بالآخرة، وعندئذ لا تتعلّق آمال العاقل الفَطن بالدنيا الزائفة الفانية، ولا يبيع حياتَه بثمنها، ولا يشحّ عن دفع حياته فيها ثمنًا لسعادة الآخرة.

وصاحب العقل والفطنة لابد أن يعرف شرف نفسه الإنسانية وكرامتها، وقد تقدَّم أنَّ معرفة النفس لا تسمح إلّا بالأمل الكريم العظيم.

  1. موعظة النفس وتذكيرها:

       عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في وصيته لأبي ذر:“يا أبا ذَرٍّ، إذا أصبَحتَ فَلا تُحَدِّث نَفسَكَ بِالمَساءِ، وإذا أمسَيتَ فَلا تُحَدِّث نَفسَكَ بِالصَّباحِ، وخُذ مِن صِحَّتِكَ قَبلَ سُقمِكَ، ومِن حَياتِكَ قَبلَ مَوتِكَ؛ فَإِنَّكَ لا تَدري مَا اسمُكَ غَداً”([11]).

       لا يدري أحدنا عن اسمه غدًا وأنه فلان بن فلان أو الجنازة الفلانية، ومن التفت إلى هذه الحقيقة واتّعظ بها بأن لا يبني على مسلَّمة كاذبة من أنّ حياته ستوافي المساء وهي في الصباح، أو توافي الصباح وهي في المساء، وكان شديدًا من نفسه عليها أن تترك الاستسلام للآمال الدنيوية، وأن تستعلي على كلّ وهمٍ يقود إلى الانشداد للدنيا.

       وبحكم معرفة النفس الإيمانية بالعلاقة بين الدنيا والآخرة فإنها لن تُهمِل شأن دنياها الذي لا يُفسد آخرتها، بل كان مما يعينها على ربح الآخرة.

  1. مناهضة الآمال الواهمة:

       عن الإمام عليّ عليه السلام:“أنتُم في مَهَلٍ([12]) مِن وَرائِهِ أجَلٌ، ومَعَكُم أمَلٌ يَعتَرِضُ دونَ العَمَلِ؛ فَاغتَنِمُوا المَهَلَ([13])، وبادِرُوا الأَجَلَ، وكَذِّبُوا الأَمَلَ، وتَزَوَّدوا مِنَ العَمَلِ”([14]).

       قد يتسلَّل الأملُ الدنيويُّ الصَّارف عن الآخرة، والملهي عن الحقّ إلى نفس المؤمن في غفلةٍ من الغَفَلات، ويجد فرصةً لأن ينبت فيها إذا امتدّت الغفلة، وتُرِكت النفس لنفسها.

       وهنا يأتي دور المراقبة لهذه التسرُّبات المقبرة للنفس في سجن المادَّة، ودور المحاسبة، والمناهضة لما دخل النفس منها من أملٍ كاذب سقيم وتكذيبه في ضوء المعرفة الصَّادقة، وردّه بحزم.

  1. الدعاء:

       عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في دعاء الأسماء الحسنى:“يا كَريمُ أنتَ سَيِّدي ورَجائي وذُخري وذَخيرَتي وأمَلي، قَصِّر فِي الدُّنيا آمالي، وأدِم رَغبَتي إلَيكَ وآمالي”([15]).

       يسلك المؤمنُ طريقَ الأسباب في طلب الخير، ودرأ الشرّ، وإصلاح نفسه وتكميلها، لكن يبقى التعويل على الله سبحانه واللجأ إليه، والمداومة على الدعاء والانقطاع إليه حاجتَه التي لا أمد لها ووسيلته الثابتة لنجاح مطالبه، وما التمسُّك بالأسباب الأخرى إلا نوعٌ من الدعاء العملي الذي يتوسّل به العبد إلى رحمة ربّه الغني الكريم([16]).

       ومن أعظم حاجات العبد التي يستعين بالدعاء في قضائها أن يصحّ أملُه فيصحّ عمله، وتحمد عاقبته.

       اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       أعذنا ربّنا الرَّحيم الكريم من التعلُّق بالآمال الكاذبة، ومن كلِّ صارف عن سعي الآخرة، ومن كلِّ ما يُحبط العمل، ويُبطل السَّعي الحميد، ويقطع عن الغاية، ويُورث الحسرة، ويُوقِع في النَّدامة يا من لا مُعوَّل إلّا عليه، ولا لجأ إلا إليه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([17]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي يُعِزُّ ويُذِلّ، ويرفع ويخفِض، ويُمرِضُ ويُعافي، ولا مُمسِك لنعمةٍ على عبد، ولا حافِظَ لها إلا هو، ولا تُسلبُ نعمةٌ إلّا بعلمه وتقديره، ولا سَبَبَ من دون إذنه، ولا مالِكَ لتغييرٍ أو تبديلٍ غيره. إليه المرجع، وعليه التوكُّل، وبه الاعتصام.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله من اتقى الله – وحقَّ لله عزّ وجلّ أن يُتّقى – كان للناس أن يأمنوا من الشرِّ من جهته، ولقي الله سبحانه يوم يلقاه آمنًا. ومن كان فاجرًا فاسقًا كان للناس أن يخافوا من شرّه ويحذروا من أذاه، ولا يَلْقَى العزيزَ الجبارَ العدلَ الحكيمَ يوم يلقاه إلّا خائفًا.

       فلنطلبْ لأنفسنا الأمنَ يوم الفزع الأكبر بتقوى الله في هذه الحياة، ولنربأ بأنفسنا عن مزالق معصيته، ولا نكن من فجورٍ أو فسقٍ مصدرًا من مصادر الخوف للناس، والإفساد للحياة.

       والتقوى النافعة ما كان معها فَهْمٌ صحيح قويم للدّين الحق، وقد يسوء الفهم للدين فيُنشئُ تقوى تَفسُدُ وتشقى بسببها الحياة، وتزرع الرُّعبَ فيها، وتخلق العداء للدّين.

       فليطلب الناسُ الدينَ الحقّ، وليطلبوا فهمه الفهمَ الصِّدق لتطيب وتأمن لهم وبهم الحياة، وليسعدوا في الآخرة.

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       ربّنا اهدنا سواء السبيل، وبصِّرنا بدينك الحقّ، ولا تجعل فهمنا له سقيمًا، ولا شيئًا من عملنا له مجافيًا، واجعلنا أهلًا للخير نُبادر إليه، ونحثُّ عليه، ونُحبُّ فاعله، وبرّئنا من أن نكون من الأشرار يا رحمان يا رحيم.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزَّهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد فسلام الله ورحمته وبركاته على الإمام الحادي عشر من أئمّة الهدى من آل رسول الله صلّى الله عليه وآله الحسن بن علي العسكري عليهما السلام الذي نعيش اليوم ذكرى عروج روحه الطَّاهرة إلى ربّه الكريم، لنستذكر حياته الرّسالية وجهاده الحقّ في سبيل الله سبحانه، وحاجة الأمة الإسلامية والإنسانية كلّها إلى نهجه ونهج آبائه عليهم أفضل الصلاة والسلام في حركة الحياة لتبلغ بالنّاس سعادة الدّنيا والآخرة كما أراد الله الخالق العليم الخبير العزيز الحكيم.

       ويدخل الحديث الآن إلى الموضوعات التالية:

       أولًا: داعية عنف أو إصلاح؟

       سماحة الشيخ علي سلمان الأمين العام لجمعية الوفاق الإسلامية الذي حُقِّق معه بشأن إثارة الطائفية والدّعوة للعنف والإرهاب، والكذب في اتّهام بعض مؤسّسات الدّولة، وأُخِذ مخفورًا إلى النيابة العامّة ومُنِعَ من السفر؛ في الحقّ هل هو مع الطائفية أو ضدّها؟ هل تتّسم كلماته وخطبه وبياناته بالصِّدق أو الكذب؟ هل هو داعية عنف وإرهاب أم سلمية وإصلاح؟

       يمكن لك أو للسياسة وصف الرجل([18]) بالصَّراحة في الجهر بالحقّ، بالجرأة في طرح رأيه السياسي، بالإصرار على المطالبة بحقوق الشَّعب، بعدم ميله للتعبير بابن عمّ الكلام، بتجاوزه لما يراه الطرف الآخر من أنه المألوف، ولكن كلّ ذلك بما لا يخالف الدستور، وحريّة الرَّأي السّياسيّ التي تدّعي السلطة أنها معها، بينما لا يُصدّق أحد ممن يسمع للشيخ أو يقرأ له ويتابع ما يصدر عنه من تصريحات ومن يعرف خطَّ تفكيره، وتوجّهه النفسي وقناعاته ما قد يتهمه به متّهِم ويرميه به من أنه يدعو إلى الطائفية أو يستسيغ ظلمَ طائفة، والنيلَ من حقوقها، أو يقبل لأحدٍ أن يُثير الفتنة، أو يدعوَ لها فضلًا عن أن يصدر منه نفسه هذا الفساد والإفساد. وهل تجد مُنصِفًا يقبل أن يُوصَف شيخ عليّ بأنه داعية عنف وإرهاب؟!

       وإذا ذكر سماحة الشيخ من واقع الإعلام الرسمي ما لا يخفى على أحد، أو صرَّح بما تُصرِّح به المنظمات الحقوقية والمجامع الدولية من انتهاكات لحقوق الإنسان على يد السُّلطة في البحرين، أو تحدَّث عن واقع سياسي مريض شاخص للعيان هل يكون مرتكبًا لإثم الاتهام الباطل؟!

       وإذا سَرَدَ من الشَّواهد على الأرض، وأحداث الواقع ما يُعلن الموقف الطائفيّ للسُّلطة لا موقف طائفة من الشّعب ضدّ أخرى هل يُعدّ هذا دعوة للطائفية ورغبة فيها؟!

       وإذا كان النقد لمغالطات الإعلام وتجاوزاته ودعوته للكراهية وهو شيء مُعلَن جريمة يُحاكَم عليها القانون فهل يبقى مكان من أرض أو سماء لهذا الوطن أو جنبة من جنباته، أو زاوية من زواياه لحريّة التعبير، والنُّطق بالرَّأي البنّاء؟!

       وهل من قال بوجود تعذيب في السّجون أو في التحقيق وموتٍ تحت التّعذيب ولو اعتمادًا على ما قالته منظمات حقوقية ولجنة تقصّي الحقائق المعتمدة حكوميًّا يُحاكَم لأنه نَسَبَ إلى بعض المؤسسات الحكومية ممارسات مخالِفة للقانون؟!

       أو أنّه لا يوجد شيء من ذلك نهائيًّا؟!

       أو أن هذه الممارسات قانونية لا غبار عليها من جهة مطابقتها للقانون؟! أو أنَّ الجهة التي خرجت من تحت يدها جنائز السّجناء المعذَّبين غير حكوميّة؟!

       عن سماحة الشيخ علي لا دعوة للإصلاح أوضح من دعوته، لا إصرار على مطالب الشعب أزيد من إصراره، لا تشديد في الإنكار على الفساد أشد من إنكاره، ولا نداء بالسلمية، والأخوّة الإسلامية والوطنية، وإنصاف كل المواطنين، وحقّ الجميع في الأمن، وأن يسود العدل والمحبّة كلّ أرجاء الوطن أعلى صوتًا من ندائه، ولا تكرار لكلِّ هذا كتكراره، ولا نبذ للعنف، ولا إدانة للإرهاب، ولا تحذير من الكراهية أصرح من نبذه وإدانته وتحذيره.

       إنه إذا ساغ أن يُتّهم هذا الرجل بالدعوة للعنف والإرهاب والفُرقة الطائفية والكراهية مع ما عليه خطبه وكلماته وبياناته وتصريحاته من مقاومة شديدة لكلِّ ذلك لم يكَدْ يبقى مواطن واحد إلا واستُسيغ جدًّا أن يتهم بكلّ سوء على ما هو عليه من نظافة وبراءة ونزاهة.

       من الشرّ كلّ الشرّ أن تُقلب الحقائق، وأن يصل قَلْبُها إلى هذا الحدّ، وأن يُناقض العدل، وأن تصل مناقضته إلى هذا المستوى، وأن يُضيّع الحقّ كلّ هذا التضييع، وأن يُنكر الواقع كلّ هذا الإنكار.

       لا يكون استهداف هذا الرجل إلا استهدافًا للإصلاح نفسه، للعقلانية، للاعتدال، للسلمية، للأخوّة الإسلامية والوطنية، لكرامة المواطن، للحرية.

       والحقيقةُ التي لا مراء فيها، ولا مفرَّ منها أنه لابد من الإصلاح، أنه لا رجعة عنه، أنه لابد من حلّ عادل شامل واعتبار كلمة الشعب وإرادته.

       هكذا يقول تصميم الشعب، وهذا ما تفرضه تضحياته، وهذا ما يقضي به الحقّ والمصلحة الوطنية عامّة، وما تُفضي إليه المقدّمات، وهذا ما يؤكد عليه اتجاه حركة العالم اليوم، وهو ما عليه حتمية الوعد الإلهي لمن سلك طريق الحقّ، وأصرَّ عليه، وأخلص له، وبذل في سبيله، وصبر على طريقه، وتوجّه إلى الله سبحانه يطلب نصره ويؤمّله([19]).

       ثانيًا: تسأل ونسأل:

       من حقّ أيّ أحد أن يسأل عن موقفنا من الإرهاب، ومن حقِّنا كذلك أن نسأل أيّ أحد عن موقفه هو منه.

       نحن نُحرّم على أنفسنا ما حرّم عليها الله عزّ وجلّ من العدوان والإرهاب، ولا نتوسّل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يُنكره الدّين، ولا نُجيز أن نأخذ في طلب الإصلاح بما لم تُجِزه الشريعة الإلهية الحقّ من ارتكاب الفساد، وإننا لا نرى بُدًّا من الناحية الفقهيّة من رعاية حرمة الدّماء والأعراض والأموال([20]).

       وكلمتنا واضحة لكلِّ المؤمنين ومتكررة بأنه لا إرهاب، ولا نختار في المطالبة بالإصلاح إلّا الأسلوب السّلمي، ومن القول في هذا الطريق إلّا ما تجنّب سخطَ الله عز وجل، وتوفَّر على أَدَب الدّين، والتزم الطريقة الخُلُقية، وكان من الكلام المترفِّع الذي لا يعيب قائله.

       وكلّ ما لا نرضى لأنفسنا أن نرتكبه من سيّء الفعل والقول في حقّ الآخرين لا يُمكن أن نرضى من الآخرين أن يرتكبوه في حقِّنا.

       ونُدين كلّ فعل إرهابي ظالم، وكلّ عدوان، ولَعِبٍ بحرمة الدماء والأعراض والأموال من أيٍّ صدر منه فعل من هذا النوع([21]).

       ومن منطلق رؤية دينية صادقة نُحرّم الشهادة بغير علم، ومن خلال منهجيّة التفكير العلميّ الذي يُفرِّق بين الشك والظن والعلم والوهم فإنّه ليس علينا وليس لنا أن نستسلم لأيّ خبر مصدره شعب أو حزب أو حكومة، وأن ليس لأحد أن يُطالبنا بأنه لا يقول شيئًا ولا يدّعي حادثة، ولا يتّهم أحدًا إلّا كان علينا أن نذهب معه حيثما ذهب، ونُردّد ما يُردِّد، ونُسوّق ما يريد تسويقه([22]).

       وكيف لجهة أتلقّى منها التُهَمَة بعد التُّهَمَة التي أنا من كذبها وسوء النيّة من ورائها على يقين جازم أن تُطالبني بأن أسارع في التصديق لما تقول في الآخرين، وأُروّج لما تروّج، وأُذيع في الناس من ذلك ما تُحب أن أذيع؟!([23])

       وكيف لنفسٍ تعرف من المقابل قول الزُّور والبُهتان في حقّها كما يعرف الناظر الشمسَ الطّالعة في صَحْوِ النهار أن تركن لما يقوله مما يُدين الآخرين؟!

       ولماذا لا يسأل الآخرون أنفسَهم قبل أن يسألهم الغير عن رأيهم وموقفهم من الاستبداد والفساد السياسيّ، والاقتصاديّ، والموت عن تعذيبٍ في السجون، والاستئثار من غير حقٍّ بالثروة، وتعطيل الحقوق، ورفض الإصلاح، وهدمِ المساجد، وإهانةِ المصحف الشّريف، ومنع الصلاة من محاريبها، والإعلام المثير للكراهية والفتنة، وإلغاء الآخر؟! وهذا غيضٌ من فيض([24]).

       ثالثًا: ماذا تقول التجارب؟

       عُلِّق الحوار، وليس مستغربًا أن يُعلَّق، وعَجِزَ عن أن يتوصّل إلى نتائج والمرتقب له أن يعجز، وسَبَقَ هذا الحوار حوار وقيل عنه أنه قد حقَّق ما حقّق، أمَّا الأزمة التي كان من أجل حلّها فلم يأتِ لها بحلّ وإنما زاد في تعقيدها، وصارت من بعده إلى تفاقم واشتداد، وبلغت من الخطورة إلى مدى بعيد. واستمر الأمر يتصاعد خطورةً وتستفحل المظالم، وتتعمّق المأساة، ويتباعد الحلّ في ظلّ استمرار الحوار الأخير الذي نشأ مريضًا مُعوَّقًا معلولًا حتّى آل إلى التعليق، وقل للفشل الذريع.

       أكثر من تجربة تقول للسُّلطة بلغة عملية صريحة، ولسان واقع بليغ بأنَّ كلّ الحوارات الشكليّة ولو تكرّرت ألف مرّة لن تُفيد، وأنَّ ألف حلّ مازح لن يجدي، وأنّ ألف إصلاح سطحي اسميّ باهت لن ينقذ، وأنَّ الإخلاص للوطن، والوفاء له بإخراجه من النفق المظلم، واللجّة المعتِمة لن يكون إلّا بإصلاح حقيقي شامل يبدأ بإصلاح سياسي صادق، ودوائر انتخابية عادلة، وانتخابات نيابية حرّة، وتشكيل حكومة منتخبة، ودستور يكفل كلَّ ذلك بصورةٍ صريحة لا تقبل التشكيك، ويتخلَّص من كلّ نقاط الغموض والقصور وينال موافقة الشّعب عبر نوّابه ممن يمثلونه تمثيلًا صادقًا حيث يكتسبون هذا التمثيل من خلال عملية انتخابية نزيهة قِوامها الأساس صوتٌ انتخابي بصورة عادلة لكلّ مواطن.

       وكلُّ ما يحتاجه الإصلاح الحقيقي هو إرادة سياسية جادّة من السلطة فهي القادرة والمسؤولة عن هذا الإصلاح.

       ولو أصرّت السلطة على أن يكون الحوار مقدِّمة له، فإذا كان المعنيُّ الحوارَ المنتِج فلابد أن يكون من نوع جديد فيما يعتمده من تمثيل وخطوط عريضة متوافَقٍ عليها، وسقف زمني لا يتجاوز، والتزامات مبدئية رئيسة، وأجواء عملية مناسِبة بعيدة عن التصعيد الأمني، وتشديد القبضة الحديدية، ولغة الإعلام التحريضيّ، وبثّ الكراهية، وإثارة أبناء الشّعب ضدَّ بعضهم البعض.

       وأوضح ما تقوله التجارب بأنّ أفشل ما يُطلب به خروج الوطن من المأزق، وأسوأ ما يضرّ ويُمزِّق ويهلك الوطن الحلّ الأمني والإسراف في الظلم([25]).

       اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين المؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم اجعلنا لا نبتغي في الأرض ظلمًا ولا فسادًا، واجعلنا ممن يسعى للإصلاح فيها، ويُقيم الصّلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يُرضي في غضبك أحدًا يا رؤوف يا رحيم يا كريم.

       اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([26]).

 

[1]– عيون الحكم والمواعظ ص369 ط1.

قد يتراءى للمرء أن الأجل بعيد، ولكنّها ليست إلا أيّامٍ وليالي.

[2]موسوعة معارف الكتاب والسنة ج4 ص94 ط1.

[3]– وهو العاقل الفطن.

[4]– عيون الحكم والمواعظ ص24 ط1.

[5]– أحقيقة هذه أم لا؟ نعرفها أو لا؟

[6]الأمالي للشيخ الطوسي ص526 ط1.

[7]– فلا نخلط!

[8]عيون الحكم والمواعظ ص425 ط1.

الزور: الكذب. وكم تكذب الأماني الباطلة!

[9]– هناك ربط بين هوان النفس وصغرها، وبين دنوّ الآمال ورداءتها.

[10]– المصدر السابق ص123.

[11]بحار الأنوار ج74 ص75 ط3 المصححة.

[12]– وهو التوأدة والتباطئ.

[13]– فُسحة الأمل المتاحة..

[14]– تحف العقول ص202 ط2.

[15]بحار الأنوار ج90 ص269 ط2 المصححة.

[16]– نحن دائمًا في دعاء التفتنا أم لم نلتفت، اعترفنا بفضل الله وفقرنا إليه أو لم نعترف. أي خطوة تأخذ بها فيها تمسُّك بسبب من الأسباب الإلهية – وكل الأسباب أسباب موفّرة من الإله – كلّ ما أخذت به من سبب أنت تدعو الله عز وجل بسلوكك وأخذك بهذا السبب للنتيجة التي ربطها به.

[17]– سورة التوحيد.

[18]– أقصد الشيخ علي.

[19]– وأنتم أيها الشعب الكريم من هذا المستوى إن شاء الله.

هتاف جموع المصلين (الله أكبر، النصر للإسلام).

[20]– هذا رأينا.

[21]– على مستوى الأفراد والجماعات والأحزاب والحكومات كلّ الحكومات وكل العالم.

[22]– ليس للحكومة أن تقول شيئًا ثم تطالبنا بأن نتابعها فيما تقول، نحن أصحاب دين، وأصحاب فكر، وأصحاب منهجية علمية، وأصحاب منهج تقييم دقيق. ومُلزمون بأن لا نقول كلمة إلا بعلم.

[23]– هتاف جموع المصلين (لن نركع إلا لله).

[24]– لماذا لا تسأل الحكومة نفسها، لماذا لا نسألها، ولماذا لا تعبر عن رأيها وموقفها العملي من هذا كلّه، وهذه الممارسات معلومة مكشوفة وإن آخذ القانون على ترديد ما تردده المنظمات الحقوقية من شواهد في كل هذه المساحة.

[25]– هذا ما تقوله تجارب هذا البلد وتجارب غيره من البلدان التي تعيش صراعًا بين الحقّ والباطل، بين الجمود والتغيير الإيجابي الصالح.

[26]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى