خطبة الجمعة (580) 2 صفر 1435هـ – 6 ديسمبر 2013م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : الأُنس

الخطبة الثانية : استغلال السياسة للدّين – هل نؤيس إسرائيل؟

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي لا يُخالط علمَه جهل، ولا يُداخل قدرتَه عجز، ولا لإرادته مانع، ولا لإبداعه نهاية، ولا لكماله حدٌّ، وليس له مثيل ولا شبيه.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله لا يُرضي اللهَ عن عباده إلَّا ما فيه خيرُهم، ولا يُغضبه منهم إلّا ما فيه شرُّهم، فمن طَلَبَ رضا الله سبحانه فقد طَلَبَ خيرَ نفسه، ومن توقّى من غضبِ الله فقد وقاها الشرّ، وجنَّبها السّوء، ولله المنّةُ على عبده في طاعته له، وفِراره من غضبه، وعلى العبد أن يشكرَ الله أنْ وفّقه لطاعته، وتجنُّب معصيته.

       وأعظمُ ما طلب العبدُ من ربّه تبارك وتعالى بعد معرفته أن يُعرِّفه دينه، ويرزقه تقواه وطاعته، وما أوجبَ الشُّكرَ شيءٌ كمعرفة الله سبحانه وتقواه وطاعته.

       اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم افعل بنا في أمر ديننا ودنيانا خيرَ ما فعلته بمن رحمت من عبادك، وجنّبنا فيهما كلّ شرٍّ جنّبتهم إيّاه، وانتهِ بنا إلى أحسن ما انتهيت بهم إليه يا رؤوف، يا رحمان، يا رحيم، يا جواد، يا كريم.

       الأُنس بالله سبحانه:

أما بعد،

       فإنّ من أوحشته الدُّنيا ورغِب عن ترفها، ولم تشغله زينتها، أَنِس في الآخرة وأهنأه نعيمُها، ومن كان أُنسُه بالدّنيا، وانصرافه لها، وأوحشهُ اليومَ أمرُ الآخرة كان لا مفرّ له غدًا من وحشتها.

       والقلب المأنوس بما يكره الله لا يأنس بذكره سبحانه، والقلب المأنوس بذكر الله عزّ وجلّ، لا يؤنسه باطل.

       عن الإمام عليّ عليه السلام:“آهِ آهِ عَلى قُلوبٍ حُشِيَت نورا، وإنَّما كانَتِ الدُّنيا عِندَهُم بِمَنزِلَةِ الشُّجاعِ الأَرقَمِ([1])، وَالعَدُوِّ الأَعجَمِ([2])، أنِسوا بِاللّهِ وَاستَوحَشوا مِمّا بِهِ استَأنَسَ المُترَفونَ، اُولئِكَ أولِيائي حَقّا، وبِهِم تُكشَفُ كُلُّ فِتنَةٍ وتُرفَعُ كُلُّ بَلِيَّةٍ”([3]).

       وليس غير الله يحضرك كلَّ ساعة، ويمكنك أن تلقاه كلّ ساعة وكلّ آن لتجد فيه أُنسًا لك، أمَّا الله سبحانه فهو وحده الذي لا يغيب عن خلقه، ويستطيع القلب أن يلقاه بمجرد أن يتهيَّأ للقائه، ويتّجه بصدقٍ إليه ليجده قريبا منه بعلمه ورحمته، قادرًا على كشف كربته، وإخراجه من مضيقه، وإنقاذه من ورطته وكربته.

       وأُنسُ المؤمن بالله لا يقف عند حدِّ هذه الحياة([4])، وإنما يُرافق العبدَ في حياته هذه، وعند موته، وحين بعثه.

       عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“إنَّ «لا إلهَ إلَا اللّهُ» اُنسُ المُؤمِنِ في حَياتِهِ، وعِندَ مَوتِهِ، وحينَ يُبعَثُ”([5]).

       ولأُنسِ العبد بالله سبحانه أسباب على العبد أن يطلبها:

  1. التباعد عن النفس:

عوالي اللآلئ: “رُوِيَ في بَعضِ الأَخبارِ أنَّهُ دَخَلَ عَلى رَسولِ اللّهِ صلى الله عليه وآله رَجُلٌ اسمُهُ مُجاشِعٌ فَقالَ: يا رَسولَ اللّهِ… كَيفَ الطَّريقُ إلى قُربِ الحَقِّ؟ قالَ: التَّباعُدُ عَنِ النَّفسِ، فَقالَ: يا رَسولَ اللّهِ، فَكَيفَ الطَّريقُ إلى اُنسِ الحَقِّ؟ قالَ: الوَحشَةُ مِنَ النَّفسِ”([6]).

       واضحٌ أنَّ التباعد عن النفس الأمّارة بالسوء، ووهم الأنا، وصنم الذات باب لمعرفة الله سبحانه، والغنى بالشعور بالتعلّق به، وأنَّ الوحشة من النفس لمحدوديّتها، وقصورها، وفقرها يتّجه بالعبد إلى طلب الغنيِّ الكامل المطلق الذي لا يجده إلّا في الله تبارك وتعالى فتستقرّ بمعرفته واللجأ إليه النفس، ويطمئن القلب، وتطيب المشاعر، ويأنس العبد.

  1. اعتزال أهل الدنيا:

في الدّنيا أهلٌ للدّنيا، وانصرافهم لها، ويقضون حياتهم من أجلها. وفيها أهل للآخرة يتخذون منها هدفًا، ومن الدّنيا معبرًا ووسيلة، ويمضون حياتهم في مرضاة الله، والإعداد ليوم المقرّ([7]).

والأُنس بأهل الدُّنيا من الأُنس بالدّنيا نفسها، والانجذاب إليهم من الانجذاب لأخلاقها وقِيَمِها. وأخلاقُ الطالبين للدّنيا، المولَعين بها، الذَّائبين فيها وقِيَمهم مبعّدة عن الله سبحانه، منافية لما يُحبّه سبحانه من كريم الخُلُق، ورفيع القِيَم. وانحطاط المرء في أخلاقه وقيمه لا يُبقي له أنسًا بالله سبحانه، وسموّه في أخلاقه وقِيَمه هو الذي يُنفِّره من أهل الدّنيا لما هم فيه من الحضيض، وانحطاط الرّوح، ومن كان كذلك([8]) ينجذبْ لله، ويجدْ أنسه به.

عن الإمام عليّ عليه السلام:“مَنِ انفَرَدَ عَنِ النّاسِ، أنِسَ بِاللّهِ سُبحانَهُ”([9]).

ويُوضِّح الحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام من هم النّاس الذين يساوق الانفراد عنهم الأنس بالله؛ حيث يقول الحديث عنه:“يا هِشامُ، الصَّبرُ عَلَى الوَحدَةِ عَلامَةُ قُوَّةِ العَقلِ، فَمَن عَقَلَ عَنِ اللّهِ اعتَزَلَ أهلَ الدُّنيا وَالرّاغِبينَ فيها، ورَغِبَ فيما عِندَ اللّهِ، وكانَ اللّهُ اُنسَهُ فِي الوَحشَةِ، وصاحِبَهُ فِي الوَحدَةِ، وغِناهُ فِي العَيلَةِ، ومُعِزَّهُ مِن غَيرِ عَشيرَةٍ”([10]).

وعن الإمام العسكري عليه السلام:“مَن أنِسَ بِاللّهِ استَوحَشَ مِنَ النّاسِ، وعَلامَةُ الاُنسِ بِاللّهِ الوَحشَةُ مِنَ النّاسِ”([11]).

والمؤمنُ لا يستوحش من المؤمن وطهرِه وخُلُقِه، وإنما استيحاشه من شرار الناس وما هم عليه من معصية الله، ومفارقةٍ لما يرضيه، على أنّ أنسه بالله لا يعدله أُنسٌ آخر([12]).

  1. الدعاء:

الدعاء حيث ينبع من القلب، ويُمثِّل حالة شعور صادق بعظمة الله وقدرته، ورحمته، وكرمه، والأمل الحيّ في الاستجابة لِلَجأِ عبده، وانتشاله له من مأزقه، ودفع كربته، فهو ذكر لله لابد أن يؤنس صاحبه، ويُذهب وحشته.

       والله عزّ وجلّ يريد أنس عبده فمن سأله الأنس به لم يُخيِّب أمله، ولم يقطع رجاءه، ولذلك يكثر دعاء أولياء الله ربَّهم الحميد المجيد الرَّؤوف الرَّحيم في كلّ حاجاتهم، وقد كَثُر طلبهم الأُنسَ به سبحانه([13])، وقد جعل به أنسهم، واطمأنت إليهم قلوبهم، وسكنت عند ذكره نفوسهم.

       عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“اللّهُمَّ اجعَلنا مَشغولينَ بِأَمرِكَ، آمِنينَ بِوَعدِكَ، آيِسينَ مِن خَلقِكَ، آنِسينَ بِكَ، مُستَوحِشينَ مِن غَيرِكَ، راضينَ بِقَضائِكَ، صابِرينَ عَلى بَلائِكَ”([14]).

       وعن الإمام علي عليه السلام في دعائه:“اللّهُمَّ… كُن لي في كُلِّ وَحشَةٍ أنيسا، وفي كُلِّ جَزَعٍ حِصنا”([15]).

       وعن الإمام الحسن عليه السلام:“يا مَن إلَيهِ يَفِرُّ الهارِبونَ، وبِهِ يَستَأنِسُ المُستَوحِشونَ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ، وَاجعَل اُنسي بِكَ فَقَد ضاقَت عَنّي بِلادُكَ، وَاجعَل تَوَكُّلي عَلَيكَ فَقَد مالَ عَلَيَّ أعداؤُكَ”([16]).

       وعن الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه إذا حَزَنه أمر:“اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وآلِهِ… وألبِس قَلبِي الوَحشَةَ مِن شِرارِ خَلقِكَ، وهَب لِيَ الاُنسَ بِكَ وبِأَولِيائِكَ وأهلِ طاعَتِكَ، ولا تَجعَل لِفاجِرٍ ولا كافِرٍ عَلَيَّ مِنَّةً، ولا لَهُ عِندي يَدا، ولا بي إلَيهِم حاجَةً، بَلِ اجعَل سُكونَ قَلبي واُنسَ نَفسي وَاستِغنائي وكِفايَتي بِكَ وبِخِيارِ خَلقِكَ”([17]).

       وهناك موقف غربة، ووحشة، وكربة ووحدة تشتدّ فيه الحاجة إلى الأنيس حيث لا أنيس غيرُ الله سبحانه وذلك يوم أن تواري الإنسانَ حفرتُه، ولا ينسى الإمام زين العابدين عليه السلام وهو في هذه الحياة ذلك اليوم، وذلك الموقف فيستدفع بدعائه ربَّه الكريم كَرْب ذلك اليوم، وضيق تلك الحفرة، ووحشة ذلك الموقف الكئيب فيأتي عنه في دعائه:“يا اُنسَ كُلِّ غَريبٍ مُفرَدٍ، آنِس فِي القَبرِ وَحشَتي، ويا ثانِيَ كُلِّ وَحيدٍ، ارحَم فِي الثَّرى طولَ وَحدَتي”([18]).

       وكلما وجدت نفسك مفردًا لا أنيس لك من الخلق فلست تفقِد الأنس من الله عزَّ وجلَّ حيث تطلبه صادقًا موقنًا به سبحانه، وباستجابته.

       وهنا يأتي عن الإمام الكاظم عليه السلام هذا الحديث:“مَن باتَ في بَيتٍ وَحدَهُ، أو في دارٍ أو في قَريَةٍ وَحدَهُ، فَليَقُل: اللّهُمَّ آنِس وَحشَتي، وأعِنّي عَلى وَحدَتي”([19]).

       وعن الإمام الصادق عليه السلام:“مَن يَخرُج في سَفَرٍ وَحدَهُ فَليَقُل: ما شاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إلّا بِاللّهِ، اللّهُمَّ آنِس وَحشَتي، وأعِنّي عَلى وَحدَتي، وأدِّ غَيبَتي”([20]).

       إنَّ إيناس الله عز وجل لعبده المؤمن المتوجّه إليه على خلاف كلِّ أُنسٍ لا يفارقه ساعة من ليل أو نهار في حَضَر أو سفر، في مجتمع من الناس أو معتزَل، ولا في حياة أو موت، وفي أيّ لحظة على امتداد الأبد، وهو أُنسٌ طارد لكلِّ وحشة، منقذ من كلّ ضيق. وأنّى لغير المؤمن الحقّ أن يجد أنسًا كهذا الأنس الدائم الشامل العظيم؟!([21])

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم اجعل لنا من معرفتك وذكرك أنسًا دائمًا لا يُفارق قلوبنا، ونورًا طاردًا منها كلَّ ظلمة، وهدى مبعدًا بها عن كلِّ ضلالة، وصحّة لا يُخالطها سقم، وصفاء لا يشوبه كَدَر يا غنيّ يا قدير، يا جواد، يا كريم، يا رؤوف، يا رحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([22]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي فتح لعباده أبواب معرفته، ودلّهم على علمه وقدرته، وهداهم إلى عظيم رحمته، وبصّرهم بلطف تدبيره وجليل حكمته، وأتاح لأوليائه الأنس في كلّ آنٍ بذكره، وأكرمهم بنعيم الأبد في جنّته، وهو الجواد المحسن مبتدئًا، الكريم المجيب تفضُّلًا.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله كلّنا يُواجه في هذه الحياة دعوتين؛ دعوةَ هدًى من الله الرّحمان الرَّحيم، ودعوةَ ضلال من الشّيطان الغويّ الرجيم.

       وقد مكّننا الله بحكمته من قَصْد الهدى، ومن قَصد الضلال. وللهدى نتيجة رابحة، ولا ينتهي الضّلال بصاحبه إلَّا إلى هلاكٍ وخسار.

       وما وَجَدَ أحدٌ هدى إلّا في طاعة الله، وكلُّ آخذٍ بما هو على خلاف طاعته، وكلُّ عابد لغيره في ضلال، ومنتهاه إلى خسار.

       وما سَعَدَ عبد في دنيا أو بعد ممات باتّباع السّراب وليس من دعوة على خلاف دعوة الله إلّا إلى سراب.

       فلنستجبْ لله عزَّ وجلَّ، ولْنَدُم على طاعته مخلصين، ولا نفارقْ طريق تقواه فارّين كلَّ الفِرار من دعوة الشّيطان وضلالته.

       اللهم لا تبتلنا بسوء ما كَسَبَت أيدينا بعمى البصيرة، ولا تتركنا لجهلنا، وهوى النفس، وغواية الشيطان الرَّجيم. أنقذنا من كلّ ذلك، واجعلنا من أهل رحمتك الخاصَّة في الدّنيا والآخرة.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصَّادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد فإلى بعض كلمات:

       استغلال السياسة للدّين:

       هناك سياستان سياسة دينية، تقوم على أساس الدِّين وتأخذ به، وسياسة غير دينية لها أساسُها الآخر من مصلحة حزبية، أو قومية، أو قبلية، أو قُطريَّة مثلا، أو نظرة علمانية أو شخصيّة أو غيرها.

       السّياسة الدينيَّة لابدَّ من حاجتها إلى الدّين وهي تنطلق منه وتأتمر بأمره، وتنتهي بنهيه، وهي في خدمة الدِّين، ونظرها لمصلحته وظهوره وقوته.

       والسياسة الأخرى منها ما تتكفّل بإدارة شؤون بلد إسلامي، وشعب مسلم، ومنها ما دون ذلك.

       وهذه السياسة التي لا تعتمد الدّين أساسًا ولا تُقدِّره تضطرّ أن تُراعي إسلام الشعب بقدر قوّته، وقوّة تمسكه بالإسلام، وغيرته عليه تجنّبًا للتصادم بينها وبين الشعب تصادمًا تخاف على نفسها من عواقبه حتّى إذا اطمأنّت من هذا المحذور لقدرتها على البطش لم تكترث في الإسلام على المكشوف، وواجهته مواجهة صارمة في كلِّ مساحته، ذلك لأنه عائقٌ لها لمفارقتها إيّاه منطلقًا وهدفًا وممارسة، ويُمثّل تهديدًا جديًّا لها ما لم تفقده قدرة التحرُّك في وجهها بالقضاء على جِدّيته، ومناهضته للطاغوتية والظلم والاستكبار، ووضعه في الإطار الذي تأمن به من مشاكسته، بل وتطمئن معه إلى سهولة استغلاله.

       للسياسة القائمة على أساس من غير الدين بالنسبة له حاجتان: حاجةُ أن تأمن ثورته، وحاجةُ أن تستغلّه، وتُغرّر به الشعب المسلم الذي تحكمه، وتثير فيه عاطفته الدينيّة وتُحرّكها في الاتجاه الذي تختاره حيث ما تفرضه حاجتها كحاجة الحرب التوسُّعيّة، أو التأليب الظالم على طرفٍ داخليّ، أو جمع المال لصالحها، وغير ذلك من المقتضيات التي تتطلّب استغلالَ الدّين، وتوظيفه لخدمة الدولة الدنيوية.

       وهذا الدين الذي يراد له أن يُحقّق هذين الغرضين السيئين لابد أن يكون محرَّفًا عن الدين الحقّ الذي يرفض الظلم، واستغلال النّاس للمصالح الذاتية الدّنيوية، وأن تتولّى صياغتَه الحكومات المنحرِفة كما يشتهي لها الهوى وتقتضيه مصالحها السَّاقطة، ولابد لهؤلاء المعادين للدّين ولشعوبهم من تربية الشّعوب على ما يُخرجونه من صورةٍ مزيّفة عن الدّين، وأن يُطاردوا الدّين الحقّ، ووسائل نشره وتعريفه وتركيزه في العقول والقلوب والسّلوك، وأن يُخرِّجوا علماء خاصِّين بهم، وينشئوا مراكز تعليم ديني تابعة لهم، وأن تكون لهم مساجدهم، وحسينيّاتهم، ومؤلّفوهم باسم الدّين، وأن يكون لهم أئمة للجماعة والجمعة ممن يسيرون في ركابهم، ويبلّغون ما يملونه عليهم، ولابد أن تكون لهم صحافتهم التي تُروّج أفكارهم، وتواجدهم في الحوزات لتسريب رؤيتهم. والميزانية الضخمة لكلِّ هذا من عرق الشعوب، وثروات الأمة، وكنوز بلادها.

       وأنت ترى أنَّ الغرب الرسمي الذي لا تقيم سياسته للدين أيّ وزن، وتأخذ على نفسها أن تُقصيَه عن إرادة شؤون المجتمعات بصورة سافرة، وتعتبر أنَّ تدخُّل الدين في السّياسة من تخلُّف الأمم والجماعات والشعوب ومن رجعية الأنظمة تُثير ثائرة الدّين والغيرة الدينية على المسيحيّة في حروبها التي تحتاجها باسم الدّين لأطماعٍ توسُّعية مادية صِرفة، وعندما تخاف من تنامي أمّة وقدراتها في ظلِّ رؤية دينية أخرى([23]).

       ولذلك تُبقي السياسة الغربية على وجود ديني، وتُقيم له مؤسساته وأماكنَ العبادة الخاصَّةَ به، وتمدّ عملية التبشير بالدين الذي توافق عليه، وتأمن من تدخُّله في السياسة في مختلف أقطار العالم لتفتح عن طريق هذا التبشير التواجد السيء لها فيها لأغراض ذاتية مادّية خبيثة ساقطة.

       وهي تسمح للكيان الدينيّ المسيحيّ في أراضيها بالتواجد ودرجة من القوَّة لما سبق من أغراض تخدم مصالحها ووجودها وتوسُّعها ولِتُشبِع الشعور بالحاجة الفطرية للدين في نفوس من تفرض عليه بقيةٌ من الفطرة الإلهية رغم صحراء الأجواء المادية والشيطانية التي تعمل على إقبار تلك الفطرة، والقضاء حتى النهاية عليها أن يتشبّثوا بشيء من الدّين ولو في صورة باهتة ومشوَّهة.

       فالدين يَبْقى حاجةَ الإنسان الذي يريد الكمال، وينشد العدل، ولا يرضى إلّا بالحقّ، وذلك للأخذ به، والتربية على منهجه والاستجابة له في أمره ونهيه.

       ويبقى كذلك حاجةَ الأنظمة الحاكمة الظالمة والمعادية للدّين الحقّ لصناعة دينٍ مزوَّر باسمه([24]) واستغلال الأمم والشعوب عن طريقه، وطريق العلماء من رخيصي الذِّمَم الذين تشتريهم السّياسة الدنيوية من أجل ترويجه وتسويقه.

هل نؤيس إسرائيل؟

       تعرف إسرائيلُ من نفسها أنها دولة مغتصبة وأنها قد زُرِعت قهرًا في الوسط العربي والإسلامي الذي تُعاديه ويُعاديها، ولا تلائمه ولا يلائمها.

       وهي بذلك تشعر للحاجة في بقائها وراحتها إلى إضعاف هذا الوسط وتمزيقه بخلق الفتن الكبرى في صفوفه وبين أطرافه.

       ومن وسائلها في ذلك إحداثُ حالة من التشكيك داخل أطراف هذا الوسط في بعضها البعض، وخلق الصراعات المحتدمة بينها، وإقناع البعض ما استطاعت بصداقتها له ليقف معها في خندق واحد ضدّ البعض الآخر من الأمة في حين أنه لا يمكن أن تكون إسرائيل صديقًا حقًّا لأيّ طرف من أطراف أمّة كلّ همّها أن تقوى على حسابها، وأن تُثبِتَ وجودها على أنقاضها، ولها أطماعها التوسعية بما يشمل جميع أجزاء المنطقة التي تُغازل بعض أطرافها.

       وهذا المكر الخبيث لابد أن تُحاوله إسرائيل وهي كثيرا ما حاولته، بل هي دائما ما تحاوله.

       إنَّ نشوب حرب داخل الأمّة الإسلاميّة تحت عنوان مذهبي، أو قومي، أو إقليمي أو أي عنوان آخر تسمح به الظروف فيها تفكيك الأمة، وإنهاكها، وإيقاع خسائر عظمى في صفوفها، وأكبر حالة تدمير ممكنة لأقطارها وثرواتها والبنى التحتية فيها، وتظلُّ آثارها المدمِّرة على المدى الطويل لَيُمثِّل أمنية دائمة كبرى لإسرائيل لاتبارحها، ولا تكفّ ما وجدت سبيلًا عن ارتكاب أي طريق إجرامي لتحقيقها.

       ويؤمّل للاتفاقية الأخيرة بين جمهورية إيران الإسلامية ودول 5 + 1 فيما يتعلَّق بالمسألة النووية أن تحبط سعيًا صهيونيًّا جادًّا طال مداه، وتقضي على أملٍ إسرائيليٍّ عاشته الدولة الصهيونية وتنامى كثيرًا في هذه السنوات بإشعال حرب تحرق منطقة الخليج، وتلهب فتنة طائفية في الأمة الإسلامية تمتد آثارها الخطيرة إلى مدى طويل.

       وفي ذلك فرصتُها التي تبحث عنها لتثبيت وضعِها المهتزّ، والتمدُّد الآثم، وإحكام السيطرة على الأمة.

       ليُقضى على هذا الأمل الإجرامي لإسرائيل، وليخيب مسعاها القذر تحتاج المنطقة أن تدعم بإخلاص ما حصل من اتفاق بين إيران ودول 5 + 1 وتثبيته وتأكيده، وتغليب المصلحة المشتركة بين كلّ الدول المنطقة على العاطفة، وتغليب الإسلام وهو دين الجميع على إرادة الشيطان.

       تحتاج المنطقة أن تتذكّر العداء الحقيقي من إسرائيل، وأنَّ المسافة الفكرية، والروحية والأخلاقية بينها وبين أمريكا، أو بينها وبين روسيا والصّين ليست أقرب من المسافة بين بعضها والبعض الآخر منها، وأنه إذا أمكن اللقاء بين بلد منها وبين إحدى الدول خارج العالم الإسلامي لبعض المصالح المشتركة أو بحكم العلاقة الإنسانية العامة، فإنه بالإضافة إلى العلاقة الإنسانية توجد بين بعضها البعض علاقة الجوار والدّين والتاريخ والمصالح القويّة المشتركة، والأمن الواحد الذي لا يُمكن أن يُجزَّأ.

       ولن يكفي لاستقرار المنطقة وسلامتها، والحفاظ على أمنها، وإحراز تقدُّمها وازدهارها، وضمان رقيها وسبقها، وقوّة الأمة بها أن تتوقَّف الحرب التي تُهدّد هذه المنطقة، وأن تنتهي حالة التوتر بين دولها، وتنتهي هذه الدول إلى الصلح بعد العِداء، والتعاون بعد المواجهة ما لم تتصالح أي حكومة تعيش أزمة في داخل بلدها مع شعبها، وتُنهى حالة الكبت والاضطهاد والتهميش مع الشعوب، ويُعترف لها بحقّها.

       إنّه لابد أن يُصار إلى التفاهم، والحوار المنتج، والأخذ بالعدل والإنصاف، والاعتراف بالحقّ السياسيّ وسائر الحقوق من كلّ حكومة لشعبها بعيدًا عن التدخُّلات الخارجية المفروضة بالقوة على هذا الطرف أو ذاك الطرف، على أنَّ واقع العصر لا يُعطي فرصة لأن تبقى الشعوب منسيّة أو مهمَّشة، وكلّ المحاولات على هذا الطريق خائبة يائسة([25]).

       وأمام حتميَّة الإصلاح والتغيير يكون التصعيدُ الأمني الذي يُواجَهُ به الحراك السلميّ في البحرين لإجهاض المطالبة بالحقّ السياسيّ وسائر الحقوق العادلة والمداهمات، والملاحقات الشرسة المستمرة في مناطق كثيرة في البحرين لتعذيب الشباب وسوقهم للمحاكمات التي تنتهي إلى العقوبات المشدّدة، وسدُّ منافذ الحلّ السلمي العادل أمرًا نشازًا جدًّا، ومحاولة يائسة لإسكات الصوت الشعبيّ المطالب بالإصلاح الذي لابدّ منه، ولا صلاح للوطن بدونه، ودون جذريّته، وتجذُّره.

       وبشأن سماحة الشيخ محمد علي المحفوظ رئيس جمعية العمل الإسلامي حفظه الله، وما يُتداول عنه من أخبار مقلقِة فإنها محلُّ اهتمام الشعب، وتثير الخوف على سلامته، وتجعله يطالب السلطة بكل جدّ بعدم التضييق عليه أو على أحد من إخواننا الذين كلّهم سجناء رأي، وكلهم صوت منادٍ بالحق والحرية والانعتاق([26]).

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا اغفر لنا ولأرحامنا وقراباتنا وأزواجنا وذرياتنا ومن أحسن إلينا من المؤمنين والمؤمنات يا محسن يا رحمن يا رحيم.

       اللهم انظر إلى عبادك المؤمنين بعين رحمتك ورأفتك، وأخرجهم من الضّيق إلى السّعة، ومن الذّل إلى العز، ومن الكرب والغمّ إلى الفرج، ومن سوء الحال إلى حسن الحال.

       يا غالب كلّ غالب، وناصر من لا ناصر له اجعل لنا الغَلَبَة والنصر على من عاداك وعادانا، وحاربك وحاربنا، وادفع عنّا كلّ من جهل علينا، أو قصد أذانا يا من هو بعباده المؤمنين رؤوف رحيم.

       اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرنا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([27]).

 

[1]– الأرقم أي الحيّة التي على ظهرها رقم، أي نقش.

[2]– الأعجم هو من لا نُطق له، أو لا تُفهم لغتُه.

[3]تحف العقول ص301 ط2.

[4]– وإذا آنسك شيء من أشياء الدنيا فإنما يؤنسك فيها، وينتهي أنسه لك بانتهائها.

[5]موسوعة معارف الكتاب والسنة ج5 ص369 ط1.

[6]بحار الأنوار ج67 ص72 ط3 المصححة.

[7]– أجسامهم في الدنيا، وقلوبهم معلّقة بالأخرة. يسعون سعيًا للدنيا، ولكنه في هدفه الأخير من أجل الآخرة.

[8]– أي نافرا من أهل الدنيا، عارفا بالله.

[9]مستدرك الوسائل ج5 ص393 ط2.

[10]الكافي ج1 ص17 ط5.

[11]عدة الداعي ص194.

[12]– أنت تأنس بالمؤمن، تأنس بالإمام، لكن الأنس بالله بقلب انفتح على الله أكبر من كل أنس.

[13]– طلب الأنس بالله عند أولياء الله كثير كثير.

[14]بحار الأنوار ج92 ص360 ط3 المصححة.

أكبر أنس بعبد صالح يتحوّل وحشةً حين يُقاس بالله. وهذا تفسير لـ” آنِسينَ بِكَ، مُستَوحِشينَ مِن غَيرِكَ “.

[15]موسوعة معارف الكتاب والسنة ج5 ص399 ط1.

[16]بحار الأنوار ج92 ص408 ط3 المصححة.

[17]الصحيفة السجادية الكاملة ص116، 117.

الباء الثانية (بخيار) للفصل بين الكفاية الأصلية والكفاية التبعية، كفاية الولي من أولياء الله لأخيه تأتي تبعا لولاية الله عز وجل لذلك العبد، ولذلك جاء الفصل في المعطوف بالباء.

[18]بحار الأنوار ج91 ص168 ط3 المصححة.

[19]بحار الأنوار ج73 ص201 ط2 المصححة.

[20]الكافي ج4 ص288 ط3.

[21]– إلى أين تصل قدرة المال على الإيناس، قدرة الجمال الدنيوي على الإيناس، كلّ إيناس ينقطع، ويقف عند حد، وينتهي إلا ما كان استئناسًا بالله سبحانه وتعالى.

[22]– سورة التوحيد.

[23]– هنا تظهر حاجة الأنظمة للدين واستغلاله.

[24]– أي باسم الدين الحقّ.

[25]– هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).

[26]– هتاف جموع المصلين (نطالب بالإفراج عن المساجين).

[27]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى