خطبة الجمعة (579) 25 محرم 1435هـ – 29 نوفمبر 2013م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : الأُنس

الخطبة الثانية : ذكرى استشهاد زين العابدين عليه السلام – الخطابة الحسينيَّة اليومَ وغدًا  – الإدانات أسلوب مستهلك – لا تزيدوا النار وقودًا

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله المنشئ للخلق، ولا مُنشئَ للخلق غيره، ولا مصيرَ لشيءٍ من خلقه بيد أحدٍ سواه، ولم يكن لأحد أن يستقِلّ عن إرادته، أو أن يجدَ خيرًا إلّا من عنده، وبإذنه، وما يُرزق عبدٌ من رزقٍ إلّا بتقديره، ولا موقع لذرّةٍ، وما أقلّ منها في الكون إلّا من صُنعه، ولا خافية في الوجود عن علمه، ولا شيء قد مضى أو يأتي إلّا وهو محيطٌ به، وأجله بيده، ولا ضياع في علمه به.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله إن تكن الدُّنيا فانية فإنّ الآخرة للبقاء، وإن كان الموتُ لابد أن يوافي كلَّ من في هذه الحياة فكلّ ميّت من العباد واجدٌ حياةً بعد موت. والحياة في آخر مرحلة لها إنما هي إلى خلود.

       وحياة تُستَقبَل بعد هذه الحياة، وتكون للدّوام إنما تأخذ قيمتها وكونها حياةَ سعادةٍ أو شقاءٍ من دور الإنسان في ما نحن فيه الآن من حياة.

       فالحياة الدنيا على هذا خطرُها عظيم، وشأنُها كبير، وقيمتُها عالية، ومن فرّط فيها فقد فرّط في كلِّ شيء، وخسر كلَّ شيء، وأوقع نفسه في شقاء الأبد، ولم يجد له عِوضًا عنها، ولا تداركًا بعدها لما فرّط.

       فلا عقل بلا عطب، ولا فطرة بلا فساد يسمح بتضييع الحياة الدنيا والتلاعب بها وإهمالها، أو سوء التصرف في لحظة من لحظاتها، ونسيان الآخرة، وعظيم شأنها، وما هي عليه من قدر جليل، ومنزلة عالية، وهي المنتهى، وإليها المصير، وفيها المستقرّ.

       اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم اجعل الآخرة نصب أعيننا، ومحلّ اهتمامنا، والدّنيا نِعْمَ الممرّ، والفرصة الرابحة لنا، واجعل سعينا فيها إليك، وقصدنا لا يميل عنك، ولا نُقدّم، ولا نساوي شيئًا برضاك يا أرحم من استُرحِم، ويا أكرم من أجاب، ويا أغنى غنيّ، ولا حدّ لغناه، وأجلّ جليل، ولا حدّ لجلاله.

       أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في موضوع الأُنس:

       كلّ مخلوق محتاج، والإنسان مخلوق وحاجاته ظاهرة، وطلب الأنس حاجةٌ من حاجاته النفسية التي لا تجد نفسُه غنىً عنها.

       والأنس بشيء هو الاطمئنان له، والتعلّق به لراحة تجدها النفس فيه، وشعور بالانسجام معه، والأمن منه، وذهاب الوحشة به.

       والكامل المطلق من كلّ الجهات، والآمن من كلّ محذور، والقادر على كل شيء هو وحده الذي يجد الأنس من نفسه ولا حاجة فيه إلى غيره، وليس من أحد كذلك إلّا الله تبارك وتعالى([1]).

       وعن الإمام الصادق عليه السلام بهذا الشأن:“سبحان من لا يستأنس بشيء أبقاه([2])، ولا يستوحش من شيء أفناه”([3]).

       والأنس ثابت وزائل، والأنس الزائل لا يفي بحاجة الإنسان لأن نقصه الذاتي لا يفارقه، وأسباب الأنس كلّها عابرة إلّا الأنس بالله فسببه دائم لا يزول([4]).

       ومن هذه الأسباب الصادقُ وما يُلاقي انسجامًا من النفوس السويَّة، ومنها الكاذبُ الذي لا تألفه إلا نفسٌ متردّية،  ووجدان موبوء. فمن آنسته الفحشاءُ وما حرّم الله سبحانه فقد آنسه سبب باطل، لم يؤنسه منه إلّا فساد ذوقه، وسقوط نفسه، ومن كان سويًّا وعلى استقامة الفطرة إنما يأنس لما حلّ وطاب، وما شرُف وكرُم من علم نافع، أو عبادة مقرّبة إلى الله المتعال([5]).

       وكلّ أُنس مما يزول ويذهب مع الأيام يؤول أمره إلى وحشة، فما أنس عبد بشيء من أشياء الدنيا إلّا وأوحشه فراقه، وتزداد وحشة الفراق كلما زاد أنس اللقاء والمشاهدة.

       عن النبي سليمان عليه السلام:“آنس شيء الروح تكون في الجسد، وأوحش شيء الجسد تُنزع منه الرّوح”([6]).

       ولنتحدّث عن قِمَّة الأُنس:

       أعظم أنس، وأبقى أنس، وأجلّه، وأزكاه، وأكمله، وأنفعه هو الأُنس بالله الذي يطرد كلّ وحشة، ويبطل كلّ ظلمة، ويُغذّي النفس بما ينقذها من وحشة فقدِ ما عزّ ومن عزّ وغلا([7]).([8])

       عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:“لا يستوحش من كان الله أنيسه، ولا يذِلّ من كان الله أعزّه، ولا يفتقر من كان بالله غَناؤه، فمن استأنس بالله آنسه الله بغير أنيس”([9]).

       “لا يستوحش من كان الله أنيسه” فمن تهيأ للأنس بالله([10])، ورزقه الله نعمة الأنس به لا تدخله وحشة مطلقًا وبأيّ سبب من الأسباب.

       ولا يفتقر من كان أنسه بالله إلى أحد يُدخل عليه الأنس:“فمن استأنس بالله آنسه الله بغير أنيس” كما في الحديث الشريف.

       ومن أين كان أنس الإمام الكاظم عليه السلام في الطامورة، ومن كان أنيس النبي يوسف عليه السلام في غيابة الجبّ؟!([11])

       وكل أنيس يمكن أن يغيب، والأنيس الذي لا يغيب عمن اتخذه أنيسًا هو الله وحده، فإنّه لا غَيبةَ له سبحانه على الإطلاق، فحيث يكون قلبُ العبد حاضرًا، ونفسه منفتحة على ذكره عزّ وجلّ فإنه يجده حاضرًا مؤنسًا ويُغني عن كلّ أنيس.

       يقول الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وآله:“يا أنيسَ الذاكرين”([12]) فمن كان ذاكرًا له سبحانه أُشبع أنسًا بذكره واكتفى به عمن سواه.

       وعنه صلّى الله عليه وآله:“يا أنيس من لا أنيس له”([13]) فليكن الإنسان فاقدًا لأيّ مصدر من مصادر الأنس من دون الله إلّا أنه لا يفتقده سبحانه ما طلبه وتوجه إليه، ولا يفتقد الأنس من جهته.

       وعن الإمام علي عليه السلام في دعاء له يلجأ فيه إلى الله إلى الرَّشاد:“اللهم إنّك آنس الآنسين لأوليائك…” ([14]).

       القلب الغافل، والنفس الساقطة لا يجدان في الله عز وجل آنس أنيس، أما قلوب الأولياء فلا تجد في شيء أنسًا كما تجده في ذكرها لله سبحانه، واتصالها به، ولا تجد شيئًا من أنسٍ أبدًا فيمن عاداه، أو شيء على خلاف رضاه، وإنما كل من عادى الله، وكل شيء أغضبه هو مصدر وحشة للنفوس التقية العارفة الذاكرة لربها العظيم.

       أمّا من أوحشه أن يذكر الله، وآنسه ذكر الخلق فقلبه معكوس، ونفسه خبيثة، وروحه مغمورة في الرجس، وله توغُّلٌ في القبح فلذلك لا يرى جمال الله سبحانه، ولا استذواق منه للجمال.

       عن الإمام عليّ عليه السلام:“إذا رأيت الله سبحانه يؤنسك بذكره فقد أحبّك، إذا رأيت الله يؤنسك بخلقه، ويوحشك من ذكره فقد أبغضك”([15]).

       ويأتي حبّ الله عز وجل للعبد من تطهّر العبد بتقرّبه إلى ربّه، وما أبغض اللهُ العبدَ إلا لذنوبه وآثامه.

       ثمّ إن من آنسه الله سبحانه بذكره فقد أحبّه حقًّا لأنَّ في ذلك رقيَّ العبد وسلامته، ونجحَه وفوزه.

       وأيُّ بغض للعبد أشدّ عليه – لو انتبه – من بغض الله له الذي يفقده الخير كلَّه؟!

       وعن الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثُّمالي:“إلهي… ارحم في هذه الدنيا غربتي وعند الموت كربتي…. حتّى لا أستأنس بغيرك. يا سيدي إن وكلتني إلى نفسي هلكت….” ([16]).

       في الخلق جمال من هبة الله، وفيهم أُنسٌ لبعضهم البعض من عطائه ولكن ولأنه لا جمال كجماله المطلق، من عرفه وانجذب إليه ورُزِقَ الأنس به أنساه جمالُه كلَّ جمال، ولم يكن لشيء من دونه أن يجذبَه إليه، ولا يملك أن يؤنسه حالَ كون الله سبحانه أنيسه.

       وكما أنّ مَنْ دونه وما دونه عزّ وجلّ لا يظهر له أُنسٌ من غيره لمن وجد الأنس به، فكذلك لا يدخل فقدُ شيءٍ بالوحشة على نفسه، وهو مأنوس بذكر الله عزّ وجل.

       وهذا ما تقول به الكلمة عن الإمام زين العابدين عليه السلام وهي مما كان يدعو به في بعض نوافل يوم الجمعة:“اللهم أنت آنس الآنسين لأودّائك…. إذا أوحشتني الغربةُ آنسني ذكرك”([17]).

       ومن الغربة أن يعيش المرء المؤمن العارف بين فسَّاقٍ وجهّال.

       والحديث في الأنس بالله كثير كثير.

       وكيف لا يأنس العارف بالله سبحانه، المطيع له به، وكيف لا يستغني به عن كلّ أنيس؟!

       الإنسان ضعيف تؤنسه الحمايةُ من القويّ، قاصرٌ تؤنسه عناية الكامل، حقير يؤنسه الدعم من العظيم، وأن ينال درجة من الرضا عنده.

       ولا قوة كقوة الله سبحانه، ولا كمال ككماله، ولا عظمة كعظمته، فهو القادر، الكامل، العظيم المطلق، ولا شيء من دونه كذلك، ولا شيء من ذلك لأحد إلَّا من عنده، وفيضه، وإحسانه.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم ارزقنا من المعرفة بك، والطاعة لك ما يجعلنا نستغني بأنسك عن كلّ أنس، ولا نستوحش لهجر من هجر، أو فقد من فُقِد، وما فُقِدَ من شيء يا من لا تفقده قلوبُ العارفين، ولا سبيل للفقد إليه يا حيّ يا قيّوم يا رحمان يا رحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([18]).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يذهب ملكُه ولا يضعف، ولا ينقضي سلطانه ولا ينقص، ولا يردُّ قضاؤه ولا يُقاوَم، ولا يخطئ حكمُه ولا ينقض، ولا يدخل الخللُ قدَرَه ولا يُغيَّر، ولا يكون إلّا ما يريد، ولا يجري إلّا ما قدَّر.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

عباد الله من أخذ بدين الله عزّت نفسُه وكرمت ولم تذل ولم يجد لها الهوان سبيلًا وإن أحاطت به أسباب الذّل، وحاول الخلقُ النيلَ من عزّتها. ذلك أن داخلها لا يفارقه الشعور بالعزّة بالله كيف وهو يشهد من عظمة ربّه الجليل ما يشهد، ويرى من قدرته ما يرى.

فمن أراد ألا يسلبه شيء ولا أحد شعوره بالعزّة والكرامة، وألا يدخله الشعور بالهوان لما يحيط به من ظروف فليحتمِ بطاعة الله، وليلُذْ بمعرفته سبحانه.

وما ضلّ، وما ذلّ، وما هان، وما أصابه خسران من عرف الله سبحانه وأطاعه، ولزم تقواه. ولك من أنبياء الله ورسله وصادقي أوليائه خيرُ دليل من واقع الحياة حيث لم يأتِ أيّ ظرف من الظروف وإن صعب وقسى وأخضع رقاب الكثيرين على شيء من شعور العزّة بالله عند أحدهم، وما لانَ، وما استكان، وما استوحش، وما ضعف اغتراره بدينه، وما قلّ أنسه بما كان عليه من الطريق.

اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

اللهم أصدق ديننا، وأتمم لنا نورنا، وافتح بصائرنا، واجعل لنا قدوة من أنبيائك ورسلك وصادقي أوليائك وأحبائك يا كريم يا رحمان، يا رحيم.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصَّادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

أما بعد أيها الأخوة والأخوات في الله فأول ما يقف عنده الحديث:

ذكرى استشهاد زين العابدين عليه السلام:

سلام الله ورحمته وبركاته على الإمام الرابع من أئمة الهدى من أهل البيت عليهم السلام عليّ بن الحسين السجّاد زين العابدين. والذي واصل مسيرة الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ بعد رحيل أبيه الإمام الحسين بن علي عليه السلام، وواصل حماية الدين من التحريف، وتربية الجماعة المؤمنة بالحقّ، والحاملة للواء الإسلام، وأودع الصحيفة السجاديّة من علمه وحكمته وغناه روحه وفيوضاته الإيمانية للأمة في كل حياتها ما تتغذى عليه من ثروة فكرية، وفهم دقيق أمين للإسلام، وزاد روحيّ دفّاق، وهدى لا يخبو، ولا ينطفئ نوره.

وعظّم الله أجرنا جميعًا وأجر الأمة المؤمنة كاملة لذكرى يوم رحيله إلى جوار ربّه الكريم.

ومن بعد ذلك هنا ثلاث كلمات:

الخطابة الحسينيَّة اليومَ وغدًا:

للخطابة الحسينيّة من الانتشار في كلّ الأوساط المؤمنة على مستوى العالم، ومن الاستمرار كلّ أيَّام السنة ولياليها، ومن الإقبال على حضور مجالسها ما يجعلها من أهمّ المصادر للتغذية الفكريَّة للأمّة، وتلقّي الإسلام، والوقوف على رؤاه ومفاهيمه، وأحكامه وآدابه، وزرع قِيَمه وأخلاقه في النفوس، والتربية في ضوئه، وصناعة الرأي العامّ حول قضايا المجتمعات وأحداث ساحة الحياة على أساس رؤية الإسلام الخاصَّة، ونعلم أن حضور هذه المجالس من كلِّ الشرائح والطبقات على اختلافها مما يوسّع أثر هذه الخطابة، ويعطيها أهميتها الخاصة.

فرقيّ الخطابة الحسينية رقيٌّ للمجتمع، وأثره الإيجابي شأنه عظيم، ونفعه كبير عليه، وخدمته عالية وواسعة للإسلام، وفي تدنّي الخطابة وإسفافها والخلل فيها آثار مدمِّرة للإسلام والمسلمين.

رقيُّها يُعطي رقيًّا لصناعة المجتمع المسلم، ويُقدّم صورة عن الإسلام قريبة لما هو عليه في أصالته، وإشراقه، وعن أهل البيت عليهم السلام ومدرستهم لما هم عليه من التمثيل الحقّ النموذجيّ للإسلام وصدقه وعظمته.

ويُقدّم صورة هي أنطق بحقّانية الإسلام، ومتانة بنائه، ونقاوته وصفائه، وأغنى بجاذبيته وجاذبية أهل البيت عليهم السلام – الذين هم الإسلام الناطق – للعقل، والفطرة، والضمير، والذوق السَّليم، ذلك لما للإسلام ولأهل البيت عليهم السلام من كفاءة تامّة لا نظير لها في أيّ طرح آخر على حلِّ المشكلات التي تواجه الإنسانية في هذه الحياة.

وللتدنّي في مستوى الخطابة الحسينية إساءة بالغة الخطورة على الفكر الإسلامي، والرؤية الإسلامية، وصدق الدين ونزاهته وأصالته، وتربية المجتمع المسلم، وواقع المسلمين، وتفاعلهم مع الإسلام، ومدرسة أهل البيت عليهم السلام، والاستجابة لمقتضيات الدّين حتى لَيُمكن أن تكون هذه الخطابة – على ما هي عليه لو أُعطيت حقّها كما يجب من مكانة عالية وقيمة فذّة – سببًا لتشويه الإسلام، والحطّ من قدره، والتنفير الفكري والنفسي منه ومن ممثليه الحقيقيين من الرسول صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام جميعًا، وأن تكون طريقًا إلى الإضلال عنه وعنهم، وتحقير ما هو، وهم عليه من شأن عظيم عند الله سبحانه وتعالى وقيمة عالية لا يُدرك منها ما يمكن إداركُه إلّا أهلُ البصائر.

فالخطابة الحسينية بما لها من شأن كبير، ودور مؤثِّر بالغ الأهمية، وانتشار واسع، وديمومة واستمرار لا يصحُّ للمجتمع المؤمن أن يتساهل في أمرها، أو يُفرّط في شأنها، ويتركها لاجتهادات الأفراد وإن قصَّرت، وجهودهم وإن قصُرت. لا يصح أن يُترك بابها مفتوحًا لكلّ مُشْتَهٍ وإن كان لا يملك القابلية أو التأهُّل لشغل هذا المنبر الشَّريف المهمّ بما له من تأثير ضخم على القضية الحسينيَّة، والإسلام كلّه، وإيمان المجتمع المسلم، واحترامه للإسلام، وتقيُّده به، وواقع الرأي العام فيه بشأن القضايا المهمّة التي تستجد في حياته…. لا يصح أن يُترك لأي ناطق من أيّ مستوى وإن كان من مستوى طالب الإعدادية أن يتحدَّث باسم الحسين عليه السلام واسم القرآن والإسلام.

ونظلم المنبر الحسيني في وضعه الحاضر أن نقول بأنَّ الذين يرقون أعواده لا توجد من بينهم كفاءات عالية نجدها في البلاد المختلفة ومنها البحرين. هناك كفاءات علمية وتتوفّر على الإخلاص وتُقدّم وعيًا، وأفكارًا إسلامية بنّاءة، وتُساهم في تربية المجتمع تربية إسلامية راقية صالحة، وتشدّ قلوب المسلمين إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وذلك في عدد ممن يرقون هذا المنبر الشريف.

ونُجافي الواقع ونتجاوزه حين ننكر وجود أفكار ساقطة وما يُشبه الخرافات، ووجود الاجتهادات الفجّة التي لا مستند لها في المهمّ من قضايا الإسلام([19])، وما هو حاصلٌ من ضعف وقصور وارتباك فكري، وتهافت في الطرح، وأفكار مرتجلة غير مدروسة مما يجد سبيله إلى المنبر الحسيني، ويهبط بمستواه، ويُسيء إليه.

ومن أبرز أسباب هذا الأمر عدم تحمُّل المجتمع المؤمن لمسؤوليته في الإعداد الكافي لمستويات راقية تتناسب مع مكانة هذا المنبر الكريم، ووظيفته.

هذا وكلُّ المجتمعات في تقدُّم فكري، وتوسُّع ثقافي، وقدرة متنامية على النقد ووزن الأفكار.

يُضاف إلى ذلك أنَّ المنبر الحسيني كسائر ما يتصل بإحياء أمر أهل البيت عليهم السلام مستهدَف بصورة متصاعدة مقصودة للنيل منه، والتشكيك فيه، وللتصيُّد لكلّ خطأ، ولكلّ ضعف يأتي من أحد باسمه، ومن جهته.

فإذا بقي المنبر الحسيني تُعاني خطابته مما تعاني منه اليوم من قصور، وضعف، وأخطاء، وتقصير فإنَّ الفارق بينه غدًا وبين ما سيصير إليه مستوى الأمَّة من ناحية فكرية وثقافية ونقدية أكبر منه اليوم بكثير مما يُضاعف المشكلة ويُسيء إلى قضية الإمام الحسين عليه السلام والإسلام بدرجة أكبر، ويتيح للمتربّصين بهذا المنبر أن يُحقّقوا أملهم في عزل الأمة عنه، وإسقاطه.

وفي ظلّ ما عليه واقع المنبر اليوم، وما يتوقّع له مستقبلًا مع إهمال المؤمنين وظيفتهم في الإعداد للكفاءات القادرة لشغل وظيفته صار من الضروريّ إنشاءُ كلّيات متخصِّصة يتكفل بها عالم الحوزات العلمية الدينية بمعاونة الأمّة لتخريج أكبر عدد ممكن من الخطباء الأكفّاء ممن يتناسب مستواهم مع أهمية القضية ومكانة هذا المنبر وتأثيره المهمّ، والدور المناط به في إعداد الأمة وخدمة الإسلام.

والكليات المطلوبة كليّات تعيش كامل الاستقلاليَّة من كلّ جهاتها، وتكون بعيدةً كل البعد عن القرار الرسميّ والجهات الرسميَّة بوزاراتها ودوائرها، ومقرّراتها ودعمها وإشرافها، فإنَّ بلية الدين بالتدخلات الرسمية للسياسات القائمة في الأكثر الأكثر من البلاد الإسلامية من الصعب جدًّا معالجة آثارها السلبية على الإسلام والمسلمين.

الإدانات أسلوب مستهلك:

كثيرة هي الإدانات من المنظمات الحقوقية في الخارج، والمجامع الدوليّة، وحتى الحكومات الصديقة لانتهاك حقوق الإنسان في أرض البحرين مما يعاني منه هذا الشعب الأمرَّين. ولكنها لم تكد تُجدي شيئًا، وخاصة بفعل ما يُصاحب إدانات الدول الكبرى من مجاملات للطرف الذي يستمرّ في انتهاك هذه الحقوق بما يُمثّل افتراء على الواقع رعاية للمصالح المادية التي تقدِّسها هذه الدول، ولا تملك أيُّ قيمةٍ حتى من القِيَم التي تنادي بها هي نفسها شيئًا من وزن أمامها.

فأسلوب الإدانات قد برهن على عدم طائلٍ له في ظل تكراره، واستمرار عملية الانتهاك لحقوق الشعب على هذه الأرض، والانتهاكات في البلاد الأخرى التي تشترك جميعها مع البحرين في المعاناة.

وحتّى توصيات لجنة التحقيق التي شكّلتها الجهة الرسمية استمرَّ التلاعب بها وتجميد ما هو المهمّ منها كلَّ هذه المدّة وبرغم دعم الجهات الخارجية لها وإعلان السُّلطة قبولها بها.

لا نطلب حربًا على البحرين انتصارًا لشعبها([20])، ولا أيّ تدخُّل يضر باستقلالها.

ما نطلبُه هو ضغط سياسي تمارسه الدول الصديقة للنظام الرسمي في البحرين بدل الدعم المكشوف، وغير المكشوف لِلسلطة.

وجليّ جدًّا أن الحل الحقيقي للأزمة الحقوقية وسائر المشكلات التي يُفرزها الوضع السياسي المنحرف لا ينفصل بأيِّ حال من الأحوال عن إصلاح هذا الوضع نفسه، والأخذ به إلى المسار الصحيح([21]).

ومطلبُ هذا الشعب اليوم فيما يتّصل بالمسألة السياسية هو مطلبُ كلّ شعوب العالم المعاش من مرجعية الشعب في سياسة بلده بدل مرجعية السلطة الحاكمة، وأن تكون الكلمة الحاسمة للشعوب لا السلطات.

لا تزيدوا النار وقودًا:

كثيرٌ من البلاد العربية التي لا يزال الصراع قائمًا فيها بين شعوبها وحكوماتها تسعى الحكومات فيها إلى إطفاء النّار، وإخماد لهيبِها والتوصل مع شعوبها إلى حلول عن طريق الحوار والتفاهم، وإعطاء عدد من التنازلات من قبلها([22]).

أما في البحرين فلا زالت السلطة تزيد النّار وقودًا لتزداد اشتعالًا وانتشارًا وتدميرا.

يعرف المسلم من المسلم أن لا شيء يُحرّكه أشدَّ من أن يُتعرَّض لدينه، أو يُهان عرضه، ويتعدى عليه([23]).

ونحن لا نقول للمسلم لست مسلمًا، والسلطة هنا مسلمة ورجال الأمن عندها مسلمون، ولا يخفى عليهم أنَّ أعزّ ما على المسلم أن يُنال من دينه أو يُمسَّ بإهانةٍ عرضُه، وأنه ينسى ما هو الموت عندما يواجه شيئًا من ذلك، وتهون عليه نفسُه، ويزهد هذه الحياة.

فمن عرف من المسلم ذلك، ولا بد للمسلم أن يعرفه فاستهدف دينَه أو امرأة من نسائه وحَرَمه فإنما أراد أن يمتحنه في صدق دينه، وغَيرته على عرضه. وفي هذا الشعب صدقُ دين، وصدق غيرة على العرض وحميّة.

يعلم الجاني على المؤمنين بالإسلام خاصّة إذا كان مسلمًا بمسّ دينهم أو عرضهم بما ينال منه ويَحطُّ من قدره بأنه يُشعل نارًا لم تكن، أو يزيدها استعارًا واشتعالًا لو كانت قائمة([24]).

فماذا أراد من ظهرت صورته ممن يُسمَّون برجال الأمن وهو يكبس امرأة مؤمنة كلّها وقار وحشمة حريصة على حجابها([25]) في وسط دارها لأنها صرخت أو حاولت وهي العزلاء أمام مدجّجين بالسلاح تخليص فلذة كبدها من عذابهم الغليظ الذي مزّق قلبها؟!([26]).

ماذا أراد غير أن يعم السخط الشعب، ويحرّك الجماهير في مسيرات غاضبة، وأن يحمل الناسُ أرواحَهم على الأكف، ويقدّموا الموت على الحياة؟!([27])

أو ليس الفاعل مسلمًا، أو ليس الذي أمره مسلمًا، أو ليس الذين وصلهم خبره من مسؤولين بكلِّ مراتبهم ومواقعهم من سُلَّم السلطة مسلمين يعرفون ماذا يعني هذا الفعل المنكر البشع الجبان من استثارة واستفزاز، وتحدٍّ، واستخفاف بالضمير المسلم وغَيرَة الشعب المسلم ودينه وحميته؟!

ومن هنا لا يكون الفاعل والآمر والمتساهل في أمر العقوبة ممن يرأس هذا المجرم إلّا مريدًا بالبلد شرًّا مستطيرًا، وأن يلقي بها في الجحيم.

الفعل سخيف قبيح ساقط لعين، والقصد من ورائه مثله، والسكوت عليه من الجانب الرسمي جريمة مشتركة.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

يا الله يا رحمان يا رحيم يا من أمر عباده بيده اجعل أمرنا إلى خير، ومستقبل أيامنا خيرًا من ماضيها، وعاقبتنا عاقبة من رحمته من عبادك، وأحسنت خاتمته برحمتك يا أرحم الراحمين.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([28]).

 

[1]– هو أنيس الآنسين من غير أن يكون له أنيس.

[2]– يثبقي الاشياء لا ليستأنس بها.

[3]بحار الأنوار ج79 ص172.

[4]– لأنّ الله عزّ وجلّ وهو مؤنس الآنسين لا يزول.

[5]– وما كان من ذلك.

[6]الدر المنثور ج4 ص326.

كم هو الأنس بالروح بالجسد؟! يُعادله وحشة الجسد عندما تفارقها الروح.

[7]– النفس التي تأنس بالله فلتفقد ما تفقد، ومن تفقد، وإن كان أعز عزيز إلا أنها لا تأسرها مع أنس الله وحشة.

 

[9]مشكاة الأنوار ص223 ط1.

[10]– الأنس بالله مفتوح، لكن علينا أن نتهيّأ له، أن نعدّ قلوبنا له.

[11]– ومن كان يطرد الوحشة عن أبي ذر في البيداء المقفرة؟!

[12]بحار الأنوار ج91 ص395 ط3 المصححة.

اذكر الله تأنس.

[13]المصدر السابق ص387.

[14]نهج البلاغة ج2 ص221 ط1.

والي الله تأنس.

[15]عيون الحكم والمواعظ ص135 ط1.

[16]مصباح المتهجد ص593 ط1.

[17]المصدر السابق ص378.

[18]– سورة التوحيد.

[19]– هناك اجتهادات فجّة في المهم من قضايا الإسلام بينما لا تملك أي برهان.

[20]– ولا نرضى بذلك.

[21]– لا حلّ إلا إصلاح سياسي، ولا ارتفاع لمشكلة الحقوق إلا بحلّ سياسي.

[22]– هذا الاتجاه صار يسود البلاد العربية التي تعيش الصراع. أكثر البلدان التي تعيش الصراع تتجه هذا الاتجاه لعجز الأسلوب الأمني عن إنقاذها.

[23]– إذا أنت مسلم تعرف من أخيك المسلم هذا الأمر.

[24]– هتاف جموع المصلين (بالروح بالدم نفديك يا إسلام).

[25]– هتاف جموع المصلين (هيهات من الذلة).

سماحة الشيخ: أدام الله هذا الشعور، وغزّره وركّزه في نفوس المؤمنين.

[26]– هتاف جموع المصلين (فليسمع رأس الدولة، هيهات منا الذلة).

[27]– هتاف جموع المصلين (سحقا سحقا للعملاء).

[28]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى