تغطية مصورة : خطبة الجمعة 3 شهر رمضان 1434هـ – 12 يوليو 2013م

 

 

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى : عن الكتاب الكريم

الخطبة الثانية :  تصديق لا يطاق –  أدواتنا مختلفة – إلى متى انتظاركم؟

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي لا تجوز عليه التثنية ولا التركيب، ولا الزّيادة ولا النّقص والتغيير، ولا شبيه له ولا نظير، ولا مستشار ولا وزير، وهو بكلِّ شيء عليم خبير، وعلى كلِّ شيء مهيمن قدير.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله ما أخذت نفس بالشرّ إلَّا لسوءٍ فيها وسقمٍ وانحراف، وما استقامت على طريق الخير إلّا لهدًى وصحّةٍ واعتدالٍ ورشدٍ وصلاح.

       لذا تُعرف النفوس مما تُقيم عليه من مسلكِ الخير والشرّ، وما تثبُتُ عليه من طاعة الله ومعصيته فلا تشتبه نفسٌ على أحد لا يُرى منها إلَّا الخير، ولا أخرى لا يُرى منها إلَّا الشرّ؛ فهذه نفسٌ لا قبول بها ولا عليها من الصّالحين، وتلك نفس مما تلتقي معها أفئدة الصالحين، ويجدونها مما يشتهون.

       ولا ينبغي أن يتردّد أحدٌ في أنَّ نفسَهُ معيبةٌ معطوبة، وأنَّ في ذاته خبثًا وخسّة، وأنّها رديئة وساقطة وهو يجدها لا تُقبِل على خير، ولا تُقلِع عن شر. وكلّما وجد المرءُ من نفسه أخذًا بمعصية الله سبحانه فلابد أن ينكشف له سوءٌ من سوئها، فعليه أن يُسارع في إصلاحها، وإلّا فقد فرّط في حقّ أعزِّ ما يعزّ عليه مما له وهي نفسُه، وأسلَمَها للهلاك. وما من حكيم عاقل يفعل بنفسه أن يُفرِّط كلَّ هذا التفريط، ويكونُ كلّ سعيه في هلاكها.

       فلنكنْ أيّها المؤمنون على عقلٍ وحكمةٍ ورشد، ولا نتركْ للنفس أن تبقى على معصية لربّها الحقّ، أو تُقدِم عليها لتكون من أهلَكِ الهالكين، ولنطلبْ لها تقوى الله في كلّ المزالق والمنعطفات، وفي كلِّ مورد من موارد الزَّلل لنكون قد أخلصنا إليها، ونجونا من أشدِّ محذور حقَّ للنفس أن تخشاه، وما يتساهل به إلّا من لم يبقَ له من رشد الإنسان وحكمته ولو قليل من رشد، وحكمة.

       اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم أتمم لنا رشدنا، وارزقنا من الحكمة ما يحجزنا عن معصيتك، ومن تقواك ما يحول بيننا وبين الذنوب ما كبُر منها وما صغُر، فكلّ ذلك مبعِّد عنك، ولا يليق بعبدٍ من عبادك أن تكسِبه يداه، فأنت جلَّ ثناؤك أهلُ للطاعة والتقوى، لا لأنّ تُعصى لطرفة عين، ولا لأن يُخالف أمرُك ونهيُك أدنى مخالفة يا عليّ يا عظيم، يا رؤوف يا رحيم.

       أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث عن الشهر الكريم والكتاب المجيد العظيم، وصلبه حديث كتاب الله نفسِه عن نفسه، وعن الشهر الذي تنزّل فيه وجوب صومه. ولا مؤاخذة في ذلك، ولا غرابة، ولا خروج عن مقتضى التفكير العلمي، والمنهجة العلمية والموضوعية بعد أن علمنا أنه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه([1]).

       عن الكتاب الكريم:

       {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ…}([2]).

       النّاس على ما لهم من مواهب إلاهية من فكر وإلهام، وما فيهم من نماذج إنسانية متميزة في الإدراك، ولها نصيب كبير من رشد الفطرة، وهداها يحتاجون في أمر دينهم ودنياهم، وتمام رشدهم وكمالهم إلى هدى يُتمّم ما أُعطوا من هدى، وينادي به كذلك ما أُعطوه من هدى بحسب الفطرة يتنزّل من الله سبحانه لقيادة حياتهم، ويتنزل على قلب رسول أمين يعلمُه، ويفقهُه، ويحفظه، ويبلّغه، ويأخذ بكلّ هداه في قيادة الحياة([3]).

       والقرآن أتمّ هدى، وأوسع هدى، وأبقى هدى في النّاس لا يُبقي عند حملة علمه الكامل على الحقيقة شيئًا من الاشتباه بين حقٍّ وباطل، صحيحٍ وخطأ في أيّ قضية من القضايا التي تحتاجها الحياة، وتصنع للإنسان سعادته أو شقاءه، وتُحقّق له كماله، أو تنحدر به عن مستواه. إنّه فارق بكامل الدّقة والتمييز علمًا وأخذًا وردًّا، نفعًا وضرًّا بين ما هو حقٌّ وباطل.

       {وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}([4]).

       يمكن لأحد أن يأتي بكتاب يدّعي أنه من وحي الله إليه وتكونَ له صِبغة من إبداع وجمال، وفيه حِكَم وفوائد، ولكن وهو مكذوب على الله سبحانه لا يمكن أن يحمل شاهدًا من نفسه على عصمته، وامتناعه على القدرة البشرية، وأنَّ الجنّ والإنس لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.

       أما القرآن الكريم فهو يحمل شاهده من صدقه، ومن فشل كل محاولة نقد تتصدّى إليه، وكلّ جهد لمجاراة مستواه، وسقوط كلّ نتاج بشري يطمح لرقيه، وتقادم كلّ جديد أمام جِدَّته، ويأس كلّ ما بذل في سبيل موازاته. هذا واقع وقد خاص معاندون ومغرورون وواهمون كلَّ هذه المعارك مع القرآن الكريم وسقطوا واندحروا مهزومين. وها هو القرآن يتحدّى ما بقي إنس أو جان كلّ الإنس والجان فيقول:{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}([5]) والباب لا يزال مفتوحًا على مصراعيه لمن أراد أن يُجرِّب قدراته العلمية والأدبية وخبرته ودراساته وعبقريّته فيدخل في معركة من التحدّي ضدّ القرآن في محاولة تستهدف أن يأتي ومن أراد أن يشترك معه في جهده ومحاولته بما يُجاري مستوى القرآن وإحاطته وعصمته([6]).

       إنَّ القرآن كتاب هدى لا غنى للأرض في يوم من أيامها عنه، وهو كتاب لا يمكن أن يأتي أحد بمثله، وما يقوم مقامه، ويُستعاض به عنه.

       وخذ من أوصاف هذا الكتاب الكريم العظيم لنفسه بما يظهر جلاله وعظمته، ولا توقُّف في ما يُثني به عليه من كريم صفاته وقد ثبتت نسبته إلى الله جلّ جلاله.

       {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ…}([7]).

       إنَّ هداية القرآن لا تتخلّف ولا يدخلها خطأ، وما من طريقةٍ، أو فكرةٍ، أو سلوكٍ هدى إليه هاد يمكن أن يكون أقوم وأصحّ، وأدقّ، وأوصل إلى الغاية الحميدة، وأرفق بالإنسان، وأصلح وأنفع مما هدى إليه القرآن الكريم أو يُصيب الهدى لو خالف ما دلّ عليه.

       ولا يمكن لكتاب سَبَقَ أو يأتي بعد القرآن من وضع البشر، ولا لأطروحة مما يطرحون، ولا لمستجدّ مما تتفتّق عنه عقولهم وعبقرياتهم يهدي هدايته ويصل إلى ما يصحُّ مما يُخالفه، أو يرتقي إلى قّمّة ما ارتقى إليه، ويُقدّم ما هو بمستوى صحة ما قدّمه وعصمته.

       وكلّ الصواب في ما يلتقي معه، ولا صواب في ما فارقه.

       {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}([8]).

       لا ميل فيه عن الحقّ، ولا انحراف عن الصواب، لا يدخله خطأ، لا يمسّه ضلال، لا يخالطه باطل، لا يمازجه هوى.

       هكذا هو فكرًا ومضمونًا، وهكذا هو أسلوبًا وتعبيرًا، وهكذا هو هدفًا وقصدًا وغاية.

       {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}([9]).

       {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}([10]).

       قرآنٌ ذكرٌ لا غفلة فيه عن الحقّ، وعلمٌ لا مكان فيه للجهل، ونورٌ لا تغشاه ظلمة، ويقظةٌ لا ينتابها فتور، وهو جِدٌّ لا هزل فيه.

       قرآنٌ يمنح الذِّكر والظهور، والعلوَّ والتفوّق، والتقدّم والسَّبْق، ويخرج الآخذين به من خمول الذكر إلى شرف الشهرة الحميدة العالية، وموقع القدوة الصالحة، ومنار الهدى للسائرين.

       والأمة التي تجد القرآن وتتوفّر عليه وتظلّ خاملة متخلّفة ذليلة ذيلية تسأل بين يدي خالقها لتفريطها في نعمة الكتاب الذكر الهادي المربّي المزكّي الصنّاع([11]).

       نقرأ هاتين الآيتين معًا:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}([12]).

       تسألون عن رعاية أمانته، عن الاستفادة من نوره، عن الاهتداء بهداه، عن استمساككم به، عن بناء حياتكم وكل أوضاعكم في ضوئه.

       كيف تكونون الأمّة الجاهلة، والأمة المتخلفة، والامة المتحاربة، والأمة الفقيرة، والأمة الذليلة، الذيلية التابعة والكتاب بين ظهرانيكم وفي متناولكم؟!

       وكل العالم الذي وصله نبأ الكتاب لا يُعذر في جهله، وتخلّفه، وانقساماته الضارّة، وفتنه وضلاله، وانتكاسته، وبقائه في الظلمات والكتاب قادر على إخراجه من الظلمات إلى النّور، والقرآن جاهز للانتقال به من الشقاء إلى السعادة.

       هذا وللحديث تتمة.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم عرّفنا ما لكتابك الكريم من شأن عندك، وما لشهر رمضان من حرمة لديك، وما لهما علينا من حقّ، وأعنّا على أداء حقّهما، ورعاية حرمتهما، والانتفاع ببركتهما، واجعلنا من عتقائك من النار.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([13]).

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية

       الحمد لله الذي لا حمد يبلغ شأن حمده، ولا شكر يفي بحقّ شكره، ولا مجدَ يصل إلى مجده، ولا جلالَ كجلاله، ولا جمالَ كجماله، ولا كمالَ يُقارب كماله، وكلُّ ثناء يقصر عن ثنائه. فوق كلِّ محدود إذ لا حدّ له، وكلّ محدود من صنعه، وكلُّ قابل للعدّ من خلقه، وكلّ من سواه، وما سواه من إبداعه وعطائه.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله من وقف حياته على النية الصالحة والعمل الصالح ووجّه وجهه لله وحده عاش عيشًا حميدًا، وانقلب منقلبًا سعيدًا.

       ومن نوى سيئًا وعمل سيئًا وكان توجّهه في حياته لغير الله سبحانه فلا بُدَّ أن يخِسّ، ولابد أن يشقى، وينتهي به العمر إلى أسوأ مصير؛ فلنحسن لأنفسنا، ونطلب لها العاقبة الكريمة، والمنقلب السعيد. ومن اتّقى الله، واتبع دينه، واستعان به، وتوكّل عليه بلغ المطلوب، وتحقّقت له الغاية. وهكذا كان النُّخبةُ من البشر، وعبادُ الله الصالحون.

       اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم اجعلنا ممن استعصم بك، وتوكّل عليك، واستمسك بالعروة الوثقى من دينك، ولم يألُ جهدًا في طلب مرضاتك فقبلته، وقرّبته إليك، وأدنيته لديك، وشرّفته بذكرك، وجعلته من خاصّة أهل رحمتك، ورفعت درجته عندك يا حنّان، يا منّان، يا رؤوف، يا رحمان، يا رحيم.

اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا قريبًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى بعض كلمات:

       تصديق لا يطاق:

       حتّى يُجرِّد شخصٌ أو جهةٌ شخصًا آخر من ملابسه في تهديد له بالفجور والفحشاء للاعتراف على نفسه أو غيره بما يريده منه ويفرضه عليه ذلك الطرف فلابد أن يكون المقدِمُ على هذا العمل متخلّيًا عن دينه وعن إنسانيته وآخر ذرة من شرفه. وإذا كان التهديد لامرأة مؤمنة كشف هذا الفعل عن أنَّ القائم بهذا المنكر والتهديد بعيد بمسافات ومسافات شاسعة عن قضية الدّين والشرف والغيرة، وكلّ خلق إنساني كريم، وكشف عن دناءة وخسة تبعث على غثيان النفوس([14]).

       وحيث يحدث هذا في الجوّ الرسمي وتحت الرعاية الرّسمية، ومن قِبَل الجهة الرسمية فالمصيبة الدينية والخلقية والإنسانية لا توصف، والبشاعة أشد وأقبح وآلم.

       ومن يستطيع أن يتحمّل أن يسمع مثل هذا الخبر الفظيع القاتل، ومن يتصور أن يحدث هذا على يد جهة رسمية في بلد من بلاد الإسلام، جهة رسمية كثيرًا ما تحدّثت وتتحدث عن الإسلام وباسم الإسلام وتحتجّ بالإسلام.

       وأيّ مسلم لا يُستثار لخبر هذا الفحش، وأي مسلم له ذرة من إيمان، وإنسان له ذرة من غيرة أو خلق يهون عليه أن يسمع به، فضلًا عن أن يسكت عليه؟!

       لقد صرَّحت الفريسة المظلومة بما صرّحت به في هذا الأمر، وحوادث من هذا النوع متكررة([15])، وإلّا كان التصديق لا يطاق.

       أدواتنا مختلفة:

       توجد مواجهة بين السلطة في البحرين وبين حركة واسعة من الشعب سببُها سلبٌ للحقوق من جهة، ومطالبة بها من جهة أخرى. وهي حقوق لا يمكن لوزنها الكبير، وأهميتها البالغة، واتّصالها بحقّ الحياة، وكرامة الإنسان أن يتغاضى أحد عنها، أو يطول الصبر على سلبها.

       لذلك انطلقت هذه المواجهة، ولا زالت، ولن تزال ما دام سببها قائمًا، وبقيت السلطة تتنكّر لهذه الحقوق، وتُصرّ على استمرارها في مصادرتها.

       والكلام في أدوات هذه المواجهة ومصادرة القوّة عند الطرفين:

       أما عن مصادر قوّة السلطة فموارد دخل الدولة من نفط وغيره، ومعوناتٌ سخيَّةٌ من الخارج لدعم موقفها، و قوة سلاح وجند وشرطة، ومواقف داعمة من دول يُعبَّر عن بعضها بالشقيقة، والأخرى بالصديقة ممن تُلاقي بينها وبينها المصالح ذاتُ الطابع المعروف، ومن مصادرها موالون، ومسخّرون للخدمة خوفًا أو طمعًا وحفاظًا على الدنيا ومكاسبها.

       ومن مصادر القوة للحراك الشعبي إيمان قوي متجذّر بضرورة الإصلاح والتغيير، وضيق لا يُطاق بما وصل إليه الاستهتار بالحقوق من درجات طاغية، وعزم بالغ، وإرادة لا تلين ولا تنكسر، وسخاءُ تضحية، وصبرٌ على البذل والمشقة لا ينقضي، وبقيّة ضمير في هذا العالم قد تنتصر للمظلوم هنا وهناك، ومعاناة ظلم طافح تشترك فيها أكثر فئات الشعب من كلّ الانتماءات والتوجُّهات، وحقانية المطالب واعتدالها وعدالتها، وكونها لا تُنافي شيئًا من العرف العالمي السائد اليوم، وتنسجم تمام الانسجام مع حقوق الإنسان، ومقررات الأمم ومواضعات الدول المشتركة وما انتهت إليه السياسة العالمية نظريًّا من مسلّمات، وصارت شعارًا عند عموم الشعوب، مع كون مطالب الحراك الشعبي في صيغتها المطروحة من الجمعيات السياسية المرخّصة دون كل السقوف التي طرحتها الثورات العربية المزامنة لهذا الحراك، وخاضت معاركها الصعبة الضارية من أجلها.

       وأمَّا عن أدوات الطرفين فمن جهة السلطة فهي:

       قوات أمن مدجّجة بالسلاح تملأ الساحة كلها، وجيش قد تدخّل فعلًا وهو جاهز للتدخّل في أي وقت لقمع كلّ مظهر من مظاهر الاحتجاج، وإسكات الصوت المطالب بالحرية والحقوق، جيشٌ تُشارك فيه قوة من الداخل والخارج، وتصدر عنه تهديدات للمواطنين بين حين وآخر، ولا يرى مانعًا من تنفيذ ما يُهدِّد به، ومن هذه الأدوات سجون ومدد حبس طويلة، وتحقيق فيه وجبات غليظة من العذاب والهتك، ومحاكمات يرى فيها الخارج فضلًا عن الداخل المعارض وبحسب ما يشهد به واقع هذه المحاكمات أنّ منطلقها وطابعها في كثير من الحالات على تقدير، وفي الأعمّ الأغلب في تقدير آخر سياسيٌّ لا غير.

       وعن أدوات الحراك الشعبي في الطابع العام والواقع الإجمالي فهي مسيرات واعتصامات وتجمّعات سلميّة، وإعلام يعتمد الموضوعيّة ويجهد أن يتوخّى الدقّة من غير أن أدّعيَ أنه لا يمكن أن يتخلّل ذلك تزيّد وعدم دقّة على هذا اللسان أو القلم أو الوسيلة الفلانية من وسائل الاتصال على الإطلاق.

       ولكن حين ننظر إلى مراكز الإعلام المعتمدة في الحراك فهي تتحاشى ما استطاعت أن يدخل إعلامها الخبر البعيد عن الصحة، والصور المضخِّمة للأحداث، وأن تعتمد الكذب والافتراء في هذا الإعلام.

       يُقابل ذلك إعلام رسمي يعرف كل المستهدفين منه وله أنه مليء بالزيف والافتراء والاختلاق، وقلب الحقائق رأسًا على عقب([16]).

       وفيما يخصّ قضية المساجد المهدّمة والممنوع أن يُعاد بناؤها والتعبُّد على أرضها يتقابل النوعان من الأدوات:

       النوع العقلي القائم على الوثائق، والواقع التاريخي القديم للمسجد، والنوع الثاني الذي يعتمد لغة القوة والغاب والناب والظفر، لغة السلاح والقتل والسفك والدم والتهديد والوعيد، وهكذا هو الأمر في كل ساحات الصراع بين دعاة الإصلاح والتصحيح والمدافعين عن الأوضاع الجائرة.

       فطبيعة الأدوات المستعملة لهذا الطرف تختلف اختلافًا هائلًا طبيعة وحجمًا وأخلاقية وأثرًا عن طبيعة ما بيد الآخر، وما يستعمله.

       ففي جانبٍ كلمةٌ، وقبضاتُ أيدي تمتدّ في الهواء، وفي جانب آخر غاز سام ورصاص حي وشوزن، وخراطيم مياه حارة ملهبة. والفاعلية سلاح الكلمة تختلف عن فاعلية سلاح النار والحديد. لسلاح الكلمة فاعلية بأنه قد تكون الكلمة قارصة ومحرجة ومعرّية وملزمة عقلًا، أما فاعلية الأدوات الأخرى المقابلة فتدميرية قاتلة.

       ومع ذلك يبقى الحقّ هو الأقوى والأثبت، وفي صلابة الإرادة وقوة الصمود معجزة لابد أن تتراجع أمامها قوّة السّلاح، وبطش النار والحديد.

       النصر والعزُّ للشعوب المكافحة من أجل الحقّ، وفي طريق الحقّ، ولهذا الشعب الأبي الكريم الذي لا يبتغي ظلمًا، ولا يريد فسادًا، ولا يميل للعدوان.

       إلى متى انتظاركم؟

       الوضع في البلد يتأزّم، المشكل يتفاقم، الاقتصاد يتراجع، السمعة السياسية تسوء، الوضع الحقوقي يُمثِّل فضيحة، الأمن يتدهور، خسائر الوطن تتزايد، الثقة تنعدم، الجروح تتعمّق، المخارج تتلاشى فإن كان عند السلطة أو بعض أطرافها حلّ ذو قيمة، حلّ قائم على العدل، معترفٌ بحقوق الشعب فإلى متى الانتظار؟

       إلى أن تنسدّ كلُّ الأبواب، وتتبخّر كلّ الفرص، وتطغى المحنة بحيث لا تترك حكمة ولا عقلًا، ولا مجالًا لكلمة مهدّئة، ولا فاعليّة لنصيحة ناصح؟!

       يبدو أنّ ما يُسرّب عن نية الحل، التفكير في الحل، رغبة فيه ما هو إلا تمويه وسراب، وهكذا تقول الأحداث على الأرض في توتيرها وتصاعدها وتكثيفها وشراستها مما يصدر عن الجهات الرَّسمية. إنَّ كلّ ذلك ليقول لا نيّة في الإصلاح، ولا تفكير فيه عند الطرف الرَّسمي على الإطلاق إلّا أن يكون النقيض مقدّمة لنقيضه، وأرضية ممهدة له([17]).

       وسواء كانت هناك نية إصلاح أم لم تكن، كان هناك مشروع إصلاحي يستحق النظر أم كان مشروعًا لمجرد الدعاية وسدًّا للحاجة الإعلامية، قريبًا كان ذلك أم بعيدًا، فكلّ ذلك لن يؤثّر على الحراك الشعبي، ولا على اندفاعته وإصراره على المطالبة بالحقوق بالطرق السلمية الممكنة ومواصلة الصمود حتى يُعترف بالشعب ويُسترجع الحقّ، ويكون عدل.

       وإنّه لغريب ممن يستنكر على هذا الشعب بمطالبته بالتوزيع العادل للدوائر الانتخابية، وإذا اعتُرِف له بشيء من ذلك قالوا بتوزيع أكثر عدالة ويعني ذلك تعديل التوزيع الجائر المبخِس بعضَ الشيء أما بلوغ الحدّ العادل فدونه ما دونه.

       وقد تُشارك دول من الدول التي تقود حركة الديموقراطية في العالم حسب المدَّعى في هذا الاستخفاف بحق المواطن هنا وتأخذ بهذا الرَّأي([18]).

       ويُستكثر على هذا الشعب أن يطالب بمجلس نيابي كامل الصلاحيات وإذا رأوا أن يوافقوه بعض الشيء أنقصوا صلاحياته، وإذا أصر الشعب على مجلس نيابي عن طريق انتخاب نزيه حر يتساوى فيه صوت المواطن مع أخيه المواطن الآخر وضعوا لنوّاب المعارضة زيادة طفيفة وسلبوها كلّ قيمتها وأصرّوا على ضمان الأغلبية عن طريق إبقاء مجلس الشورى المعيَّن وإشراكه في حق سنّ القوانين([19]).

       وإذا نادى الشعب بالحكومة المنتخبة عن طريق مجلس النواب قالوا بأنّ بتعيين رأس الحكومة غير القابل للتصويت وقالوا بضمان العدد الأهم من الوزارات وتجييره لهم بعيدًا كل البعد عن رأي الشعب.

       وإذا طالب الشعب بالمساواة وفتح الباب للدخول في سلك الجهاز الأمني والجيش أمام كل مواطن راغب قادر قالوا بأنَّ ذلك لابد أن يخضع لجدول زمني يطول وأن الباب موصد أمام فئة خاصة من المواطنين حتى صدور قرار سياسي لا علاقة للشعب به بفتح هذا الباب.

       بعد هذا كله هل يمكن صدق الإصلاح؟ إنه إصلاح إسمي…. إصلاح بلا لون ولا طعم ولا وزن، ولا جدوى ولا واقع…. ونأتي لدول من الدول التي ترفع شعار الحرية والديموقراطية وحمايتهما وتقيم حروبًا باسمها وباسم إنقاذ الشعوب فتنصح بقبول هذا الإصلاح الوهميّ غير الفاعل الكسيح.

       أُمنيتنا أن تهدأ كلُّ الأوضاع في وطننا وأن يأمن الجميع، ويطمئنّ الجميع، وتطيب على هذه الأرض للجميع الحياة؛ وكلُّ ذلك ممكن ومتأتّ، وبابه مفتوح، وقريب وليس ببعيد لو سلِمت نيّة السلطة وجدَّت إرادتها في الإصلاح، وأقدمت على القبول بإصلاحٍ حقيقيٍّ وحلٍّ قادرٍ على إنهاء الأزمة، وتحقيق الإنقاذ.

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم يسّر لنا أمر ديننا ودنيانا، وأخرجنا من كلّ مضيق، ومن كلّ كربة، وانصرنا على كلّ معتدٍ أثيم يا قوي يا عزيز، يا فعّالًا لما يريد، ولا يردّ أحد قضاءه، ولا مُعطّل لمشيئته يا رحمان يا رحيم.

       اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين، وفك أسرانا وسجناءنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}([20]).

 

[1]– وإلا فشهادة المرء والمصدر نفسه لنفسه لا تُقبل، لكن كتاب الله ما دام ثبت أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لا تُردّ له كلمة على الإطلاق.

[2]– 185/ البقرة.

[3]– الناس محتاجون للكتاب وللرسول صلّى الله عليه وآله.

[4]– 37/ يونس.

[5]– 88/ الإسراء.

[6]– وأنّى لأحد يتحقق له ذلك؟!

[7]– 9/ الإسراء.

[8]– 28/ الزمر.

تبحث عن عوج كبُر، صغُر، كثُر، نَذَر لا تجد في القرآن الكريم أيّ وجه.

[9]– 69/ يس.

[10]– 44/ الزخرف.

[11]– أنتِ يا أمّة الإسلام عندك كتاب الله، فمسؤولية كبرى تتحملينها أن تكوني متخلّفة عن أي أمة من الأمم في أي بُعد من الأبعاد الإيجابية. القرآن يُحمّلكِ مسؤولية أن تتقدّمي الأمم كلّ الأمم في كلّ ما هو صالح، وفي كل ما هو حقّ، وفي كل ما هو تقدّم حقيقي وخير.

[12]– 43، 44/ الزخرف.

[13]– سورة التوحيد.

[14]– هتاف جموع المصلين (فليسمع رأس الدولة، هيهات منا الذلة).

[15]– مما يجعلك لا تردّ كلامها. وإلا كان التصديق من الصعب جدًّا جدًّا.

[16]– الكثير منا كيف يصدق هذا الإعلام وقد ناله شخصيا من كذبه وافترائه الكثير، كثيرون هنا وهناك عانوا هذه المعاناة.

[17]– ونحن لا نعرف هذا الشيء إلا على وجه خاص.

[18]– الدول المتقدّمة في ديموقراطيتها والتي تدّعي أنها راعية الديموقراطية في كل الأرض تقبل أن يُعدّل توزيع الدوائر الانتخابية بعض التعديل بحيث لا يرقى هذا التعديل إلى ما هو التعديل العادل.

[19]– يُعطون المعارضة ثلاثة مرشحين أزيد من الموالاة ولكن أربعون عضو شورى يقفون ضد هذه الكتلة النيابية المعارضة.

[20]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى