خطبة الجمعة (562) 25 شعبان 1334هـ – 5 يوليو 2013م

IMG_0338

 

 

مواضيع الخطبة :

 

الخطبة الاولى : مدرسة الشهر الفضيل

الخطبة الثانية :   أيُّ حراك حراكُ هذا الشعب؟ – لا تفعلوها – درسٌ من مصر

 

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي خَلَقَ عبادَه للرّحمة لا للنَّقِمَة، وللسَّعادة لا للشَّقاء، وللخلود لا للفناء وإنْ أماتَهم إلى حين. والحمد لله الذي جَعَلَ للسّعادة طريقًا واضحًا مفتوحًا ودعا إليه، وأرسلَ الرُّسل، وأنزل الكتبَ لبيانه وتفصيله، وجَعَلَ عبادتَه وحده العبادةَ الخالصةَ معراجًا يصلُ به العبدُ إلى كماله، وينالُ به القُرْبَ من ربِّه، ويتبوّأ به المنازلَ الرّفيعة في الخُلْدِ من فضله، وشَرَّعَ الصيام وهو نيّة قربى خالصة إليه وجملة تروكٍ لا تراها العيون من الصائم ولا شيء يدركها من جوارح الآخرين تربية للإخلاص وللزيادة في المثوبة، وإعانة على الشّيطان الرّجيم.

       الحمد لله الذي لا وجودَ كوجودِه، ولا حياة كحياته، ولا قدرة كقدرته ولا علمَ كعلمه، له الكمالُ المطلق وحده، ولا كامل على الحقيقة غيرُه.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله من اتّقَ المولى الحقَّ نجا، ومن فَجَرَ هلك، ومن أطاعه اهتدى، ومن عصاه غوى. وكلُّ الناس إمّا مهتدٍ أو ضالّ، وليس من ضلّ كمن اهتدى، فللمهتدين مأواهم، وللضّالّين مأوى آخر وقرار شقاء، بينما المهتدون إلى قرار السّعادة وحياة الهناء.

       ومن قدَّم تقوى العباد على تقوى ربّه الحقّ وهو خالقهم ومالكهم ومدبّرهم وإليه المصير فقد ضلّ، وانحرف به السَّبيل. فلا يعدلنَّ بنا جهلٌ أو غرور أو غفلة أو نسيان عن ذكر الله وتقواه فنعدِلَ غَضَبَ غيره بغضبه، ورضاه برضاه فنكون من الجاهلين، وأخسر الخاسرين.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصدقائنا وأزواجنا، ومن علّمنا علما نافعا من مؤمن ومؤمنة في دين أو دنيا، ولجميع المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم لا تجعلنا فريسةً للهوى والجهل والغرور، ولا توقعنا في الغفلة القاتلة فنضلّ سبيلَك ونعدل بك أحدًا ممن ناصيته بيدك، وكلُّ أمره إليك، واجعل تقوانا منك، وتعويلنا عليك يا أرحم من كلّ رحيم، وأكرم من كلّ كريم فكلّ رحيم من دونك رحمتُه تضيق، وكلُّ كريم سواك يقف كرمه، وأنت وحدك لا تضيق رحمتُك، ولا يقف عوزٌ بكرمك.

       أما بعد أيها الأخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات الأعزّاء فالكلام في هذه الخطبة تحت عنوان: مدرسة الشهر الفضيل:

       شهرٌ واحدٌ قمريٌّ في كلّ سنة هو شهر رمضان المبارك اتخذته الشريعة الإسلامية مدرسةً عباديةً للناس قوامها الصوم بنية مخلَصة لله سبحانه. طُلَّابُها كلّ مؤمن بالغ قادر عاقل متوفّر على بقيّة الشروط، والمدرس فيها لكلّ طالب هو الطالب نفسه، وهو المراقب لسير عملية التربية والتعليم لذاته، أمّا المنهج التربويُّ([1]) فهو صياغة إلهية متعالية فوق كلّ صياغة.

       أجواؤها في البلاد الإسلامية الملتزمة تعمُّ كلّ جنبات المجتمع، وأوقات ليله ونهاره حيث التلاوة والدعاء والمناجاة والذكر والصّلاة، والدرجة العالية من الانضباط في السلوك.

       الهدف أن تُغمرَ القلوبُ بالتقوى، فتشِفَّ وتنقى، وتزدهر، وتتألّق، وتصلُحَ، وترقى.

       وحينئذ تستقيم النفس، وتنشط في الخير، وينفكُّ ارتباطها بالشرّ، وتصلح كلّ الأوضاع، وتهنأ الحياة، ويكون النّاس على طريق الغاية، وينتهون إلى العاقبة الحميدة، وسعادة الأبد.

       فالدورة التربوية قصيرة – شهر واحد -، أمَّا عطاؤها فضخم، ونتاجها يفوق كلَّ حساب، ولا انقضاء له مع الزمن، ويظهر أكثر ما يظهر لكلّ نفس بعد هذه الحياة.

       وإذا كان ذلك هو الهدف، وكان لهذه المدرسة كلُّ ذلك العطاء والنتاج، فصوم شهر رمضان بهدفه المذكور وعطائه الضخم لابد منه لتلبية حاجة الحياة، وحاجة الإنسان؛ حاجة دنياه وآخرته.

       صحّة أوضاع الحياة، سلامةُ بُنْية المجتمع، إقامة مجتمع القسط والعدل والإحسان، والتعاون في الخير، ودرء الشرّ، مجتمعِ الأُخوَّة والمحبَّة والمودّة، والصفاء والصدق والإخلاص والعمل الصالح لا يتمُّ شيءٌ منها إلا بأن يكون وراء حركة الحياة في الأرض قلوبٌ مصنوعة تلك الصناعةَ التي تُحقّقها مدرسة الصوم والصلاة والعبادة فتُخرِّجها قلوبًا هادية مهديَّة، نقيّة زكيَّة، راشدة وعيَّة، نورانية مشعّة، لها رقيّ وسموّ من صلتها الدّائمة بالله، وتعلُّقها به، وزاد تقواها منه، وعِشقِها لجلاله وجماله وكماله.

       وكما للإنسان حاجاتُ حياةٍ بأن تستقيمَ أوضاعه فيها، ويبني مجتمعًا يُشكِّل بيئة آمنة وصالحة لنموّ الأفراد، وتقدُّم الأوضاع، مُفعمة بالمحبّة والمودّة فإنَّ له حاجة النجاة يوم الآخرة والفوز فيها والتمتُّع بالسعادة الأبدية، وأن تبنيَ له حياتُه على الأرض المستوى الذي يُؤهِّله لملاقاة يوم القيامة ويُعِدّه لنيل سعادتها التي لا تتحقّق إلَّا لذاتٍ نَقَتْ وسَمَت لا تعرف غير الاستقامة، ولا تميل إلى فعل شرٍّ على الإطلاق، وهذه الحاجة لا تفي بأدائها إلا مدرسة الصّوم والصّلاة والعبادة.

       ذلك هو الهدف وتلك هي الحاجة الذاتيّة في وجود الإنسان، والحاجة الدنيويّة والأُخرويّة التي يطلب سدَّهما.

       أما وسيلة هذه المدرسة في تربيتها للإنسان، وتحقيق هدفها فشيءٌ من جوع، وشيء من عطش، وامتناعٌ من بعض الأمور لا يُعطِّل حياة الإنسان، ولا يشُلَّ حركته، ولا يقف بعجلة إنتاجه، ولا يوقعه في الضرر ينطلق من إرادةٍ حرَّة، واختيار رشيد، ورؤية سديدة واضحة، ووعي للمنطلق والهدف، وقيمة التكليف، واستحقاق الطّاعة للآمر وغِناه وحكمته ودِقّة علمه وتقديره وصوابيّة هذا العلم والتقدير، ورحمته، وعظيمِ لطفه، وجليل ثوابه.

       وليس هو من الجوع والعطش والامتناع الاضطراريّ، ولا المنطلِق من تعذيب النفس، ولا الذي تسوق إليه العادة، أو الذي يُراعي ذوقَ النّاس وأوضاع المجتمع، ورضا المخلوقين، ولا مما نبتت القناعةَ به بتأثير البيئة الموروثة، والتقليد الموروث.

       وعندما يكون المستهدف لهذه المدرسة صناعةَ الإنسان وإصلاحه وتغييره، وتصحيح وتطوير محتواه، والدفعَ بمستوى ذاته فلابُدَّ أن يكون خطابها لكلِّ أبعاد التلقّي المزكّي والمُوقِظ، والمُرتفع بمستوى هذه الذات. وخطابُ الصوم بما فيه من امتناع عن تلبية بعض حاجات البدن وهي الأكل والشرب بما لا يُفسد صِحّته، وبعض شهوات النفس كالنِّكاح، وأمور أخرى في أرقى نيّة، وأسمى قَصْد من امتثال أمر الله سبحانه، والتقرُّب إليه، وطلب رضوانه، وفي إخضاع إرادة النفس لأَجَلِّ إرادة، وأنْزَهِ إرادة؛ إرادة الكامل سبحانه؛ هذا الخطابُ خطابٌ لعقل الإنسان، وقلبه، وجانبه الرّوحي، ولإرادته بأنْ تزيد في تعلُّقها بالله سبحانه، وتُواصل توجّهها إليه، وتشتغل بذكره، وتتقدم في حركتها إليه، تلتزم صراطه، لا يشُلَّها شاغل عنه، تُنتج السّلوك الذي يُرضيه، يكون خوفها منه، رجاؤها فيه، حبُّها وعِشقها إليه. وفي هذا رُشْدُ الإنسان وسموّه، وكماله، وسعادته.

       ولدخول كلِّ مدرسة تأهُّلٌ وإعداد، وقريبًا يدخل المسلمون مدرسةَ الصوم في دورتها لهذا العام، فما هي إلَّا أيَّام وتتشرّف الأمة بالشّهر الكريم.

       فاستقبالًا لهذا الشهر المبارك الفضيل، وإعدادًا للنفس للتلقّي من دروسه، والارتقاء إلى مستوى الاستفادة من عطاءاته، واستذواق موائده، وأداء شيءٍ من حقِّه، والخروج منه بحصيلةٍ مما كان من أجله لابُدَّ من وقفةٍ مع الذات قبل لحظة لقائه، ووصول لياليه وأيامه.

       وقفةٌ فيها مراقبةٌ ومحاسبةٌ ومعاتبةٌ؛ فيها تقويمٌ، وتخليصٌ للنفس من العيوب، ومطالبةٌ بالتراجع عن الأخطاء، فيها انسلاخ من الذنوب، وأَخْذٌ بالنهوض. فيها تصحيح ودفع لها إلى الأمام على خطِّ رُشْدها، وهداها، واستقامتها، وخضوعها في هدفها وإرادتها ومُناها لإرادة بارئها العظيم.

       وقفةٌ فيها وعظ للنفس، تذكير لها، تبصير بأهمية الموسم وقيمته العالية عند الله سبحانه، وربحه الخالد، والخسارة الجسيمة المترتّبة على إهمال شأنه، والتقصير في معرفة مكانته، وفي الإساءة إليه، أو التفريط في حقِّه، وفي أن يخرجَ الآخرون بأعظم الربح منه واستحقاق الجنّة، وأنْ أخرُجَ منه بالربح الضئيل والحظّ الأدنى، أو الوزر الثقيل، أو بخفيّ حنين.

       علينا قبل استقبال هذا الموسم العباديّ الثرّ الذي صمَّمته العناية الإلهية لتزكية العباد، والخروج بهم من ذُلّ الضعف إلى عزِّ القوّة، ومن وهن العزم إلى قوّة الإرادة، ومن الخنوع للشَّهوة إلى الاستعلاء عليها، ومن عبوديّة الرَّغبة إلى الاختيار الحرِّ الرشيد، ولأن تكسب النفسُ زادَ التقوى فتزينها في الدنيا وتَقِيَها العار والنَّار في الآخرة، وتجعل مأواها الجنّة؛ علينا أن نراجع النفس، أن ندرسها وننظر في ما هي عليه.

       وبمراجعة النفس سنجد أنَّ بنا ضعفًا، وفي إرادتنا وهنًا، وفي صدورنا أحقادًا وحسدًا، وبيننا خصومات وعداوات لا يرضاها الله سبحانه، وفي ذِمَمِنا حقوقًا لله، وحقوقًا للنّاس، وفي نيّاتنا سُقْمًا وشوائب، ولا تخلو نفوسُنا من توجُّه أو ميل لمعصية، وعندنا سوء خلق فيما بيننا، وكذلك بيننا وبين النّاس، وعدم تسامُح في موارد يحسُنُ فيها التسامح، وتسامحًا في موارد لا لِيْنَ فيها، ونعيش تقصيرًا في حقِّ المساجد وهي بالجوار منّا، وسنجد منا عُبوسًا في وجوه المؤمنين مكان البِشْر، وحالةً من الغضب والتعصُّب المخرجة عن الحقّ، البعيدة عن موازين الدّين، وإمعانًا في المجادلة من غير وجهٍ صحيح.

       سنجد عندنا تضييعًا للوقت الذي يملكه الله علينا، ولا نملك حرية على الإطلاق في التصرُّف فيه، وسنذكر أنَّ عندنا خلافات منزلية يُسبِّبها جهلنا بشريعة الله، والتساهُل في الأخذ بأحكامها، وهي خلافات تُمزِّق أسرنا، ومجاملاتٍ ضارّة على خلاف مقتضى الدّين، وتقصيرًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغَلَبَة لسانٍ تُسبّب لنا كثيرًا من الخطأ والغيبة والقول المؤسف، والوقوع في الهلكات، وخلوًّا أو برودًا في الهمِّ الاجتماعي، وسلبيات كثيرة يَعيشها داخلنا، وواقعنا الخارجيّ تتجلَّى أمامنا لو درسنا النفس، وما يصدر عنها، ويترشَّح عنه ما فيها من مضمون.

       وكل هذا يُعطِّل عملية الاستفادة من مدرسة الصّوم والعبادة، أو يُقلِّل درجة الانتفاع بها، وينغلق بالذَّات عن هدايات هذه المدرسة، وأنوارها، واستقبال إيحاءاتها وإشاراتها، والوصول إلى ما لها من أسرار، وما هي عليه من كنوز.

       نحتاج ونحن نستقبل هذا الشهر الكريم المعطاء إلى إعداد النفس([2]) لتتربّى على موائده، وتتزكَّى بعطاياه من توبةٍ صادقةٍ نصوح تغسلُ أدرانَ داخلنا، وتجدُّده ليعود صالحًا كما كان حسب الفطرة لتلقّي فيوضات الأنوار الإلهية وهِدايات السماء.

       لابد للنفس وهي تطمع في أن تخرج بربحٍ ضخم من الشهر الكريم أن تتخلَّى ابتداءً عن الذنوب والآثام، وتتحلّى بالطاعات والقربات.

       والحمد لله رب العالمين.

       اللهم صلّ وسلّم على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.

       اللهم اجعلنا من المرحومين، ولا تجعلنا من المحرومين، واجعلنا من أربح من ربح بالأخذ بطاعتك، واجتناب معصيتك، والإخلاص في سبيلك، وابتغاء وجهك الكريم يا حنّان، يا منّان، يا متفضِّل، يا رحمان، يا رحيم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([3]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله ذي الملك والملكوت، والعزِّ والجبروت، أحاطَ بكلِّ شيء علمه، وذلَّت الأشياء لقدرته، واستكان كلُّ شيء لعظمته. الخلق والرِّزق منه وإليه، وكلُّ التدبير بيده، ومصير كلِّ مَنْ دونه في حكمه، ولا قاضي للحاجات إلا هو، ولا مُخرِجَ من سوءٍ غيره، ولا تسكن القلوبُ اليقِظَةُ إلّا إليه، ولا تطمئّن إلّا بمعرفته.

       أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله لا يُنسي أحدَنا الشيطانُ نفسَه، ولا تخدعنَّه الدّنيا عن ربّه، ولا يغفُل فيضِلَّ، ولا يلْهُ فيخسرَ، ولا يعصِ الله فيُفدحَ. ولئن ضيَّع أحدٌ حياته شَقِيَ في مماته، ولئن تولّى الشيطانَ كان مصيره من مصيره، ولا مجيرَ له من عذاب الله عزّ وجلّ، وهو عذابٌ لا يمرُّ على بال أحد حتى يذوقه([4]).

       فلنطلبْ النجاةَ لأنفسنا بالتمسُّك بولاية الله ومن والاه، واجتناب من عادى الله وعاداه الله، والأخذ بطاعة الخالق دون المخلوق الذي يضادّ أمرُه أمرَه، وتخرج بالعبد عن مرضاة ربّه الحقّ طاعتُه.

       ولنطلب النجاة لأهلنا وكلِّ من أحببنا بهذا نفسه إذ لا طريق لنجاة ولا فوز ولا كرامة غير ولاية الله والبراءة من أعدائه، وتقديم طاعة الخالق على طاعة كلّ مخلوق.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم إنه لا حول ولا قوّة إلّا بك، ولا عاصمَ إلّا أنت، ولا مَن يُسدِّد للصواب غيرُك، أو يحمي من كيد الشيطان، وعمى الرأي، وهوى النفس سواك؛ فلا تُخلِّ بيننا وبين شيء من ذلك، ولا تكِلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك، واحمِنا من الضلال يا من هو على كلّ شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.

اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.

اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى أكثر من عنوان:

       أيُّ حراك حراكُ هذا الشعب؟

       حراكٌ امتدّ حتى يكادَ يتوسّطُ عامَه الثالث وهو يتلقّى الضربات من السّلطة، ويدفع أثمانًا باهظة على مستوى دماء جماهيره وأموالهم وعذاباتهم وعذابات الرّموز وألوف الشّباب من الجماهير الذين ذاقوا ويذوقون مرارةَ السِّجن، وألوان الظّلم والإهانة، وأنواع الألم وهم هناك مغيَّبون، وعذاباتٍ أخذت نصيبَها الكبير، ولا زالت تأخذ نصيبها المؤلم من حياة الرجال والنساء والأطفال، وتصبغ أوضاع البيوت وتؤرِّق الأسر. كلُّ ذلك دون أن تلين عزيمة هذا الشعب، أو تدخله فكرةُ التراجع عن مطالبه لوعورة الطريق، ومشقّة المواصلة، هذا من جهة، ودون أن يُخرجه ذلك عن خيار السلميّة، ويستفزّه لارتكاب العنف، وهذا من جهة أخرى.

       حراك يجمع غالبية الشعب في مسيرة أو اعتصام ووقفة احتجاجيّة، ولا تكاد تتوقّف مسيراتُه واعتصاماته بأحجامها المختلفة طوال المدة التي قضاها في كفاحه في وسطٍ من المتاعب والتضحيات الجسام.

       حراك كان أذكى وأعفَّ وأنزهَ من أن يقع في المستنقع الطائفيّ رغم المحاولات الدؤوبة لجرِّه لهذا المستنقع، أو استدراجه إليه من قِبَل السلطة والكثير من الذين وظفتهم من أجل هذا الغرض الدنيء الساقط، والوصول بالوضع إلى المنزلق الخطير الذي لا رحمة فيه بأحد من الشعب.

       حراك اتُّهِم ولا زال يُتّهم من قبل السلطة والموالاة بأنه طائفيّ، ومرتبط بالخارج، ويريد الاستئثار بخيرات البلد ويُلغي الآخرين، واستطاع أن يُفشِل كلّ هذه الأكاذيب، ويبطل أراجيفها، فلم يأتِ تقرير من التقارير المحايدة من أيّ  دراسة للوضع في البحرين وحتى تقريرُ لجنة تقصّي الحقائق برئاسة السّيد بسيوني التي كانت من اختيار النظام يدعم شيئًا من هذه الأراجيف بل جاء بما هو على خلافها، وليست هناك دولة من الدول الصديقة للسلطة تذهب مذهب السلطة فيما تريد ترويجه من ذلك، والسلطة نفسُها تعلم أنَّ دعاواها هذه مجردُ اختلاق لعلّها تعزل بذلك الحراك ولا تترك لأحد أن يتعاطف معه من بين الدول والهيئات والمؤسسات الدّولية.

       وقضية الحراك العربيّ والثورات العربية كلّها لها منطلق واحد، وخلفيّة موضوعية واحدة. قضية أنظمة مستبدّة، وحكومات ظالمة، وسلطات متعسفة، تفرض نفسها بالحديد والنّار والإعلام المضلِّل، ومجموعة من باعة الضمير تقتات على فتات موائدها المسروقة والمغصوبة من الشّعوب، والمستنزِفة لثروات الأوطان…. مشكلةُ أنظمة وحكومات قاهرة وشعوب مقهورة ضاقت بقهرها، وبما تُعانيه من استهتار بكرامتها، وحرمان في معيشتها، وتلاعُب بمقدُراتها ومقدَّراتها، ودفعها وعيها وصحوتها ومعاناتها ومأساتها للثورة على الأنظمة الطاغية والسلطات المستبِدّة، ولم يوقِفْها عن استمرارها في هذا الطريق شِدّة ولا قمع ولا تضحيات.

       هذه هي الخلفية الحقيقية للثورات العربية التي هبَّت ضمن هذه السنوات بغضّ النظر عن نوع التركيبة السُّكانية ومكوّنات الشعب الواحد والتعدد القومي والمذهبي والحزبي وغيرها([5]).

       والسلطة في البحرين ومن يُناصرها من الموالاة لا تجادل في كون السبب لهذه الثورات إنما هو معاناة الشعوب من ظلم الأنظمة ولم تتوقف عن التبريك لكل ما انتصر من هذه الثورات لنصرها، وقد دعمت بعضَها بصورة علنية مكشوفة.

       أمَّا حين تأتي هذه السلطة والموالاة معها للحراك السّلميّ السياسيّ في البحرين يأتي وصمُه منهما بالطائفية والإرهاب والعنف والارتباط بالخارج والعمالة لدول أخرى، والإرادة المرهُونة للإرادة الخارجيّة ومثل هذا السّيل من المفتريات التي لا توقُّف لها.

       هكذا تُصوِّر السلطةُ والموالاة هنا شعبنا. كلّ الشعوب العربية التي تحرّكت وثارت في وجه الظّلم من الأنظمة التي تحكمها تملك رأيَها الخاصّ، وإرادتها المستقِلّة، وشعورها بكرامتها، وقرارها في التحرُّك والثورة، وكذلك هي شعوبُ العالم إلا هذا الشعب فهو لا يملك شيئًا من ذلك وفاقدٌ للإحساس، وفاقدٌ للوعي، وللرّوح الوطنيّة ولا يملك شيئًا من أمر نفسه وكلّ رجاله البارزين ورموزه دمى بيد الخارج، وآلاتٌ صمَّاء تُحرِّكها الإرادة الخارجية، دون أن تستطيع مساومات الدولة ولا إغراءاتها أن تشتريَهم وتُسكِتهم كما تشتري الكثيرين([6]).

       وهذا من الإمعان الإضافي في ظلم هذا الشعب، والاستخفاف به وبقابليّاته ومواهبه.

       وكل الهدف من هذا الزيف هو ألا تُثلم السيطرة المطلقة التي تفرضها السلطة على هذا الشعب ومن أجل أن يستمر الاستئثار بالثروة، والاستعباد لإنسان هذا الوطن، وإسقاط قيمة الحراك والثقة به، وعزله، وتحجيمه، وتكثير المعادين له في الداخل والخارج. ولكن كلُّ ذلك يزداد فشلًا يومًا بعد يوم، وتتجلّى الحقيقة، وتفقِد الأكاذيبُ أثرَها.

       ومن هدف التشويه الإعلامي المستمر لواقع الحراك الشعبي السياسي العادل المنطلق من روح الإصلاح والشّعور بضرورته أن يحصل انقسام طائفي حادّ في هذا الوطن بين أخوة الدّين والتاريخ والأرض، والاقتتال بينهم بإشرافٍ من السُّلطة وتحت رعايتها الرّحيمة ليهلك من يهلك ويسلم لها كلُّ ما تريد.

       ولكنَّ الشعب الفَطِن لم يسمح ولن يسمح لهذا الغرض الظالم والكيد الخسيس أن يأخذ طريقه إلى الواقع.

       والحقيقة أن لا حراك كحراك هذا الشعب في عقلانيته وسلميته وصفائه، ولا سلطة كهذه السلطة في تصلُّبها، وموقفها العنيد من مطالب الشعب، والاستخفاف به؛ وإلا فما معنى أن تخرج الأغلبية من جماهيره ونُخَبِه ونسائه ورجاله في المسيرات المطالبة بالحقوق ولأكثر من عامين والسُّلطة لا جواب لها إلا جواب القمع والعنف والإرهاب؟!

       لا تفعلوها:

       سَحْبُ الجنسية من عدد من المواطنين الشرفاء وفي مقدِّمتهم سماحة آية الله الشيخ حسين النجاتي حفظه الله، وأَخْذُ جوازات سفرهم، والعمل على تسفيرهم كُرهًا وفصلهم عن أولادهم وأهلهم وأرضهم وبيوتهم وكلّ ذلك بلا ذنب كسبته أيديهم، جريمةٌ في حقِّ الوطن وإنسانه، وتجاوز سافر لحقّ المواطنة، ومخالفة دينية ودستورية وقانونية، واستخفاف بالمواطنين.

       ذلك جريمة نكراء لا تفعلوها، ارفعوا يدكم عن أول إجراءاتها. إنها عارٌ على الوطن، تخلُّف موغل في الماضي، لغة من لغة الغاب، سوءة سياسية مخجِلة، مهزلة شاذّة من مهازل الأنظمة غير العادلة، كارثة خلقيّة، فضيحة للنظام، عصبية عمياء، تعبير طائفي حاقد مَقيت.

       جريمة كبرى حين تُتخذ هذه الإجراءات في حق مواطنين شرفاء، أبرياء، مخلصين، نافعين لكلمةٍ قالوها فيها إنكار للمنكر، وأمر بالمعروف، ودعوة للإصلاح، وإنقاذٌ للوطن، وتصحيح للأوضاع، لمشاركة في مسيرة أو اعتصام، أو أيّ لون من ألوان الاحتجاج السّلميّ المناهض للفساد.

       كلُّ العقلاء في هذا الشعب، وكلّ المخلصين من أبنائه وبناته ضدّ هذه الإجراءات التعسفية، ولا يرضون لوطنهم أن يكونَ أشدّ الأوطان تنكُّرًا لأبنائه وظلمًا لهم، واستهتارًا بكرامتهم الإنسانية.

       كفى بشاعات ومنكرات كبرى شهدتها أرضُ هذا الوطن من بينها تعذيب صالحين من المطالبين بالإصلاح حتى الموت ليتوفّاهم الله سبحانه شهداء كِرامًا يؤدون شهادة لا تُردّ على ظلم الإنسان للإنسان في محكمةِ عدله التي لا تخفى عليها خافية ولا جور فيها، ومن بينها سجن نساء حرائر ظلمًا، واستعراض لأخريات في مشهد من مشاهد الإماء وهن يتعرضن للضرب والإهانة على يد مأموري النظام في سوق عامة، ومركز من مراكز التبضُّع من غير خجل أو تحفُّظ أو حياء، ومنها هدم مساجد، وبعثرة مصاحف وكُتُبِ ذِكْرٍ ودعاء على الأرض تنكّرًا لقيمتها المعنوية العالية وحرمتها في الإسلام.

       لقد مُلِء جوّ الوطن بالروائح المزكمة المزعجة للأرواح والأفئدة التي تتمتع بشيء من الحياة؛ هذه الروائح التي تنبعث كريهة غليظة من بشاعات ثقيلة مرهِقة لروح الإنسان، منافِية لذوق إنسانيته وفطرته؛ فلا تُضيفوا إليها مزيدًا من البشاعات والجرائم المزعجة والمنكرات.

       درسٌ من مصر:

       ثارت مصرُ ثورة جديدة على رئيسها المنتخب وحكومته وعلى مجلسها النيابي والدستور بعد ثورتها السَّابقة على نظامها القديم، وكما أسقطت الحكم القديم أسقطت حكمها الجديد كذلك وإن كان هذه المرة بتوسط العسكر ولكن بدفعِ زحف جماهيري هادر.

       ولا يُرى أنَّ هذا آخر الشّوط، ونهاية الثورات في مصر لو تطلَّب الأمر الثورة على الوضع القائم مرّةً أخرى في نظر الجماهير وُلِد الحكم من رحم عملية ديموقراطية أيًّا كان مستواها أو عن طريق آخر، جاء الحكم على يد الجيش باسمه أو باسم غيره أو جاء عبر الجماهير نفسها ثم انقلب على إرادتها.

       يبقى أنّ ما هو مهمّ ومحطّ النظر في نظر الجماهير النتيجةُ النهائيَّة، وتحقُّق الغاية المنشودة، وهي أن يكون الحكم عادلًا، غير تسلُّطيّ، غير انحيازيّ لفئة على حساب فئة أخرى من الشعب، غير مغرور ولا مستكبر، لا يستعمل قوته ضد شعبه، يحترم الحريَّة الإنسانية الكريمة للمواطنين، يهتم بالظروف المعيشية والخدمية لمواطنيه على السواء، لا يستأثر بالثروة، لا يُوزِّع المناصب على أبناء القبيلة والأصدقاء وأهل الولاء الشخصيّ وكأنّها هدايا مملوكة للحاكم نفسه وبغضّ النظر عن الكفاءة، أن يتقدّم بمستوى الوطن على جميع الأصعدة الإيجابيّة النافعة، أن يحترم شعائر الدّين ومقدّساته والقِيَم الأخلاقيّة الإنسانيّة الثابتة الرَّفيعة، أن يصدُق النّاسَ في وعوده وما يقوله، أن يفي بعهوده والمواثيق التي أخذَها على نفسه، أن يُعالج الأمور بحكمة وتعقُّل، أن لا تكون يدُه مستعدّة للبطش لأوّل استثارة يُواجَه بها، أن يكونَ حُكْمًا صالحًا بكلّ معنى الكلمة، أن لا ترتهن سياسته الداخلية أو الخارجية لإرادة الأجنبيّ، ألا يكون الوطن تابعًا ذليلًا لسياسة الغير على يده عن عَمالة ذليلة، أو عدم ثقة بنفسه وشعبه، ولانفصالٍ منه عنه، أو ثمن يتقاضاه قبال خيانته.

       طموحُ شعب مصر، وشعوب الثورات العربية، وكلُّ الشعوب هو هذا المستوى من الحكم، وقد بدأت تتحرّك عمليًّا على طريق هذا الطّموح في حراكات سلمية، وحركات ثورية، وصارت تُعطي بسخاء على هذا الطريق، ولن تتوقّف عن هدفها عند أيّ مرحلة من مراحل سعيها الحثيث قبل أن يتحقّق لها بصورةٍ مستقِرّة ومضمونة ولن يُقنعها أي شعار من شعارات الديموقراطية، والصندوق الانتخابي، والحكومات الشعبية، وطريق الصّوت الحرّ إذا لم تكن النتيجة المطلوبة أو حصل الانقلاب عليها.

       هذا هو الدرس التي تُقدّمه الثورة الثانية في مصر بعد عام واحد فقط من قيام حكم باسم الديموقراطية، وصندوق الانتخاب، والانتخابات النزيهة.

       وهذا هو الدرس الذي يجب أن تتعلّمه الأنظمة الجديدة في بلاد الثورات العربية حَكَمَت باسم الإسلام أو غيره، فضلًا عن الأنظمة البالية والتي عفا عليها الزمن، ثم تطمح أن تخلد إلى أبد الآبدين.

       ويستوي تعلّم أيُّ نظام هذه الحقيقة أو لم يتعلَّمها فإنَّ شيئًا من أمرها لن يتغير، وستجد الأنظمة أنها([7]) أصدق من كلِّ أمنياتها.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، إنك أنت التوب الرحيم.

       اللهم غيّر ما بنا وبكلّ المسلمين من سوء، ولقّنا الفرج، وأرنا ما وعدت به أولياءك من العزّ والنصر المبين، واجعلنا لك من الحامدين، ولنعمائك من الشاكرين يا رحمان يا رحيم يا كريم.

       اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفُكَّ أسرنا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، وردّ مسافرينا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

 

[1]– لهذه المدرسة.

[2]– هذا الإعداد يتمثّل في هذا الشيء الذي ذكر، ويأتي.

[3]– سورة الإخلاص.

[4]– وأعوذ بالله من أن نذوق عذاب النار.

[5]- فمع كل تلاوين التركيبات في البلاد العربية التي ثارت فإن الخلفية الحقيقية هي تلك الخلفية.

[6]- فهم أهل طمع للمال والجاه من الخارج لا غير.

هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).

[7]- أي أن هذه الحقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى