كلمة آية الله قاسم في ذكرى المبعث النبوي الشريف 1434هـ

كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم في ذكرى المبعث النبوي الشريف – 28 رجب 1434هـ، الموافق 8/ 6/ 2013م بمأتم آل شهاب في الدراز

 

للمشاهدة:

 

نص الكلمة:

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الغوي الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

رسول الله صلى الله عليه وآله لا يعرفه إلا ربه، وعلي عليه السلام هو أقرب الناس وأصدقهم معرفة برسول الله صلى الله عليه وآله.

 

هناك حاجة إلى السماء يعلمها الله، ولذلك لم يترك الله عز وجل هذه الأرض بلا حجة في يوم من الأيام، بدأت الحياة الأرض بحامل لكلمة السماء، بعارف بالله، بمهتد بنوره، بمن لا يعبد سواه ذلك هو آدم عليه السلام.

 

لم يبدأ السكن في الأرض بجاهل وإنما بداء بعالم رباني، وأول قلب عاش على الأرض هو قلب كان متصل بالله سبحانه وتعالى تائب إليه، مُقدم له على غيره، لا يشعره شيء بالوحشه كما يشعره أن يشعر بمفارقة رضا الله عز وجل.

 

بدأت الأرض بسكنا ذلك الرجل، وستبقى ما بقيت السماء تمد الأرض بنور من نور الله عز وجل في كل حاجاتها المادية والعقلية والروحية. بقي نور السماء لا ينقطع عن الأرض، والحجة قائمة على الانسان وستبقى ما عاشت الأرض وعاش الانسان ووجد على ظهر هذه الأرض الحياة، ويبقى الانسان حرا في أن يستجب لنور الله، لأن يسمع نداء الله، في أن يستجيب لرحمة الله، أو أن يكفر ليخسر ذاته، ليخسر حياته ويخسر مستقبله،  ذلك لي بما إني إنسان، وذلك لك بما أنك إنسان.

 

حياة المادة عند الانسان محتاجة إلى هدى السماء، هي محتاجة في بعدها التكويني الطبيعي إلى تنزل رحمة الله، وإلى استمرار من فيض الله عز وجل، فلا تقوم حياة بدن، ولاخلية من بدن، ولا ذرة من بدن، ولا يقوم أصل وجود شيء من هذا الانسان أو غيره إلا بتزل فيض ووجود من فيض الله ومن كرمه، هذا هو البعد المادي في الجانب التكويني يمده الله عز وجل إمدادا دائما مستمرا بالوجود وبالحياة، وإلا لم يبقى له وجود ولم تكن له حياة.

 

في الجانب التشريعي، وفي جانب الدلالة على الطريق، في جانب التبصير بالغاية، في جانب وضعه على الطريق، حمايته عن الانحراف عن الطريق، ووقايته عن تضييع الغاية، الله عز وجل يمده بهدً من دينه وأحكامه، برسالات توالت، كانت خاتمتها الرسالة الكبرى على يد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله لتبقى هدى في الأرض لا يغيب، وشمسا لا ينطفئ نورها، ونداء للطالبين إلى الله عز وجل، وللطالبين لنجاتهم، ولمن يفكرون ومن يدركون ومن يعون بأن يأخذوا الطريق.

 

نحن كائن اجتماعي كما قالوا، لا يستطيع أحدنا من ناحية نفسية لو تركت له الدنيا كلها أن يعيش وحده، لو وضعوك في أحسن بيئة طبيعية، وأرقى بلد من بلدان العالم زينة، وتركوك وحدك لشعرت بالخناق والضيق وطلبت أن تعيش في كوخ متواضع تجد فيه بيئته معك من الناس من تجد، فنحن كائن اجتماعي من ناحية الطبع والحاجة على مستوى الشعور النفسي، ونحن مضطرون للاجتماع، ومضطرون للحياة في مجموعة من الناس ذلك لأن حاجات الحياة متعددة، فيعسر على الانسان بل يستحيل أن يجد توفيرها كلها لنفسه بجهده وحده. أنت تلبس ثيابا، وتأكل طعاما، وتسكن مسكنا، وتركب مركب، فأي شيء من هذا بجهدك وحده تستطيع أن توفره لنفسك؟ نحن كائن اجتماعي بطبعنا، ونحن كائن اجتماعي من خلال ما تفرض علينا حاجاتنا هذا أمر منته وواضح.

 

هذا الاجتماع نعمة ولكنه يحمل مشاكل، الانسان مع ميله للاجتماع مع الآخر فهو ينافس الآخر، وتضطره ظروفه أو شجعه أن يغالب الاخر وينازع الآخر على الحياة، أن يتنازع الأثنان على البقاء إلى كان بين بقائهما تعارض أو كان أحدهما كثير الجشع -وما أكثر الجشع فينا- ، وما أوضح ما نحن عليه من تنافس شريف وتنافس غير شريف، ولذلك استعظم الملائكة أن يكون هذا الانسان هو الخليفة في الأرض. فهو الذي تحمله دوافعه وحبه للدنيا، وميولة النفسية غير المعتدلة في غير ظل التربية الإلهية تحمله على القتل وسفك الدم والنهب والغصب.

 

هناك المحتاجون للاجتماع ومدفوعون إليه نفسيا ومضطرون اليه عمليا، وهنا عندنا دافع السيطرة، ودافع الظهور، ودافع التملك مما يجعلنا أن ندخل حلبة لا تنتهي من حلبات الصراع، فنحن صراع مع الأزواج والأصدقاء والأعداء ونصارع الطبيعة، فعندنا حالة نفسية وعملية للاجتماع، وعندنا ما يجعل الاجتماع يستصحب معه نوعا من المشاكل لنا.

 

حل المشكلة يحتاج إلى فكر واسع، وللانسان فكر واسع، وقدرة انتاجية هائلة في البعد الفكري، وله قدرة على الإبداع، ولكن من الواضح جدا أن هذا الفكر الواسع وعلى مدى قرون متوالية ومنذ بداءت حياة الانسان وإلى الآن لم يستطع الفكر الانساني أن يقدم حلا لهذه المشكلة، ولم تستطع الأفكار العملاقة في الأرض أن تتوحد رؤيتها التشريعية وأن تنتج أطروحة واحدة ترى فيها النجاح والضمان لاستقرار هذه الحياة وحل مشكلتها.

 

وجدت نظريات كثيرة، وجاءت أطروحات كثيرة، فتسقط أطروحة وتقوم أطروحة، وتبذل رؤية وتحيى رؤية، يتقادم طرح وسيتجد طرح، وكلما كان طرح وتعلقت به آمال أهل الأرض كلما أنفضح أمره بعد حين، وسقطت قيمته ليبحث الانسان من جديد عن طريق نجاة. وقريبا سقطت الشيوعية وقريبا تسقط الرأسماية. وجربت الدنيا الشيوعية لتذوق من العذاب الكثير، وها هي تعيش عذابات الرأسمالية وأطروحة الغرب وتباعاتها الثقيلة، فقد الأمن، والجوع، والأمراض، والدمار الشامل والرعب، هذا هو ميراث الأطروحة المتقدمة بعد سير طويل فكري، وبعد تفجر فكري ضخم، وبعد غزو الفضاء، ملايين الكتب في المكتبة الواحدة من مكتبات الأرض، وانتاج عقول على مدى قرون متطاولة وكل ذلك لم يحل المشكلة. كم عبقري يوجد في الأرض؟ وكم عبقرية توجد الآن في الأرض؟ أين الحل؟!

 

ثلاث وعشرين سنة عاشها رسول الله صلى الله عليه وآله ولكنها أحيت أمة على مستوى كل الأبعاد، على البعد الفكري والروحي والأرادي والمادي، وأرتفع مستوى الهم، وعلت العزة والكرامة، والروح الانسانية، ولم يبقى بعد من أبعاد الانسان إلا ودخلته حياة قوية بفعل ثلاث وعشرين سنة، حيث لا توجد طفرة اتصال، ولا طفرة تواصل بشري، فكانت بقعة معزولة فشع نورها في مكان وتركت أثرها إلى اليوم.

 

ثلاث وعشرين سنة منها ثلاث عشرة سنوات للتمهيد والاعداد، والبداية كانت من أمة كانت أفشل أمة، وأمة كانت مطمع كل طامع، وكانت مستضعفة جدا وجاهلة جدا. فمن تلك النقطة انطلقت ثورة انسانية كبرى، فانطقلت ولم تتوقف، وشعت ولم تخمد.

 

هذا الفكر الذي يحتاجه التشريع لحل المشكلة الاجتماعية لم تستطع الأرض أن تقدمه بكل طاقاتها الفكرية، وبكل تراكم الانتاج الفكري الانساني العملاق أن تقدمه. فمسألة حل المشكلة الاجتماعية يتجاوز في حاجته التشريع الناجح فهو لا يكفى، فهو يحتاج إلى وسيلة ضبط وتحكم داخلي لضبط الشعور، ووسيلة ضبط لا تقوم على الاكراه والضغط وإنما تقوم على الاقناع، فحتى تنضبط الحياة الاجتماعية فلابد أن تتوفر لي القناعة أن خيري في عدلي معك وليس في ظلمي لك، وأن خيري في عدلي مع زوجي وليس في ظلمها، في أخذي لولدي بالشدة على طريق الانضباط لا في الاستجابة لعاطفة الأبوة التي تضغط عليّ تجاه ولدي، وهذا الضابط يخلق لدي أن أقتنع بأن العوض من الله سبحانه وتعالى، وأن اقتنع بأن أمر الله ليس فيه طلب مصلحة منه سبحانه له على الاطلاق -فهو غني عني بالكامل-، أن أمر الله لا يدخله جهل على الاطلاق، وأن أمره كله حكمه، فهل أستطيع ان أعطي لأمرا هذه المواصفات غير أمر الله؟ فهل هناك نهي استطيع اعطائه هذه المواصفات غير نهي الله؟ فهل استطيع أن أعطي مؤسسة تشريعة هذه الصفات؟ وأي مؤسسة تشريعية وأي واحد في الأرض مفصولا عن خوف الله وخشيته وتقواه وهداه وعلمه استطيع أن اضمن فيه هذه النزاهة وأضع فيه كل هذه الثقة فاستجيب لتشريعيه من داخلي وبكل طواعية وأنس؟

 

الجهاد الذي فيه شده، وفيه فداء أنفس، كيف لي أن أرغب فيه وأرضى به، وأن أسر به؟ إذا كان الأمر به من غير أمر الله الذي أحتمل فيه الجهل، واحتمل فيه طلب المصلحة، واحتمل فيه الغش والسهو.

الذي يبذلون أرواحهم في ارتياح في سيبيل الله عز وجل ويقفون أمام موت السيف وموت القنبلة عن رؤية وليس عن حالة انفعالية، وليس المنطلق من نفس يحملها الانفعال وتحملها العصبية، وإنما المنطلق نفس تمتلك في تلك اللحظة العنيفة الشديدة الرؤية الموضوعية الهادئة ومع ذلك تكمل بارتياح كنفس الحسين عليه السلام، يحصل هذا الأمر حينما يعرف أن هذا الامر في مصلحتي تماما، وأن العوض أكبر.

 

فالمسألة مسألة تشريع ناجح، ومسألة شعور بانضباط من الداخل لا يقوم على التضايق النفسي وإلا كان عذابا، ولا يقوم على الشعور بالإكراه، وإنما يقوم على الشعور بالرضا والاطمئنان، ويحصل هذا الشعور الا أن يتعلق هذا الشعور بتشريع من الله سبحانه وتعالى وهذا على مستوى الدنيا حتى تنضبط المسألة الاجتماعية.

 

نحن بالفكر البشري الذي اعطاه الله الانسان ومنه ما هو عملاق جدا، لم نستطع أن نهتدي لحل المشكلة الاجتماعية، وليس لدينا وسيلة لخلق حالة الانضباط النفسي، والانضباط الخارجي الذي يخلقه القانون امكانية اختراق كبيرة جدا على أنه ضبط يولد الشعور بالمضايقة. أنت إذا لم تحكم الاشارة الحمراء في المرور إلا لأنك ترتقب العقوبة إذا خالفتها فأنت تنضبط ولكن مع شعور بتحطم النفس بأنها مغلوبة ومقهورة ومكرهه وأنت لست مرتاحا. بعكس الشهيد الصدر -أعلى الله مقامة- فيما ما ينقل عنه من قضية أن سائقة يقول بأننا يمكننا أن نخرج الآن فلا توجد مراقبة، لأن الطريق سيطول كثيرا إذا أخذنا بمقتضى القانون[1]، فيصر السيد على السائق بالانضباط وفق القانون، فلديه شعور بالارتياح.

 

فأنا أريد حياتي في انطلاقتها وفي زكاتي وخمسي وفي الضريبة وفي انضباطي، لا أريدها من منطلق الشعور بالعذاب وإنما أريدها من منطلق الشعور بالراحة، وهذا لا يوفره إلا التعامل مع الله عز وجل.

 

وعلى مستوى الآخرة من يدلنا على الطريق في تفاصيل الأمور؟ هذا الاقتصاد أو ذاك هو المرضي لله عز وجل؟ وهذا النظام الاقتصادي هل هو الذي يُنجح الاقتصاد ويتقدم بالمستوى الاقتصادي ولا يؤثر على سلبا على الجانب الروحي، وعلى نقاء الروح، وعلى سمو الانسان أو ذلك النظام الاقتصادي الثاني؟ فهذا يحتاج إلى معرفة واسعة جدا بالنفس البشرية بحيث تكون خارطتها مكشوفة تمام الانكشاف وليس فيها غامض من الغوامض، ولا أي نقطة مظلمة أمام رؤية الانسان، وأحدنا لا يعرف نفسه وما تهجسُ به، وكيف تلتوي عليه، وكيف تخادعه، وتنصب له الفخ المهلك؟ -لا يعرف-، فضلا عن أن أعرف نفوس العالم كله، نفس هذا الجيل والجيل الثاني والجيل الثالث حتى أخطط للحياة وأضع تشريعا لها.

 

الطريق للآخرة طريق لا يعرفه إلا الله سبحانه وتعالى، أي الصلاة التي تُصلح؟ أهي التي اخترعها الصوفي؟ أم الصلاة التي يبتدعها البوذي؟ فأي الصلاة التي تبني؟ هل لدى الانسان المقدرة على المقارنة بالضبط؟ ولماذا صلاة الصبح ركعتان؟ ولما صلاة العشاء أربع؟ ولما هذا مستحب في الصلاة؟ ولما ذلك واجب؟ ولما هذه الشروط الخاصة للصلاة؟ ولما ر أصلي إلا بوضوء؟ ولما لا يكون الوضوء بهذه الكيفية دون تلك الكيفية؟ ولما لا أضيف ركعتين لصلاة الصبح؟ فهنا أسئلة فوق الاحصاء، ولكن لا توجد أي اجابات قطعية لدى الانسان عنها.

 

فعلى مستوى الدنيا نحن نحتاج إلى تدخل السماء، وعلى مستوى الدار الآخرة والاقتناع والسعي للآخرة وتقديم الآخرة على الدنيا نحتاج إلى السماء، فالرؤية قاصرة عن الآخرة والدنيا صارفة عنها، فأمامنا جمال ومال وجاه وفرص دنيوية واسعة وأمامنا لذات. فأي وجبت طعام جديدة أمامي تجعلني اتوه ولا أدري عن نفسي، فذاك الكبير والأستاذ والبروفوسورحينما تصادفه لذة جديدة من لذات الدنيا ولا يدري عن نفسه. وتأتي اللحظات على الانسان هو شبه الحيوان المحض فيها.

 

فالرؤية قاصرة والدنيا صارفة، وهذا يجعلنا لا نستطيع رؤية الطريق للآخرة رؤية صحيحة، ويحول بيننا -ما لم تتدخل السماء وعنايتها وهداياتها- وبين الانخراط في طريقها.

 

الدنيا لدينا فاشلة لم تحل مشكلتها، ولنفرض أن هناك عقولا ورائها الاخلاص في الأرض وهي تبحث عن أطروحة تنقذ الحياة من فشلها، فيها الأكل الميسور براحة ما يستوعب هم الانسان ويصرف حياته، وليس فيها اقتتال، وليس فيها شعور بالخناق والضيق، وتكون في أحسن الأحوال الترفية فيأتي عليه غير رضا. هناك أغنياء كبار وملوك يعيشون لياليهم عذابا لانهم غير راضين.

 

فشل حلنا لمشكلة الدنيا يدل على أننا أقرب إلى الفشل من ذلك في ميل الاخرة لو لم تكون هدايات السماء وتدخلها وعناياتها، ورسالات ورسل أمناء.

 

الرسالة تتطلب الرسول، فقرآن يصل إلى الأرض من غير رسول، ولفظ ورق ينزل بأني أنا قرآن من الله، وأنا لكم هداية من الله فسيروا على طريقي، فهذا لا يحل المشكلة، ولو أدخل للنفس القناعة بأنه من الله فمع ذلك لا يحل المشكلة. فالمسألة مسألة نظرية وتطبيق، والتطبيق  يحتاج إلى قيادة وتدبير، ويحتاج لاقامة أوضاع في الخارج تستقيم على النظرية، وهذا الأمر يحتاج إلى واحد مدبر قائد مخطط يحكم بهدى الله، ويعلم ويوضح، فلابد من رسول، فالرسالة تحتاج وتتطلب الرسول.

 

الرسول له مراحل ثلاث:

 

أولا: مسألة استقبال الوحي:

 

وهي مسألة نحن لا نملك قدرة على التصور للقلب الصالح لاستقبال كلمة الوحي بحيث يتلقى عن الله عز وجل، ويشعر في تلك اللحظة بشكل مكشوف بالكامل أن الذي يأتي وحي الله، فيرى ذلك كما يرى الشمس الطالعة في رابعة النهار، فهو لن يؤمن تمام الإيمان ولن يعطي كل حياته ولن يُجهد نفسه ولن يخلص ويفي، ولن يبلغ الكمال الذي يؤهله لقيادة البشرية على خط الله إلا أن يمتلك هذه الرؤية التي تقول أنها هذه كلمة موحاة من الله وليس من بنات أفكاري، وليست من وحي نفسي، وليست من تأثير أي عامل داخلي أو خارجي. وهذا القلب لا يعلمه الا الله ولا يختاره ولا يصطفيه إلا الله سبحانه وتعالى.

 

ثانيا: مرحلة التبليغ:

 

تحتاج إلى حفظ ما استقبل حفظا بحده، لا متراجعٍ عنه ولا متجاوزعنه، يحتاج تبليغ الرسالة إلى احتفاظ القلب والوعي والنفس بمضمون الرسالة بلا ادنى تغيير، ويحتاج التبليغ إلى أن لا تقعد النفس، شعور بالخوف والطمع، أي شعور بالنفس لا يقعد بها عن اداء الوظيفة، نفس لا تخشى إلا الله.

 

نحن نقول أن فلان لا يخشى إلا الله، فمن يضمن أن نفس رسول الله صلى الله عليه وآله في أي لحظة من اللحظات الضاغطة العنيفة أن لا تخشى إلا الله؟ لا يعلم ذلك الا الله. ونحن علمنا هذا الأمر من طريق واحد وهو أن الله أمرنا بطاعة الرسول والتسليم له، والله لا يأمر بباطل، فالله لا يأمر إلا بالحق.

 

فلولا أن حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله للاسلام حفظ كامل، ولولا أن نفسية رسول الله صلى الله عليه وآله بالمستوى الذي يجعلها لا تلين، ولا تهون، ولا تنكص، ولا تتراجع، ولا تميل ميلا قليلا عن أمر الله ونهية، فلو لم تكن نفس رسول الله صلى الله عليه وآله بهذا المستوى لما أمر الله بأن نتبعه، ولابد أن يكون ” وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى”[2] ويضمن فيه ” إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى”[3] حتى يمشي أمره على الناس، وأصل الدلالة في المعجز، والمعجز الذي آتاه الله عز وجل رسوله يدل على وجوب الاستجابة له، ويأتي التفصيل في الآية “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ”[4]، ولكن الخلفية الأولى هي العلم بالاصطفاء والعلم بالاختيار، وهذا قائم على دلالة المعجز.

 

ثانيا: مرحلة التطبيق والادراة:

 

يحتاج النبي في هذه المرحلة إلى ما يحتاجه في مرحلة التبليغ وأدق، فهنا تبليغ للحق ولكن هل أجريه على نفسي فهذا أمر، قد أمتلك الشجاعة في كثير من المواقف أو بعضها، وأمتلك أن أبلغ، وسهل أن أبلغ هذا التبليغ “أن يد السارق والسارقة تقطع على الاطلاق[5]” أيا كان، ولدي أو ولدك، ولكن أن اطبق قطع يد السارق على يد ولدي أو يد ابنتي؟ فالمسألة هنا تعظم وتكبر وتشتد وتحتاج إلى نفسية أعلى، وتحتاج إلى درجة أعلى من الانضباط، من الاستجابة لله والخشية من الله، فهذا مطلوب في التطبيق وأن الحسن والحسين عليهما السلام لا يختلفان في تطبيق الحد الشرعي عليهما لو أتيا ما يستوجب -وحاشاهما- وإلا لم يكونا إماما من الله.

ولو لا أن رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم لديه الاستعداد النفسي الكامل لتطبيق حد السارق على يد فاطمة عليها السلام –وحاشاها- لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله، ولما أؤتمن من الله سبحانه وتعالى.

 

فهل يوجد بشر بهذا الشكل؟ وإن كان لدي بشر من هذا النوع فهل يستطيع أحد أن يشخصه؟ فهل يستطع أحد بعلمه أن يقول أن نفسية علي بن أبي طالب هذه النفسية لولا دلالة الله عز وجل؟ لا يقدر.

صحيح أن علي بن أبي طالب لم يرى منه إلا النظافة، ولم يرى منه سوء وكله التزام، ولكن هل أضمن، وأقطع، وأحلف لو لم أعلم بأنه عين من الله إماما بأن نفسيته لا تتخلف، لا أستطيع.

 

هل أستطيع أن أضمن أن محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله الصادق الأمين وكله جميل، فهل أضمن أنه في حال أن فاطمة الزهراء عليها السلام لو سرقت -وحاشاها- أن يقطع يدها؟ أو أحتمل أنه يتحايل؟ لو تركنا ما يثبت الرسالة، وتركنا ما يثبت اصطفاء الله واختياره له، لا نستطيع أن نضمن ذلك.

 

فمن يشخص لنا أن هذا أمين على الاطلاق هو الوحي، فيثبت لنا أنه موحى له وأن معين من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى حتى نعطيه هذه المنزلة، ونضمن فيه هذا المطلوب.

 

فالرسالة تحتاج الرسول والرسول لا يعينه ألا الله سبحانه وتعالى، وأما قابلية قدرة الاستقبال الهائلة، والقابلية الفريدة التي لا يعلمها إلا الله في البعد العقلي والروحي، وزاد الاستقبال والتبليغ والتطبيق وكل أبعاد ذاته لابد أن تكون قياسية ونموذجية ومنضبطة تمام الانضباط وإلا احتملنا في الشخصية الخلل. فإن كان في عقليته إمكانية تخلف فلن نضمن فيه الاستقامة، وإذا كانت روحيتة فيها شائبة فلا نضمن استقامتها، وأن نفسيته فيها احتمال لتراجع فلا نضمن استقامتها ونحن نريد ضمان الاستقامة، فالناس سيعطون الرسول دمائهم وأموالهم فسيقدمون أمره على أمرهم وعلى مشتهاهم وسيقدمون رأيه على رأيهم ، فهذا يحتاج إلى ثقة نهائية جدا.
وظائف الرسل:

 

  • إقامة الحجة:

لا تقوم الحجة على الانسان إلا بتوصيل كلمة الوحي إلى الرسول وهو بإيصالها تثبت حجة الله على عباده، فالله سبحانه وتعالى يقول لعبادة لم أضيعكم ووضعتكم على الطريق، وقدمت لكم خارطة النجاة، ودللتكم على الغاية، وبعث لكم الكلمة الهادية، وأقمت لكم الدليل من الناس وهو الرسول والإمام وهنا إتمام للحجة، ولذا أقف مقطوع اللسان أمام الله عز وجل، لا أملك عذرا بعد هذا.

 

  • كيف نوفق بين الدنيا والآخرة:

نحن محتاجون للدنيا، ونطلب النجاح والراحة في الدنيا، والأمان في الدنيا، فكيف نوفق بين حاجات الدنيا وحاجات الآخرة، فلدي بدن لا استطيع التخلص من حاجته، ولا يُعبدُ الله سبحانه وتعالى إلا بالخبز، فحتاج إلى خبز وإلى حياة وإلى سعة، وإلى عدم تجاوز الضغط للحد المحتمل، وإلا ما استطعنا أن نقوم بوظيفة، وهذا يكون إلا بالرسالة، ووفقت الرسالة في عشر سنوات التي حكت فيها الأرض بين حاجات الدنيا والآخرة أحسن توفيق. فنفوس عالية وواجدة ففتح باب النجاح الاقتصادي، والامن الاجتماعي والوعي الثقافي، وسيأتي يوم القائم عجل الله فرجه ليشهد من جديد على القدرة الاسلامية الهائلة لحل مشكلة العلاقة بين الدنيا والآخرة، ومشكلة الانسان والانسان وبين الفرد والمجتمع، والفرد والفرد، وكل العلاقات.

 

  • الموازنة بين دوافع الروح والمادة:

كيف نوازن بين حاجة الروح والعقل والبدن؟ بين حقوق الفرد والمجتمع؟ وبين حقوق المرأة والرجل؟ بين ما هو ثابت ومتغير في حياتنا؟ وأي شيء نأخذ من السلوك وأي شيء ندع منه؟ ما هو حق الحاكم وما هو حق المحكوم؟ إلى أي مدى نذهب مع قضية الحرية؟ ماذ يحل وماذا يحرم؟ ما هو حد العلاقة بين الرجل والمرأة عموما -غير الزوج والزوجة-؟ مسألة حقوق الزوجية، الجوار، والنسب، والعشرة، ما هي أحكام القضاء العادل؟ ما هي حدود التعامل مع البيئة؟ ما هي الاسباب الصحيحة للتملك؟ وأسئلة وأسئلة لا يمكن أن يجاب عليها الإجابة الصحيحة القاطعة المطمئنة إليها إلا من خلال الرسالة.

 

  • قيادة العملية السياسية في الناس بما يضمن تحركها طبقا للإرادة الدينية والفهم الدقيق الديني، ويكفل تحقيق القسط الإلهي في الأرض لسعادة المجتمع البشري:

 

والذي يقوم بدور القيادة الناجحة التي نضمن بها تطبيق الإرادة الدينية، وهي إرادة الله في الأرض في إقامة القسط والذي يقوم بهذا الدور هو الرسول.

 

  • إعداد الانسان لليوم الاخر:

إعداد الإنسان لليوم الآخر إعدادا عمليا من خلال الإشراف الدقيق والأمين على تطبيق للدين في حياة الناس، وهذا الدور لا يقوم به إلا الرسول والإمام.

 

  • ماذا قدمت المحاولة البشرية على مستوى الوظائف الثلاث؟

 

والإجابة على الأسئلة الرئيسية في هذه الحياة، وقيادة الحياة السياسية القيادة الناجحة، وإعداد إنسان الدنيا لليوم الآخر. الحضارة الحديثة وهي نموذج للحضارة المادية ووأسع الحضارات المادية خطى، وأبعادها شأوى ومستوى، ماذا تقدم الآن؟ تقدم أجواء مضطربة ومتعارضة وفاشلة، وتطبيق من أسوء التطبيق للقيادة السياسية تقوم على النهب والغصب والاستعمار والإخافة والرعب، وأما الاعداد للآخرة فهو الزنا واللواط والزواج المثلي والخمرة والتهتك والتسافل والتحايل، هذا الإعداد لروحية الإنسان المهيأ للآخرة التي ملؤها الملأ الطاهر الذي من مستوى الملائكة.

 

فما تقدمة المحاولة البشرية على مستوى الوظائف الثلاث فاشل إلى أقصى حد. فما الذي أستطاعت الحضارة المادية العملاقة اضافته إلى الإسلام؟ ألف وأربعمائة وأربعة وثلاثين سنة  وبعد ثلاث وعشرين سنة من اكتمال الإسلام وانقطاع الوحي ما الذي استطاعت الحضارة المادية أن تضيف للإسلام وأن تصحح أجوبته؟ عدل وبر واحسان، وحرب بشروطها وسلم بشروطه، واقتصاد بقوانيه، فهل هناك طرح أنجح من الإسلام استطاع أن يضيف للإسلام أي شيء؟ أو يصحح من نظرة الإسلام؟ وهل استبدل عن عدل الاسلام من مساوة البشرية الحقيقة إلا التميز العنصري والقومي والجغرافي.

 

نقلت العبادة من كونها عبادة لله عز وجل فترتفع نفسيتي بهذه العبادة، ويرتفع مستوى عقليتي، وتشف روحي، إلى تحولها لعبادة الطاغوت، وعبادة الخمار والزمار واللعاب. تلك عبادة رفعت بعبادة تحط، وهذا البديل الذي قدمته الحضارة المادية، فطول النهار أعمل براتب معين ومن أجل هذا الراتب وحسب نفسيتي التي كونتها الحضارة المادية أخضع لمن يدفع هذا الراتب ويستنفذ جهدي وأعبده وربما أمسح حذاه أيضا، بينما الإسلام يقول لا سجود إلا لله، ولا ركوع إلا لله، ولا تخف إلا الله، ولا ترجو إلا الله، وعبوديتك من منطلق خوفك ورجائك وحبك لله عز وجل، فالحب الأول لله، والرجاء الحق في الله، والخوف الصحيح من الله عز وجل، وإذا خفت الله خفت الجميل والجليل والكامل، وهذا يجعلك على طريق الكمال والجمال. بينما إذا خفت الخسيس صرت خسيسا.

 

نقلت الحضارة المادية العبادة من كونها لله عز وجل إلى كونها للبشر، وحق التشريع من الله عز وجل إلى واحد يطلب مصلحته القومية والقبلية والوطنية والفئوية، ومن مشرع نظره للعباد كلهم بعين الرأفة والعدل والإحسان، وكلهم عبيدة وأمائه ولا يخشى منهم أحدا، ولا يرجو منهم أحدا، فتشريعه كامل النزاهة، فمن كون التشريع لله عز وجل إلى كون التشريع من البشر القاصر.

 

نقلت الحضارة المادية الانسان من الحرية في حدود الثوابت الأخلاقية البنائة التي شرعها الإسلام فلا تحوله إلى حيوان وبهيمة وإلى حرية العري واللواط والزنا والفحشاء، وإلى حرية لا يقف بها عن نهب حق وحرية الآخرين -المادية- إلا العصا والسوط، ولكن كل حرية منطلقة وفي ظل الحضارة المادية، وفي ظل الروح التي تزرعها الحضارة المادية ليس هناك حاجز لهذه الحرية الإ العصا التي أراها والسوط الذي أمامي، وإلا فمسئوليَّ أمريكا وبريطانيا إن حصلت له فرصة السرقة سرقت، وكل يوم فضحية.

 

الحضارة المادية ملئت الأرض بالفساد والخوف والحروب المادية والتوسعية والمدمرة.

مسئوليتنا:

 

مسئوليتنا ان نتعلم الاسلام[6]، ونحمله فكرا، وأن نفهمنه الفهم الدقيق، أن لا نفرض رؤانا عليه، فلا يكن الاسلام عبدي وإنما أنا عبد الإسلام، وأن أكن عبد الدليل وليس الدليل عبدي[7]، فنحتاج أم نفهم الإسلام هذه الفهم، وأن نسلم بهذا التسليم، وعلينا أن نرتفع بمستونا ما استطعنا بالمستوى الذي يريده لنا، هو يريد نظافا، وأهدى وعي، ويريدنا أهل صفاء روحي، ويريدنا أهل أرادة قوية، ويريد على قدرة هائلة من الانتاج المادي والفكري، يريدنا أن نتقدم في كل الأمور وفي كل أوضاعنا، في الناحية الصحية والبيئية والاقتصادية والسياسية -دينا ودنيا-، وعلينا أن نجهد أنفسنا وأن نبذل ما في وسعنا من أن أجل أن نرتفع إلى مستوى ما نتعلمه من الإسلام ونفهمه.

 

أن نحمل الاسلام إلى داخل الأمة وخارجها، مع احساننا لمخاطبة الآخرين به، تبليغا ودعوة إليه وقولا وعملا وصوغا لأوضاعنا على هداه، فإن فعلنا كل ذلك، فقد دعونا الإسلام الدعوة الحقة.

 

كلمة أخيرة:

 

الرسول صلى الله عليه وآله جاء يوحد البشرية “تعالوا إلى كلمة سواء” أترى أن قيادة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن فكر رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن إرادة رسول الله رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن رضا رسول الله رسول الله صلى الله عليه وآلهأن تنقسم الأمة هذا الانقسام الحالي؟ أن تتقتل؟ أن يكفر بعضها بعضها؟ أن يرخص دم المسلم عن دم البعوضة في نظر المسلم؟

 

الرسول الذي جاء ليوحد البشرية كلها على خط وهدى الله عز وجل، وقال أنها تفترق كذا فرقة، ولم يقل كذا أمة،  لكن تبقى أمة واحدة بما فيها من أفكار شاذة، هناك عقائد مختلفة صفاءً وشوبا، يوجد منهاج مختلفة، ولكن يبقى الإطار الواحد للأمة الذي يحفظ هيبتها ووحدتها، وهذا ينافي ما عليه الأمة الآن من تكفير واقتتال وترصد، وأن يفرح المسلم بهزيمة المسلم، وأن يفرح المسلم بقتل المسلم؟ وبندحار المسلم حتى لو قاتل إسرائيل أكثر مما يفرح بهزيمة الكافر.

 

ربما هناك شيعة لو دخل السنة في اقتتال مع إسرائيل فغلبتهم إسرائيل لفرح هؤلاء الشيعة، وربما هناك سنة لو دخل شيعة في اقتتال مع إسرائيل فغلبتهم إسرائيل لفرح هؤلاء السنة، أهذ يسر رسول الله صلى الله عليه وآله؟ أهذا هو الأمة الواحدة؟ أهذا هو فكر رسول الله صلى الله عليه وآله؟ إهذه أرادة ورغبة رسول الله صلى الله عليه وآله؟ أهذا هو رضا رسول الله صلى الله عليه وآله، ما أبعدنا عن الإسلام.

 

اللهم خذ بيدنا إليك، وأهدنا طريقك، ولا تزل لنا قدما وأنت أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.

[1]  فهو آمن من ناحية دنيوية تماما وليس عنده شيء.

[2]  سورة النجم، الآية 3.

[3]  سورة النجم، الآية 4.

[4]  سورة التغابن، الآية 12.

[5]  بشرط توفر الشروط.

[6]  فوجود أطروحة وتبقى غامضة، وخارطة محفوظة في الأرداج ومغلقة عليها المكتبات لا تحل، فالخارطة لابد أن تتحول إلى فكر ورؤية.

[7]  كلمة عندنا فقهائنا: الفقية المتقي عبد الدليل.

زر الذهاب إلى الأعلى