خطبة الجمعة (559) 4 شعبان 1434 هـ ـ 14 يونيو 2013م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: البغض

الخطبة الثانية: مواليد الأطهار – أمانة الأولاد – تجارب ضائعة – نداءات التوبة

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أماتَ وأحيا، وأضحكَ وأبكى، وأنارَ وأدْجى، وأضلَّ وهدى، وأسقمَ وشفى، وأسعدَ وأشقى، وإليه الرُّجعي، وبيده المنتهى.
هو اللهُ العليُّ القدير، العليمُ الخبير، العزيزُ الحكيم، العدلُ الذي لا يجور، المحسنُ المنعِمُ، المتفضِّل، ذو الجلال والإكرام.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عِبادَ الله ما من إنكارٍ من عبدٍ لله سبحانه ولإنعامه إلّا لعمًى في قلبه كان هو السببَ وراءَه، وما من معصية من أحدٍ له إلّا لِسَفَهٍ في نفسه، وما ينسى أحدُنا لحظةً ربَّه فيأتي بما لا يرضاه إلّا انخِداعًا بالنفس الأمّارة بالسُّوء، واستجابةً لوسوسة الشّيطان. ومن انتفت عنه هذه الأسباب كان دأبُه الطاعةَ لله، وعدمَ الميل عن طريقه.
فلنحمِ قلوبَنا من عاهة العَمى بتجنُّب سببه وهو معصية الله، ولنطلُبْ الرُّشد للنفس بالتفكّر والتدبُّر والنظر المعتبِر، والتبصُّر في الدّين، والتحلِّي بما يدعو إليه، ولنحذر من خِداع النفس بمجاهدتها، والانتباه إلى أباطيلها، ونُدافعْ وسوسة الشّيطان بكلّ ما أُوتينا من قوّة من منطلق الشّعور بعداوته، وشديدِ خطره متوكّلين على الله طالبين منه الوِقاية والنصر والعصمة فإنّه لا يخذل من صَدَقَ في لجئه إليه، واحتمى بقدرته.
وما من طالبٍ لله سبحانه واصلٍ إليه؛ إلى معرفته ورضوانه إلَّا به؛ بعونه وهُداه وتوفيقه.
والطريقُ إلى الله سبحانه دائمًا هو استرحامُه والتوكُّل عليه، وطاعتُه وتقواه، وصِدْقُ النيّة في التوجُّه إليه.
اللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتُبْ علينا إنّك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهمَّ لا تجعل لظلمةٍ، ولا ضلالةٍ، ولا شبهةٍ أن تمنعَ عقولَنا عن الرؤية، وتحجب قلوبنا عن الهدى، ونخالفَ بها الحقّ، ونتّبع الباطل، ونخسر ديننا. اللهمَّ لا تُفرِّق بيننا وبين البصيرة، ولا تجعل لنا مُزايلةً أو جنوحًا عن الصِّراط أبدًا يا أرحم الرّاحمين.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث في موضوع :

البغض:

والبغضُ شعورٌ من النفس بالنّفرة والابتئاس وعدم الرِّضا للإحساس بعدم الملاءمة، وبالمضادَّة، وربما الضّرر. والبغضاءُ والبِغضة أشدُّ منه في الدّرجة.
وتختلف النفوس حسبما هي عليه من علمٍ وجهلٍ بسيطٍ أو مركَّب، ومن خيرٍ وشرٍّ، ونزاهةٍ ورجاسة في نوعِ ما تُحبّ وتُبغض، وتهفو إليه وتنفِر منه. فرُبَّ محبوبٍ عند نفس مبغوضٌ عند أخرى وهو في نفسه جميل لا غير، أو قبيح لا جمال فيه.
ومن البُغض ما يُولِّد مواقف عدائية للإضرار بالآخر، والنيلِ منه، ومنه ما هو دون ذلك. وذلك راجع إلى درجةِ ما عليه البغض في النفس، وما هي عليه النفس من قُدرةٍ في الوقوف أمام مشاعرها المنحرفة.
ويبقى البغضُ بحقِّه وباطله سببًا من أسباب العداوة بين النّاس والكيدِ والإضرار من بعضهم لبعض، وسببًا من أسباب التجاوز في الحقوق وحتّى الحروب.
وهو عاملٌ من عوامل الفساد والظلم حيث يخِسُ منطلقه، أو يحمل النفسَ على مواقف عدائية لا تتّفق مع عدل الله وشريعته وإنْ كان هو في نفسه من منطلقٍ صحيح. وإنّه لا يكفي أن يكون بُغضي لشخصٍ أو جهة صحيحًا وبتأثيرٍ من قبحه وإيذائه لِأنْ أتّخذ منه الموقف العدائي الذي يشفي النفس، ويُطفئ ظمأها ولو كان فيه تجاوزٌ لحدود الشّريعة، ونسيانٌ لمقتضى الحقِّ والعدل.
وكُلّما انطلقت النفوس من حبِّها أو بغضها المنفصل عن خلفية الحقّ والبعيد عن رؤية الدّين أو تجاوزت الحدَّ الشرعيَّ وراء ما تشتهي شاع الفساد والاضطراب والفوضى في حياة المجتمعات، وساءت أحوالها.
ومن ميزان النفوس الذي تُعرف به، ويُشخِّصُ لك نوعَ الرِّجال ما هي عليه في حُبِّها وبغضها؛ نوعِه ومقدارِه موازَنًا بما تُحِبّ وتُبغض، ومدى ما يعطيه هذا الحبّ أو البغض من مواقف عملية تتناسب مع جمالِ وحُسْنِ ما جعلها تُحبّ، أو قبح وسوء ما جعلها تُبغض.
وحُسْنُ ظنّك بالرّجل يصدِّقه أن تراه يُبغض أو يُحبّ فلا يتجاوز به بغضه أو حبّه حدّ ما عليه الشّرع، ولا يُوقِعانه في شيءٍ من سخط الله.
ولا تكون نفسٌ على هذه الدرجة من الدِّقّة والانضباط إلّا ما كانت على حظٍّ عظيم من الإيمان والتقوى والنباهة وشدّة الاحتراس لأنَّ المورد من موارد الامتحان الشديد، والمزلقَ من المزالق الخطيرة.
وما من صفةٍ تظهر في النفس وتتمكّن منها ليس لها من طبيعتها الأصلِ سَبَب، وكلُّ علّتها من الخارج، وإنما لكلّ صفة من صفات الخير والشرّ فينا أرضية من الاستعداد والقابلية وأسبابٌ من أسباب خارج النفس.
ومن ذلك ما نجده من حبٍّ وبُغضٍ يطبع شخصيتنا.
ومن الأسباب الخارجية التي تُثير البغض السيء، وتفاقمه في النفس ما يأتي:

1. الشيطان: نقف أمام قوله تبارك وتعالى:”إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ”(1).
فالشيطان بوسائله القذِرة، وآلاته الضَّارة له هذا الدّور من الإفساد لنفوس الناس وإثارة البغضاء في صفوفهم.
عن الباقر عليه السلام:”إنَّ الشَّيطانَ يُغري بَينَ المُؤمِنينَ ما لَم يَرجِع أحَدُهُم عَن دينِهِ، فَإِذا فَعَلوا ذلِكَ استَلقى عَلى قَفاهُ وتَمَدَّدَ، ثُمَّ قالَ: فُزتُ. فَرَحِمَ اللّهُ امرَأً ألَّفَ بَينَ وَلِيَّينِ لَنا. يا مَعشَرَ المُؤمِنينَ! تَأَلَّفوا وتَعاطَفوا”(2).
الدينُ يريد الأُلفة واللقاء والمحبّة بين المؤمنين، وهذا شيءٌ يؤلم الشّيطان فلا يزال يُغري بين المؤمنين ويُثير هذا ضدَّ أخيه، وأخاه ضدّه حتى يبلغ مراده من مفارقتهما لمقتضى الدّين، والدّخول في جحيم البغضاء بعد روض المحبّة وعندئذ يستلقي فَرَحًا لما تحقّق من الشرّ على يديه.
2. التوارث:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”الوُدُّ يُتَوارَثُ، وَالبُغضُ يُتَوارَثُ”(3).
تكون بين الأبوين محبّة، أو بغض فينعكس ذلك على العلاقة بين الولدين تأثُّرًا من كلّ ولد بأبيه، وانتصارًا عاطفيًّا له.
وجيلُ المحبّة من جماعتين أو طائفتين يُورِّث لمن بعده المحبّة، وجيل البغضاء والفرقة منهما يُورِث منهما مَن بعدهما ما كانا عليه.
فليخشَ هذا الجيل من المسلمين ربَّه فلا ينقل لمن بعده ما يزيد في محنة الإسلام والمسلمين.
3. الجهل:
{… وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(4).
نكرهُ خيرًا لنا، ونُحبُّ شرًّا لنا عن جهل، ولو ظهر الأمر لانقلب كرهنا حبًّا، وحبّنا كرهًا، ولكنَّ ستار الجهل يخدعنا.
وعن الإمام الصادق عليه السلام في بيان جنود العقل والجهل:”الحُبُّ، وضِدُّهُ البُغضُ”(5).
4. الكفر:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(6).
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}(7).
الإيمانُ أرضيةُ المحبّة الواعية والأُلفة البنّاءة، والكفر أرضية البغضاء الجاهلية، والفُرقة المدمِّرة.
5. البخل:
عن الإمام عليّ عليه السلام:”البُخلُ يُوجِبُ البَغضاءَ”(8).
وعنه عليه السلام:”جودُ الرَّجُلِ يُحَبِّبُهُ إلى أضدادِهِ، وبُخلُهُ يُبَغِّضُهُ إلى أولادِهِ”(9)، وعنه عليه السلام:”الجَوادُ مَحبوبٌ مَحمودٌ وإن لَم يَصِل مِن جودِهِ إلى مادِحِهِ شَيءٌ، وَالبَخيلُ ضِدُّ ذلِكَ”(10).
الجود لجماله محبوب فيُحبِّب للنفوس فاعلَه، والبخل قبيحٌ مبغوضٌ لقبحه فيُقبِّح صاحبَه ويُبغّضه إلى غيره. وللبغض أسباب أخرى عديدة من صفات ذميمة، وأفعال قبيحة لا ترتاح النفوس الطّاهرة أن تَحُطّ بنظرها عليها، أو أن تصِل إليها عنها صورة كالظلم والإساءة من غير حقٍّ والغيبة والنميمة وأمثال ذلك.
فكلّ صفة ترجّس النفس وتطبعها بطابع السوء تسقطها من عيون الصالحين، ويؤذيهم منظر النفس التي قبحت بها فيبغضون منها هذا القبيح، وما يلحقها من سقوط. أمّا النفس التي يهمُّها أن تكون محبوبةً لله عزّ وجل مرضيةً عنده فعليها أن تتبرّأ من القبائح، وألّا يكون لها تعلّق بالعيوب؛ فالله سبحانه لا يُحبّ قبيحًا على الإطلاق، ولا يحبّ إلّا الجميل.
اللهم صلّ وسلِّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خير النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعِنّا على أنفسنا حتّى تنقى من مكروهك وترضاها، واجعل لها من نورك ما يُضيؤها ويُزيح عنها وحشة الذنوب والقبائح يا كريم يا رحمان يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(11).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يُغيّر عدلَه مُغيّر، ولا تصير به معصيةُ العباد إلى ظلم، ولا يُنقِص جزاءَ المحسنين، ولا يُعطِّل قدرتَه مُعطِّل، ولا يردّ قدرَه رادّ، ولا يمتنعُ مجرم من عقوبته. لا تملك السماوات والأرض، ولا ما فيهن وما بينهن مما خَلَقَ ومَنْ خلق أن لا تستجيب لما أراد، ولا تنقاد لما أنفذ.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمَّدًا عبدُه ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله لا يقومُ جهلٌ مقامَ علم، ولا عمل سيء مقام عمل صالح، ولا نية سقيمة مقام نيةٍ سليمة، وكلُّ ذلك معلوم لله سبحانه تفصيلًا، ولا يختلط منه شيء في علمه بشيء، ولا يضيع شيء، ولا يُنسى شيء. وكلُّ عبدٍ ملاقٍ غدًا ما كَسَبَت يداه، ولا يبخس ربُّك شيئًا أحدًا.
فلنكُنْ اليوم على علمٍ نافع، ولنعمل صالحًا، ولننوِ خيرًا نَجِدْ عين ما قدَّمت يدنا يوم الحاجة، ويوم المصير. وإنْ نُقدِّم جهلًا، وعملًا سيّئًا، وننوِ قبيحًا لن نجدَ غير ما قدَّمت يدانا، ولن ننجوَ من تبعته. والمخبرُ بالجزاء ناصح لا يغشّ، صادق لا يجوز عليه غيرُ الصِّدْق(12)، خبيرٌ لا يمكن أن يجهل، قديرٌ لا تُردّ قدرته(13).
إذًا فنفسٌ وما ترغب أن تجد غدًا من سوء أو خير، من شقاء أو سعادة.. فالتقوى التقوى، وحذارِ من أن نغرّ بالحياة، أو نُصاب بالغفلة والسهو، أو نُخدع بوسوسة الشّيطان، وما عليه زينة الدنيا.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنّه ليس لأحد هدى إلّا من عندك فنسألك الهدى الذي لا تُجامعه ضلالة، ولا عصمة إلَّا بك، فارزقنا من عندك عصمة كافية مقيمة شاملة مانعة من الوقوع في الغفلة والسهو والميل عن طريقك، والوقوع في شيء من معصيتك، إنك قريب قدير سميع مجيب.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أمَّا بعد أيّها الأحبّة في الله فإلى أكثر من كلمة:

مواليد الأطهار:

تغنى الأشهرُ الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان بمواليد الأئمة الأطهار من آل محمدٍ صلًَّى الله عليه وآله وعظماء أهل هذا البيت الطّاهر.
والأئمة عليهم السلام نعمةٌ كبرى، ونورُ النبوّة والرسالة والإمامة المعصومة الهادية نورٌ لم تستغنِ عنه الأرض في يوم من أيّامها، وإذا كانت الشمس بحرارتها ونورها ضرورة لا تستغني عنها حياة الأجساد لأهل الأرض فإنّ نور النبوة والرِّسالة الإلهية والإمامة المعصومة لا يمكن أن تقومَ لهم حياة قلوب وأرواح ووجدان وضمير وإرادة إنسانية كريمة ويتمُّ لهم نُضجهم ويبلغ بهم العمر الغاية، ولا تعتدل لهم حياةُ بدن ودنيا لو منعتهم إيّاه السّماء.
وإنّ أول ما سكن الأرض إنسان إنما بدأ سكنه فيها بالعبد الصّالح آدم صفوة الله كما في تعبير زيارة وارث ومعه زوجه ليقود حركة الأرض عبر الإنسان على الخطِّ الإلهيّ الذي لا عِوَجَ فيه، ولا يشوبه انحراف.
وكما بدأت حياةُ الإنسان على الأرض، وحركةُ العمران فيها محتاجة إلى هدى السماء، وقيادة منشدَّة بحقٍّ وصِدْقٍ إلى الله تبقى محتاجة لذلك حتّى تؤديّ وظيفتها.
وكلُّ نعمة فيها على الإنسان حجّة، وله فيها امتحان. وما أعظم النعمة بأهل بيت الرسالة عليهم السلام، وما أحوج الأمّة والإنسانية لها، وما أبلغ آثارها الصَّالحة الكبرى عليها لو أحسنت التعامل معها، وما أشدَّ ما ترتكب من إثم(14)، وما أفظع الخسارة التي تأتيها، وما أكبر ما تتعرّض له من سخط الربّ عزّ وجلّ بتفريطها فيما ائتمنها عليه سبحانه، واستخفافها به.
ثبّتنا الله على ولاية محمد وآل محمد ما دام عندنا نَفَسٌ في هذه الحياة.

أمانة الأولاد:

الأولادُ البنونَ والبناتُ وخاصَّةً في سنّ التربية أمانةٌ تُطوِّق مسؤوليتها عُنُقَ الآباء والأمهات.
أمانة نقف أمام العدل الإلهي لِنُسأل عنها، عن حفظها أو التفريط فيها.
والأولاد بدنًا يهمّ أمرُهم الإسلام، ورعايتهم من هذا الجانب مسؤولية من مسؤولية الآباء والأمهات. وهل يجوز لأبٍ أو أمٍّ أن يتركا الولد يتضور جوعًا، وتتردّى صحّته، ويذبل جسدًا ولهما قدرة على إنقاذه؟! وهل يجوز لهما أن تمتدَّ يدُ ولدهما إلى السمّ ليتناوله سذاجة وجهلًا أو تهوُّرًا وهما يشهدانه ولهما القدرة على كفّه عن فعله فيتركانه وما يُحاول؟!
وهل يحتمل أحدُنا رضا الإسلام بتقديم جانب البدن والمادة والدّنيا على جانب الرّوح والإنسانيّة والدّين والآخرة أهميّة والاكتفاء من الوالدين برعاية حاجات الجسد للولد وأن يُهمِلا جانب عقله وقلبه ودينه وبصيرته واستقامة خُلُقِه وعلمه بالدّين وهداه؟!
ومن يأمن على دين ولده وخُلُقِه واستقامته اليوم إذا تُرِك لنفسه وهو في سنِّ التربية، أو أُهمِل للبيئة الثقافية، والاجتماعية والسياسية الموبوءة الفاسدة المفسدة التي تتربّص به، وتُخطِّط لاصطياده؟!
مشاريع التعليم والتربية المستمرةُ والصيفيةُ منها المأمونة الموثوقة حجّة على كلِّ الآباء والأمّهات ومَنْ أهمل إلحاق ولده بها فضيّع ولده خان أمانتَه وتحمّل وزرًا ثقيلًا بما عصى به ربّه.
لا تطلب ولدًا برًّا بك، صالحًا، نافعًا لمجتمعه، مَرضيًّا لله سبحانه، يكونُ لك قرة عين وأنت لا تُوليه الاهتمام البالغ من ناحية تربيته وتبصيره وتهذيبه وتزكيته.
تجارب ضائعة:

حفظ التجارب، الاعتبار بها، امتصاص دروسها عقلٌ لابدّ منه، وخسارته خسارة فادحة.
وأسلوب التجربة هو الأسلوب الأيسر في التعلُّم، والمعلومة عن طريقه ربما كانت أركز في الذهن وأثبت.
والتجارب تختلف تعقيدًا وبساطة، ومنها ما يؤدي شهادة صارخة بكلّ وضوح أمام الحسّ ومن غير بذل جهد، وذلك مما تُقدِّمه الحياة في أحداثها الطافحة.
من هذا النوع من التجارب ما قدّمه الحراك العربي على مدى السنتين الأخيرتين وما يزيد من وقائع على الأرض لا ستار عليها وما أدت إليه من تداعيات وإفرازات ونتائج.
اتَّحدت لغةُ هذه الوقائع، وتوحّد منطقها في المثال التونسي، والمثال الليبي، والمصري، وكذلك اليمني حيث ابتدأ الحراك في كلِّ هذه الأمثلة بسقف متواضع نسبيًّا من المطالب والإصلاح، وبأسلوب سلمي، فلم يوافِ أُذنًا صاغية من الأنظمة الحاكمة وإنما قُوبل بالتجاهل والاستخفاف والازدراء والتخوين والإساءة إلى الجماهير المحترقة والعقوبة الصارمة، والقسوة الطائشة، وألوان القتل والملاحقة والتضييق والتعذيب، وبالحديد والنار والإعلام الكاذب، وبتوظيف الثروة في الاستضعاف والإرعاب والتنكيل.
وكان أملُ الأنظمة من هذا كلِّه كسر إرادة الشعوب، وأن يسكن اليأس من الإصلاح والتغيير نفوس أبنائها حتى يتمَّ الاستسلام والرّضا ولو عن اضطرار بألوان الظلم وفَقْد الحرية والكرامة والعيش الخسيس ووضع الهوان والذِّلة.
لكنَّ شيئًا من ذلك لم يكن ولم تُفلِح كلّ المحاولات المجنونة لتحقيقه.
وجاء ردُّ فعل الشعوب تفاقم الحركة، التدفّق الهائل على الشوارع في استقبال وسائل الفتك والدمار بصدور عارية وقبضات عالية كلُّ محتواها الإصرار على العزّة والكرامة وروح الفداء والتضحية.
وكان من ردِّ الفعل اشتدادُ غضب الجماهير، وترسُّخ القناعة بضرورة التغيير، وتصاعد روح العزيمة والإصرار، وارتفاع سقف المطالب، وأنْ وجدت بعض الفئات في تجارب من تجارب هذا الحراك نفسها مضطرةً فيما قدّرت للدخول في معركة غير متكافئة من العنف في مقابل العنف(15).
وصارت الأنظمة فيما بعد ذلك تبذل فيما تعرضه على الشعوب أزيد مما كانت تبخل به قبل وتمنعه عليها من تحقيق مطالب في سقفٍ أكثر تواضعًا. وكان أنْ أتى رفض الشعوب بعدما ذاقت من قسوة الأنظمة وتعنُّتها، وجاء إصرارها على السّقوف العالية التي وصلت إلى إسقاط الأنظمة وقد تحقَّق لها من هذا الكثير.
هذه تجارب حيّة، ومشاهد قائمة على الأرض وأكبر من كلّ وسائل الإيضاح ولا تحتاج إلى تعليم ولا تلقين ولا تفتقر إلى عقلية فلسفية، وفكر معتاد على التدقيق.
وهذا كلُّه كما هو مشاهَدٌ للشعوب الأخرى مشاهد للأنظمة والحكومات الأخرى كذلك. فماذا يُعمي أنظمة كثيرة عن الاستفادة من كل هذه الدروس، وترتيب الأثر على هذه النتائج؟!
الحكومات ليست غبية، وهي غنية بالمحلِّلين السياسيين وذوي الخبرة والاختصاص وهي أغنى بالمعلومات وأحرص على رصدها، على أنَّ عطاء هذه التجارب لا يحتاج إلى شيء من ذلك لشدّة وضوحه وتكرره وتقاربه الزمني وعدم اختلاف بيئة بقية الأنظمة المجاورة عن بيئتها، لكنَّ شيئًا واحدًا عند الأنظمة والحكومات هو الذي يُعطِّل فهمها ويفقدها البصيرة، ويوقعها في العمى عن رؤية الحقائق. ذلك هو غرور القوة والحبُّ المجنون في السلطة المطلقة، والاعتزاز بالإثم، وروح الاستعلاء من غير حقّ.
ومن هنا فإنَّ أكثر الأنظمة لا يُعطي قليلًا من حقّ الغير عنده إلا عند أقصى درجة من درجات الاضطرار.
انظر متى آمن فرعون واستسلم لأمر الله. إنما كان ذلك منه حيث عاين العذاب، وعاين أنَّ القدر قد أحاط به من كلّ جانب وألا مَخْلَص له. وذلك ساعةَ لا ينفع الندم.
وقليل من الأنظمة الحاكمة ما يلتفت إلى خطورة الموقف في البدايات ويُحاول معالجة الأمر بأقلّ قَدَرٍ ممكن من التنازلات أو الترضيات تحت شعار رعاية الشّعب والاهتمام به.
لابد للأنظمة أن تكون التجارب المتكرِّرة المتكثرة قد علَّمتها أنَّ إصلاحًا في وقت يحلُّ المشكلة، ثمّ لا يُجدي شيئًا في وقت آخر، وأنَّ الإفراط في استعمال القوّة لم يفلح فيما استهدفه في كلّ التجارب القريبة، وأنَّ مطالب الشعوب يرفع سقوفها شدّة القسوة وطول الانتظار واليأس من نَفْعِ القليل الذي تراه السلطات كثيرًا، وأنّه ليس من العقل ولا الحكمة أنَّ ما عليك أن تُعطيَه اليوم لا تعطيه إلا بعد مذابح، وسفح دماء الشعوب، والخسائر الكارثية للأوطان، وهو عندئذ لا يُرضي.

نداءات التوبة:

نداءات الرّحمة الإلهيَّة من الكتاب والسُنَّة، من ملائكة الله، ومن كلِّ قلب مؤمن زكيٍّ مشفِق، وعلى لسان الموت والحياة، وكلِّ آيةٍ من آيات الأنفس والآفاق لا تكفّ لحظة من ليل أو نهار عن مخاطبة عقل الإنسان، وقلبه، وبصيرته، وضميره، ووجدانه، وكلّ شعورٍ نابهٍ كريمٍ فيه من أجل أن تعود نفسه الأمّارة بالسّوء إلى الرُّشد، وتفيء إلى الحقّ، فيرجع إلى مأمنه بعد الضّياع، وإلى مأواه بعد الشّرود، ومرفئِه بعد الانفلات، ومن الضّلال إلى الهدى، ومن طريق الهَلَكَةِ إلى النجاة(16)، وإلى حيث يطمئِن، ويهنأ ويسعد، ويسمو ويرقى.
ألا من تائبٍ بعد الذنب، مفيقٍ بعد الغفلة، نادمٍ بعد الإسراف على النفس، مستيقظٍ بعد طول السُّبات، ملتفتٍ لمكر الشيطان بعد الاغترار، متمرِّدٍ على أسر الهوى بعد الاستسلام، مستغيثٍ مستصرخٍ بالله قائلٍ بوعيٍ وصدقٍ وإخلاصٍ وانقطاعٍ لبارئه العظيم هاربٌ منك إليك، خائفٌ منك لاجئٌ إليك.
وحقَّ للنفس ألّا تهرب إلّا من غضب الله، ولا تخشى إلّا سخطَه. وغضبُ الله في أنْ يُسرِف امرؤ على نفسه(17)، أن يسلكَ بها طريق الانحدار، أن يعطي لهواه أن يقوده ويُرديه، أن يسعى إلى النّار، أن يكون من المفسدين.
والهروبُ من الله هروبٌ من عدله(18) لسوء ما كسب العبد على نفسه، ومن الحقّ الذي يقضي به، وهروبٌ من قدرته التي لا يمتنع منها شيء، ولا يحمي شيءٌ منها، وهروبٌ من أخذه وبطشه وعذابه الذي لا طاقةَ لأحدٍ به، ولا تحمُّل لنفس لشدّته.
والهروب من الله عزّ وجلّ لا يحمي إلا بعودة الهارب إليه حيث لا ملجأ منه، ولا أرضَ غير أرضه، ولا سماء غير سمائه، ولا شيء من قدرةٍ إلّا بقدرته.
والهروب إليه هروب إلى عفوه، وانقطاع إليه، وخلوص الأمل في مغفرته، وتعلُّقٌ بجوده وكرمه، وإلحاح في طلب الصفح منه، وقبوله العبد بعد طرده.
يا نفسُ التوبةَ اليومَ لا غدًا…. الساعةَ لا التي بعدها… اللحظةَ لا اللحظة التي تليها فلا ضامن لأحدنا من نفسه، ولا من أحد من خلق الله بأن يُزاد له يومٌ فوق ما قضى في هذه الحياة، أو أن تتمَّ له فيها ساعتُه، أو يتجاوز به أجلُه لحظتَه.
وفّقنا الله عاجلًا للتوبة الصادقة النصوح.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم الطف بعبادك المؤمنين والمسلمين، وأخرج بلاد الإسلام كلّها من فتنة حارقة تتهدّدها، وأخمد بداية لهبها، وألّف بين قلوب أهل القبلة، وخلّص النفوس من جاهليتها ونسيانها للحقّ.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، وردّ غرباءنا في عزٍّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (19).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 91/ المائدة.
2 – الكافي ج2 ص345 ط4.
3 – المستدرك للحاكم النيسابوري ج4 ص176.
4 – 216/ البقرة.
5 – الخصال للشيخ الصدوق ص590.
فالحبّ من جنود العقل، والبغض من جنود الجهل.
6 – 64/ المائدة.
7 – 14/ المائدة.
8 – موسوعة معارف الكتاب والسنّة ج8 ص432 ط1.
9 – مستدرك الوسائل ج15 ص261 ط2.
10 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص432-433 ط1.
11 – سورة التوحيد.
12 – وهو ربُّك سبحانه وتعالى.
13 – فمن أين يتأخّر الجزاء؟!
14 – أي الأمّة.
15 – فأضرّ الجميع.
16 – من فريق الشيطان إلى ملأ الله.
17 – ليس في أن يضرّ الله شيئًا، لأن الله عزّ وجل لا يضرّه شيء. غضب الله عليّ أن أسرفتُ على نفسي، أن أخذت بنفسي في طريق الهلكة، ليس لغضب الله عليّ من منشأ إلا هذا المنشأ، إلا مخالفة طريق الحق التي فيها الهلاك.
18 – نهربُ من ماذا؟ نهرب من الله من ظلمه عزّ وجلّ؟! من جهله سبحانه وتعالى؟!
19 – 90/ النحل.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى