خطبة الجمعة (558) 27 رجب 1434 هـ ـ 7 يونيو 2013م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: نظرة حول الحياة

الخطبة الثانية: لماذا انطلق ولماذا يبقى؟ – من وحي المبعث النبويّ الشَّريف

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا تصوُّر لمجدٍ يبلغ مجده، ولا إدراك لعظمةٍ يصل إلى عظمته، ولا ثناءَ من أحدٍ كما يستحقّه إلّا ما أثنى به على نفسه، ولا رحمةَ راحمٍ تنقذ إلّا رحمته، ولا حدَّ يقف عنده جلالُه وجماله، ولا توكُّل إلّا عليه، ولا مرجِعَ إلّا إليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله الذين لا خالِقَ ولا ربَّ لكم غيرُه، ولا صُنْعَ ولا تدبير لشيء إلّا بفيضه، ولا نعمةَ إلّا وهي منتهيةٌ إليه، فلا إله سواه، والعبادةُ والطّاعةُ له وحده، فلا تتّخذوا معه شريكًا، ولا تُعوِّلوا إلّا عليه، واطلبوا خيركم كلَّه من عنده، واستدفِعوا عنكم الشرَّ باللجأ إليه؛ وهو نصيرُ من لا نصير له، ومنقذُ من لا يجد منقذًا له من ورطته، وإليه أخلِصوا الطّاعة، ولا تَقَعُوا في معصيةِ أمرٍ من أومره أو نهي من نواهيه فتأتوا لأنفسكم ما تكرهون، وما لا طاقة لنفسٍ به.
علينا عباد الله بتقوى الله فإنّها السبيل إلى النجاة، وإنها السبيل إلى النعيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعل لنا همًّا صارِفًا عنك، ولا اشتغالًا بما لا يُرضيك، ولا نيّةً على خلاف طاعتك، ولا ميلًا عن صراطك، واملأ حياتنا كلّها بما يُقرّبنا إليك، ونستحقّ به المزيد من رحمتك وكرامتك يا رؤوف يا رحيم، يا منّان، يا متفضّل يا كريم.
أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات :

نظرة حول الحياة:

فإنّ حياتنا لمنقضية، وإنَّ لنا للقاءً مع الله عزّ وجلّ لا نُخلِفُه، ودارًا غريبة مُقدمون عليها، وإنَّ في انتظارنا لحسابًا وعقابًا وثوابًا، ونارًا وجنّة يبقى في تلك باقون، ويخلد في هذه خالدون، ولكلِّ عبدٍ من عبيد الله، وأَمَةٍ من إمائه لمتّسعًا في الجنة والنار، ولا تضيق الأولى عن سعيد من سعدائها، ولا الثانية عن شقيٍّ من أشقيائها. وكلُّ ذكر وأنثى صانعٌ في الدّنيا اليوم مستقبله غدًا، ومختار موقعه في جنّةٍ أو نار، ولا فُسحة لاختيار غيرُ متّسع هذه الحياة.
والعمر محدود، والوقت معدود، وكلُّ لحظةٍ تذهب لا تعود.
وقيمةُ العمر ذاتًا عالية، وقد رَبِح من عَرِفَ له شأنَه، ووضعه موضعه، وصرفه في بناء نفسه وتكميله.
أمَّا من ناحيةٍ فعلية، وما يُحقِّقه العمر في الخارج، وينتج عنه فإنما يعود لنوع ما تنفقه فيه ونوظِّفه من أجله، وما نتعامل به معه من هدره أو ملئه. فمنه فاقدُ القيمة وهو ما أمضيناه فراغًا بلا هدف، ومنه ما يكون وبالًا، وشرًّا علينا وهو ما أنفقه صاحبه في معصية الله مما يسقط النفس، ويَحطّ القدر، ويهبط بالمنزلة، ويجمع الذنب، ويزيد السّيئات، ومنه ما يُمثِّل صعودًا في مستوى الذّات، وتبلورًا وطهرًا وزكاةً لها، واقترابًا وازديادًا من رحمة الله، وهو ما أُنفِق في طاعته، ووُضع في مرضاته.
اللحظة تُعبّأ بالنيّة أو الفعل، أو الكلمة أو الفكرة فتكون خيرًا أو شرًّا على صاحبها من جنس ما عُبِّئت به، وصُرِفت فيه من صفة ما أتى به المرء مما يُدخلها في الحقّ أو الباطل أو الطاعة لله أو معصيته.
يختار أُناسٌ في هذه الحياة أن يكونوا سعاةً بالفساد والسوء والشر والفتنة العمياء في الأرض، والرُّعب والإخافة في الناس والزّور والبهتان ومسخ الحقائق ونشر الباطل، ومناصرة الظّلم، ومناهضة العدل، وسدّ المنافذ ما استطاعوا على الإصلاح. يتخذون له من ذلك طريقًا للارتزاق، والتسلّق للمواقع، والبحث عن فُرص دنيوية عريضة أو يُنفِّسون عن أحقاد جاهلية، ويصدرون عن عقد وأمراض قلبية دفينة علَّهم يجدون راحةً مما يعانون.
هذه ذوات تزداد بما هي عليه من سلوك منحرف ودور عمليّ خبيث سوءًا على السّوء، ورجسًا على الرِّجس، وظلمة على الظلمة، وتحتاج لإنقاذ نفسها من المستنقع القذر، والمصير الكئيب الأسود أمام محكمة العدل الإلهيّ إلى مواجهةٍ عنيفةٍ مع داخلها المظلم ومحتواه الرّديء الذي راكمته السّيئات، وتكاثف سوءه بطول المعاندة للحقّ، وإلى ثورة عارمة منها على ذلك الإرث الثّقيل على مدى طويل.
وذواتٌ أخرى فرعونية هي منبع الفساد في الأرض على يد الإنسان، ترى من نفسها آلهة من حقّها أن تُقدَّم طاعتها على طاعة الله سبحانه، ولا ترضى للآخرين إلّا أن يعترفوا لها بهذا الحقِّ، ويدخلوا في خدمتها طائعين ساجدين.
هذه الذّوات هي التي تدفع سابقتها مسخَّرة بأن تُغري وتُرهب وتُضِلّ جماهير الناس لقبول الخدمة، والدّخول في الطّاعة، وانكسار الإرادة، والتنازل عن الحرية والكرامة ونسيان الذات، وإخلاص العبادة للطواغيت. وطريق الفئة المتفرعنة إلى الفئة العميلة لتكون أداتها الطيّعة لإضلال النّاس، وسرقة وعيهم، ومسخ إنسانيتهم وتدجينهم على طريق الطاعة هي نفوسٌ تتهافت على الدّنيا، وتميع من أجلها، وتسترخص كلّ قيمة وخلق وشرف ودين في سبيل الاحتفاظ بها، والتمتُّع بزينتها، وبذلك تتوافق إرادة السّيد والعبد، ويجد كلُّ طرفٍ منهما ضالّته في الآخر، ومنطلقهما واحد في هذا التلاقي في الإرادتين وهو دنيا متوفّرة بيد طرف ويهمُّه المحافظة عليها وتوسّعها، ويطلبها الآخر، وكلّ بحثه عنها.
الفئتان تبنيان لنفسهما حاضرًا باذخًا خارجًا وتهدمان من قيمتهما الإنسانية، وتتسافلان في داخلهما طوال الحياة. ولا يمكن لطريق الهبوط الذاتي أن يُقدّم لسالكيه شعورًا حقيقيًّا بالسعادة، والقيمة العالية للحياة. تبقى النفس المسرِفة في طلب الدّنيا، الغارقة في لذائذها، المأسورة لهواها وهي تخسر من وزنها الإنساني باستمرار في عطاشٍ دائم فاقدةً لسبب الطمأنينيَّة المستقرّة، وراحة الضمير إلّا أن تُمسخ إنسانيّتُها بالكامل فيتبع ذلك موت ما كان لها من حياة ضمير.
وكلّما زاد انهدام إنسانية الإنسان، وتدهور مضمونه التابع لها من استقامة عقل، ووعي قلب، وصفاء روح، وطُهرِ سريرة، وسلامة نفس، وصحّة إرادة كلّما فَقَدَ أهليّته لسعادة الأبد واقترب من شقائه، وكان محلًا للعذاب المقيم.
وعليّ ألّا أُبرِّئ نفسي، وعليك ألّا تُبرّئ نفسك من أننا لسنا بعيدَين كلّ البعد عن الالتحاق بإحدى الفئتين، وقد يكون المانع من ذلك غير ما يتراءى للنفس من زكاتها ووعيها وتعفُّفها، وإنّما مانعُها الحقيقي أنها لا تجد الفُرَص الكافية كما وجد من أَنْسَتهم الدّنيا أنفسهم، وإلّا سابقتهم على ما صاروا إليه، والهاوية التي سقطوا فيها.
فلا غرور، وإنما هي المجاهدة الدّائمة للنفس بعد الاستعانة بالله عزّ وجلّ والتوكُّل عليه، والتحذُّر من صِغار الفتن تقويةً للنفس وإعدادًا لمقاومتها عند الفتن الكبيرة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
يا عاصم من استعصم به، يا كافي من استكفاه، يا مغيث من استغاثه، يا الله يا عليّ يا قدير يا عظيم، يا ربّ يا رحمان يا رحيم اكفنا مضلّات الفتن واعصمنا من الضلال، وأغثنا من خسارة الإيمان، واهدنا سواء السبيل، وزدنا هدى على الهدى، ونورًا على النور، وبصيرة على البصيرة، وارزقنا الاستقامة على الصراط، ولا تُخرجنا من الدنيا إلّا على هداك ورضاك.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(1). 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي يغشى الأَبَدَ نورُه، ولا شيءَ كان أو يكون إلّا بخلقه، ولا عطاء إلّا بجوده، ولا يمنع طالبَ الحقّ معرفتَه، ولا يحتجب عن مسألة السّائلين من عباده، ولا يردّ القاصدين كرمُه، ولا يطردُ من آب إليه بعد معصيته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله فلنكن على عقلٍ ورشد كما أرادنا الله عز وجلّ وبما مكّننا من ذلك فلا نسلك بالنفس طريق غوى وضلالة، ولا نأخذْ بها إلى تِيه وضياع، ولا ننتهِ بها إلى عاقبة خِزي وسوء وعذاب، ولنصُنْ عِزَّها، ونحفظْ لها قدرها، ونخترْ لها الكمال والسعادة بطاعة الجليل الجميل مالك الخير كلِّه، والرّغبة في ثوابه، والفرار من عقابه.
ومن كان على غير ذلك فقد خان نفسه، وأسرف عليها، واختار لها عذابًا يطول، وشقاء يُقيم، وخزيًا وعارًا وفضيحةً وشنارًا لا ينقضي.
ومن يفعلُ بنفسه كلّ ذلك إلّا من سَفِهَ رأيُه، وضلَّ ضلالًا مبينا. التفكُّر التفكُّر، التبصُّر التبصُّر، التدارك التدارك، الأوبةَ الأوبةَ قبل فوات الأوان.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل لنا هدى من عندك لا نضِلّ بعده أبدًا، ولا يغلبنا معه هوى أو شيطان رجيم، ولا نخسر شيئًا من ديننا، واجعلنا ممن يزداد طاعة وقربًا إليك على الأيام، وجنِّبنا الانتكاسة ما أحييتنا يا كريم يا رحمان يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم صلّ وسلم على خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين محمد بن عبد الله، اللهم صل وسلّم على عبدك وابن عبديك أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم. اللهم صلِّ وسلّم على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله من إخوة وأخوات مؤمنين ومؤمنات فإلى هذه الكلمات:

لماذا انطلق ولماذا يبقى؟

الحراك الشعبيّ في البحرين ليس مفتعلًا، ولا من تدبير فئةٍ خاصّة، ولا لمناسبة عابرة، ولا من منطلقٍ تَرَفَي، وليس حالة انفعالية، ولا مجرّد تقليد وتأثّر نفسي بالربيع العربي.
إنما انطلق هذا الحراك من خلفية موضوعية من الظلم القاسي والاختلال السياسي، وتردّي الأوضاع بصورة واسعة من فعل هذا الاختلال والتهميش والتمييز والاستهداف بالاستضعاف، والشعور بالخطر الجدي وبشاعة القهر والإذلال والحرمان، ومن رحم المعاناة المرة، وبدافع الألم الحادّ، والخوف من تدهورٍ أعظم، وذلٍّ أشد، واستئصال أعمق.
شاهِدُ ذلك أنَّ الانطلاقة لم تكن عن خلفية من القوّة تُغري بالتحرك(1)، وتسبِّب الغرور، وتعد بتحقيق النصر. ولم تنتظر هزات الربيع العربي وتحركاته وثوراته. وأنه جاء(2) على أثر تصاعد في الهجمة الإعلامية والإقصائية، ومخطط الاستضعاف الذي صار مكشوفًا للجميع وذلك من الجانب الرّسمي، وفي وسط حالةٍ من الإحباط الشعبيّ من أيّ إصلاحٍ سياسيٍّ قد وُعد به الشعب(3)، وبعد دعوات الحوار الهادئ ومحاولاته من طرف الشعب للتوصُّل إلى تفاهمات مع السلطة سدًّا للطريق على تفاقُم الاختلاف، وتفجُّر الغضب الشعبيّ عند الشارع.
انطلق الحراك لخلفية هدر الحقوق بصورة واسعة وعملية ومبرمجة وفي مقدّمتها الحقُّ السياسيّ. وكانت انطلاقتُه إيذانًا بسيل من الضربات الموجِعة والانتهاكات المتعدِّدة الواسعة والتعامل القاسي والعقوبات الجماعيّة على يدِ الحكومة لأبناء الشّعب.
ولكن كلُّ ذلك زاد في قوة الحراك، وأمدّه بالعزيمة، ولم يوقفه، ولم يخفِّف منه وذلك لشيء واحد في الأكثر وهو التقدير العامّ عند الشعب بأنَّ مصيبته في التوقُّف والتراجع عن المطالب أشدّ وأصعب وأشقى وأقسى من كلّ ما يتلقّاه من ضربات يصبر عليها وينتظر من الله الفرج. وتجدون أنَّ الثورة الشعبية السّلمية ليست ثورة مظلومين في معشيتهم فحسب، ولا رجال دون نساء، ولا شباب دون شيب، وإنما الأمر أمر حراك عام شاركت فيه مختلف الشرائح والفئات من منطلق المعاناة المشتركة التي ولَّدت قناعة مشتركة بالتحرُّك. وقد بدأ الحراك قويًّا وهادرًا، وزاد توسُّعًا وتفجُّرًا مع تصاعد وتيرة الأحداث، وتدفّقت للمشاركة فيه أفواجٌ جديدة متواصلة.
ويدلّك التنوّع والتعدّد في الشرائح والفئات والتوجُّهات المشاركة في الحراك وفعالياته بنسبةٍ عالية على سعة الظلم وامتداده وتنوُّعه وتغطيته لمختلف الفئات والشرائح، ولمساحات مختلفة من حياة الوطن والمواطنين؛ فمن الشّرائح والفئات الطلاب والعمال والتجار، والاختصاصيون، والعلماء، والرجال والنساء، والشيوخ والشباب، والإسلاميّون والوطنيّون، ومن المساحات الحياتية المساحة السياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية والمعيشية والتجارية، وما يتصل بحرية الإنسان وكرامته، ومختلف حقوق المواطنة. ما حرّك كلّ تلك الجموع والشرائح والمستويات على طريق المطالبة بالإصلاح ليس هو ظلم شريحة معيَّنة أو مساحة واحدة من مساحات الحياة، وبُعْد واحد مما يهمُّ الناس.
ونريد أن نقول هنا بأن ليس هدفًا من ناحية دينيّة أو عقليّة ولا عقلائية، أو وطنيّة أن يكن التحشّدُ أو التحشيد للمسيرات والاعتصامات وأن يكثر نشاط الاحتجاجات بألوانه المختلفة حتى مع سلميتها فضلًا عن أن يقصد أحد إلى توتّرات وصدامات(3).
فالأصل في حياة الشعوب أن تنصرف إلى ألوان النشاط المنتج وملء وظائف الحياة النافعة من نشاط اقتصادي وثقافي واجتماعيّ وتربوي وعبادي، ومن تقدُّم في مختلف المسارات الإيجابية الكريمة التي تبني الإنسان، وترفع من مستوى حياته وأوضاعه الصَّالحة، وتتقدم بالوطن، وتدفع به على الخطِّ الصالح إلى الأمام. والشعب ليس محتارًا في الوقت، ولا قاصِرًا عن ملئه بما يُعبّئه بالمادة الصالحة والنشاط المنتج الفعّال الذي يحتاجه في دينه ودنياه، ويسابق به الشعوب المستقيمة المتقدِّمة، ويُعلي به من شأن الأمة والوطن.
وليس قاصرًا عن ذلك ولا عاجزًا في ظل سياسة رشيدة حتى يتشبَّت بالمظاهرات والمسيرات وألوان الاحتجاج ليملأ فراغًا من الزمن، أو فراغًا تُعاني منه نفسه، ويضيق به(4).
وإنما للشعب مطالبه العادلة الضرورية المحِقّة التي لا رجعة له عنها، ولا يمكن الإهمال لشيء منها، ولا يجد لحياته أمنًا ولا استقرارًا ولا معنى ولا طعمًا بدونها، وهي التي تفرض عليه أن يستمر في حراكه مضحّيًا صابرًا مكابِدًا مخلصًا وفيًّا حتى تحقيق النصر، وبلوغ الإصلاح والتغيير.
إنَّ الذي وحّد مئات الألوف من شعب قليل العدد ولأكثر من مرة في حشد هائل هو ذلك الظلم المشترك الذي أصاب الجميع من السياسة القائمة.
على أنّ المألومين من هذه السياسة، والنّاقمين عليها لظلمها لا يقتصرون على هذه الأعداد الغفيرة الحاشدة فحسب فهناك الكثير من الموجوعين من سياطها وإنما لا يُشاركون في المطالبة الصارخة بالإصلاح لأسبابهم الخاصة بهم والتي يرون حسب تشخيصهم أنها كافية لاتخاذهم موقف التحفُّظ، ولكنَّ هذا لا يدوم فإن كثيرًا ممن لم يلتحق بالحراك في أوائله وجد بعد ذلك أنّ عليه أن يجهر بصوته المعارض كما جهر الآخرون(7).
إنَّ استمرار الظلم واستشراءَه وتوسّعه بتغطية مساحات جديدة وفئات جديدة من شأنه أن يزيد في حجم المعارضة ويُضيف إلى أعدادها.
وعندما لا يترك الظلم أحدًا إلّا يناله، لا يترك أحدًا إلّا ويقف ضده، ويُوحِّد الجهود لدفعه والتخلّص منه، فكلّما عمّ الظلم وطغت موجته عمّت الهبَّة في وجهه لدفعه ورفعه.
وفي نهاية هذا الحديث نقول: هناك تصريح لوزير شؤون حقوق الإنسان ملفِتٌ للنظر، يقول التصريح أنَّ البحرين تنتظر الوضع المناسب لتحديد الموعد لزيارة المقرّر الخاص بالتعذيب. فهل ينتظر الموعد المناسب في نظر المقرِّر؟ أو ينتظر الموعد المناسب بنظر حكومة البحرين؟ الواضح الثاني(8)، وليس لهذا من معنى إلّا أن ترتفع الحاجة في نظر الحكومة إلى التعذيب، ويتسع الوقت لمحو آثاره.
وهذا لو تقرَّر عند الحكومة فمتى يتقرّر، وهل تأتي مناسبة لهذا ما دام تتواجد مطالب للشعب، وما دام هناك حراك؟(9)
وهل يدلُّ هذا بكلِّ وضوح إلا على انتهاج سياسة التعذيب واستمرارها على الأرض؟
أمّا لو ادُّعي بأن الموعد هو انتهاء قضية الحوار فلا ربط أصلًا بين القضيتين استمرارًا كما لم يكن بينهما ربط في الابتداء.

من وحي المبعث النبويّ الشَّريف:

ما من خير في حياة النّاس ولا سبب من أسباب اطمئنانها، وليس هناك مصدر من مصادر استقامتها وهناءتها إلا ومنتهاه إلى الله وتدبيره وحسن لطفه بالعباد.
ومما لا تستقرّ به حياة الناس، ولا تستقيم به أوضاعهم، ويهتدون به الطريق إلّا ما أوجَدَت عنايةُ الله فيهم من هدى الفطرة، وهدى الوحي، وهيَّأ لهم من قادةِ رُسُلٍ وأئمة حقٍّ صالحين.
فحيث ما حَييت فيهم فطرة الهدى والكمال، وأخذوا بهدى الوحي، واتّبعوا القادة الإلاهيين استقامت بهم الطريق، وكانوا على الجادَّة، وتحقّقت لهم الغاية، وعاشوا حياةً مستقرة هنيئة راقية، وانقلبوا في نهايتها منقلَبًا حميدًا. وكلّما خسروا من نور الفطرة، وأداروا بظهورهم لكلمة الوحي، وشطّوا عن طريق الله، وانفصلوا عن خطِّ القادة الذين اختارهم بعلمه وحكمته، ولطفه ورحمته لهم كُلّما أَسِنَتْ حياتهم، وعَصِفَت بسفينها الرّياح، وسادتها الفوضى والاضطراب، وعمَّها الشقاء، وذهب بهم الجهل بعيدًا عن قصد الغاية.
ولا بقاء لنور الفطرة، ولا ظهور ولا حيويّة لها ولا فاعليّة في غياب كلمة الوحي والإدبار عنها.
وكلمة الوحي لا تبقى على أصالتها، ولا تحتفظ في حياة الناس بما هي عليه من كامل الهدى كما جاءت من السّماء، ولا تجد منفذها المفتوح لصوغ أوضاعهم الفكرية والرّوحية والنفسية والعملية إلّا في ظلّ القيادة الفعليّة للقادة الذين ارتضتهم السّماء ودلَّ عليهم الوحي الأمين(10).
ولتنظر هذه الأمة لتستوعب هذه الحقائق بصدق إلى واقع عاشته قبل الإسلام مفصولة عن وحي السماء، مغيّبة عن فطرتها الهادية، في قيادة شياطين من شياطين الأرض… واقعٍ شاهدٍ بأبشع صور التخلُّف والضياع والضعف والانحطاط، ثمّ لتنظر إلى واقع عاشته مع الإسلام وقيادته الحقّة وتوجيهه الكريم وحكمه العادل، ونوره الجلي، وهدى فطرتها الذي تنبَّه بالتربية الصالحة(11).
وهو شاهد بمعجزة الصنع الإيجابي، والتربية المعجزة، والنتائج الرائعة الشاملة لكلِّ أبعاد الحياة والإنسان بما يفوق كلّ حساب في مدة وجيزة هي عمر الدعوة والحكم على يد الرسول صلَّى الله عليه وآله؛ مدة لا تزيد على ثلاث وعشرين سنة(12).
ولتنظر(13) إلى واقع عاشته منفصلةً عن الإسلام في الكثير والمهم والأهم من شؤون حياتها وأوضاعها الروحيّة والفكرية والنفسية والعملية، وما وصل بها إليه هذا الواقع من وضعٍ مخزٍ مذلٍّ كئيب(14) يائس بائس مخجل مسيء مكروب مهزوز منحدر مفزع تعيش مأساته بكلّ مرارة اليوم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله. اغفر لنا ربنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم أنقذنا من السوء، وأخرجنا من هذه الغمة، اكشف ربّنا كرب هذه الأمّة، وفرّج عنها فرجا عاجلا قريبا وأنت أرحم الراحمين.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفكّ أسرانا وسجناءنا، ورد غرباءنا في خير وأمن وسلامة وعزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (15).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – سورة التوحيد.
2 – عندما انطلق الشعب كان ولا زال لا يجد القوة التي تُغريه بالتحرّك، التي تدفعه للتحرك إلا عزائمه، وإلا روح التضحية.
3 – هذا الحراك.
4 – ومن أي استجابة لمبادرات شعبية كثيرة قد أُطلقت في وقتها.
5 – ليس هذا هو الهدف من أي ناحية من النواحي المذكورة.
6 – شعبنا ليس كذلك.
7 – هتاف جموع المصلين (الله أكبر، النصر للإسلام).
8 – وأن المنتظر هو الموعد المناسب في نظر حكومة البحرين.
9 – ما دام يرتفع صوت بالمطالبة بالحقوق؟
10 – محال، تمامًا هو محال، أن يبقى الوحي على ما هو عليه من أصالته السماوية في ظلّ عقول غير مكتملة، في ظلّ أرواح غير متعلّقة بالله تمامًا، في غير قلوب وعيّة لا تنفصل عن نور الله.
11 – وهو واقع عاشته في كنف قيادة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
12 – في ثلاث وعشرين سنة صنعت معجزة في الأرض لم تحدث بعدها معجزة، أحدثت نقلة في الإنسان من شحّ الأرض، من ضيق الأرض، من مستواه الطيني إلى مستوى سماويّ محلِّق، ومن حالة – يصفها بعض الكتّاب الغربيين في جانبها الغربي – بأن شجرة الحضارة كانت منخورة ومعرّضة للسقوط النهائي، إلى شجرة حضارية مترعرة سامقة، تُغني الأرض وتثريها، وتعطيها الإنسان زكاة وطهرا وسموّا وتحليقا.
13 – أي هذه الأمة كنظرة ثالثة.
14 – وضعنا، وضع الأمّة اليوم.
15 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى