خطبة الجمعة (557) 20 رجب 1434 هـ ـ 31 مايو 2013م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: البصيرة

الخطبة الثانية: سلكتم كلّ سبيل – شعبنا له قضيّة – أمّة تمزّقها السياسة

الخطبة الأولى

الحمد لله ربِّ العالمين الذي يَستعطي منه كلُّ موجودٍ وجودَه، ويسترفِدُ كلُّ مرزوقٍ منه رزقَه، ويَرجِع إليه كلُّ كائن في بدئه ومسيره ومصيره. كلُّ ما يكونُ محيطٌ به علمُه، ولا يخرج شيءٌ عن تقديره، وما خابَ من توكّل عليه، وما ظَفِر بشيء من عوَّل على من سواه.
أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله ألا إنَّ العاقلَ من قدَّر الأمور بِقَدَرِها، وقدَّم الأهمَّ منها على مُهمِّها، ولم يُساوِ التعامل معها، ولم يضعْ رخيصًا مكان غالٍ، ولا غاليًا مكان رخيص.
ولا يُساوي عاقل بين قيمة ذاته، وقيمة ما تملك الذَّات، ولا بين ما عليه قَدْرُ الآخرة وقَدْرُ الدّنيا، ولا بين ما عليه مستوى الرّوح ومستوى البدن.
فلئن كانت أشياءُ الإنسان عزيزةً عنده فنفسه أعزّ، ولئن كانت الدّنيا لها شأنٌ فشأنُ الآخرة أعظم، ولئن كانت للجسم قيمة عالية فقيمة الروح أعلى.
والمؤمنُ الحقُّ أوفرُ عقلًا، وأبعدُ حكمة، وأنضجُ اختيارًا من أن يشتريَ الذي هو أدنى بالذي هو خير، أو أنْ يُقدِّم مُهمًّا على أهمّ، وما تُحدِّثه به النفس القاصرة على ما اختار الله له تقديمه.
فلنطلبْ صلاحَ النفس قبل ما تملك، وصلاحَ الآخرة وإن ثَلَم ذلك من الدُّنيا، وسلامةَ الرّوح ونقاءها وطهرها وإن أجهد ذلك البدن.
ولا هاديَ للصّواب كدِين الله، ولا مركبَ أوصلَ إلى السلامة والسعادة من تقوى الله في كلّ واسع ومضيق.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا حول ولا قوّة إلّا بك، ولا توفيق لخيرٍ إلّا منك، ولا مُعيذ من شرٍّ إلا أنت فسدِّدنا بتسديدك، وألهمنا الرّشد من عندك، واكتب لنا الخير من فضلك، وجنِّبنا كلَّ شرٍّ وسوء برحمتك يا أرحم من استُرحِم، وأكرم من سُئِل، وأجود من أعطى.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث متابعة في موضوع:

البصيرة:

آيات البصيرة:
للبصيرة حيثُ تغنى بها ذاتٌ دلائل يُستدلّ بها عليها، وآياتٌ تهدي إليها، ولا يمكن للبصيرة وهي نور أن تظلّ مختبئةً لا ظهور لها، مطمورةً لا يُرى شعاعُها.
وهذا من آياتها:
1. الرويّة والحزم:
عن الإمام عليّ عليه السلام:”النّاظِرُ بِالقَلبِ العامِلُ بِالبَصَرِ، يَكونُ مُبتَدَأُ عَمَلِهِ أن يَعلَمَ: أعَمَلُهُ عَلَيهِ أم لَهُ؟ فَإِن كانَ لَهُ مَضى فيهِ، وإن كانَ عَلَيهِ وَقَفَ عَنهُ”(1).
البصيرةُ تمنع من أن يكون الإقدام على العمل جزافًا، واتّخاذ المواقف اعتباطًا، وأن يُتلكّأ في العمل، ويُحجم عن اتخاذ الموقف بعد تبيُّن صحّته، ورجاحة الإقدام عليه. وإنما هو المضيُّ على هدى ما أوضحه التبيُّن، وكشف عنه التحقُّق.
وبعد تبيُّن الحقِّ ولزوم الموقف، والمضيّ في العمل لا يُوقِف صاحب البصيرة كالإمام عليّ عليه السلام على كُلفته خوفٌ ولا تهيُّب، ولا يعتريه تردُّد وهو القائل عليه السلام كما في هذه الكلمة عنه “إنّي وَاللّهِ لَو لَقيتُهُم واحِداً(2) وهُم طِلاعُ الأَرضِ كُلِّها(3)، ما بالَيتُ ولَا استَوحَشتُ، وإنّي مِن ضَلالِهِمُ الَّذي هُم فيهِ وَالهُدَى الَّذي أنَا عَلَيهِ، لَعَلى بَصيرَةٍ مِن نَفسي ويَقينٍ مِن رَبّي”(4).
ويا لها من بصيرة جليّة يتحدّث عنها النصُّ لا تُصاب بغشّ ولا تردُّدَ للنفس معها في عطائها من هول الموقف الذي تشير إليه الظروف، ولا مخالفةِ كلّ أهل الدنيا لها في الرأي.
2. الانتفاع بالفطنة:
عن الإمام علي عليه السلام:”العِلمُ بِالفَهمِ. الفَهمُ بِالفِطنَةِ. الفِطنَةُ بِالبَصيرَةِ”(5).
من لا قُدرةَ له على الفهم لا يجد سبيلًا للعلم، والفهمُ منبعُه الفطنة وحِدّةُ الذكاء، والقوة الذهنية القادرة على الاستيعاب وسرعة الوصول إلى الحقائق، وما ترمي إليه الأدلّةُ والمظاهر.
فهذا هو الأصل فيما يجتمع للإنسان من علمٍ عن طريق السّعي الذهنيّ، وإعمال قدرة التفكير.
أما القيمة النهائية لعطاء الفطنة فتحتاج إلى بصيرةٍ تجعل علمَ المرء لخيره وخير النّاس، لا لشرِّه وشرّ الآخرين(6).
3. رؤية عيوب النفس:
عن عليّ عليه السلام:”أبصَرُ النّاسِ مَن أبصَرَ عُيوبَهُ، وأَقلَعَ عَن ذُنوبِهِ”(7).
وعنه عليه السلام:”أعقَلُ النّاسِ مَن كانَ بِعَيبِهِ بَصيراً، وعَن عَيبِ غَيرِهِ ضَريراً”(8).
عيبُ غيرك لا يخدعك عن رؤيته، ولا يحجبك عن اكتشافه إلا تستّره عليه ما أمكن، والعيوب فضّاحةٌ لصاحبها، أما عيبي وعيبك فيحجبنا عن رؤيته حاجبٌ من نفسنا وخداعها وحبّنا لها واعتزازنا بها، وصعوبة معاداتنا لها ومخاصمتنا، وخسارتنا للثقة بها(9).
وبذلك نحتاج إلى بصيرة ذاتِ نفوذ شديد، ورؤية حادّة، إلى بصيرة متحرِّرة بدرجة عالية جدًّا غالبةٍ للأهواء الذّاتية من أجل أن نرى عيب النفس، ومن أجل أن نُكابرها فيما تريد من البقاء على ضعفها، واستسلامها للعيوب.
والبصيرة تنصرف بصاحبها عمّا خلا من نفعه فضلًا عما يلحقه منه ضرر فلذلك يعمى عن رؤية ما قد يكون من عيبٍ للآخر، مُقتصِرًا في النظر إلى عيب نفسه لِيُخلِّصها من ورطته.
صاحبُ البصيرة مشغول بالتعرُّف على الخير، منفتح على ما فيه هُداه، وزيادة يقظته، منصرف إلى الأخذ بما فيه صلاحه ورقيّه وكمال ذاته، لا يعطي من وقته للتفاهات، ويضنُّ باللحظة الواحدة من العمر أن تذهب سُدى.
وهذا ما نقرأه في كلمتين أولاهما للإمام علي والأخرى لنجله الإمام الحسن عليهما السلام:” ألا إنَّ أبصَرَ الأَبصارِ ما نَفَذَ فِي الخَيرِ طَرفُهُ. ألا إنَّ أسمَعَ الأَسماعِ ما وَعَى التَّذكيرَ وقَبِلَهُ”(10).
“إنَّ أبصَرَ الأَبصارِ ما نَفَذَ فِي الخَيرِ مَذهَبُهُ، وأَسمَعَ الأَسماعِ ما وَعَى التَّذكيرَ وَانتَفَعَ بِهِ”(11).
4. صلاح السرائر:
عن الإمام علي عليه السلام:”صَلاحُ السَّرائِرِ بُرهانُ صِحَّةِ البَصائِرِ”(12).
كثرةُ علم الشخص لا تكشف عن تمتُّعه بالبصيرة، وأن يكون له علم فيه إنارة وباطن فاسد على ظلمته لم يُغيِّر منها علمُه دالٌّ بوضوح على فقده لها، وفقر نفسه منها. وما يقوم برهان للمرء على تمتُّعه بالبصيرة هو طُهْر نفسه، وصلاح سريرته، ونقاء داخله، ورِفعة محتوى نفسه، وانتفاعه بما عَلِم، واستنارته به(13).
5. إصابة سبيل السلامة:
عن الإمام عليّ عليه السلام:”طوبى لِذي قَلبٍ سَليمٍ، أطاعَ مَن يَهديهِ، وتَجَنَّبَ مَن يُرديهِ، وأَصابَ سَبيلَ السَّلامَةِ بِبَصَرِ مَن بَصَّرَهُ، وطاعَةِ هادٍ أمَرَهُ”(14).
إنها القيمة العملية الكبرى التي يطلبها كلُّ عاقل من كلّ محاولة يُحاولها، ومن كلِّ سعيٍ يسعاه وهي أن تسلم نفسه من كلّ ما يضرها، ومن كلّ ما يحطّ قدرها، وأن يحسن مصيرها وتربح عاقبتها، وأن يكون بمأمن من الخسارة والسّقوط والفشل. والبصيرة هي الطريق إلى هذه الأمنية، والوسيلة لتحقيق هذا الأمل.
أما العمى والنظرة الغامضة، والرؤية القاصرة، والنظر العاجز فلا تعويل على شيءٍ منه للوصول إلى هذه الغاية الكريمة.
وقد عميت عينٌ لا ترى الله ورقابته على كلِّ نفس، ومنّتَهُ على كل شيء، ونافذَ علمه وحكمته وقدرته في كلِّ شيء، ولا بصيرة لمن قدّم على دين الله دينا، أو ساوى بينه وبين دين غيره، ولمن اختار الدّنيا على الآخرة، أو شغله همُّ يومه عن همّ غده، وحاضرُه عن مصيره.
وما من بصيرة ألمع ولا أدقَّ ولا أنفذ، ولا أبقى أثرًا، وأغنى عطاءً أو مساويةٍ قيمة لبصيرة الدّين؛ بصيرة استقامت بصاحبها على صراط الله وانتهت به إلى جنّته ورضوانه.
أئمة أهل البصيرة:
من النّاس من فَقَدَ بصره، ومنهم من هو واجد له، ومن أصحاب البصر من يُعاني من ضعفٍ في رؤيته، ومنهم من يرى على مدى بعيد.
وفاقدُ البصر يهتدي الطريق بالرّجوع إلى المتمتّع ببصره، ومن ضعُف عنده البصر يستعين بمن له بصر حديد. والشأن في البصيرة هو الشأن في البصر. وهناك في شأن البصيرة أئمة، وهداة طريق، لا تخونهم الرؤية، ولا يُخطئ عندهم النظر. متابعتهم نجاة، والأخذ بخلاف ما عليه رؤيتهم مُهلِكة. الصواب مضمون في متابعتهم، والخطأ مُحقّق في مخالفتهم.
وقد دلَّ الوحيُ على أولئك الأئمة والهداة.
من ذلك قوله تعالى:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}(15).
{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(16).
عن الإمام علي عليه السلام وكلماته من كلمات رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي {.. مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(17) وذلك في صفة النبي صلَّى الله عليه وآله:”فَهُوَ إمامُ مَنِ اتَّقى، وبَصيرَةُ مَنِ اهتَدى”(18).
وعنه عليه السلام:”إنّي لَعَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبّي، وبَصيرَةٍ مِن ديني، ويَقينٍ مِن أمري”(19).
ولقد اهتدى وأمِنَ وأدرك الحقيقةَ وواقعها وتحقّقت له الغاية مَنْ حذا حذو الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام، واقتفى أثرهم، وأخذ بما أخذوا، وهجر ما هجروا، واستقام معهم على النهج.
اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا على يقينٍ من دينك، وارزقنا بصيرةً نافذة نهتدي بها الصِّراط إليك، ولا تزِلُّ لنا قدم عنه، ولا تأتي علينا مفارقة عن أئمة البصيرة الذين اصطفيتهم من عبادك برحمتك يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(20). 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لم يخلق العبادَ إلذا لسعادتهم، والغاية الكريمة التي أراد أن تنتهيَ إليها دنياهم. ولذلك بَعَثَ الرُّسل، وانزل الكتب، وأقام الأئمّة الهداة، والقادةَ الموصِّلين. فما شقيَ أحدٌ من العباد إلّا بسوء اختيارٍ من نفسه، وخروجٍ عمديٍّ على غاية وجوده، وعدولٍ مقصودٍ عن منهج ربّه الذي جاء به دينُه لتربيته وتزكيته، وتكميله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله التزموا خطّ الغاية التي خُلقتم من أجلها، وخذوا بالمنهج الذي فيه ضمان سعادتكم، ونيل الرّضا من ربّكم الذي لا يُرضيه منكم إلّا ما فيه نجاتكم وفلاحكم، ولا يُغضبه مما تأتونه إلا ما فيه شقاؤكم وعذابكم وسقوطكم، وهو الغنيُّ عن عباده المتفضِّل عليهم، لا حاجة منه سبحانه لطاعة المطيعين، ولا ضرر يُصيبه من معصية العاصين، وما أطاعه مطيع من عباده إلّا لنفسه، وما عصاهُ عاصٍ إلّا عليها، واليوم عملٌ وغدًا حساب، ولا رجعةَ لفرصة عمل فاتت، ولا عَمَلَ لمكلّف إلّا وافاه بعد موته حسنةً تسرُّه وتقرّبه من الجنّة، أو سيّئةً تسوءه، وتدنو به من النّار.
فلا سبيل إلى وقاية عذابٍ ونهايةٍ مخزية، ونيلِ ثوابٍ، وخاتمة كريمة، وجنات خلد ونعيم إلا تقوى الله واجتنابُ السّيئات، والتزام العمل الصالح.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اكتب لنا دوامَ طاعتك بلا انقطاع، أو تخلُّلِ وهن، أو حدوث سَأَم، وجنّبنا معصيتك في كلِّ ما بقي لنا من عمر، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك يا متفضّل يا محسن يا رحمان يا رحيم يا كريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصَّادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم. اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الأخوة الأحبّة في الله والأخوات فإلى ما يأتي :

سلكتم كلّ سبيل:

ما من سبيلٍ إلّا وسلكته السُّلطةُ لإسكات صوت الشعب المطالب بالحقوق وإبقاء ما كان على ما كان من وضعٍ سياسيٍّ وحقوقيٍّ لا يستقيم معه أمرُ وطنٍ من الأوطان، ولا يلتقي مع دينٍ ولا فكرٍ ديموقراطي عمّت موجته كلّ الأمم والشعوب، وصار بمستوى وآخر من مُسلَّمات هذا العالم، ومطمحًا عمليًّا من مطامحه.
ترى فيه الجماهير الغفيرة المقهورة مدفوعة من شعورها بالحرمان والتهميش والإقصاء وسحق الكرامة والإذلال ملاذًا من طغيان الديكتاتورية المتسلِّطة المستندة لمنطق البطش والقوّة.
ومن بعد التنكيل الطويل الذي تلقَّاه الشعبُ والخسائر الفادحة التي أنزلتها به السلطة لم يخفِت له صوت، ولم تنكسر له شوكة. ومما يجعله كذلك أنَّ أشدَّ ما عليه أن يعود إلى وضعٍ تتآكلُ منه إنسانيّته، ويخسرُ فيه مع دنياه أعزَّ ما عليه وهو دينه وكرامته وحريته.
ولا يُدرى ماذا بقي بيد السّلطة من سبيلٍ لإسكات الشعب كُرهًا أو قهرًا غيرُ أن تُحرقه أو تُهجّر جماهيره العريضة، وتُخلي هذه الأرض منه.
كلُّ السُّبُل التي سلكتها السلطة أمنيّةً كانت، أو إعلامية أو سياسية وأنفقت عليها من أموال الوطن ومن المساعدات الخارجية ما يعمر البلاد ويحُلُّ الكثير من مشاكلها المؤرِّقة، ويُمثِّل شيئًا من الإصلاح إنما اتّجهت لإسكات صوت الشعب مع استمرار الحرمان والتهميش والإقصاء والازدراء وانتفاء الأمن(21).
أمَّا سبيل الحلّ المنصِف والمفضي لصالح الوطن كلِّه والكفيل بوحدة المواطنين وبناء العلاقات المتينة بين صفوفهم فكأنّه لا يُوجد على الإطلاق، أو لا تدري عنه السلطة، ويعجز فهمُها عن الوصول إليه. والواقعُ أنْ لا شيء من هذا كلّه هو السّبب، وإنما السبب الوحيد هو أنّها لا تُريد هذا الحلّ، وكلّ فِرارها من تبعته، وكلُّ محاولاتها أن تهرب منه.
وعجيبٌ أنّه لحدّ الآن لم تيأس من فاعلية هذه المحاولات، ولا زالت مستمرة عليها، وتُعلِّق الأملَ على التشبث بها غافلة أو متغافلة على أنها محاولات يُحبطها وعيُ الشعب وعقلانيّته، وصبره، وتحمّله، وسلميّته، كما يُحبطها أنَّ الوعي العالمي ومستوى الثقافة المتعلّقة بالحقّ السياسيّ للشعوب والحقوق الوطنية عامّة وما وصلت إليه السُّمعة الطيّبة للحراك المطلبي الإصلاحيّ السّلميّ لهذا الشعب في الأوساط الحقوقية والسياسية المختلفة في العالم يكتب عليها(22) أن تفشل، وأنه لا يمكن مع ذلك كلِّه أن تستمر سياسة التسلّط والتفرد المطلق، وسياسةُ الكبت والقهر والإقصاء من غير أن تخضع للإصلاح.
بقاءُ السلطة على هذه المحاولات لا يعني نوعًا من الحلّ ولا يُحقّق غَرَضَ الخنق لصوت الحرية، واستمرار حالة الاسترقاق والاستئثار(23)، وإنّما يعني شيئًا واحدًا هو تطويل عمر الأزمة، والاستنزاف الحرام لثروة الوطن، وإيقاف عجلة التقدّم والمزيدُ من السَّفْك لدماء أبناء الشعب ورفع مستوى عذاباته.
فإذا كان هذا هو مطلوبَ الاستمرار على تلك المحاولات فهي قادرة وبكفاءة على تحقيقه.
أما أخلاقية هذه السياسة والتقاؤها مع قِيَم الدين، ومصلحة الوطن وكرامة الإنسان، وحقِّ المواطنين فلا شيءَ منه يمكن أن تنتسب إليه، فضلًا عن أن تلتصق به، أو يكون لها هو المنطلق.

شعبنا له قضيّة:
شعبُنا له مطالبُه العادلة، وله قضيّته الإصلاحية التي لا يتنازل عنها، ولا ينساها، ولا يتأثّر إصرارُه عليها بنوعِ العلاقة بين السلطة في البحرين وأيّ حكم آخر إيجابيةً كانت تلك العلاقة أو سلبيَّة. لا ربط أساسًا ولا يقبل الشّعب بأيّ ربط بين قضيته ومصيره من جهة وبين أيّ علاقة تختارها السلطة مع الخارج ونوع هذه العلاقة.
وإدخال السلطةِ الشعبَ في أيّ خلاف بينها وبين أيّ دولة أو أي جهة أو حزب إنما هي محاولة من محاولات التملُّص المكشوفة من استحقاق الإصلاح، ونوع من أنواع الهروب المخادع مما يلزمها من الاستجابة لمطالب الشّعب.
وهذا ما لا يمكن أن ينطليَ على أحدٍ هنا ويصرفه عن المطالبة بالإصلاح ليشتغل ببدائل تُخطِّط لها السلطة.

أمّة تمزّقها السياسة:
أمّة يتعلّق بها أملُ إنقاذ الأرض كلّ الأرض من ويلات الجهل والكفر والضّلال والاحتراب والفوضى والدّمار والنهاية المخزية.
هذه الأمّة تُوزَّع أشلاءً، تُبعثر أبعاضًا، تُمزّق، تُفتّت، يُنشر فيها الرعب، يُبثّ فيها الفزع، تُعمّق فيها العداوات، تُزرع فيها الفتن، تُؤجّج فيها روح الاقتتال، يُفعل ذلك في كلِّ أوطانها، بكلِّ شعوبها، تُذكى فيها روح الطائفية على أشدّ درجة من درجات التهابها، تُملأ الفئات والأحزاب بأخطر صور الحقد الأسود المنتن. كلُّ ذلك يجري على يد السّياسة الظالمة، وأطماعها غير المشروعة، دناءتها، جاهليّتها، سقوط أخلاقيتها، الإباحيّة التي تحكمها. يزيدها ولوعًا وولوغًا في مشاريعها التجزيئية المدمِّرة أنّها شعرت بعد الصحوة، والثورات والحراك العربي، وسقوط عدد من الأنظمة القمعية التي تحكم أقطارًا من أقطار الأمّة بالحديد والنار بفعل بركان الثورات بجديَّة التهديد، وأن يُطيح بها المدُّ الثوريّ كما أطاح بما يُماثلها.
كان هذا باعثًا كبيرًا للنظام العربيّ القديم ألَّا يدع لهذه الأمّة ولا لشعوبها فرصةً للرَّاحة، أو مجالًا للانسجام والتلاقي، أو خيطًا من خيوط الأخوّة الإسلاميّة ولأن يُصِرَّ على إشغالها بالخلافات والنزاعات المهلِكة التي تعمُّها، وتتخلّل كلّ صفوفها عن قضية المطالبة بالحقوق والإصلاح والتغيير(24).
ويُساعد على تعميق الجراحات، وإلهاب الصراعات، وإذكاء روح الفتنة فهمٌ منافٍ للإسلام تمام المنافاة ممن يؤمن به، مطامعُ دنيوية تتستر باسم الإسلام، وتجد فيه منفذًا لمشتهياتها، رعاعٌ مضحّون ينعقون وراء كلّ ناعق، باعةُ دين وضمير وأمة لا يُقدِّسون إلا المال، وليس لديهم مقدّس يحجزهم عن ارتكاب أيّ إثم في سبيله.
وشعارُ الطائفة، وشعار المذهب هو الشّعار المختار اليوم والمفضَّل عند من لا يرحم الأمّة، ولا يُراعي حرمات الله، ولا يهمّه أمر دينه، ولا يُقدّس إلا كرسيّ حكمه وسلطانه، وهو الأكثر امتطاءً من هؤلاء الذين ابتُليت بهم الأمّة لنشر الفتنة، وتفجير الأوضاع، وهدم وحدة الأمّة، وتفتيت كيان الشّعب الواحد، وتمزيق أشلائه.
الفتنة الطائفيّة اليوم تزحفُ إلى كلِّ شِبر يمكن أن تتواجد فيه من الوطن الإسلامي لتأكل أخضرَ هذه الأمة ويابسها. وكلُّ ساعات الليل والنهار عملٌ دؤوب عند المفسدين على تحقيق هذا الهدف الإجراميّ الدَّنيء المغضِب لله ورسوله والفتّاك بالإسلام والمسلمين.
من كان في قلبه خشيةٌ لله، توقيرٌ لدينه، حِرْصٌ على عزِّ هذه الأمة، وقوّتها ووحدتها، اعتزازٌ بوطن الإسلام، احترامٌ لإنسانيّة الإنسان ووجد من نفسه القُدرةَ على فعل أو كلمة تساعد على الوقوف بالفتنة الطائفيّة عند حدِّها الذي وصلت إليه، والتخفيف منها، والإسهام في إطفائها في البلدان التي تحترق بها كان عليه ذلك واجبًا دينيًّا لا فكاك له منه، وثبت عليه لزامًا شرعًا أن يفعل في هذا السبيل كلّ ما يمكن(25).
ومن لم يجد القدرة على شيء من ذلك فليتّق الله في حرمة الدّين، وحقِّ الأمة، ودم المسلمين فلا يُسهِم بحرفٍ واحد في إشعال الفتنة وصبِّ الزّيت على نارها.
أيُّها الإخوة والأخوات المسلمون والمسلمات(26) ليكُنْ شجبنا واحدًا، استنكارنا واحدًا، رفضنا واحدًا، إدانتنا واحدة، تجريمُنا واحدًا وليكن كلّ ذلك بشدّة شديدة واحدة لكلّ عدوان من شيعيٍّ على سنّي، أو من سنّي على شيعي، ولكلّ نيلٍ من دم هذا، أو عرضه، أو ماله من ذاك، أو ذاك من هذا، لكلِّ سبٍّ وشتمٍ وهُزءٍ واستخفاف بغير حقّ لا يرضي الله ورسوله، لكلّ تحريض وحثّ على هتك الحرُمات، لكلِّ حجبٍ لحقٍّ من حقوق أيّ مسلم، لكلِّ ظُلمٍ ينال أحدًا، مسلمًا أو غير مسلم.
هكذا يريد لنا دينُنا أن نكون، ومن قال غير هذا فهو مُبطِل.
والذين يستدعون الفتنةَ الطائفية والمذهبية المشتعلة من وطنٍ من أوطان الإسلام إلى آخر منها، ويعملون على استصدارها يُسيئون للإسلام ولوطنٍ إضافيٍّ من أوطانه، وللأمّة الإسلامية قاطبة، ويزيدونها اشتعالًا والتهابًا ويَمدُّون في عمرها في البلاد التي تعاني من ويلاتها وآثارها المدمرة والجاهلية فعلًا.
اللهم صلّ على محمد ووآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اكشف هذه الغُمّة عن هذه الأمّة بمحمد وآله سُرُج الظلمة. اللهم أخرج المسلمين من غمرة الفِتَن المضلّة، وأنقِذهم من الغرق في الضلال، ومن شرّ كيد الكائدين، وإضرار المضرّين، وبغي الظالمين، ووحِّد كلمتهم على التقوى، واجعل كلمتك في الأرض هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفك أسرانا وسجناءنا، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (27).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نهج البلاغة ج2 ص44 ط1.
2 – يعني في حال كونه واحدًا.
3 – أي ملؤها.
4 – نهج البلاغة ج3 ص120 ط1.
5 – عيون الحكم والمواعظ ص36 ط1.
6 – فكم من علمٍ كان وبالًا على صاحبه وعلى الآخرين.
7 – المصدر السابق ص120.
8 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص372 ط1.
9 – كلُّ ذلك يحجبني عن رؤية عيبي، ويحجب كلّ ذي عيب عن رؤية عيبه.
10 – بحار الأنوار ج34 ص236 ط1.
11 – تحف العقول ص235 ط2.
12 – عيون الحكم والمواعظ ص301 ط1.
13 – إن وجدتَ من نفسك ذلك فاحمد الله على بصيرة نافذة رزقك إيّاها.
14 – نهج البلاغة ج2 ص196 ط1.
15 – 45/ ص.
16 – 108/ يوسف.
17 – 3، 4/ النجم.
18 – نهج البلاغة ج1 ص185 ط1.
19 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج8 ص376 ط1.
20 – سورة التوحيد.
21 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
22 – أي على تلك المحاولات.
23 -ذلك لأن كل ذلك مستحيل.
24 – هذه هي الخلفيّة لكلّ ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم من فتنة طاحنة.
25 – هتاف سماحة الشيخ وجموع المصلين (وحدة وحدة إسلامية).
26 – في البحرين وغير البحرين.
27 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى