خطبة الجمعة (550) 1 جمادى الثاني 1434 هـ ـ 12 أبريل 2013م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: وجود حادث عابر

الخطبة الثانية: تخلًّوا عن الأثَرَة – مسؤوليتنا المشتركة – رجل علم وإيمان وعمل

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا تنفع الاستعاذةُ إلَّا به، ولا يُجدي اللجأُ إلّاإليه، ولا يدفع الضرَّ إلّا هو، ولا تُنقِذُ إلّا رحمتُه، ولا يَضرّ ضارٌّ خارجَ إرادته، إذ لا قدرةَ إلّا قدرتُه، ولا مُلكَ إلّا ملكُه، ولا سلطان غير سلطانه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله من عَبَدَ غيرَ اله ضاع عمله، فإنّ أحدًا غيرَ الله لا يملك أن يجزي أحدًا، فحتّى لو أراد من يعمل صالحًا أن يزكوَ عند النّاس، أو يُصيب شيئًا من دنياهم، أو يستدفع ضَرًّا يَخافه منهم فإنّه لا سبيل لشيء من ذلك من غير قَدَر الله.
وإن قدّر الله لعبد أن ينال شيئًا مما طمحت له نفسه عن هذا الطريق الذي يَحطُّ قدرَه عند ربّه سبحانه فماذا يعدِلُ ما ناله من عطاء الله عزّ وجلَّ الذي أعدّه لمن قصد وجهه الكريم، وأخلص العمل له؟! وماذا سيفوته من خير يمكن أن يناله من هذا الطريق لو كانت طاعته لبارئه؟!.
فلنتّق الله عباد الله، ولنُخلِص العمل له، ولا نعدل بثواب غيره ثوابَه، ولا بعقوبة من سواه عقوبته.
وإلَّا فأين الدّين، وأين العقل، وأين رحمة النفس، ورعاية المصلحة مما نختاره لنفوسنا؟!!.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل خشيتنا منك، وطمعنا رضاك، وتطلّعنا إلى ثوابك، وعملنا مخلَصًا إليك، وكلّ سعينا في سبيلك، وحبَّنا لك، وأنسنا في ذكرك يا رحيم يا كريم.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فموضوع الحديث بعنوان:

وجودٌ حادثٌ عابر:

أنا اليومَ موجود، وأنتَ اليومَ موجود. متى وُجِدتَ أنت؟ ومتى وُجِدتُ أنا؟ أحدنا سَبَقَ الآخر وجودًا، وثالثٌ سبقنا، ورابع منّا جاء للوجود بعدُ نحن الذين نعيش اللحظة الحاضرة.
ولكن كم كان بيننا وبين عدمنا جميعًا؟ نتيقّن أنّه ليس بذلك الزمن الطويل(1). من قريب كان واحدُنا رُطبةً في نخلة، جُرعة ماءٍ في كوب، لقمة أرز أو قمح في ماعون، قطعة لحم في حيوان، شيئًا من سمك، أشياء من هذه الأشياء. وليس من بعيد كنّا رملًا في الرَّمل، وترابًا في التراب، وطينًا في الطين. من الذي سوَّاك رجلًا وسوّاني رجلًا؟ من الذي سوّاك خَلْقًا آخر في أحسن تقويم مكتملًا؟ من الذي أوجد في الطين الحركة وكان جمادًا، وبعث فيه الحياة بعد الموت؟ من أين جاءتك نفخة الرّوح؟ من أين جاء للإنسان عقله، ومن أين اغتنى هذا المخلوق بالشّعور، وكان هادفًا، وزخّارًا بالطّموح، ومليئًا بالإرادة، وتوّاقًا للعلم، ومتدرّجًا في المعرفة ولم يكن من قبل على شيء من ذلك كلّه؟!
من الذي أوجدك أيّها الإنسان لا تعيش إلَّا بشروط، ولابد أن تخضع في حياتك إلى قوانين ليس منها شيء من صُنعك، وقضى عليك أن تبقى على الأرض إلى أجلٍ لا تتعدّاه ثم ترحل؟ ومن الذي هيّأ لك كلّ أسباب الحياة إلى المدّة المكتوبة والأجل المحدود؟ ومن الذي جعلك لا تملك أن تنفصل بكلّ عقلك، وبكلّ وجدانك، وتعيش كلّ حياتك بعد درجة من التمييز حالة من الانفصال العقلي والنفسي عن الغيب(2)، وإشاراته وخطابه وأنواره، وأسئلته وهداه؟(3)
من الذي جعل في نفسك ميزانًا عامًّا للسلوك، وفي صدرك تفريقًا بين ما هو حقّ وباطل، وما هو خير وشرّ، وما ينبغي أن يُفعل وما لا ينبغي أن يُفعل، ثم جاء خطاب الرّسل لا يشذّ قيد شعرة عن ذلك الميزان، وخطاب الفطرة؟
من الذي جعلك لا تخرج من هذه الحياة بعد مغادرتك الطفولة، وفترة الغفلة من غير أن يحضرك حسُّ الآخرة، والسؤال عن مصير ما بعد هذه الحياة؟
من الذي جعلك لا يقف بك النظر عند نقطة معيّنة من زمن ولا مكان، ولا عند نهاية من نهايات الأعمار، ولا عند قِمّة من قِمم الكمال، ولا عند علّة من العلل المحتاجة في نفسها للوجود، وللحياة، وللعلم، وللإرادة، والهادفية والتصميم؟
ألست المخلوقَ الذي يفترق عن الحيوان فيما يغنى به من عقل ليس له فيه صُنع، وشعورِِ لم يأتِه على يده(4)، ونورِِ غيبي لم يُنشئه لنفسه، واستهدافٍ واعٍ ليس من هِبته، وإحساسٍ بالمسؤولية لم يكن بقراره؟ ولماذا هذه الفوارق الجذريّة بيننا وبين الحيوان، وماذا يترتب عليها حاضرًا وفي المستقبل؟
بعد هذا كلّه، أيجوز أن تدّعي لنفسك الحريّة المطلقة، أو أن تُساوي نفسك بالحيوان، أو أن تُلغي من حسابك الغيب، وهيمنة الله سبحانه، وأمر الآخرة؟ أيحقّ لك في عقل أو وجدان أن تتمرّد وتطغى، وتَنصب نفسك إلهًا في الناس لا تأخذ من الله أمرًا، ولا نهيًا، وتفرض على النّاس أمرك ونهيك؟
أمِنْ قضاء مصلحة ذاتك أن تُلهي النفسَ وتُنسيَها، وتَشرُد بها عن أسئلة داخلك: أسئلة الغيب، والآخرة، وعن موازين الفطرة وأصولها وهداياتها مما يضعك على طريق الحقّ علمًا وعملًا، وأن تبقى غارقًا في شهوات الحياة؟
أليس من حقّ ذاتك عليك أن تستجيب لنداءاتها المنبعثة من فطرتها بالاستقامة على صراط ربّك تعبده لا تعبد الهوى، وتذُلُّ له لا لمن سواه، وترتفع وتكمل بطاعته وعبادته، وتعِزّ وتمتنع بقوّته، وتستريح وتطمئن في ظلّ الشعور برضاه ورحمته؟!
أليس من البَخْس لقيمة ذاتك أن تتنكّر لنداءات فطرتها، لما تُنادي به كينونتُها، لما تُلِّحُّ به عليك أسئلتُها، لما ترتبط به من هدف، وما تنشدّ إليه من غاية، وما تتطلّع إليه من مقصد؟!
أليس هضمًا لنفسك أن تنزل بها من أُفقها الإنسانيّ الرّفيع، وكرامة إنسانيتها العالية إلى وضاعة التراب ومهانة الطين؟! أكرَمَكَ الله بإخراجك من كونك ترابًا، وأشياءَ تعود إلى التراب إلى كونك إنسانًا تُهيّؤك مواهب الله وعطاياه إلى أن تكون في أعلى علّيين، وتُصرُّ أنت أن تبقى عند التراب، وفي مستواه، وأن لا تفارقه، وأن تعيش من أجله، وتسحق كلّ كرامة لك في الذوبان فيه؟!
أهناك حكم قاس على ذاتك أقسى من هذا الحكم، شدّةٌ أكبر من هذه الشدّة، فتكٌ بها أعظمُ من هذا الفتك، استخفافٌ… استهزاءٌ… سخريّةٌ بها أكثر من هذا!
مالك تحتاط لغدك في هذه الحياة وأنت لا تضمنه، ولا ضامِنَ لك به ثم لا تُفكِّر في الاحتياط لِغَدٍ وُعدت به على لسان الصِّدْق، ولا يَكفُّ داخلك عن أن يُثير قضيته أمامك بين حين وحين، ويُلِحُّ عليك بالسؤال عن موقفك منه؟
وماذا يُخشى من هول أيّ يوم من أيام هذه الحياة كما يُخشى من هول ما بعد مغادرتها؟!
وأيّ موعود من موعودات دنيانا يُغري إغراء موعود الآخرة؟
إن يكن أحدُنا على عقل كاف لا يمكن أن يُعطي كلّ اهتمامه للدّنيا، وأن يفرّط مستخِفًّا بالآخرة.
أنا الإنسانَ.. أنتَ الإنسانَ وجودُنا حادث، لم نكن ثم كنّا، نمُرُّ عابرين هذه الحياة لسنوات، ولكن لا ليطوينا العدم المطلق بعد ذلك، وتلفّنا ظلمته؛ فما موتنا إلا انفصال من الروح عن البدن لنواصل الحياة على مستوى الرّوح، ولننتهي في الأخير إلى بعث وحساب وجزاء، ونعيم أبدي تشترك فيه الرح والبدن، أو ننتهي إلى عذاب.
إنّها قضية تشغل وجدان الإنسان، وتتجلّى له كلّما طَهُر وجدانه، وإنها القضية التي قام عليها الدليل. قضية لو لم يكن لها من النفس إلّا احتمالُها لكان على النفس عقلًا واجبُ الاحتياط. وإنه لا تخلُّف لعاقل عمّا يُوجبه عليه عقلُه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنّا نعوذ بك أن تغيم رؤيتنا، وأن نعمى عن الحقّ، ونُعظِّم الحقير، ونُحقّر العظيم، ونُقدِّم ما يُؤخَّر، ونؤخّر ما يقدّم، ونستهين بالنفس، ونظلمها.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(5). 

الخطبة الثانية

الحمد لله الحنّان المنّان الجواد الكريم، قابل التّوب، وغافر الذّنب، شديد العقاب ذي القوّة المتين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله فينا نفس أمَّارة بالسوء، ونفس لوّامة على الذنب. نداءان في داخل ذواتنا: نداء للخير، وآخر للشّر وهما يتغالبان. وفي بعضنا يظهر هذا على ذاك مرّة، وذاك على هذا مرّة أخرى. وقد تكون لأحدهما غَلَبة شِبهُ دائمة على مقابِله في ذوات أخرى فلا يكادُ يكون ظهور لذلك المقابل الآخر.
وذاتٌ يتغالب فيها نداءان؛ نداء خير ونداء شرّ ويتصارعان لا تثبت على شيء وتعيش حالة من الخطر الشّديد الذي يتهدّدها(6).
وذاتٌ يُغلَبُ فيها نداء الشرِّ، وتقِل قدرته على الظهور، وإن سُمِعَ على تباعد من حين إلى حين ليست بعيدة كلّ البعد عن الخطر.
أما التي صَرعَ فيها نداءُ الشرّ نداء الخير وأخفاه فهي إلى هلاك.
وعلى المؤمن المجاهدة ما دام حيًّا مهتديًّا بهدى الدّين، وملتزمًا طريق التقوى دون أن تستحوذ عليه النفس الأمّارة بالسوء، ودون أن ترتفع لندائها في داخله نبرة.
أعاننا الله على نفوسنا الأمَّارة بالسوء، وأنقذنا من مكرها، وخداعها، ووسوستها، ورزقنا نصرًا حاسمًا دائمًا عليها وعلى الشيطان.
ربنا افعل بنا ذلك وبإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ومن يعنينا أمره، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا ومن علّمنا علمًا نافعًا من المؤمنين والمؤمنات، ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة برحمتك يا أرحم الرّاحمين، وصلّ على محمد وآله أجمعين.
اللهم صلّ على محمد خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصّديقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم. اللهم صلِّ وسلِّم على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرنا نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيّها الأحبّة في الله فهذه بعض عناوين:

تخلَّوا عن الأثرة:

ما خَلَقَ الله النّاسَ، وجعلهم من جنسٍ واحدٍ ليكون بعضُهم عدوَّ بعض، وما أنزل دين العدلِ والرَّحمة والإحسان ليُخاصِم بين النّاس ويُفرّقهم، وما كانت الأوطانُ لتكونَ ساحة احتراب بينها، ولا بين أبناء الوطن الواحد.
ولو لا إصرار فريق من النّاس على الأَثَرَة لتشبُّعهم بروح الجشع، ولو لا ما يطغى على شخصيّتهم من ميل التسلُّط والاستبداد من منبعث الغرور الجاهلي، وخضوعهم لنزعة التحكّم، والاستفراد، وتخلّيهم عن منهج الله لما شَقِيَت الأرض بأهلها، ولما نَشَبَت كلّ هذه النزاعات والحروب، وتمزّقت المجتمعات، وحتى المجتمع الواحد.
والسُّلطة من شأنها أن تستخفَّ النفس، وتزيدَ من درجة الغرور، وتُنسي الحقّ، وتُوقعَ في الباطل، وتُريَ النفس حجمًا غير حجمها، وتَجرَّ للبَطَر، وتستحِثَّ على الفساد. كلُّ هذا تفعله مواقع التسلُّط التي تُهيمن على النفس وتأسرها إلّا أن تُقابَلَ برصيد كبير ضخم من العقل والحكمة والتدبُّر والتذكُّر والدّين والتقوى.
ولذلك لا يملأ مواقع السُّلطة في نظر الدّين وإن اختلفت مستوياتها إلا من كانت له رجاحة دين، وعقل، وخبرة، وخُلُقٍ قويم.
ويوم يتخلّى أهلُ السلطة في أيّ بلد تسوده الاضطرابات، وتعمُّه المفاسد عن استئثارهم واستكبارهم، ويخلو البلد من قِوى موالية أو حتّى معارضة همها التسلُّط يعود إلى انضباطه وأمنه واستقراره وصلاحه، ويستمرُّ في خطّ تقدّمه وانتعاشه.
حين تُصِرّ أيُّ سلطة في أيّ بلد على أن تكون كلَّ شيء، وأن يكون غيرُها لا شيء، وأن يكون لها كلُّ شيء، وليس لغيرها شيء فلا بد من نزاع، ومن فتنة، وفوضى واضطراب، واحتراب.
وهو الأمر الذي يُرهق الجميع، ويقضّ مضجع الجميع، ويدخل بنتائجه المؤلمة المضنية على الجميع، ويُحيل حياتهم إلى جحيم.
والحلُّ يتطلّب ما تعجز عنه أغلبُ السلطات. الحلُّ يتطلّب انتصارًا على النّفس، قهرًا لتطلُّعاتها غير السويّة، قمعًا لمطامعها المهلِكة، تمرُّدًا على طغيانها الجارف، قرارًا حاسمًا بنقل المعركة مع الغير إلى المعركة مع النفس حتى تُغلب وتُقهر وتُصرع.
والواقع أنَّ المعركة مع النفس هي أصعبُ معركةٍ يخوضها الإنسان، وإذا كانت كذلك بالنسبة لجميع المواقع، فإنّها لأشدُّ صعوبة، وأقسى على صاحبها إذا كان من ذوي السّلطان، وممن استلان لنفسه طويلًا، واستسلم لهواها كثيرًا.
البحرين وغيرُ البحرين من مثلها معاناةً واضطرابًا وتدهورًا في الأوضاع، غدًا بخير وأمنٍ وازدهارٍ ورفاهٍ ووفاق لو تبدّلت نفسية التسلُّط والتفرّد بالسلطة، وروح التسيُّد المطلق، والتنكُّر لآدميّة الآخر وإنسانيّته، وكرامته، وحقِّه في الحريّة والتمتّع بالحياة الآمنة الكريمة الهانئة، واشتراكه في الثّروة، وحقِّه في تقرير مصيره، واحترام رأيه في سياسة بلده.
لكن ما أبعد المسافة بين هذه الأُمنية الحالمة وبين واقع تحقُّقها.
ومن المحتّم المؤلم أنَّ البديل عن هذا هو استمرار المتاعب والخسائر للجميع، وضعفُ الأوطان وتخلّفها، وانفتاح الباب واسعًا للتدخُّلات الأجنبية الضارّة بها، وهيمنة الخارج على أرضها وثروتها وقرارات السياسة فيها.
تخلَّوا عن الأثرة، عن روح التسلّط المطلق، عن التنكُّر لحقّ الآخر وإنسانيّته وحرّيته وحقه في تقرير المصير تصحّ الأوضاع، وتعتدل الأجواء، وتسعد للجميع الحياة.

مسؤوليتنا المشتركة:

أَمْنُ أيّ بلد خيرٌ لأهله جميعًا، وخوف أي بلد شرّ لأهله جميعًا. والأمن من الدّاخل قبل الأمن من الخارج، والخوف من الداخل هو أشدَّ فتكًا وأذى من الخوف من الخارج.
ولحدّ الآن لم تدخل منطقة الخليج في أزمة أمنيّة شاملة، وفي هذا نعمة من النِّعَم الكبرى التي تُذكّر بشكر الخالق.
ومسؤولية الحفاظ على هذه النعمة يتحمّلها الجميع، فالكلّ مُخَاطَب بدرأ الخطر المرعب عن المنطقة كلّها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
ولحدّ الآن لم تدخل البحرين وقد طالت الأزمة الأمنية فيها في حالة الانفجار الأمنيّ العام. وهذه نعمةٌ أخرى يجب على كلّ الأطراف أن تشكر الباري المتفضّل بها، وأن تعمل جاهدة مخلصة على تجنيب الوطن من هذا المصير الأسود المروِّع، والفُوضى السّاحقة.
جميع الخليجيين يتحمّلون مسؤولية أن تبقى منطقة الخليج بعيدة عن الأخطار الأمنية وغيرها، وكلّ أهل بلد في المنطقة وغيرها مسؤولون عن الإبقاء لبلدهم في منطقة الأمن والسلام.
ونحن – أهلَ البحرين جميعًا – نتحمّل مسؤوليتنا الخاصَّة في أن لا ينزلق هذا الوطن إلى حالة الانفجار الأمنيّ(7)، ونعملَ جاهدين على إنقاذه من أزمته الأمنية الحرجة القائمة.
هذاكلّه صحيح ولكن لا أحد يُمكن أن يساوي في هذه المسؤوليات من منطلق العقل، وفي ضوء موازنات الواقع وإمكاناته عند مختلف الأطراف، بين السلطات والشعوب.
السلطات تملك قوّة القرار حسب موقعها، وقوّة تنفيذه حسبما بيدها من إمكانات هي إمكانات الشعوب. السلطات تملك مفاتيح الإصلاح، وفُرَصَه وأجهزتَه، وبيدها أدواتُه. أمّا ما تملكه الشعوب فهو المطالبة بالإصلاح، التنبيهُ على الإصلاح، وعلى ضرورته، الاستجابة له، والتجاوب معه. السلطات تملك فعلَ الإصلاح وتفعيله، وما تملكه الشعوب إنما هو مباركتُه والتفاعلُ معه، وتقديره، والنشاط الإيجابي في أجوائه.
تملك السلطات أن تَكُفّ عن كلّ ما يؤدّي إلى إثارة غضب الشعوب، ويُوتّر الأوضاع، ويُولّد الأزمات، ويُشعل نار الفتن، ويفتح أبواب توسعها وتمدُّدها، وزيادة تأجّجها.
ومنطقتنا تُعاني من عدد من التخلُّفات ومنها التخلّف السياسيّ، وخمود روح الإصلاح عند الأنظمة الرسمية، والعزوف عن التغيير في صورته الإيجابية الصالحة، والتقدّم نحو زمن الحرية النافعة والتعبير الحرّ عن الرَّأي السياسيّ، ولو خطوات تتّسم بالمصداقيّة والجديّة والقُدرة على التأثير.
وفي هذا المشكلُ الأمُّ الذي يقوم عليه عددٌ كبير من المشاكل المؤرِّقة، ويزيد في تفاقُمِها، ويحول بين المنطقة وبين ما تحتاجه من أمن واستقرار وإخوّة وقوّة وازدهار.
وهو مُشكِلٌ أينما وجد في العالم أنتج نتائجه الصديدية المتقيِّحة.
وإنَّ علاج اليوم لَيُعالِج ما لا يستطيع علاجُ الغدِ أن يفعله، وأن يُعطي من النتائج ما لا يعطيه.
وكلّ تسويف في عملية الإصلاح له انعكاساته الخطيرة المستجدّة على الأوطان.

رجل علم وإيمان وعمل:

ثلاثةُ أبعاد تُنظر في شخصية الإنسان بنظر الإيمان:
إيمانه ودرجة هذا الإيمان، وعلمه ومستوى ما عليه علمه، ودوره النافع وما لهذا الدور من أهمية ومساحة وامتداد. فكلّ شخصيّة تكتسب أهميّتها في مدرسة الإسلام من مجموع هذه الأبعاد الثلاثة وما لها من تجذُّر وترسّخ فيها وامتداد.
وآية الله الدكتور الأستاذ الشيخ عبدالهادي الفضلي مؤمن عالم عامل. مؤمن عن علم، وعالم في إيمان، وعامل بعلمه وإيمانه، وعلى هُدى وبصيرة، وقد عَرَفَتْه أوساطه بالإخلاص.
أعطى للإيمان، وأعطى للعلم، وأعطى لحركة التصحيح والتغيير والإصلاح في الأمّة. وكان رجلَ الترفُّع عما تترفّع عنه الشخصيات الجليلة، ورجل التواضع لمن يُحبّ الله أن يُتواضع له، ورجلَ الخُلُق الكريم.
كَتَبَ ولم يكتب لتسويق ما كَتَب، وإنما لِيُنتفع بماكتب. كتابتُه علمية ثرّة رصينة متماسكة بعيدةٌ عن الفضول، لا يسرق من وقت قرّائها، ولا تستهدف تمضية الوقت، ولا تقع في تضييعه.
تطبع شخصيّتَه الفذّة الفطنةُ والنباهةُ والوعيُ والبساطةُ والتّسامح والانفتاح والتواضع.
ممن عاش همَّ الأمّة بصِدق، وعمل على إنقاذها بجِدّ، وعلى استعادة وحدتها وعزّتها وكرامتها بإخلاص، وممن أجاد مخاطبة الأمّة واهتدى طريق إنقاذها بالعودة الجادَّة منها لربِّها وقرآنها ونبيّها وأئمتها الذين دلّها الله عزّ وجلّ عليهم، ورَضِيهم لها وللإنسانية جمعاء أئمة وسادة وقادة.
ذلك هو الشّيخ الفضلي الذي فُجعت الأمّة بفقده، وفي نعيه نعيٌ لواقع شاخص من الإيمان والعلم والعمل الصَّالح، والجهاد والمصابرة. ولِفقده تُرفع التعازي لصاحب العصر والزّمان (عجّل الله فرجه الشريف)، ولفقهاء الأمّة وعلمائها، وعموم المؤمنين والمسلمين وأُسرته الكريمة.
عوَّض الله الأمَّةَ المسلمة عن كلّ عالم من علمائها المخلصين الصَّادقين الهادين ممن تفتقد نورَه وهداه، وأعزَّها باتباع الدّين الحقّ، ورحم الله شيخنا الأستاذ، وبوّأه المنزلة الرفيعة في الجنّة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أخرج هذه الأمّة من هذه الغمّة، ووحّد كلمتها على التقوى، وارزقها الظفر والعزّ، واقهر أعداءها، وكِد بمن كاد بها، واكفها شرّ ما يعمل الظالمون في الأرض يا قوي يا عزيز.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحاناومرضانا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (8).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يوم وجودي الفاصل بينه وبين عدمي ليس طويلا. 2 – أنت مشدود في حياتك ولو من حين إلى حين، ورغم كلّ شيء من خلال تفكيرك وشعورك بالغيب.
3 – داخلك يأخذ بك بفكرك وشعورك إلى عالم الغيب.
4 – هل عقلك من صنعك، هل شعورك أتاك على يديك؟!
5 – سورة العصر.
6 – فلنحترس للنفس.
7 – وإن كنّا نعيش في وسط الأزمة الأمنية.
8 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى