خطبة الجمعة (545) 25 ربيع الثاني 1434 هـ ـ 8 مارس 2013م

مواضيع الخطبة :

 

الخطبة الاولىالرؤية الإسلامية للإنسان

الخطبة الثانيةأمُشكلٌ ولا حلّ؟

 

الخطة الأولى

الحمد لله الذي جلَّ؛ فلا يُخاف منه ظُلْم، وكَمُلَ فََدَقَّ عِلمُه وعدلُه، وأحاطت بكلِّ شيءٍ قدرتُه؛ فلا يأمن أهلُ طاعته منه العدل، وعمَّت رحمتُه وإحسانُه فَعَظُمَ فيه الرَّجاء فامتنع عن عفوه اليأس.

       لا يدخل النّارَ داخلٌ إلّا بآثامِ داخلها، ولا يدخل الجنّةَ داخلٌ إلّا بإحسانِ خالقها فالحمد لله على عدله وعفوه وإحسانه وتفضُّله حمدًا دائمًا أبدًا، لا ينقطع، ولا يُحصي له الخلائق عددًا.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عبادَ الله لقد أمر الله بتقواه ليجد العباد من تقواهم له سبحانه طريقَ كمالِهم، ونجاتهم، وفوزهم، وسعادتهم، والذي لا سبيلَ لهم إلى شيءٍ من ذلك غيرُه.

       وتنطلق تقوى العبد من إيمانه بالله سبحانه وأسمائه الحسنى ووحدانيته الخالصة، وأنْ لا خير ولا شرٍَّ من أحد إلّا بإذنه، ولا عطاءَ ولا مَنْعَ إلّا بأمره، ولا تحقُّق لفعل خارج إرادته.

       وكلّما صحَّ إيمان العبد وتأكّد كلَّما عظُمت تقواه. والإيمان إنّما يزداد ويتعمّق ويترسَّخ بالتفكُّر والتدبّر في آيات الأنفس والآفاق، وبالتنزّه عن الذنوب والآثام، ومجاهدة النفس على الطّاعة، ومخالفة الهوى، وعدم الانسياق وراء لذّات المادة وما انتسب إليها، والانغماس في مستنقع الشَّهوات.

       فلنطلُب التقوى عن طريق الإيمان، ولنطلب الإيمان بالعلم الصّادق النافع، والعمل الصالح، واجتناب السيئات.

       اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرّحيم.

       اللهم اهدنا إليك، وأكرمنا بطاعتك، وشرّفنا بعبادتك، واحمنا من الدخول في عمل الفجّار، ومتابعة الأشرار، ومسايرة أهل النار. ربّنا اجعل أحبَّ ما نُحبّ طاعتك، وأبغضَ ما نبغض معصيتك، ولا تُفرِّق بيننا وبين أهل ولايتك ومودّتك، ولا تُلاقِ بيننا وبين أهل معصيتك وعداوتك مَنًّا منك وتفضّلًا يا أكرم الأكرمين.

       أمّا بعد أيّها الإخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات فالحديث تتمّة لموضوعالرؤية الإسلامية للإنسان في عنوانه الفرعي:

من نواقص الإنسان:

       إنّ للإنسان نواقص تطبع شخصيّته، وإنْ يستسلم لها تُسِءْ إلى وجوده، وتكن عائقًا في طريق كماله، وتحطّ بقدره؛ تقدّم منها ما تقدّم، وهذا منها:

       الظلم:

       {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}([1]).

       الضعيف يطلب القوّة، والفقير يبحث عن الغِنى، والخائفُ يسعى إلى الأمن، والمغمور ينشُدُ الظهور، وحبُّ الذّات يدفع للاستحواذ. والحاجة الملحّة، والظرف الضاغط، والخوف على الذّات لا يُفرّق بين حقٍّ وباطل، ولا بين عدلٍ وظلم، وقد لا يدع فرصة لتعقّل وتفكّر.

       والإنسان حين ينظر إلى ذاته يرى منها الفقرَ والحاجةَ، ويرى من يُنازعها البقاء، ويُنافسها على أسباب الحياة، وما يتهدّدها بالفناء، ويخاف على ما في يده من أسباب القوّة، وفُرَص النفوذ، ومواقع التأثير.

       فإذا لم تتجلّ في قلبه قضيةُ الإيمان بالله، وتغمُر نفسه بهداه، ويكن له من ثقته بربّه ما يُطَمْئِنُه، ومن دينه الحقّ ما يُهذّب صفاته كان مدفعوعًا بفقره وحاجته وخوفه وحبّه لذاته للظُّلْم حمايةً لنفسه، وطلبًا للقوّة والغنى والظهور مما يرى فيه سببًا لبقائه. أمّا قيمة العدل التي هي من قيم إنسانيته فتتوارى، ولا يكون لها حضور في سلوكه بفعل ما يدفعه للظّلم مما يرى فيه بقاءه، وتتوقف عليه حياتُه.

       إنه بدون الإيمان والتهذيب يكون مسار حياته من وحي دوافعه المادية، وبتوجيهها وضغطها وتحت إمرتها. وهي دوافع بعيدة عن لغة الأخلاق والقيم والحقّ والعدل كلَّ البعد، ولا تعرف التنسيق بينها وبين شيء آخر من أخلاق وقيم.

       الغرور:

       {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}([2])

       الغرور حالة انخداع نفسي قد تُوقع الإنسان فيها كلمة تزيين أو ثناء أو ظرفٌ من الظروف ووضع من الأوضاع فتخرُج به عن الواقع، وتشطّ به عن الرؤية الصّواب، والنظرة الموضوعية، وتُريه من نفسه أو من أمر آخر ما هو بعيد كُلَّ البعد عمّا هو عليه، وتغيّر مجرى حياته، وتقوده إلى هلاك.

       والإنسان بطبيعته مُعرَّض لمثل هذه الحالة، وهو في حدّ نفسه مهيّأ للانخداع بظروف الرّخاء والشدّة، واستقاء رؤيته وموقفه منها في غياب من التأمّل والتدبّر وإمعان النظر في قراءة الخلفية الصحيحة للظرف الماثل توصُّلًا للحقيقة.

       يأتيه امتحان من الله سبحانه بالإنعام ليتجلّى له نفسِه معدِنُه فينخدع بالنعمة ويحمل الأمر على أنه له كرامةٌ خاصّة، وشأنٌ معنويٌّ وقُربٌ وزلفى عند الله، بينما كلّ الأمر أن القضية قضية امتحان في أن يقابل النعمة بالشكر أو الكفران.

       ويأتيه الامتحان من الحكيم تبارك وتعالى بضيقٍ في الحال فيقابل ذلك بالاعتراض بأن في ذلك إهانةً له من الله سبحانه وقد يرى أنه لا يستحقها متخذًا من السَّعة والضّيق في النعم المادية مقياسًا للقرب والبُعد المعنوي من الله سبحانه بَدَلَ أن يدرك أنه أمام امتحان إلهي في ضرّائه وسرّائه وأن قربه أو بعده من الله عزّ وجلّ إنما يأتي نتيجة لنجاحه وفشله في الامتحان.

       الغرور يُعمي، ويحجب عن أسطعِ حقيقة، ويحول بين المرء وبين أن يرى ربَّه الكريم الذي خلقه وسوّاه فعدله في أيّ صورة ما شاء ركّبه، أن يرى عظمته التي لا تخفى آياتُها، قدرته التي لا تغيب آثارُها، تصرّفه فيه الذي لا غموض فيه، نِعَمه التي بها وجوده وحياته، وقيامه وقعوده، وكلُّ أثر من آثاره.

       الله عزّ وجلّ الذي لا ينبغي في عقلٍ ولا واقع أن يصرف نفسًا عن جماله وجلاله، وعظيم قدرته، وسلطانه، ونعمائه صارف، وأن يخدعها عن ذلك خادع تراها تغفل وتلهو، أو تستكبر وتدبر عن طاعته، أو تستخف وتستهين بأمره ونهيه اغترارًا بظرفٍ من نعمة أو محنة وتنسى شأن ربّها وعظمته التي لا تُحدُّ فتبطر وتكفر وتُعاند أمره، وتُكابر إرادته، وتُحارب دينه وشريعته.

       {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}([3]).

       هكذا يفعل الغرور بالنفس ويُسقطها.

       اليأس:

       اليأس داء آخر من أدواء النفس البشرية، وهو محطّم لها، منقطع بها عن الغاية، مُنْهٍ كلَّ تطلّع منها إلى الكمال، مُوْقِفٌ لها عن حركة التقدم. فالنفس التي لا تعمر بأمل، ليس لها ما يدفعها للأمام، ويحملها على التقدُّم، وليس أمامها إلا التوقّف بل التراجع بعد التراجع.

       {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ}([4]).

       الجدل والخصومة:

       {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}([5]).

       حاجة الإنسان إلى الدليل العلميّ في الكثير من القضايا لا تُنكر، ولا مؤاخذة عليه في التشبُّث بطلبه، والإسلام لا يرضى ببناء الإنسان عقيدته على قاعدة من الظن ومجرد التقليد أو متابعة الآباء والأجداد.

       ولكن ليس للإنسان أن يَرُدَّ الدليل الواضح الكافي، أو يتخلّف عن الأخذ بالعلم فكما لا تُبنى العقائد إلّا على العلم لا يصحُّ على الإطلاق أن يُتخلّى عن عقيدة يُلزم بها.

       وليس بعد الدليل العلمي المثبِت مجال للإنكار، ولا موضعٌ للتّقَصِّي بما يوجبه، ولا مورد لنقاش زائد.

       والأخذ والردّ والمناقشة في القضية بعد قيام الدليل، وسطوع البرهان، وتبيّن الحقّ مماحكة بغيضة، ولجاجة ممقوتة، وجدلٌ سخيف ليس وراءه إلا المعاندة للحقّ، والاستكبار بسببٍ من جاهليَّة.

       والإنسان مبتلى بصفة المجادلة بالباطل في ما لا يلتقي مع هواه، ويتنافى مع استكباره.

       وما عاند أحدٌ الحقَّ، واستعلى بجهله عليه إلَّا وصار إلى خُسران مبين.

       الحرص والجزع والبخل:

       {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}([6]).

       {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً}([7]).

       صفات يُمليها على الإنسان فقره الذاتي فحين لا يشعر بعمق وصورة دائمة بمددٍ دائم من حيٍّ لا يموت، غنيّ لا يفتقر، كريم لا يبخل، عالم لا يغفُل، قادر لا يعجز تراه يهلع ويجزع، ويكون قتورًا منوعًا، قابضًا على ما في يده، معتديًا على ما في يد الغير.

       وإنّ مجموعة الصفات المذمومة التي تترشّح عن إمكان الإنسان وفقره الذّاتي، وعنصر الطّين الداخل في تركيبه لا تقوده حين يكون لها الحضور الأكبر في حياته، والدّور الفاعل في رأيه وعمله إلّا إلى خُسْرٍ عظيم لا مفرّ له منه.

       ولا نجاةَ من هذا الخسر، ولا فِرار من هذه النتيجة المؤلمة إلّا بالإيمان بالله، والأخذ بمنهجه، والاستقامة على دينه {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}([8]).

       وتأتي كلمة للإمام الباقر عليه السلام تتمتع بحكمة عالية في مجال ما عليه الإنسان من حال بوصفه الأوّلي وواقع تركيبه بما فيه من جَنْبَة مادّية أرضية ظاهرة. تقول الكلمة:“إنّ طبائع النّاس كلّها مركّبة على الشّهوة، والرّغبة، والحرص، والرّهبة، والغضب، واللذّة، إلَّا إنّ في النّاس من قد دمَّ([9])هذه الخِلال بالتقوى والحياء والأنَف”([10]) ودمّ الشيء: طلاه.

       فالإنسان له عيوبه التي لا يَطليها ولا يسترها إلّا التقوى وحملُ النفس على متابعة أمر الله ونهيه، والحياءُ والأنَفُ – وهو التنزُّه والترفُّع – وهما من نتاج التقوى. وإن كان في فطرة الإنسان أن يستحيَ من القبيح، ويترفّع عمَّا يَعيبه، ولكن ما يجعل ذلك ملكة راسخة قوية حاضرة إنما هي التقوى.

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله برحمتك يا أرحم الراحمين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([11]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله الباعث الوارث الحيّ الذي لا يموت، ولا تهِنُ قدرته، ولا يضعُفُ ملكه، ولا تنفَدُ خزائنه، ولا يثلِمُها الجود، ولا يُنقِصُها العطاء.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله ما تَرَكَ امرؤٌ نفسه لهواها إلَّا وأركبته أهوالًا في الدّنيا، وأهوالًا في الآخرة، وانتهى أمرُه إلى سوء المصير. النفسُ تحتاج إلى ضبط، ولا ضابطَ لها كتقوى الله. وضابطُ التقوى يُقوِّمها، ويستقيم بها على الطريق، ويقيها من الضّياع. التقوى هادية، واقية، منجية، تبلغ بك الكمال، وتصل بك إلى الغاية، وهي أستر سِتْر، وأجمل ثوب، وأروع زينة. والعاقل، ومَنْ همَّهُ أمرُ نفسه جَدّ في طلبها، وأعطاها من جدّه بمقدار تعلّقه بطلب الكمال، وخوفه من النّار، وطمعه في الجنّة([12]).

       ولا تقوى لمن لم يُراقب الله عزّ وجلّ، ويستحضر ذِكْرَ عظمته وعلمه ونِعَمه وقدرته وأخذه في كلّ عمل يأتيه، وفي كلّ كلمة يتلفّظ بها.

       اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       أعذنا ربَّنا من الضّلال والغوى، ومتابعة الهوى، ومن سحر الدّنيا، ونسيان الآخرة، والتلهّي بالعاجل عن العاقبة والآجل، واجعل لنا من ذكرك الدّائم وازعًا عن ارتكاب الإثم، واقتراف الذنب، والدنوّ من الرّذيلة يا أرحم الرّاحمين، وأكرم الأكرمين.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين. اللهم اجعلنا من أنصاره وأعوانه في غيبته وحضوره، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.

       أما بعد أيها الأحبّة في الله فإلى هذا العنوان:

       أمُشكلٌ ولا حلّ؟

       البحرين تغرقُ في مُشكلٍ حادّ صار لا ينكره منكر بفعل ما له من قوّة ضاغطة على جميع الأطراف، وسلاح الشعب المعارض في مواجهة هذا الضغط الثقيل صبرُه، وإيمانُه بعدالة قضيّته، وشعوره العميق بضرورة تحقيق مطالبه، ومواصلةِ الطّريق حتّى تحقيق هذه المطالب.

       ومع اعتراف الجميع بحِدّة المشكل، والخوف من تداعياته بدرجة أوسع وأخطر، يطرح الجميع كذلك حرصه على الحلّ، وجِدّيته في طلب التوصّل إليه.

       طيّبٌ هناك مشكلٌ معترَف به والجميع ينشدُ له الحلّ. ولا حلّ بدون معرفة المشكل، وتشخيص ما يقف وراءه من أسبابٍ لا يتمّ حلُّه من غير معالجتها. فما هو المشكل؟ وما هي أسبابه؟

       يتمثّل المشكل في خلافٍ أخذ صورة الصراع الحاد المتفاقم بين الجانب الرسمي من جهة وبين الجمعيات السياسية المعارضة وشارع واسع معارض من جهة أخرى تسبّب في نزيف من الدّماء وهدر للأموال، واستجداء حكومي لمعونات الخارج، وتدخُّل جيوش خارجية، وهتك للأعراض، وتعدٍّ على حرمات مساجدَ وحسينيات وصلوات، وخلخلة اجتماعية مخيفة وإثارة للفتن، ومصادرة للحريات، وسحب جنسيات ثابتة لمواطنين، وألوف السجناء، ونشر رعب، وإساءات متنوّعة لا يقبلها دين ولا عرف وكثير من الكوارث والويلات، وتواصُل اعتصامات ومسيرات واحتجاجات تنال نصيبًا كبيرًا من القمع والمواجهة الشَّرِسة التي تمتدّ بعقوبتها إلى المناطق السكنية في ساعات هدوئها ونومها، وإلى بيوت الآمنين وغُرَفَهِم الخاصة التي تتعرّض للهجوم المباغت، ويدخلها الموت من خلال الغازات السامّة والخانقة في أيّ ساعة من ساعات الليل والنهار.

       هذا هو المشكل فما هي أسبابه؟ السلطة تعرف له أسبابًا أم لا؟ ألا تعرف السلطة أنَّ الدستور مُختَلَف عليه من أوّل يوم، وعلى طريقة وضعه قبل أن يُولَد؟!

       ألا تعرف مخالفتَها لما نصّ عليه الميثاقُ وحتّى الدستور المختَلَف عليه من كون الشعب مصدر السلطات؟!

       ألا تعرف أنَّ البلد بلا مجلس نيابي حقيقي؟ وأنَّ مجلس الشورى دوره دور المصادَرة لحقّ الشعب؟

       ألا تعرف أنَّ كون صوت لمواطن واحد يساوي في قيمته الانتخابية أصوات عشرين آخرين من مواطنين من أفضح صور الجور والتمييز السافر الظالم؟!

       ألا تعرف بكم من الأيدي تتجمّع ثروة الوطن، وعلى كم شخصًا تتوزّع أرضه وأنَّ الجماهير العريضة تعيش على هامش الحرمان؟!

       ألا تعرف التمييز الذي يُحِلُّ محلَّ الكفاءة في مرافق الدولة ومؤسساتها من أهمها إلى أدناها؟

       السلطة تعرف كلَّ ذلك، وتعرف أنَّ المشكل أساسًا في كلّ ذلك، وأنّه لا يمكن لبلد أيّ بلد أن يخرج من صراعاته وخلافاته وتمزُّقاته ومآسيه وهذه الأسباب قائمة.

       ولكنَّ السلطة مع ذلك تطرح شعار الحلّ، وتطرح أنّها جادّة في طلبه ومخلصة في ذلك وأنّها في بحث دائم عنه وكأنّها لا تهتديه، أو أنَّ الشعب يقف حجر عثرة في طريقه بينما كلُّ أمر الحل بيدها، ولا يملك الشعب منه شيئا.

       الحقّ واليقين أنها تهتديه والشواهد على الأرض تقول أنها لا تُريده، وأنها في بحث دائم عمّا يصرف عنه، ويُسكِت المطالَبة به، أو يُعطّله ويبعّد موعدَه، أو ينزل بسقفه، وينأى به عن حقيقته، وما به قِوامه.

       وفي هذا تطويل لعمر الأزمة وترسيخ لها، وتصعيب للحلّ، ومضاعفة للخسائر، وتعطيل لحركة النموّ، وتعميق للجراح، وزيادة في فُرَص الفتنة، وتوسيع للدّمار، وتبعيد لإمكان التوافق، وإضرار بالغ بالوطن، واستثقال للحقّ وضِيقٌ بالعدل.

       العزوف عن الحلِّ، وإفشال أي مقدّمة من مقدّماته كالحوار الذي تُصِرّ السلطة وتُصِرّ معها أطراف خارجية على أنه مقدّمة يحتاجها الحلّ لا يستقيم مع دين، ولا عقل، ولا حكمة، ولا مصلحة وطن.

       الشعب لم يخلق المشكلة، ولم يوجد أسبابها، ولم يدخل في حراكه عابثًا، ولم يطالب بما هو خارج حقوقه، ولم يجارِ في كثير منه الثورات العربية في أعلى سُقوفها، ولا في أساليب العنف الذي أخذت به في بعض تطبيقاتها، ولا يسعه أن يتراجع عن مطالب لا غنى له عنها، ولا يتوقّع لنفسه أمنًا ولا حياة كريمة بدونها.

       وقد صار معلومًا جدًّا أنَّ كثرة جراحاته وخسائره وآلامه وتضحياته لن تزيده إلّا عزمًا على المضيّ في الطريق، وقطع كلّ المسافة التي تفصل ما بينه وبين تحقيق المطالب قصرت أو طالت، سهلت أو صعبت، ومهما عظمت الكلفة، وثقل الثمن. وليس هذا من عناد الباطل، وإنّما من الأخذ بمقتضى الحقِّ، والاستجابة للواجب، والتشبُّث بالعدل، والانسجام مع الدّين، والإنقاذ للوطن.

       وماذا على الشّعب أن يعطي على طريق الحل؟

       وللإجابة على هذا السؤال لابد أن نسأل: ماذا يملك الشّعب من شيءٍ يدخل في الحل؟ وماذا أخذ الشعب من شيءٍ حتى يعطيه؟ وماذا سَلَبَ الشعب من شيءٍ حتّى يرجعه؟ ماذا سيطر عليه الشعب من ثروة؟ وماذا استأثر به الشعب من سلطة؟ وماذا سنّ من قوانين جائرة؟

       الحلّ كلُّ الحل بيد السلطة. وعلى السلطة أن تطالب نفسها بالسِّلمية، ولها أن تطالب الشعب بأن تكون اعتصاماته ومسيراته واحتجاجاته سلمية، والشعب ملتزم بذلك، ويجب أن يلتزم بذلك، وكلُّ قادته ورموزه لا يرضون له إلّا ذلك. وللسلطة إذا أقدمت على الإصلاح الحقيقي أن تتوقّع من الشعب أن يتجاوب معه وأن يستغنيَ عن مسيراته واعتصاماته.

       وواضحٌ جدًّا أنّه لا إصلاح وسجينٌ واحدٌ من سجناء الحراك الشعبي باقٍ في السِّجن.

       وواضح جدًّا أنَّ ضمان التوقُّف لحراك المسيرات والاعتصامات الشعبية يحتاج إلى استفتاء شعبيٍّ على نتائج الحوار الإصلاحية لو كانت وفوزها بموافقة الأغلبية من أبناء الشَّعب.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم أصلح شأننا كُلَّه للدين والدّنيا، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وادفع عنّا كلّ شر، وأبعدنا عن كلّ سوء.

       اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرنا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا غانمين في عز وكرامة إنك أرحم الراحمين.

       {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([13]).

 

 

[1]– 34/ إبراهيم.

[2]– 15، 16/ الفجر.

[3]– 6 – 8/ الانفطار.

[4]– 49/ فصلت.

[5]– 54/ الكهف.

[6]– 19 – 21/ المعارج.

[7]– 100/ الإسراء.

[8]– سورة العصر.

[9]– ذكر صاحب مستدرك الوسائل بدل كلمة (دمّ) (زمّ)، وذكر في هامش المستدرك أنها وردت في مصدر آخر (ضمّ).

[10]– نزهة الناظر وتنبيه الخاطر ص104 ط1.

[11]– سورة التوحيد.

[12]– إلى أيِّ حدٍّ تطمع في الجنّة، إلى أيّ حدٍّ تخاف من النار، تطلب التقوى، بقدر ما أنت عليه من حدّ عشقك لرضوان الله، لكمال نفسك، لجنّة الخلد.

[13]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى