خطبة الجمعة (542) 4 ربيع الثاني 1434 هـ ـ 15 فبراير 2013م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: تكملة لموضوع: الرؤية الإسلامية للإنسان

الخطبة الثانية: ماذا قال الرابع عشر من فبراير من جديد؟

الخطبة الأولى

الحمد لله نافذ العلم في كلِّ ما خلق، المحيط بكلّ ما أوجد. لا تخفى عليه خفيّة من شيء، ولا سرّ من ذي سرّ، ولا باطِنٌ مُستَتِر وكيف تخفى عليه الدقائق، وتغيب عنه البواطن وهو الذي لا قيام لشيء إلَّا بمدَدِه، ولا انحفاظ لتركيب شيء إلَّا بتدبيره، ولا فِعلَ لشيء إلَّا بعطائه، ولا مُستجِدَّ في شيءٍ إلَّا بإذنه؟!
عليمٌ بسوانِح العقول، وخطرات القلوب، وهواجس النفوس، وما يلمُّ بكلّ مخلوق من أمر.
أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، أشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عبادَ الله إنّ الشّهادتين ليوجبان على العبد إخلاصَ الطّاعة لله، وتقديمَ طاعته على كلِّ طاعة، والتصديقَ بقولِ رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وردَّ كلّ قولٍ على خلاف قوله؛ وإلَّا كذَّب القولَ العملُ، وناقض الفعلُ الشهادةَ.
وليس أسوأَ من أن يقولَ المرءُ الصِّدقَ ويخالفه، ويعرف الحقّ ويعانده، ويهتديَ السّبيلَ فيخرج عليه، والطريق إلى النجاةِ والنُّجْح فيتخلّى عنه.
ومن شَهِدَ الشهادتين وهما صادقتان كلّ الصدق، – ولا صِدْق كصدق شهادة التوحيد والرسالة – وكان صادقًا من جهته كانَ عالمًا كلَّ العلم أنْ لا خيرَ ولا هدى ولا نجاةَ ولا فوزَ إلّا بالأخذ بمقتضاهما، والاستقامة على طريقهما، والاستجابة لما يترتّب عليهما من تقوى الله، واتِّباع رسول الله صلّى الله عليه وآله.
فلنستقِمْ عبادَ الله على الطريق، ولا نُفرِّط في شيءِ من أمر الله.
أعاننا الله على أنفسنا، ورَزَقنا الله حقّ الإيمان، وحقّ القول، وحقّ العمل، والاستقامةَ ما حيينا على الصّراط القويم فإنّه الحنّان المنّان المحسن، ذو الفضل الكريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرّحيم.
أمّا بعد أيّها الإخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات فالحديث لا زال في موضوع:

الرؤية الإسلاميَّة للإنسان:

خلق الله الإنسان وجعل له من القابليات والاستعدادات ما تبلُغُ به لو اهتدى بمنهج ربّه لتربيته، واستقامَ عليه، فأحسَنَ تفعيل قابليَّاته واستعداداته مبلغًا من الكمال لا تنقصه معه السعادة، ويجعله في منأىً بعيدٍ عن الشقاء.
ولكنّه مع قابليَّاته الضخمة، واستعداداته الثرّة المعطاءة عند التفعيل عن طريق الإرادة والجُهْد والترويض والتربية في ضوء المنهج الإلاهي الموحَى به لصنع الإنسان، يُعاني بالفعل من نقاط ضعف ونواقص، وله خصائص نابعة من ضعفه وإمكانه لا يخرج منها إلّا بالمجاهدة والتربية، والأخذ بمنهج الله الذي يأخذ بالإنسان في المسار الذي يصنع القوّة، ويُخرج من الظلمات إلى النور.

وهذا من خصائصه:
1. الإنسان بين الضعف والقوّة:
الإنسانُ ممكنٌ يعتمد في كلّ ما عنده على عطاء ربّه، ولا يمكن له أن يستفيد من الفيض الإلاهي الواسع إلّا بِقَدَرِه بما هو إنسان، وليس بما هو موجودٌ أكبرُ منه، ولا يمكن له أن يخرج من إمكانه، ولا أن يُغيّر من موقعه، أو يزيدَ من سَعَةِ ما عليه واقعُ قابليّاته واستعداداته.
فيبقى الموجودَ المحدودَ، ويبقى بِحَسَبِ طبيعته مع قوّته، وبلحاظ ذاته يُعاني من ضعف.
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}(1).
سواءٌ ابْتَدَأَ النظر إلى الإنسان من مرحلة النطفة، أو مرحلة الطفولة الأولى فأمر ضعفه العام واضح.
ويبدأ يكتسب القوّةَ عن طريق التربية والمكابدة والمجاهدة شيئًا فشيئًا حتى بلوغ الأشُدّ ودرجة النُّضْج في أبعاد ذاته المختلفة ليبدأ من بعد حين رحلةَ الانحدار في مستوى فِعليّاته المكتسبة حتّى يكونَ كَلًّا على مَنْ سواه من النّاس، ومَحَلًّا لشفقة الآخرين.
وهو في أشُدِّه ونُضْجه لا يمكن له أن يكون الذّات القويّة على الإطلاق. وهذا واضح لكلّ نفس من نفسها ولا تردُّد لها فيه.
الإنسان خُلِقَ ضعفيًا، ومن ضعفه البيِّن شهواته الماديَّة التي تُغالبُ عقله، وكثيرًا ما تصرعه، وتُنسيه قيمة ذاته، وموضع مصلحته، وتُحطّم صحّته، وتلهيه عن مصيره، وتعمي بصيرته، وتشلّ تفكيره، وتوقعه في كوارث فادحة، ولا تُبقي له سعادة دنيا ولا آخرة(2).
وهذه الشهوات تبقى معه في كلّ حياته، وإذا خفّ ضغطُ صنفٍ منها لِتَقَدُّمٍ في سنٍّ أو مرض ربما اشتدّ ضغط صنف آخر(3).
ومن ضعف الإنسان غروره، وأن يملكه توهُّمُ العظمة، ويتجاوزَ به كِبْرُه كلّ حدّ معقول، وقدْر ممكن.
يقول الحديث عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:”لو لا ثلاث في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء: المرض، والفقر، والموت، كلُّهم فيه وإنّه معهن لوثَّاب”(4).
وهذا الغرور ضعف لأنّه يؤدّي إلى متاعب جمّة، ويقود إلى السّقوط في إنسانية الإنسان، ويتسبّب لصاحبه في المهالك.
والتشريع الإلهي يراعي في الإنسان هذا الضعف ويُقدِّر فيه اقتضاءَه التخفيف عنه في التكليف، فيُخفِّف عنه فعلًا إذا لم يخلق المانعَ من الرّحمة به(5).
يقول الكتاب الكريم:{يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}(6).
2. الجهل:
{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(7).
الإنسان جهله سابق، وما له من علم لاحق. يولد جاهلًا فعلًا، وقد جعل الله عزّ وجلّ له منافذ على العلم، وفتح له طريقًا إليه بقدر ما يمكن أن يصل إليه منه سمعُه وبصرُه وعقلُه، ويبقى بعد السعي والطلب والكدّ والتحصيل جهلُه أكثر من علمه.
وقد يدخل ما يراه الإنسانُ من علمه جهلٌ كثير فيكون علمه جهلًا وهو أسوأ الجهل لأنّه يُغري صاحبه بإقامة حياته على الوهم الكاذب الذي لا يُنتج إلَّا البوار(8).
وفي جهل الإنسان يقول الكتاب الكريم كذلك:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}(9).
وعن تفسير الثعلبي عن صالح بن مسمار:”بلغني أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله تلا هذه الآية {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}(10) قال جهله”(11).
والجهلُ منه ما هو فَقْدٌ للعلم، وخُلوٌّ منه بأيّ أمر من الأمور، ومنه ما هو مخالفة للعلم سَفَهًا وطَيشًا، وهو خلاف الحكمة فإنّ الحكمةَ أن نأخذ بالعلم، ونبني موقفنا عليه.
وكأنّ المعنيّ في الحديث هو الجهالة بالمعنى المخالف للحكمة.
وفي الإنسان جهلٌ بمعنييه، وهو ضعفٌ من ضعفه، ونقصٌ من نواقصه.
3. الإنسان والعجلة:
{خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}(12).
{وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً}(13).
لكأنّ الإنسان من فَرْط عجلته ليس مخلوقًا إلَّا من عجل، ولكأنّه ليس في خلقه ما يجعله يتفكّر في الأمور ويتدبّر. وانسياقًا وراء تعجُّله تراه كما يطلب الخير ويسعى إليه يطلب الشرّ بتوسُّله وعمله، ذلك أنه لمجرّد ما يخطر له أنّ في شيءٍ ما منفعتَه يستهويه، ولا يدع له أن يتأنّى، ويعطيَ التفكير في الشيء حقّه، وهذه الاندفاعة كثيرًا ما تأخذ به إلى طريق الخطأ، وتوقعه في الضرر، وتجلب إليه الشر.
فهو بما يحكم موقفه من عجلة يدعو بالشرِّ دعاءَه بالخير، ويطلبه كطلبه، ويسعى إليه من حيث لا ينتبه سعيَه إليه(14).
يقف الحديث هنا وله تتمّة.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن هديته، ورحتمه، وكفيته، وقبلته، ورفعته، وأسعدته، واجعل مآلنا إلى النّعيم المقيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(15). 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي كلُّ الخلائق تستعطي منه حاجاتها، وتنتهي إلى رَفده في طَلِباتها، لا يشذّ منها شاذّ عن ذلك، ولا يستثني مُستنثى؛ فكلُّ الخير بيده، وكلّ سبب من أسباب الخير من خلقه، وتحت قهره.
فمن للسّائلين غيره، ومن للمحتاجين سواه، ومن يَجدُ خيرًا إلّا من عنده؟!
لله الحمد على ما أنعم حمدًا لا ينتهي، وله الشُّكر على ما تفضّل شكرًا لا ينقضي، حمدًا فوق كلّ حمد، وشكرًا لا يبلغه شكر.
أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله استبقوا إلى الخيراتِ التي دعا الله إليها، ووعد الثواب العظيم عليها، ولا تقربوا السّيئات فإنها المبعِّدة من الله عزّ وجلّ، المقرِّبة من الشيطان، الملوِّثة للنفس، المطفئة لنور الفطرة، الحاجبة عن المعرفة، الموجبة للعذاب، المنتهية بصاحبها للشقاء.
ألا من طلب خير نفسه فإنه لا خيرَ إلّا في طاعة الله، ومن أشفق على نفسه من الشرّ، فليُشفق عليها من معصية الله ففيها أكبر الشّر.
خُذوا بتقوى الله تَسْتَقِمْ بكم الطريق، وتنتهِ بكم إلى الغاية، وتجدوا من غنى النفس وهداها ما تهنأ به الحياة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنّا نسألك العقلَ والحكمةَ والسّدادَ والرّشادَ، والملازمة لطاعتك، والمفارقة الدائمة لمعصيتك، وأن تجعلنا في مأمن من كيد الشّيطان الرجيم، ووسوسة النفس، وسلطان الهوى، والميل للمنكرات حتّى تنتهيَ بنا إلى قُربِك، والفوز برضاك يا حنّان يامنّان يا حميد يا مجيد.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصّادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصِّدّيقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن عليّ الزكيّ، والحسين بن عليّ الشهيد، وعليّ بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن عليّ الباقر، وجعفر بن محمّد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعليّ بن موسى الرّضا، ومحمد بن عليّ الجواد، وعليّ بن محمّد الهادي، والحسن بن عليّ العسكريّ، ومحمد بن الحسن المهديّ المنتظر القائم. اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القُدُس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أمّا بعد أيها الأحبّة في الله فالعنوان:

ماذا قال الرّابع عشر من فبراير من جديد؟

قالَ الرّابع عشر من العام 2011 أنّ الشعب يريد الإصلاح السياسيّ، وما يستتبعه من أنواع الإصلاح الأُخرى التي لا يستقيم وضعُ الوطن إلَّا بها، وأنّ الحراك يُصِرّ على هذا المطلب.
وقال أنّ هذا الشعب صبورٌ على كلفة الوصول إلى تحقيق هذا المطلب، وأنّه يحتضن حراكًا سياسيًّا شعبيًّا سلميًّا عامًّا صامدًا لا يتراجع.
وأنّه يبغض الطّائفيّة ويمقتها، ويتطلّع إلى أن يُنصفه العالم في حين أنّه يرفض الارتهان إلى إرادة الخارج، أو نسيان شيءٍ من مبادئ دينه، وأحكام شريعته، ومصلحة وطنه.
وكلُّ ذلك أكّدته سنتان من عمر الحراك كان الطّريق فيهما صعبًا وشاقًّا ومليئًا بالتحدّيات وأنواع التجارب والامتحانات القاسية، وصَبْر الشعب في ازدياد، وصموده في قوّة، وجماهيره المشاركة في الاحتجاجات في تعاظُم، وقد دخلت في المشاركة كلُّ الفئات والشرائح العمرية والثقافية وغيرها، وشعار السِّلميّة بقي ثابتًا ومؤكَّدًا عليه بين حينٍ وآخر، والنيَّة ما فَسَدت، والترابط في استحكام إن شاء الله(16)، والصّوت قد علا، والقضية فَرَضَت حضورها في العواصم المهمَّة في العالم، وأخذت اهتمامًا في محافل دولية مهمّة.
وما قاله الرابع عشر من فبراير لهذا العام من جديد أنّ شعب البحرين شعبٌ مجيد(17). إذا قال صَدَق، وإذا تحرّك ثَبَت.
جاء هذا اليوم من هذا العام بصمةً جماهيريّةً قويّة فولاذية على مواصلة الحراك، وأنَّ إرادة الإصلاح والتغيير لا تعرف التّراجع، وأنّها أقوى من أن تُفلّ بالنّار والحديد(18).
جاء هذا اليوم لِيُؤكّد أنّ هذا الشعب لا يتعب، أو أنّه إذا تَعِب لا تُوقفه عن طلب حرّيته وكرامته وحقوقه المتاعب.
لِيُؤكّد أنَّ سنتين من الحراك المستمرّ المليء بالتضحيات الجِسام، والآلام المضنية يُضيف إليها هذا الشّعب السَّنة والعشر سنوات وأكثر وأكثر على طريق المعاناة والبَذْل والفداء وركوب الشّدائد دون أن يُفكِّر في أن يعود من حراكه الإصلاحيّ خاسرًا، وإلى حالة الإفساد والفساد.
جاء هذا اليوم ليقول بأنَّ الشعب يؤمن كلَّ الإيمان بحقّانيّة قضيّته، وعدالة مطالبه، وصِحّة حراكه، ورأفة ربّه ورحمته ونصره، وأنّ أمله في النّصر لا يعرف الذّبول.
جاء ليقول بأنّ على كلّ المتعاملين مع قضية شعبنا عليهم أن يعرفوا له هذه الخصائص، وأنّ رقاب أبناء هذا الشّعب وبناته لا تنحني، وأنّ إرادتهم لا تنكسر. لا يركعون إلّا لله، ولا تخرّ جباههم إلّا لعظمته(19).
ليقول بأنّ على كلِّ واهمٍ أن يتخلّى عن وهمه بأنَّ هذا الشعبَ يمكن أن يستسلم، أو يلين في الحقّ، وأن ينسى عزّته وكرامة دينه، وشَرَف انتمائه، وقيمة إنسانيّته، ويتراجعَ عن المطالبة بحقوقه العادلة الثّابتة له(20).
ليقول بأنّ الصلابة التي برهن عليها شعبُنا طوال سنتين لا تعرف لِينًا، وإنّما هي على طريق الاشتداد إنْ بقي بينها وبين قِمّة الصلابة باق.
وكما أنَّ الشعب له كلّ الصلابة فإنّه واع كلّ الوعي، مؤمن كلّ الإيمان، متمسّك بهويته كلّ التمسُّك، بعيدٌ عن العصبية كلّ البعد، ناءٍ عن الإرهاب كلّ النأي، مجافٍ للعدوان كلّ المجافاة.
وشعبُنا يُدرك جيّدًا أنّ الحوار ليس هو الهدف، وأنّ المسيرات والاعتصامات وأنواع الاحتجاج ليس منها ما هو هدف كذلك. وكلُّ ذلك لا مكان له مع تحقّق الهدف، ولو تحقّق الهدف لا مسيرة ولا اعتصام ولا احتجاج(21).
الهدف الإصلاح الجديّ القادر على إنقاذ الوطن من ورطة الظلم والاستخفاف بالمواطن، وحالة الفساد والإفساد، والتفرُّد بالسلطة.
الهدف تحكيم مقياس الكفاءة والمواطنة، والرّجوع إلى ما يُقرّره الميثاق من كون الشّعب مصدر السُّلطات.
وكُلّما غاب الإصلاح أو تباطأ، أو التُفَّ عليه، وفَقَدَ الجدّية والصِّدق كلما انفتح الباب للمسيرات والاعتصامات وكلّ أنواع الاحتجاج السلمي طلبًا لاعتبار الذّات، وخروجًا من معاناة الظلم، وشدّة الضّغط، واستعادةً للكرامة، واستجابة لأمر الدّين، ووفاء بحقّ الوطن.
ولا ينبغي الشّك في أنّ السّلطة صارت تُدرك بعد هذه المدّة من عمر الحراك بكلّ مخاضاتها العسيرة التي عانى منها الشعب، ولم تلن عزيمته بأنّه لا مخرج من الأزمة إلّا بالإصلاح.
أنّه لا يُفيد قمع، ولا محاولات ولا مراوغات ولا مساومات كيدية، وأنْ ليس من أسلوب يُثني الشعب عن المطالبة بحقوقه حتى يتمّ له إنجازها.
أنّ إصلاحًا شكليًّا لن يُجدي ولن يُخدع به الشعب أو ينال قناعَتَه.
أنّ جرّ الشعب إلى الأخذ بأسلوب العنف لتبرير ضربه ضربةً قاضية دونه حاجز ضخم من وعي شعبنا وحكمته، ونُضجه، والنصيحة الصّادقة من كلّ رموزه وقادته(22).
لكن إذا كانت كلّ هذه القناعات تتوفّر عليها السّلطة فماذا يتأخّر بها عن الإصلاح، والمبادرة له؟
لا يوجد تعليل لذلك إلّا الحاجز النفسيّ، ومكابرة الأنا، والاعتزاز بالنفس لغير وجه حقّ، وخلفيّةٍ مقبولة.
وهذا ما يحول كثيرًا بين الإنسان وبين الأخذ بالحقّ، وحتّى على ما يرى فيه مصلحة الذّات.
وسيظلّ الوطن في دائرة الأزمات، وتتعمّق جراحاته، وتزداد فيه المأساة، وتكبر الخسائر الماديّة والمعنويّة حتى تتغلّبَ السلطة على حاجزها النفسيّ، وحالة الاستعلاء والعناد والمكابرة من وحي الشّيطان، وهوى التسلُّط.
تحتاج السُّلطة لخروج الوطن من أزمته التي لابُدّ أن تعيَ خطورتها إلى أن تثور على نفسها ونفسيّتها.
أمّا الشعب فلا يملك إلّا أن يُواصل حراكه السلميّ دفعًا للظلم عن نفسه، وتخلُّصًا من ذلّه وقهره، وهو ما تفرضه عليه كلّ المقاييس، وتشاركه الرأي فيه كلّ الشعوب.
وفي البحرين حوار، وصراع؛ حوار بين إرادتين، وصراع بين إرادتين.
الإرادتان تتحاوران من منطلق اليقين بوجود أزمة حادّة لو تُرِك لها أن تستمر لأمكن أن تخرج من السيطرة، وتُغرِق الجميع في مأساة لا خروج لهم منها.
أمّا جديَّة الحوار فما يمنعها من جانب السُّلطة فهو ذلك الحاجز النفسيّ الذي سَبَقَ الكلام عنه والذي لا ينطلق من عقل، ولا حكمة، ولا عدل ولا شرع ولا ميثاق ولا مصلحة وطن.
فيأتي على هذا الأساس تصميمُ الحوار معيبًا، غير عادل، ولا يحمل عوامل النجاح، ويأتي التحايل، ومحاولات الهبوط بمستوى الإصلاح إنْ كان إلى أقصى حدٍّ ممكن، والتسويف والتعطيل، والهروب من ضمانات التنفيذ، والاقتصار على أن تكون المخرجات على مستوى التوصيات بَدَلَ أن تكون على مستوى النصوص الدستورية(23).
والوسيلة في التقابل بين الإرادتين في حلبة الحوار هي الكلمة بمستوياتها المختلفة.
وتتقابل إرادة الإصلاح الحقيقي وإرادة التعطيل في حلبة أخرى يشهدها الشارع. الوسيلة في هذا التقابل عند الشعب في طابعها العام حناجر الحشود الهائلة المنطلقة بالمطالبة بالإصلاح والحقوق، ووسيلة السلطة فيه الغاز المسيّل للدموع، والرصاص المطاطي، والرصاص الانشطاري، والرصاص الحيّ، ويأتي استشهاد الفتى حسين بن علي بن أحمد الجزيري في ذكرى الرابع عشر من فبراير شاهدًا صارخًا على تغليب لغة العنف عند السلطة على لغة الحوار. ومع الفارق الكبير فإنّ وسيلة الكلمة عند الجماهير المعارضة وفي الشارع محافِظة على صمودها وإصرارها مع ما تتلقّاه هذه الجماهير من كُلفة باهظة.
وإذا تبيّن أن الحوار خدعة أو مزحة كما يظنّ الكثيرون فلن يَجُرّ بطبيعته هذه إلّا إلى تعميق الخلاف، وإلهاب الفتنة، وزيادة الشّرْخ، وتركيز المحنة، واشتداد الكارثة.
حوارٌ من هذا النوع سيقضي على أيّ أمل في اللقاء على حلّ الأزمة، فلا يبقى من سبيلٍ إلّا الإمعانُ في الخصومة والصّراع والتغالب وفي ذلك مهلكة الوطن.
إنّ تبيُّن كون الحوار خدعة أو مزحة سيكون شرًّا ألفَ مرّة من عدم الحوار(24) لأنّ حوارًا من هذا النوع يحدث للمرّة الثانية قد يسدّ البابَ أمام كلّ فرص الحوار، ويُحوِّل هذه المسألة إلى أمرٍ مستحيل، ويجعل الإقدام على الدخول فيها ممتنعًا شعبيًّا على مستوى عامّ شامل(25).
حوارٌ من هذا النوع إذا انكشف أمره حسّيًا وبصورة جليّة لا محدوسة مظنونة لن يُبقي صوتًا يدعو للتفاهم والتقارب، لن يبقي إلّا صوت الفرقة والمواجهة المنفلتة التي لا تتعقّل، ولا ترحم(26).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا، وجنّبه الويلات، وارزق كلّ قاطنيه عَزْمَ الخير وفعله، واجمع كلمة المسلمين على التقوى يا أرحم الرّاحمين.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفك أسرانا وسجناءنا، وردّ غرباءنا سالمين غانمين في عزٍّ وكرامة برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (27).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – / الروم.
2 – هكذا تفعل الشهوات. وهذا ضعف وأي ضعف!
3 – أي من الشهوات. ومن ذلك حبّ الشهرة.
4 – الخصال للشيخ الصدوق ص113.
ليس معنى ذلك أنّ الإنسان يستسلم كل الاستسلام أمام المرض والفقر والموت، فمع كونه معرّضا لكل ذلك، ومهددا بكل ذلك، يبقى وثّابًأ، ويبقى مغرورًا، ويبقى متصوِّرًا للعظمة والخلود.
5 – إذا لم يخلق الإنسانُ المانع من رحمة الله به. رحمة الله واسعة لكنّنا نخلق الموانع من أن تنالنا رحمتُه.
6 – 28/ النساء.
7 – 78/ النحل.
نُولدُ لا علمَ لنا، نولد خلوٌ من العلم، ثمّ نسعى، نطلب العلم بما وهبنا الله من منافذ عليه، ولا نصل إلّا إل القليل {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(85/ الإسراء).
8 – إنَّ شيئًا، وشيئًا كثيرًا مما نراه علمًا هو جهل، وفي ذلك مصيبة!
9 – 72/ الأحزاب.
10 – 6/ جهله.
11 – تفسير الثعلبي ج10 ص146 ط1.
12 – 37/ الأنبياء.
13 – 11/ الإسراء.
14 – أي سعيه إلى الخير.
15 – سورة الكوثر.
16 – وأقف هنا لأُحذِّر كلّ التحذير من أيّ كلمة تُثير الفُرقة، من أيّ تطلُّعٍ من غير سيرٍ من غير حساب ومن غير نيّة مسبَّقة ليوم تتفتت فيه وحدة هذا الشعب. (هتاف جموع المصلين: لبيك يا فقيه).
قد تختلفون في وجهات النظر، وهذا من حقّ كل واحد، ولكن ابتعدوا كل البعد عن المهاترات، وعن أن يهدم بعضكم سعي بعض وهو في صالح هذا الشعب. (هتاف جموع المصلين: وحدة وحدة حتى النصر).
ستُهزمون مائة في المائة عندما يتفتت صفّكم، ستُذلّون وبشكل مؤكّد عندما تتحارب صفوفكم. اتقوا الله في هذا الشعب.
17 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
18 – هتاف جموع المصلين (لا تراجع لا تراجع).
19 – هتاف جموع المصلين (لن نركع إلا لله).
20 – كلّ المتوهّمين بشيء من ذلك قال لهم الرابع عشر من جديد عليكم أن تتخلّوا عن هذا الوهم.
21 – والحكومة تعلم تمامًا هذا الأمر.
22 – هتاف جموع المصلين (سلمية سلمية).
23 – وإن نُقِل أخيرًا أنّه قد حصل اتّفاق على أن تكون المخرجات بهذا المستوى.
24 – فلتحذر السلطة أن تخطط لإفشال الحوار الذي دعت إليه، وأن يخرج بنتائج غير مرضية للشعب. 25 – وفي هذا كارثة.
26 – وتدخل بالوطن في النفق المظلم الطويل المهلك.
27 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى