خطبة الجمعة (537) 28 صفر 1434 هـ ـ 11 يناير 2013م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: تكملة لموضوع: الأمانة

الخطبة الثانية: النبوة الخاتمة – السياية المشكل – لا فصل ببن أمرين – أكثر من قانون

الخطبة الأولى

الحمد لله المحيط بكلّ شيء علمًا وقدرة، ومصير كلّ الأشياء بيده، ومنتهاها إليه، ولا يُشرِكه أحد في ذلك أبدًا، ولا يحجب بينه وبين ما يريد حاجب، ولا يردّه رادّ، ولا يصدر منه إلاّ ما هو عدل وحكمة وصلاح، ولا يجزي بالإحسان إلّا إحسانًا، ولا يُعاقب مسيئًا فوق ما يستحقّ، ولا يؤاخذ نفسًا بما كسبته أخرى.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.
عباد الله الدهر يومان يوم لك، ويوم عليك، والمؤمن العاقل لا يبطره يومٌ كان له، ولا تغرّه الدنيا بذلك اليوم، ولا يغلبه يومٌ عليه، ولا تُغيِّر الدنيا به دينه عليه.
المؤمن العاقل يعرف من نفسه حال فقره وغناه، وخيره وشرّه أنه مملوك لا مالك، وأن مالكه هو العليم، القدير، الحكيم، العدل الذي لا يجور، الرَّحمان الرَّحيم الذي لا يريد بعبده سوءًا إلّا أن يريد العبد بنفسه السوء ويسعى إليه. ومن كان عارفًا لكل ذلك لا يبطرُه غنى، ولا يستخِفُّه خير، ولا يؤيسه فقر، ولا تفقده توازنه وإيمانه شدّة.
فما أحوجنا عبادَ الله في مواجهة صروف الدهر وتقلّبات الأحوال إلى الإيمان والعقل وتقوى الله ومعرفته!!.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، وسلّم عليهم تسليمًا كثيرًا كثيرًا، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا على ذكرٍ دائم لك يَحمينا من الضَّلال، ويُجنِّبنا الغِواية، ويقينا أن نُغلب على عقلنا وإيماننا لغنى أو فقر، وخير أو شر. يا كافي بك نستكفي ونحتمي من كلِّ سوء يا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الملأ الكريم فإلى هذه المتابعة للحديث في موضوع الأمانة:

أصناف الأمانة:

دين الله أكبر أمانة، وأقدس أمانة، وحافظُ هذه الأمانة بحقّ حافظٌ لكل أمانة، ومن أقدم على خيانة الدين هان عليه أن يخون كلّ أمانة، ولا يبقى له حاجز من خُلُق يمنعه من أيّ شر.
وأمانة الدِّين بأن يتبصّر فيه حتّى يُعلَم، وأن لا يُزاد فيه، ولا يُنقص، وأن يُدعى له، ويُنشر، ويعلّم، ويُؤخذ به ويُفعّل، ويُذاد عنه ويُحمى.
وأمناء الدِّين وحفظته كالرُّسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام الذين لا انحفاظ للدّين إلا بهم هم كذلك أمانة من أمانة الدّين التي لا تنفكّ عنها، وخيانتهم خيانة له، ومن خان الدّين خانهم، ومن قصّر في حقّه قصّر في حقّهم.
عن الإمام الصادق عليه السلام:”نَحنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وبَيتُ الرَّحمَةِ، ومَفاتيحُ الحِكمَةِ، ومَعدِنُ العِلمِ، ومَوضِعُ الرِّسالَةِ، ومُختَلَفُ المَلائِكَةِ، ومَوضِعُ سِرِّ اللّهِ، ونَحنُ وَديعَةُ اللّهِ في عِبادِهِ”(1).
عن الإمام الهادي عليه السلام في زيارة الجامعة الكبيرة:”أنتم الصراط الأقوم…. والرّحمة الموصولة، والآية المخزونة، والأمانة المحفوظة”(2).
ومما جاء في أمانة الدّين:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(3).
عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}:”فخيانة الله والرسول معصيتهما، وأمّا خيانة الأمانة فكل إنسان مأمون على ما افترض الله عليه”(4).
فالعبادات التي افترض الله على عباده أمانات يُسأل الإنسان عنها، ويُحاسب عليها.
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”الأَمانَةُ ثَلاثٌ: الصَّلاةُ، وَالصِّيامُ، وَالغُسلُ مِنَ الجَنابَةِ”(5).
والمذكورات في الحديث الشريف مسوقة للتمثيل، وليس أن أمانة العبادة تنحصر في هذه الثلاث.
وما من تكليف مما كلّف الله عزّ وجلّ به عباده إلّا وهو أمانة في عنق العبد عليه أن يؤدّيَها، ويُوفّي ما لها من حق.
وأداء كلّ تكليف بأن يُؤتى به حسبما هو عليه في شريعة الله بلا نقص ولا إضافة.

ومن الأمانات ما يأتي:
1. الأمانة العلمية:
للعلم حقّ لا يصح بخسه. ذلك بأن يُنأى به عن التزوير والغِش، وأن يُودع من هو أهلٌ له، ويُلتزم به، ولا يُخالف، ولا يُكابر، ولا يُقابل بالجدل الباطل.
وكلّ عالم مسؤول عن علمه. ومن حقِّ العلم أن يطلب ويُجدّ في تحصيله، ويُضبط ويُتقن، وأن تقام على أساسه أوضاع الإنسان والحياة، ويُستعان به في فهم الدّين.
والأكبر أمانة من بين العلوم النافعة – وكلّها أمانات – علم الدّين الذي لا يساويه في الأهمية علمٌ آخر. وكل ما عداه من علم يُسيء الإنسان إليه ويخون أمانته إذا كان توظيفه له على خلاف علم الدّين.
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”العلم وديعةُ الله في أرضه، والعلماء أمناء عليه، فمن عمل بعلمه أدّى أمانته، ومن لم يعمل بعلمه كُتب في ديوان الله تعالى: إنّه من الخائنين”(6).

2. الحكم بالعدل:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ…}(7).
العدل في الحكم أمانة من الأمانات داخلة تحت الأمر بأدائها إلى أهلها ونُصّ عليها بالخصوص بقوله سبحانه {وَإِذَا حَكَمْتُم} لأهميتها البالغة فإنَّ تحوُّل الأمانة إلى الخيانة في مورد الحكم بين النَّاس يُحدث اضطرابًا هائلًا واسعًا سريعًا في الحياة كلِّها.

3. أمانة المواقع الاجتماعية:
لكل موقع اجتماعي أهميته وتأثيره على حياة المجتمعات وانحفاظ مصالحها وتضرُّرها وانهيارها. ولا يستقيم أمر مؤسسة من المؤسسات إذا ساد المواقع المسؤولة فيها خُلُق الخيانة. ومع أمانة هذه المواقع يكون ازدهار المؤسّسة وتقدّمها، وازدياد قدرتها على البقاء، وتحقيق أهدافها المنشودة.
وكلما كبرت المؤسسة، واتسعت دائرتها، وزادت أهمية الموقع، وزاد تأثيره نفعًا وضررًا على مصلحتها كبر ثقل الأمانة، وزادت أهمية مراعاتها فيمن يتحمّل المسؤولية لذلك الموقع، ومثَّل حسن اختياره حفظًا لمصلحة المجتمع وإنقاذًا له، ويُمثِّل سوءُ اختياره تفريطًا بالغًا في حقّه، وإضرارًا شديدًا بمصلحته.
ومؤسسة الدولة هي أكبر المؤسسات، ولا تكاد مؤسسة من المؤسسات المنضوية تحتها إلّا ويدخلها من فسادها فساد، ومن صلاحها صلاح، والخيانة أو الأمانة التي تحكم مِرفقًا من مرافقها تصل بتأثيرها إلى امتدادات كثيرة من المجتمع ومؤسساته.
صلاح وزارة من الوزارات وقيام أمرها على العلم والخبرة والكفاءة والأمانة يُعطي الأثر الإيجابي الكبير، وفسادُها، وخيانة من يقوم عليها، وعدم كفاءته يُشقي المجتمع، ويُقلقه كثيرًا، ويُفسد أوضاعه، ويُوقع الضّرر البالغ بمصلحته.
عن أهمية الأمانة والكفاءة في ملء المواقع ذات البُعد الاجتماعي، والتأثير على المصلحة العامّة نقرأ قوله سبحانه:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(8).

4. أمانة الأسرار:
للودائع المالية أهميتها ولكن رُبّ وديعة سرٍّ هي أكبر من وديعة مال. ومن ودائع السرِّ ما لا تعدله وديعة مال وإن عظُم، وضرر خيانتها لا يساويه ضرر مترتب على كثير من الخيانات.
من إفشاء الأسرار ما يثير حربًا، ما يهدم مجتمعًا، ما يهزم أمّةً، ما يتسبب في كوارث.
إنّ السرّ لمن الأمانات الكبرى التي يجب الحفاظ عليها، ومن أهمية هذه الأمانة أن جاء الأمر في اعتبار الكلمة أمانة لأيِّ إشارة دالّة على الاستكتام وإن لم يُصرِّح به صاحب الكلمة(9).
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثُمَّ التَفَتَ، فَهِيَ أمانَةٌ”(10).
وعنه صلّى الله عليه وآله:”مَن سَمِعَ مِن رَجُلٍ حَديثاً لا يَشتَهي أن يُذكَرَ عَنهُ، فَهُوَ أمانَةٌ وإن لَم يَستَكتِمهُ”(11).
وإذا كان الحديث في أمرٍ من الأمور العادية لكن استُظهِر من أيّ دالٍّ ولو بالتفات صاحبه عند تحدّثه به أو بعد فراغه منه مما يشير إلى عدم رغبته في أن يصل إلى مسمع ثالث يقضي بكونه أمانة، ويعد إفشاؤه خيانة، وكل خيانة نقض لحق، وتستوجب الإثم فكيف بأخطر الأسرار على الدين والأمة ومصالحها العليا بعد التشديد على أهميتها، والتأكيد على وجوب حفظها ممّن تُستودع عنده، ويُحمَّل أمانتها؟!

5. الأمانات الأخلاقية:
هناك أمانات أُلهِمت ضمير الإنسان، واستشعرها وجدانه، ودلّ عليها الدين، وصرّحت بها شريعته. وخيانتها تنسف الأرضية لكلِّ أمانة، وتُوقع في كلِّ خيانة.
وتلك هي الأمانات الأخلاقية:
الخصال عن الأصبغ بن نباتة:”كانَ أميرُ المُؤمِنينَ عليه السلام يَقولُ: الصِّدقُ أمانَةٌ، وَالكَذِبُ خِيانَةٌ”(12).
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”الورع أمانة”(13).
قصص الأنبياء للراوندي عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر: سَأَلتُ أبَا الحَسَنِ الرِّضا صَلَواتُ اللّهِ عَلَيهِ عَن قَولِهِ تَعالى:{إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا}(14) أهِيَ الَّتي تَزَوَّجَ بِها؟ قالَ: نَعَم، ولَمّا قالَت:{اسْتَئجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَئجَرْتَ الْقَوِىُّ الْأَمِينُ}(15)، قالَ أبوها: كَيفَ عَلِمتِ ذلِكَ؟ قالَت: لَمّا أتَيتُهُ بِرِسالَتِكَ فَأَقبَلَ مَعي، قالَ: كوني خَلفي، ودُلّيني عَلَى الطَّريقِ، فَكُنتُ خَلفَهُ اُرشِدُهُ، كَراهَةَ أن يَرى مِنّي شَيئا”(16).
وهذه أمانة العفّة والنزاهة.
ومن الأمانات الوفاء بالعهد. عن الإمام عليّ عليه السلام:”أفضل الأمانة الوفاء بالعهد”(17).
وكثيرة هي الأمانات الخُلُقية التي لا تستقرّ حياة المجتمعات، ولا تعتدل أوضاعها لو ضيّعها الإنسان.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم أخرجنا من ظلماتنا، وخلِّصنا من عيوبنا، واستر عوراتنا، ولا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا خُلُقًا إلا حسَّنته، ولا نعمة مسلوبة إلّا رددتها، ولا عقوبة كتبتها علينا إلا عفوتنا منها بمنّك، وإحسانك، وتفضّلك يا عظيم المنِّ، يا قديم الإحسان، يا واسع التفضّل يا حميد يا مجيد.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(18). 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي إليه مرجع العباد فينتهون لحكمه، ويقضي بينهم بعدله، ويصيرون لما وَعَدَ به المحسنين من ثوابه، وتوعّد به المسيئين من عقابه، فيسعد برحمته المحسنون، ويشقى المسيئون بما ظلموا به أنفسهم، {… وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}(19).
نحمده حمدًا يكون لحقّه قضاء، ولشكره أداء، وإلى رحمته مقرِّبًا، وإلى مزيد إحسانه موجبًا، وإلى مرضاته مُوصلًا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلامًا.
عباد الله إمّا أن يكون عقل أحدنا في حكم نفسه، أو أن تكون نفسه في حكم عقله، وحكم العقل تابع للحقائق، وحكم النفس منشؤه الهوى والشَّهوة. ومن نأت به نفسه عن الحقائق ضلّ سعيًا، ولم يهتد الطريق، وضيّع الغاية. الهوى يُلهي ويُعمي، والشهوة تُجِنّ وتُسكِر.
والتقوى خير ما وقى من تحكُّم الهوى، وسلطان الشّهوة فلنتّق الله ما استطعنا، ولا نُعطِ للنفس أن تخرج بنا عن طاعة الله أبدًا، فلا غِنى لأحدٍ عن ربّه دنيا ولا آخرة، ولا مفرَّ له من الله العليّ القدير.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرّحيم.
اللهم اجعلنا في مأمنٍ من عندك من الضّلال وسيطرة الهوى، ومتابعة الشَّهوات، وخسارة العقل والدّين، واقبلنا في درعك الحصينة وحِماك المنيع يا قويّ يا عزيز، يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرًا عزيزًا مبينًا ثابتًا دائمًا قائمًا.
أما بعد أيها الأحبّة في الله فإلى أكثر من عنوان:

النبوّة الخاتمة:

بنبوة محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله اختُتِمت النبوات الصادقة، وبرسالته اختُتِمت الرّسالات السماوية، وبآخر كلمة تنزّلت عليه من كلمات الوحي الإلهي انقطع الوحي، وبالكتاب الكريم الذي أتحفت به الألطاف الإلاهية البشرية عن طريقه تمّت الكتب المنزّلة لهداية النّاس، ولم يبقَ للأرض من بعد ذلك إلّا الإمامة المعصومة على مستوى العلم والعمل التي تُمثِّل الضمانة الوحيدة لاستيعاب علمِ الكتاب والسّنة وحفظه، والذي ما ضاع منه شيء إلا وافتقر إليه الإنسان، والحركة الرشيدة في الأرض، واستقامة أوضاع الحياة، وانشداد التاريخ إلى هدايات السّماء، والغاية التي من أجلها خُلِق النّاس.
رسالة الإسلام، والكتاب الكريم، وشخصية الرّسول صلَّى الله عليه وآله السّاطعة المشعّة، وجهاه المستميت، وكفاحه الدؤوب، وحكمته العالية، ودوره الكبير الصّبور الرّائع المعجز في التبليغ، والدّعوة، والتربية؛ كلُّ ذلك أحدث انقلابًا هائلًا داخل الإنسان، وزلزالًا عنيفًا في حياة الجاهلية، وطوى صفحة سوداء قاتمة، وحقبة مقيتة شديدة الظّلام من تاريخ الأرض، وفتح صفحةً مشرقة مضيئة، فأعطى للإنسان حياة جديدة راقية على مستوى إنسانيّته في كلِّ أبعادها الكريمة، وأوضاع خارجه، وارتقى به مُرتقى عظيمًا، وأبلغه قِمّةً شاهقة في الفكر، والشعور، والعمل على خطّ الرؤية الكونية الحقّة الواضحة، والكمال المفتوح، والهدف الأسمى للحياة.
وكان كلُّ ذلك معرّضًا للضّياع بعد رحيله إلى جوار ربّه الكريم لو لم تتوفّر الضمانة لفهم الكتاب والسنة الفهم الصّحيح المعصوم الذي يمثل حجة قاطعة، وهُدىً تامًّا، ومرجعًا لا يُختلف عليه، ولا يُعارض بالأفهام الاجتهادية التي تُخطئ وتُصيب، وتقترب وتبتعد من المراد، ولو لم تُوجد الشّخصية المؤهلة لقيادة المسيرة بما لا يترك فراغًا هائلًا في غياب الشّخصية الأولى مرتبةً في الإسلام، وينزل بالدّين من أُفقه البعيد في رؤيته، وغايته، وهداه، وأخلاقه، ومنهجه إلى رؤى أرضية متضاربة، وغايات شخصيّة متعارِضة، وضبابية فكر وشعور، وأخلاق مريضة، ومنهج مضطرب.

السّياسة المشكل:
السياسة التي تحكم بلدًا يُصِرّ على الإيمان، وتُصرّ على ألا تبقى للدين فيه كلمة لابد أن تخلق مشكلة عميقة بينها وبين واقع البلد.
والسياسة التي تحكم شعبًا يعتزّ بحرّيته، ولا يرضى أن يعيش مسترَقًّا وهي تصرّ على أن لا تُبقي متنفسًّا للحرية لهذا الشعب، وتصرّ على استعباده لابد أن تُحدث صراعًا دائمًا مع هذا الشعب.
والسياسة التي تُصرّ على أن تستأثر بكلّ شيء من دنيا النّاس، وتُضايقهم حتى في اللقمة، وما تضطرهم إليه ضرورات الحياة لابدَّ أن تدخل في صراع مستمر مع من تحكم.
والسّياسة التي تُجابه شكوى الظلم من شعب تحكمه بالعنف والقسوة والقوّة المفرطة لابدَّ أن تكون الفاصلة بينها وبين الشّعب واسعة، وتُعمّق الإحساس بالغبن والجور في ضمير الشعب.
والسياسة التي تُهين إنسانية الإنسان، وتعتدي على شرف المرأة لا يمكن أن يُصدِّق بشعاراتها الرنّانة في هذا المجال رجل ولا مرأة.
السياسة التي تُخلف وعدها المرَّة بعد المرَّة لابد أن تُسقِط الثِّقة بها في نفس الشعب، ولا يُؤخذ بشيء من وعودها.
فهل تُدرك السياسة كلَّ هذا وتتعمده؟!
أن تجهله غرابتُه شديدة، وأن تتعمّده غرابته أشد لأنه لا يُضرّ بالشعب وحده.
ضرره بالغ بالشّعب، وبها، وبالأرض التي تُقيم حكمها عليها.
سياسة من هذا النوع وهذا قصدها مَحرقة لكلِّ شيء، وشقاء دائم لكل الأطراف.
ما الحل؟ ماذا يُنهي صراعًا يقوم على هذه الخلفية الصَّعبة؟ على هذه المفارقة الشاسعة؟
هناك صورة للحل تُنقذ الجميع، وتؤتي ثمارًا طيّبة فضلًا عن إنهائها للصراع المرير. ذلك أن تعدل السياسة كلّيًا عن خطّها المعادي للشّعب، وتعترف به، وتستند إليه، وتكون إرادتها من إرادته، وهمُّها تحقيق مصالحه.
وكم من سياسة في الدُّنيا اليوم مستعِدّة أن تفعل ذلك؟! لكن لئن ندر هذا الاستعداد حتى كاد يلحق بالعدم فإن مسافة التباعد بين الحكومات والشعوب تتفاوت بتفاوت الحكومات.
وصورة أخرى تُنهي الصراع، ولكنها تتراجع بالمجتمع والوطن إلى غابر التاريخ الأسود، بل إلى مستوى حياة الحيوان، وذلك بأن يتنازل الشعب عن حرّيته وكرامته، وكلّ حقوقه، حتى حقّ اللقمة، ويُسلِّم أمر التصرّف في النفس والمال والحاضر والمصير إلى جهة واحدة معينة اسمها السلطة(20).
بهذا الإقرار لا يبقى موضوع للصّراع لأن الميّت لا يُصارع، ولا يملك لسانًا يُطالب به عن شيء اسمه حقّ، بل إنّه لا يُدرك أنَّ له حقًّا.

لا فصل بين أمرين:
لا فصل اليوم ولا غدًا بين الحراك الشعبي وبقاء الرموز من قادة المعارضة وغيرهم من السجناء السياسيين المشاركين في هذا الحراك بالغ ما بلغوا في سجونهم.
السّجون لن تفرغ ما دام الحراكُ، والمطالبةُ بالحقوق قائمة، فما من سبب للسِّجن إلّا هذه المطالبة التي يُراد لها من قِبَل السلطة أن تختفي ولا يتفوّه بها فم.
والحراك لا يمكن أن يتوقف وواحد من رموز المعارضة وقادتها أو من سائر أبناء جمهورها الشّرفاء مودع في السجن، والمطالبة بالحقوق لا يُمكن أن تكُفّ وواحد من هؤلاء كلّهم فاقد لحرّيته.
إذ كيف تنتهي المطالبة بالحقوق وهؤلاء الأعزّاء في السّجون فاقدون لحرّيتهم، ومطلب الحرية في مقدَّمة المطالب، وحقّ الحرية أول الحقوق؟!(21)
ويوم يعترف للشعب بحقوقه لابد أن تخلو السجون من نزلائها الأحرار الشرفاء الذين ما سلبت حريتهم إلا لاعتزازهم بها، وبحرية الشعب، وإصرارهم عليها، وعلى حريته.
وبقاء حقوق الشعب مهدورة يعني بقاء السّجون مملوءة من أحراره تعبيرًا صارخًا عن هذا الهدر، وامتهان كرامة الإنسان، ومَحْق حريته.
وخروج سجناء الرّأي لا يُدفع ثمنًا للتنازل عن سائر حقوق الشعب، فإنّه الشيء الذي لا يرضاه السُّجناء، ولا يرضاه معهم الشعب.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يُمكن أن يصدُق أنَّ الشعب استردّ حقوقه، والسّجون تمتلئ ببنيه وبناته(22).
وستظلُّ المطالبة بالحقوق وتفريغ السّجون من أبناء الشّعب الأحرار مَشْغَلَةَ هذا الشعب حتّى يتم استنقاذ الحقوق، واسترجاع السّجناء لحريتهم المسلوبة.
أمّا ما يأتي من تصريحات الدّول والمنظمات الحقوقية في مناسبات متعدّدة من كلمات تُدين تصرف السلطة والأحكام الجائرة في حقّ رموز الشّعب وسجناء الرّأي، والتلاعب بقضية حقوق الإنسان، وإدارة الظهر لمسألة الإصلاح فكلُّ ما تعنيه أنَّ الجهات المحايدة وحتى عددًا من الدول الصّديقة للسُّلطة يجبرها الوضع الظّالم الذي يُعاني منه الشعب والمعاملة القاسية التي يُواجَه بها من السلطة على إدانتها ومطالبتها إعلاميًّا بالإصلاح من دون أن يُمثّل ذلك مقدِّمة منتِجة للحلّ إمّا لِأنَّ الجهة المدينة والمطالبة للسلطة بالإصلاح لا تملك أكثر من ضغط الكلمة، أو لِأنَّ لها موقفًا عمليًّا من القضية على خلاف مقتضى الحقّ، ومصلحة الشعب تُمليه مصلحتُها الماديّة الخاصَّة.

أكثر من قانون:
في ظلِّ الواقع القائم في هذا البلد، وحتى يصدق أنَّ الوطن وطن القانون تدعو الحاجة إلى أكثر من قانون، وقانونين في الموضوع الواحد، في الزمان الواحد، في الوطن الواحد، في القضاء الواحد.
ويُمكن أن يكون المبرّر لذلك تفاوتَ الطبقات، وتفاوت الانتماءات، ودرجات الولاء، وحتى صدقِ النية فيه.
لابد من قانون يقول بأنَّ مشاركة في مسيرة أو اعتصام احتجاجيّ سلميّ تستوجب السّجن لعشر سنوات، وأن الدعوة للمطالبة بالحقوق بالأساليب السلمية تصدر من قيادات للمعارضة عقوبتها السجن المؤبّد، أما القتل تحت التعذيب فأقصى عقوبة له السّجن لسبع سنين في نظر قانون آخر(23).
ولابد من قانون يقول بأن شبهة القتل أو ادّعاء القتل قاضية بإعدام المشتَبه فيه أو المدَّعى عليه، وقانون آخر يقول بإطلاق سراح المشتَبه فيه أو من ثبتت إدانته من لجنة تقصّي الحقائق ولا بد من تمتعه بحرّيته، وأنَّ المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وأنَّ عاقبة هذا المشتبه أو المتورّط لابد أن تكون البراءة.
صحيح أننا تضمُّنا جميعًا أرض واحدة، وزمان واحد، والسّلطة واحدة، ولكن بما أننا طبقات تتفاوت شأنًا وقيمة وإنسانية فلا يصحّ أن يحكمنا في الموضوع الواحد، في القضية الواحدة، وفي الحقوق، والواجبات قانون واحد، فالحقّ كلّ الحق أن تتعدّد القوانين التي تحكمنا رغم وحدة المكان والزّمان والسّلطة والموضوع الذي تقضي فيه هذه القوانين(24).
هذا هو منطق الواقع الذي يحكم هذا الوطن؛ والحقّ شيء والواقع شيء آخر، وبهذا الواقع يشقى الوطن.
وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
يا من إليه اللجأ، وعليه المعتمد، ولا مفرّ إلّا إليه، ولا تعويل إلّا عليه، ولا عزّ إلاّ به، ولا نصر إلاّ من عنده إليك لجأُنا، وعليك اعتمادنا. لا نفرّ إلا إليك، ولا نُعوّل إلا عليك، ولا ننتصر إلا بك، ولا نثق إلا فيك يا حنّان يا منّان يا عليّ يا قدير، يا عزيز يا حكيم.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفك أسرانا وسجناءنا، ورد غرباءنا سالمين غانمين في عزّ وكرامة.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون (25).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – الكافي ج1 ص221 ط5.
2 – من لا يحضره الفقيه ج2 ص613.
حفظٌ من الله ويجب على العباد حفظ هذه الأمانة.
3 – 27/ الأنفال.
4 – تفسير القمي ج1 ص272 ط3.
5 – موسوعة معارف الكتاب والسنة ج5 ص66 ط1.
6 – بحار الأنوار ج74 ص166 ط3 المصححة.
7 – 58/ النساء.
8 – 54، 55/ يوسف.
9 – صاحب الكلمة لم يقل لك اكتم عليّ هذه الكلمة، ولكن عرفت من إشارة من الإشارات، من ظرف من الظروف، من سابقة من السوابق أنه يعزّ عليه أن تُفشى الكلمة، لهذا تكون هذه الكلمة أمانة.
10- موسوعة معارف الكتاب والسنة ج5 ص62 ط1.
11- المصدر السابق.
12- الخصال للشيخ الصدوق ص505.
13- موسوعة معارف الكتاب والسنة ج5 ص61 ط1.
14- 25/ القصص.
15- 26/ القصص.
16- قصص الأنبياء للراوندي ص155 ط1.
17 – عيون الحكم والمواعظ ص119 ط1. 18 – سورة العصر.
19 – 46/ فصلت.
20 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
21 – هتاف جموع المصلين (نطالب بالإفراج عن المساجين).
22 – أو أنّ واحدًا من أبناء الشعب يرزح تحت وطأة العبودية.
هتاف جموع المصلين (لن نركع إلا لله).
23 – نحتاج لهذين القانونين حتّى تُفهم فلسفة هذه الأحكام.
24 – نعم، بعد أن صُنِّفنا طبقات لابد أن تتعدد القوانين التي تحكمنا.
هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
25 – 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى