خطبة الجمعة (521) 4 ذو القعدة 1433هـ ـ 21 سبتمبر 2012م

مواضيع الخطبة :

الخطبة الاولى :   الأسرة في الإسلام

الخطبة الثانية : هل من أزمة؟ وما هو واقعها؟

الخطبة الأولى

       الحمد لله الذي ما عَرَفه مَنْ وصفه، وقد جَهِله من أشار إليه، ولا هدًى لمن حدّه، ولا نور لمن جحده، وقد ضلَّ من عصاه.

       هو الإله الحقّ الذي لا خالق، ولا مدبّر، ولا رازق، ولا أمر لأحد دونه، المحيط بكلّ شيء، ولا يحيط به شيء أبدًا، وإليه المنتهى وبيده المصير.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه  وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله لقد أنزل الله دينه نورًا يستضيء به النّاس في كل ّطرق الحياة. وما سَلَكَ أحد طريقًا بلا هدى من رسول باطنٍ وهو العقل الفطريّ الصَّفِيّ، أو رسول ظاهر من حملة وحي الله إلاّ ضلّ، وما ضيّع أحد الطريق القويم، وما انقطع عن الغاية السليمة وهو آخذٌ بهدى الدين، ودلالات الوحي. فمن اتّقى الله، واستمسك بنور دينه أَمِنَ الطريق، وبَلَغَ الغاية، ومن تخلّى عن الدين كان قد تخلَّى عن العقل، وهو بعد ذلك لا يكون إلاَّ من الخاسرين.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم برحمتك اكتبنا من أهل مغفرتك، وبفضلك ومنِّك عاملنا بصفحك وعفوك، وأقِلنا من عثراتنا وزلاتنا، وجنِّبنا أذى الدّنيا والآخرة، واجعلنا في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد.

       أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث يتناول موضوع:

       الأسرة في الإسلام:

       ويأتي هنا في حلقته الأولى:

       لابدَّ للإنسان من مجتمع، ومادّة المجتمع الأفراد، واللِّبنَةُ الأولى في بنائه الأسرة، ومنها منطلقه.

       ومن طبيعة الأسرة تكون طبيعتُه، ومن مستواها وتوجهها يأتي مستواه وتوجُّهُه. وهي التي تُغذِّي مختلف مؤسساته، وتفرض عليها ما تفرضه من عطاءات ونتائج تربيتها، وما عليه واقع العلاقات في داخلها من حسن وقبح، وخير وشر، وصلاح وفساد، وأمانة وخيانة، ومحبّة وبغضاء، وهدى نفس وضلالها، واضطرابها، وتجاذب وتنافر، وصدق وكذب، وجدّية وخمول، وتعاون أو تقاطع.

       منطلق الأسرة:

       منطلق الأسرة زواج رجل بامرأة على بركة الله، وفي ظلّ شريعته العادلة، وآداب دينه المتميّزة، وأجواء المودّة والرَّحمة. ومن عطاءات ذلك الإخلاص، والأخذ بيد الآخر إلى ما هو الأصح والأنفع، والإنقاذ من الضرر، والتفاني في الخدمة، والتعاون في سبيل الخير.

       الرجل في هذه العلاقة ليس حمار طاحونة في نظر المرأة منظوراً إليه بنظرة مادية جشعة استغلالية لا تقدير فيها إلاّ لما يأتي على يديه من حياة مادية مترفة، وإلا سقطت قيمته، والمرأة فيها ليست بضاعة جنس، ولا مقضى شهوة فحسب، ولا وسيلة لترويج البضائع.

       كل منهما إنسان عزيز على صاحبه، كريم شأنُه عنده، عظيم حقّه عليه، مخلص له، حريصٌ على سعادته، باذل جهده للتخفيف عنه، والعمل على راحته.

       بناء علاقة الزواج، هو المنشأ الأول للأسرة الآمنة الكريمة، وأول لَبِنَة يعدّها الإسلام لبناء المجتمع الإسلامي والإنساني القوي الرشيد لا يُقدّم عليه بناء. وإنه لمن البناء الذي يعتزّ به كل الاعتزاز حين يأتي من صنع يديه، وعلى هدى دينه وتربيته. وهذا ما نقرؤه في الحديث عن الرسول صلَّى الله عليه وآله:”ما بُنِيَ بِناءٌ فِي الإِسلامِ أحَبُّ إلَى اللّهِ تَعالى مِنَ التَّزويجِ”([1]).

       والبديل عن الأسرة خسيس رديء معطّل للحياة، باعث على الفوضى، هادم لإنسانية الإنسان، شاغل له عن هدفه، مُوقِع في الاضطراب، مفسد للتربية، محطّم للأجيال، قاطع للعلاقات، سالب لراحة الإنسان.

       البديل أن لا علاقة لرجل بامرأة فينقطع النسل، وتتعطَّل الحياة، وكذا لو التهى كل جنس بجنسه. وفي حال تنفتح المرأة على الرجال تسقط قيمتها الإنسانية، وتكون مفرغ شهوة للسَّاقطين، ومحل تنازع الشهوات وفوضاها، وسبب نزاع واقتتال، ويتسيّب النسل، وتنحدر أخلاقيته، وتضطرب نفسيته، وتتردّى أوضاعه، وتسوءُ إنسانيّته.

       وكما تكون المرأة في هذا الفرض مطمع الشهوات المنفلتة لسفلة الرجال تكون سلعة رخيصة لترويج البضائع([2]).

       وهنا يبرز الفرق الهائل بين تشريعات الدين الحقّ وتشريعات الأرض فيما ينظّم العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة والنظر إلى الأسرة وعلاقاتها.

       أهميَّة تأسيس الأسرة:

       يكشف الحديث المتقدِّم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله مدى الأهمية لبناء الأسرة في الإسلام، والأحاديث في الحث على الزواج بالغة الكثرة، ولا تدع مجالاً للشكّ في الاهتمام الكبير من الإسلام ببناء الأسرة، ويتقدّم القرآنُ السنّة في هذا الحثّ:

       نقرأ قوله تعالى:{وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([3]).

       ومن السنّة المطهّرة نكتفي بالقليل من النصوص البالغة حدّ التواتر في الدفع باتجاه الزواج الصالح.

       عنه صلّى الله عليه وآله:”تُفتَحُ أبوابُ السَّماءِ بِالرَّحمَةِ في أربَعِ مَواضِعَ… وعِندَ النِّكاحِ”([4]).

       “تَزَوَّجوا فَإِنّي مُكاثِرٌ بِكُمُ الاُمَمَ غَدا فِي القِيامَةِ، حَتّى إنَّ السِّقطَ لَيَجيءُ مُحبَنطِئا([5])  عَلى بابِ الجَنَّةِ ، فَيُقالُ لَهُ : اُدخُلِ الجَنَّةَ ، فَيَقولُ : لا ، حَتّى يَدخُلَ أبَوايَ الجَنَّةَ قَبلي”([6]).

       المحبنطئ: المتغضّب المستبطئ للشيء. والمكاثرة المعنية المكاثرة بأهل الجنّة من أمّته صلَّى الله عليه وآله لا بأهل النّار، فأهل الجنّة من هذه الأمة من غرس يده، ومحل فخره واعتزازه.

       “النِّكاحُ سُنَّتي ، فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيسَ مِنّي”([7]).

       وأيُّ مؤمن يسهل عليه ويريحه أن لا يكون من رسول الله صلّى الله عليه وآله، وله طريقة أخرى غيرَ طريقته؟!

       ودعوة الإسلام للأفراد من أمّته للزواج وبناء الخلية الاجتماعية الأولى تُرافقها دعوة أخرى للمجتمع والأمّة بأن تُوليَ اهتمامها لتزويج أبنائها ممن لا ينهض مستواهم المادي بتكاليف الزواج المناسِبة لهم، أو يحتاجون إلى من يُعينهم في الوصول إلى الزّوجة الصالحة أو الزّوج الصالح، ويُدلّل لهم صعاب الطريق على هذا الأمر ممن يمكنه ذلك.

       وهذه الدعوة تحملها الآية الكريمة:{وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

       والأيّم في الأصل التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا مطلقة كانت أو متوفى عنها.

       ويُطلق لقط الأيم على الذكر كذلك كما يذكر صاحب الأمثل.

       وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”تَزَوَّجوا وزَوِّجوا، ألا فَمِن حَظِّ امرِىً مُسلِمٍ إنفاقُ قيمَةِ أيِّمَةٍ([8])، وما مِن شَيءٍ أحَبَّ إلَى اللّهِ عز و جل مِن بَيتٍ يُعمَرُ فِي الإِسلامِ بِالنِّكاحِ”([9]).

       وعنه صلّى الله عليه وآله:”مَن أنكَحَ عَبدا للّهِِ، وَضَعَ اللّهُ عَلى رَأسِهِ تاجَ المُلكِ”([10]).

       وعن الإمام الصادق عليه السلام:”مَن زَوَّجَ أعزَبا، كانَ مِمَّن يَنظُرُ اللّهُ عز و جل إلَيهِ يَومَ القِيامَةِ”([11]).

       وخيار العزوبة للقادر على الزواج خيار يواجهه الإسلام ويخطئه.

       عن الرسول صلّى الله عليه وآله:”رُذالُ مَوتاكُمُ العُزّابُ”([12]) والرذالة دونية وخسّة.

       وعن الإمام الكاظم عليه السلام:”جاءَ رَجُلٌ إلى أبي جَعفَرٍ عليه السلام فَقالَ أبي([13]): هَل لَكَ مِن زَوجَةٍ؟ قالَ: لا، قالَ: ما اُحِبُّ أنَّ لِيَ الدُّنيا وما فيها وأنّي أبيتُ لَيلَةً لَيسَ لي زَوجَةٌ”([14]).

       والعزوبة لا تضرّ بمن وقع تحت طائلتها من ذكور وإناث دون غيرهم، فإنها إذا ما أخذت حجم الظاهرة في مجتمعٍ من المجتمعات كانت سبباً في الفتك بأخلاقه خاصة في وسط الأجواء التربوية الهابطة ووسائلها المتردية، ومنطلقاً للأمراض النفسية والجسمية، والتصرفات العدوانية، وانتفاض حالة الأمن على الأعراض، والتصادمات الاجتماعية الحادّة.

       ومن هنا كان على المجتمع الذي يريد أن يحتميَ من كل هذه الآثار أن يسعى جاهداً للتخلّص من واقع العزوبة في وجوده، ويبذل ما في وسعه لتزويج كلِّ أبنائه وبناته.

       اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم اهدنا سبيلك، واجعلنا ممن لا يستبدل في شيء عن دينك، ولا يختار على سنة نبيك، ولا يشذّ عن طريق أوليائك، واجعلنا للخير أهلاً، وبرّئنا من كل شر، وأخرجنا من كل سوء يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}([15]).

الخطبة الثانية

       الحمد لله شاهد كلّ نجوى، ومنتهى كلّ شكوى، ملجأ المضطرين، قاضي حوائج المحتاجين، صريخ المستصرخين، غياث المستغيثين، ناصر المظلومين، المنتقم من الظالمين.

       أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا كثيرًا.

       عباد الله ما كان لعاقل أن يغفُل أمر الآخرة، ولا يعيرَها شيئًا من اهتمامه مخدوعًا بأمر الدنيا، مشغولًا بهمّها.

       كيف وهو يعلم أن يومًا من أيام هذه الحياة لا يمرّ إلا وقد ضمّت المقابر أفواجًا من النّاس ممن أمسوا ولم يصبحوا، أو أصبحوا ولم يُمسوا، وممن كان ليلهم أُنسًا، ونهارهم من أهلهم عليهم نياحاً، وضوء نهارهم حيوية ونشاطاً فلاقوا ظلمة القبر قبل ظلمة الليل.

       أحياة هذه مفاجآتها تركن إليها النفس، ويهدأ القلب، وتُعلَّق عليها الآمال، وينصرف العاقل بكل همِّه إليها؟

       أين العقول المدرِكة؟! أين القلوب الواعية؟! أين النفوس النابهة؟! أين أهل البصائر؟!

       التقوى التقوى إخوة الإيمان قبل أن يفوتنا الأوان.

       اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

      

       اللهم إنّه لا هدى لأحدٍ إلاّ منك، ولا رشد إلا من عندك، ولا ذكر إلا بك، ولا خير ولا صلاح إلاّ بتوفيقك فاعط سائليك ممن لا يملك مما تملك، يا من لا ينقصه العطاء، ولا يُخيّب ممن أمَّه الرّجاء، يا خير المعطين.

       اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأمنائك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.

عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً دائماً قائماً.

       أما بعد أيها الأحبة في الله فإلى هذا الحديث:

       هل من أزمة([16])؟ وما هو واقعها؟

       كان يتكرّر على لسان السلطة أنْ لا أزمة في البحرين، وأنَّ كل شيء على ما يرام عدا أنّ شرذمة مارقة خائنة جاهلة تحاول أن تُبرِز أنّ هنا مشكلة ولكن صوتها خافت ولا ينبغي أن يُعار من الخارج بشيء من الاهتمام وهي منبوذة شعبيًّا ومرفوضة من جماهير هذا الوطن. كان يُقال هذا والجماهير تتدفّق بعشرات الآلاف ومئات الآلاف في احتجاجاتها المدوّية، والصرخات تنطلق من حناجر هذه الجماهير لتبلغ عنان السماء مطالبة بحقوقها المسلوبة وموقعها المغيَّب.

       ولا أجزم أنّ السلطة يئست من أن يُصدّق أحد في هذا العالم المكشوف بكل بقاعه لمن على وجه الأرض بشيء من هذا الزيف أم بعدُ لم تيأس.

       لكنّ التركيز الآن عند الإعلام الرسمي، وعلى لسان المسؤولين على أن الأزمة ليست أزمة في العلاقة بين الشعب والسلطة، وإنما هي أزمة علاقة متوترة بين مكوِّنين رئيسين في هذا البلد، وهي كذلك أزمة بين هذا المكوّن بعينه وبين الأقليات من بقية المواطنين، ومع المقيمين والعمالة المستوردة.

       فالأزمة في حقيقتها ذات منشأ محدّد يتمثل في هذا المكوّن الشّرير الذي لا يُدرى كيف يُتخلّص منه، أو كيف تقنعه السلطة بأن يصبر على التهميش والإقصاء والتضييق والانتهاك والتمييز والتنكيل الذي تُمارسه في حقّه من غير أن ينبس ببنت شِفه.

       هذا المكوّن الشرير الذي يُعادي كل من على هذه الأرض من مواطن ومقيم، ولا يضمر لأحد إلا سوءًا، ولا يبتغي إلا الشر في الأرض.

       لكنَّ هذا المكوّن ما أسرع ما كان منه بعد عذاباته المتكرِّرة على يد السلطة أن استرضته سابقًا دعوى الإصلاح وتباشيرُه التي لم تثبت مع الزمن وخالف ظاهرها مرور الأيام.

       ما بدأت تلك التباشير إلاّ وأعطت نخب هذا المكوّن وجماهيره البرهان القاطع على التفافها بدعوى الإصلاح، والتأييد المنقطع النظير لرافعي رايتها.

       وكان الاستقبال الجماهيري والنخبوي للدعوى ورجالها والاحتفاء والتكريم فوق كلِّ ما كان من حساب.

       وهذا كافٍ لرد كل المقولات المهترئة من هذا النوع مما تردده السلطة وتريد أن تُرسِّخ الفهم الظالم المكذوب في نفوس كل مواطن ومقيم آخر، وتقنع به الخارج من أن هنا مكوّنا شريرا هو مبعث الفساد في أرض البحرين.

       هذا المكوّن وهو أصيل كل الأصالة في وجوده، وفي وطنيته، وإخلاصه لدينه، وانسجامه مع إنسانيته، وانفتاحه على الآخر وحبّه وأخلاقيته لم يُعرف منه إلا الوفاء لتراب الوطن، والحرص على الوحدة الوطنية، واحترام حقوق الإنسان، والذوبان في الدين.

       الأزمة في البحرين كانت سياسية وستبقى سياسية ما دامت السلطة تصرُّ على سلب الشعب كل الشعب حقّه الطبيعي في اختيار طريقه، وتقرير مصيره، وتمنعه الإصلاح الحقيقي الذي يُطالب به، ولا يُنكره عليه منصف في الأرض، ويُؤيده فيه الضمير الإنساني، والفهم الحقوقي العالمي، وموازين العدل والحق، ولا تستطيع السلطة نفسها أن تجاهر صراحة بأنه ليس من حقه.

       الأزمة سياسية من قبل ومن بعد والخلاف بين السلطة والشعب وليس بين أي طرفين آخرين.

       شاهد ذلك أنَّ الأزمة بدأت وما انطفأ أوراها منذ إلغاء المجلس الوطني الأول، وأن آخر قفزاتها بدايته ليس الرابع عشر من فبراير وإن زاد ذلك من حرارة أجوائها، وإنما بدايته يوم ولادة الدستور الذي فرض على الشعب فرضًا وألغى إرادته، وعرف الشعب حينئذ أن لا إصلاح وقد غُيّبت منه الإرادة في وضع هذا الدستور، وفي تحديد مسار حياته.    هل كان هذا الحراك الجماهيري([17]) مسبوقًا بخلفية تتناسب مع كونه من الصراع بين مكوِّنين لهذا الشعب؟([18])

       نطرح هذه الأسئلة: هل كان الحراك مسبوقًا باقتتال بين المكونين؟ بحدث كبير مفاجئ أفسد العلاقة بينهما؟ بسطوٍ من مكوّن على آخر؟!([19]) هل كان من نهب مال؟! اعتداء على عرض من أحد الطائفتين على طائفة أخرى؟!

       إنَّ شيئًا من ذلك لم يكن على الإطلاق.

       خلفية الحراك واضحة جدًّا؛ خلاف على الدستور، رفضٌ لإلغاء إرادة الشعب، الاستئثار بالثروة، بالأرض، التحكم في كل مقدُرات ومقدّرات الناس بلا حساب، تفاقم الفساد السياسي والاقتصادي والثقافي والديني ومصادرة الحريات إلى الحد الذي لا يُحتمل.

       إذا كان من شيطان أرضيّ خاص بالبحرين فليس هو هذا المكوّن أو ذاك المكوّن من مكوّنات الشعب، ولا مصدر للشر على هذه الأرض على المستوى البشري وبصورة رئيسة([20]) إلا نمطُ السياسة الذي تتّبعه السلطة في تعاملها مع كلّ مكوّنات الشعب بعد أن كانت إرادة هذه المكوّنات كلّها في قيمة الصفر في نظرها ما لم توافق إرادتها وتستجب لها في كل ما تذهب إليه وإن كان أبشع الظلم، وأبشع الاستخفاف بقيمة الإنسان.

       إصلاح خلف الستار:

       كثيرًا ما تدعي الحكومة أنَّ عندها خطوات إصلاحية، وأنها أنجزت الكثير من التوصيات الحقوقية لتقرير بسيوني. لكن أين هذه الإصلاحات والإنجازات التي لا تُرى، ولا تُلمس، ولا تُذاق، ولا تُشم، ولا يصل إليها عقل، ولا أثر لها على الأرض، ولا شاهد عليها من واقع؟!

       ما يُشاهد على أرض الواقع ضحايا شوزن وغازات خانقة من قتلى وجرحى ومعوَّقين وجوٌّ أمني مفزع، وملاحقات واقتحامات بيوت ونقاط تفتيش ومحاكمات، وأحكام مشدّدة، ومنع للمسيرات والاعتصامات ومعاقبة عليها.

       فإذا كانت هناك إصلاحات وإنجازات فذلك ما يختص به علم الحكومة وحدها، ولا بد أن يكون من وراء ستار بحيث لا يراه ولا يلمسه الآخرون.

       إذا كان ملف المفصولين لا زال محل بحث وأخذ ورد، وهو أول الملفات الذي قالت الحكومة أنها تعمل على إنهائه، وتكرّر منها ضرب موعد محدد للتخلص منه فما بال الملفات الأخرى؟!

       تقول السلطة بأنها تُدرِّب جهازها الأمني على مراعاة حقوق الإنسان، وحفظ النفس، واحترامُ حقّ الحياة في مقدمة حقوق الإنسان وسقوط الضحايا والقتل على يد قوات الأمن لا زال في استمرار.

       نحن لا ندري أنَّ التدريب على مراعاة حقوق الإنسان أو على كيفية الممارسة المطلوبة مع التحايل الفني للتخلص من ملاحقة القانون كما في التعذيب بعيدًا عن مراكز التحقيق، ولا ندري لماذا تدريب الأجهزة الأمنية على حقوق الإنسان… قضاؤكم لا يخطئ.. كل أجهزتكم لا تخطئ… كل مسؤوليكم لا يخطئون.. قوانينكم غير قابلة للمؤاخذة… سياستكم فوق كل نقد… هذا ما يُفهم من إعلامكم فلا موضوع على هذا للتدريب ولا موضوع لتصحيح ولا تغيير ولا تبديل في سياستكم([21]).

       تبقى البلاد رغم كل الدعاوى العريضة التي لا واقع لها على الأرض، وبغض النظر عن الردود محتاجة إلى حلٍّ سياسي عادل طال انتظاره، ولا مخرج من الأزمة من دونه، والسلطة فضلا عن الشعب مدركة تماماً لهذا الأمر([22])، وعليها أن تدرك بأن الشعب لا مرد له عنه.

       اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

       اللهم أصلح شأننا كلّه للدنيا والآخرة، وافعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله يا عفوّ، يا غفور، يا كريم.

       اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، واشف جرحانا ومرضانا، وفك أسرانا وسجناءنا، ورد غرباءنا سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}([23]).

[1]– من لا يحضره الفقيه ج3 ص383 ط2.

[2]– كما في الغرب، وكما في الشرق اليوم.

[3]– 32/ النور.

[4]– بحار الأنوار ج100 ص221 ط3 المصححة.

وقد جاءت كلمة (تفتح) في الحديث في موسوعة معارف الكتاب والسنة بـ(تُفتح)، وفي بحار الأنوار بـ(يفتح). علماً بأنَّ المصدرين المذكورين اعتمدا في نقل الخبر الشريف عن كتاب جامع الأخبار.

[5]– المُحبَنطِئ : المُتَغضِّب المستبطئ للشيء (النهاية : ج ۱ص ۳۳۱ «حبنط»).

[6]– من لا يحضره الفقيه ج3 ص383 ط2.

[7]– موسوعة معارف الكتاب والسنة ج2 ص266 ط1.

[8]– الأيِّم في الأصل : التي لا زوجَ لها ، بِكرا كانت أو ثَيِّبا ، مطلَّقةً كانت أو متوفّى عنها (النهاية : ج ۱ص ۸۵ «أيم») .

[9]– الكافي ج5 ص328 ط3.

وهنا زوّجوا ليس بمعنى إعطاء المال فقط، وإنما اعملوا على تزويج الآخرين بكل الوسائل الممكنة.

[10]– كنز العمال ج15 ص850.

حين تُزوّجوا فقيراً محتاجا للزواج حسب الحديث يضع الله على رأسك تاج الملك، وهذا التاج في يوم القيامة، هذا الوضع للتاج على رأس هذا العبد إنما هو يوم القيامة.

[11]– الكافي ج5 ص331 ط3.

[12]– بحار الأنوار ج100 ص220 ط3 المصححة.

[13]– أي قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام الذي هو أبو الإمام الكاظم عليه السلام.

[14]– موسوعة معارف الكتاب والسنة ج2 ص273 ط1.

[15]– سورة التوحيد.

[16]– هنا في البحرين.

[17]– من 14 فبراير.

[18]– الصراع بين مكوّنين بين هذا الشعب يحتاج إلى خلفية تتناسب مع كونه كذلك، دعنا نبحث عن هذه الخلفية، هل كانت هناك خلفية على أرض البحرين تفرز صراعا بين المكونين، أو أن الخلفية لا تصلح إلا للخلاف بين الشعب وبين الحكومة؟

[19]– بحدث مذهبي يؤجّج النار بينهما؟! هل كان شيء من ذلك؟! لا شيء من ذلك على الإطلاق. فمن أين نشأ منذ 14 فبراير صراع بين مكونين؟ وراءه أي خلفية، أي سبب، بم يُعلّل؟ لِمَ هذا الكذب؟ لِمَ هذا الزيف؟ لِمَ هذا التحريف؟

[20]– بعد تجاوز الشيطان الرجيم الأول.

[21]– متى كانت سياستكم غير معصومة في الإعلام، وعلى ألسنتكم؟! ومتى اعترفتم أن لكم خطئا يمكن أن يُنتقد؟! أليس كل منتقد مآله السجن والعقوبة؟ فلماذا جاء اليوم هذا التدريب؟!

[22]– وأن لابد من حلّ سياسي، كلّ ما هناك تسويف، التفاف، دوران، مغالطة، تطويل أمد.

[23]– 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى