خطبة الجمعة (508) 1 شعبان 1433هـ ـ 22 يونيو 2012م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: الزنا … فاحشة عظيمة

الخطبة الثانية: الشأن المحلّي العام – الحكم نوعان – الإصلاح والمصالحة 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يجاري وجودُ المخلوقات وجوده، ولا حياتُها حياته، ولا يشبه علمها علمه، ولا تقترب قدرتُها من قدرته، ولا إحاطة لها كإحاطته. لها المحدودية والنقص والعجز والافتقار، وله الكمال المطلق الذي لا يُنال.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله من لم يرَ الله عليه رقيباً فليبكِ نفسه لموت قلبه، فالمرء بعد موت قلبه أخسّ موجود، ولا ينتظره إلاّ سوء المصير. ومَنْ رأى الله عليه رقيباً فليتّق الله، وإلاّ استهان برقابة مَنْ كلُّ السَّفه، وكلّ الجنون في الاستهانة برقابته.
وكيف يستهين عاقل راشد برقابة من يتنزّل عليه منه وجودُه، ويتلقّى من فيضه حياتَه، بمن يمتلك عليه كلّ ذرة من كيانه، وكلّ شيء من ذاته؟!
ومن راقب الله سبحانه لشعوره برقابته لم يخالفه في نيّة، أو ترك، أو فعل، وحَمَلَ نفسه على أن يكون كما يريد له خالقه ومالكه.
ولا يحدث شيء من مخالفة العبد لله سبحانه بعد معرفته وهو على ذكر منه، ومن رقابته.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنه لا حول ولا قوة إلا بك فارزقنا الهدى، وجنّبنا الضلال، وأحضرنا ذكرك، وذكّرنا رقابتك، واملأ قلوبنا من خشيتك، وصيّرنا في طاعتك، وألهمنا حمدك وشكرك يا متفضِّل، يا محسن، يا كريم، يا رحيم.
أمّا بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث تحت عنوان:

الزنا.. فاحشة عظيمة:

أراد الله عزّ وجلّ لعبده أن تطهُرَ روحه، ويزكوَ قلبه، وتنقى نفسه فأحلّ له الطيّبات، وحرّم عليه الخبائث، وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ(1) وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}(2).
وما كان لنفس أن تطهُر، ولذات أن تزكو وهي تأتي فاحشة، وتعانق قبيحاً، وتقترف سوءاً؛ إذ طُهْرُ كلِّ نفس، وزكاتُها، وسموُّها بتوجهها لله سبحانه، وسيرها إليه، وكلُّ فحشاء، وكل قبيح، وكل سوء يأخذ بالنفس إلى الانحدار. وحاشا أن يكون هذا طريقاً إلى الله تقدّس الله وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً(3). الفواحش والقبائح والموبقات تكدّر النفس، وتلوثها، وتراكم فيها الظلمات.
فمن أعطى لهواه أن يأخذ به في هذا الطريق فقد بنى على الإدبار عن الله، وتولّي الشيطان، واختار عن الإيمان طريقاً آخر وإن عُدّ في النّاس لظاهرٍ كاذب من المؤمنين.
والزّنا من بين ما يبعد بصاحبه عن الله عز وجل بُعداً بعيداً، وينأى به أيَّ نأي عن الدِّين، ويُحدِثُ له منه غربةً أيَّ غربة في النفس.
وقد سُمِّيَّ الزّنا فاحشة لشدّة قبحه، وما كان كذلك فهو أبعد ما يكون عن الدّين الذي لا مكان فيه لأي درجة من القبح، ومرتكبه تشطّ به المسافة وتنأى به عن دين الله.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً}(4).
وعن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} يقول: معصيةً: ومقتاً فإن الله يَمقتُه(5) ويُبغِضُه، قال(6) {وَسَاء سَبِيلاً} هو أشد النّاس عذاباً، والزنا من أكبر الكبائر”(7).
وعن الرسول صلّى الله عليه وآله:”لن يعمل ابن آدم عملاً أعظمَ من رجل قتل نبيّاً أو إماماً، أو هدم الكعبة التي جعلها الله عزّ وجلّ قبلة لعباده، أو أفرغ ماءه في امرأة حراماً”(8).
يُلاحظ أن الحديث الشريف لم يجعل فاحشة الزنا من وزن قتل مؤمن من سائر المؤمنين، أو هدم مسجد من سائر المساجد، وإنما من وزن قتل نبيّ أو إمام، وهدم الكعبة المقدّمة على كل المساجد، والأماكن المقدسة وهي قبلة كل المسلمين(9).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”إنّ أشدّ النَّاس عذاباً يوم القيامة رجل أقرَّ نطفته في رحم تحرُمُ عليه”(10).
والزنا جريمة رجل وامرأة لا يَحطُّ من وزر أحدهما شيئاً وزرُ الآخر، ولا يُخفّفُ من عذابه ما ينال صاحبَه من عذاب.
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”اشتدّ غضب الله عزّ وجلّ على امرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها أو غير ذي محرَم منها، فإنّها إن فعلت ذلك أحبط الله كل عمل عملته(11)، فإن أوطأت فراشه غيره(12) كان حقّاً على الله أن يُحرقها بالنّار بعد أن يعذّبها في قبرها”(13).
تخسر ما عملته من عمل صالح بملأ عينها من غير زوجها وغير ذي محرم منها كأب وأخ وولد. أمّا إذا مكّنت من نفسها فعذابٌ في القبر، وإحراقٌ في النّار.
وفي حدّ الزنا دنيويّاً إذا ثبت بمثبته الشرعي تقول الآية الكريمة {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}(14).
وتصل عقوبة الزّنا في بعض الحالات إلى الجمع بين الجلد والرّجم.
ومن تغليظ عقوبة هذا الفعل الهدّام في كلٍّ من الدّنيا والآخرة في حكم الله الرّحمان الرّحيم بعباده، العليم الذي لا يجهل، الحكيم الذي لا يضِلّ تعرف مدى بشاعته، وسوئه، وإسقاطه لقيمة الإنسان.
عَظُم الذنب في علم الله الذي لا يخطئ، فاشتد غضبه وهو الحليم، وأغلظ العقوبة غير ظالم، وهو العدل الذي لا يجور(15).
أيعرف مؤمنٌ أو مؤمنةٌ عِظَم هذا الذنب، وشديد غضب الله عليه، والعقوبة الدنيوية المغلّظة التي ارتضاها العدل الإلهي لمرتكبه، وعذاب القبر، والإحراقَ بالنّار، والخلود فيها ثم يُقدم عليه مستخفّاً بشأن ربّه ووعيده، غير آبه بما ينتظره؟!!
لا يكون ذلك أبداً مع حضور عقل، وحضور إيمان. وكيف يعاود مؤمن أو مؤمنة هذه الفاحشة المقيتة مرة بعد أخرى وهو على شيء من فاعلية عقل وإيمان؟!
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”يا عليّ في الزّنا ستّ خصال: ثلاث منها في الدنيا، وثلاث في الآخرة، فأمّا التي في الدنيا فيذهب بالبهاء، ويعجّل الفناء، ويقطع الرزق(16)، وأمّا التي في الآخرة فسوء الحساب، وسخط الرَّحمن، والخلود في النّار”(17).
وعنه صلَّى الله عليه وآله:”أربع لا تدخل بيتاً واحدةٌ منهن إلا خرِب، ولم يعمُر بالبركة: الخيانةُ، والسرقة، وشرب الخمر، والزّنا”(18).
وللزنا آثار اجتماعية مدمّرة، وفيه ظلم كبير للنسل، وحطٌّ من قيمة المرأة بتحويلها إلى سلعة رخيصة، ومقضى لشهوة، ومفرَغ لفسق الرجل وفجوره.
ومن آثاره كما في الأحاديث عن المعصومين عليهم السلام ظهور الزّلازل، وكثرة موت الفجأة.
عن الباقر عليه السلام:”وجدنا في كتاب عليّ عليه السلام: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إذا كثر الزّنا كثر موت الفجأة”(19).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”إذا فشا الزّنا ظهرت الزلزال”(20).
ويبدأ الزنا من النظرة المحرّمة وتبادلها، ومن الخلوة وإغرائها، والكلمة المثيرة وسحرها، والإشارة الخادعة ونفوذها… من أجواء ملهية، ماجنة وانفتاح في التعامل بين الرجل والمرأة يتجاوز ما حدّه الله من حدود، وما فرضه من قيود لضبط علاقة ما بين الذكر والأنثى.
فمن كان له حاجز من إيمان، ورادعٌ من خوف الله سبحانه عن هذه الموبقة فليجتنب مقدِّماتها، ولا يسلك لها السبيل تحت أيّ عنوان من العناوين، وإلا قد اختار لنفسه الوقوع في واحد من أكبر المحاذير التي تعصف بالإيمان، وتُغضب الربّ، وتقتل النفس، وتسقط القيمة، وتفسد المجتمع، وتسيء للنسل، وتُخلِدُ في النّار.
أول الإقدام على الفاحشة دخولُ مقدّماتها، وارتيادُ الأجواء المؤدّية إليها.
أعاذ الله المؤمنين والمؤمنات جميعاً من كل الفحشاء والمنكر والسوء مما فيه غضب الرحمان، واستحقاق النّار.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم إنا نعوذ بك من هوى النفس، وإضلال الشيطان، وأن نُغلب على شيء من دينك، ونسقط في معاصيك يا رحمان، يا رحيم، يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(21).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يعلو علوّه شيء، و لا يقرُب قربَه شيء، استعلاؤه لا يباعده عن شيء من خلقه إذ وسع كلَّ خلقه قدرة وعلماً ورحمة، وقربُه ليس قربَ مكان ولا شأن. ليس لعقلٍ أن يُدرك كنهه، أو ينكرَ وجوده وعظمته، وحقّ عبادته، والخضوع لطاعته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
عباد الله ما استمسك مستمسك بخير من التقوى، فتقوى الله خيرٌ بلا شر، وقوّة بلا ضعف، ونور بلا ظلام، وهدى بلا ضلال، وصلاح بلا فساد. وأساس التقوى الحقّ معرفةٌ صحيحة بالله سبحانه، وفهم صائب لدينه. وكلّ خطأ للعبد في معرفة الله، وكلُّ سوء فهم لشيء من دينه يوقع فيما يخالف التقوى، ويُفسِد معناها، ويسيء لها، ويخرجها من النفع إلى الضرر، ومما يقرِّب إلى الله إلى ما يبعّد منه، ومما يقوم به أمر الدنيا والآخرة إلى ما يهدمه. إنه لا تقوى نافعةً بلا علم، ولا نفعَ لعلم بلا تقوى. فليطلب المؤمن العلم الذي تصحّ به التقوى، والتقوى التي ينفع معها العلم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبد لله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل لنا من تقواك مركباً ننجو به من السّقوط في المنزلقات، ونسلك به إلى الجنّة ورفيع الدرجات، وننال به قربك، والفوزَ بالكرامة لديك يا حنّان، يا منّان، يا رحمان، يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزّكي، والحسين بن علي الشّهيد، وعليّ بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصّادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعليّ بن موسى الرّضا، ومحمد بن علي الجواد، وعليّ بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً دائماً قائماً.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الله فإلى هذا العنوان:

الشأن المحليّ العام:

ويأتي في الكلام تحت هذا العنوان عددٌ من النقاط:
يوم أسودُ للعدالة في البحرين:

هذا هو العنوان الذي اختارته منظمة العفو الدولية لليوم الذي صدرت فيه الأحكام الأخيرة على عدد من الإخوة الأطبّاء المخلصين الشرفاء الذين أخلصوا في وظيفتهم، وتحمّلوا أمانتها بصدق وكفاءة، تلك الأحكامُ التي منها ما وصل إلى السجن لمدة ثلاث سنوات، ولخمس سوات.
لا شك أنه لا يُعرف وجهٌ للعدالة في القضية بعد أن كانت الاعترافات تحت الإكراه، وبعد أن تبخّرت التّهم الكيدية الظالمة باحتلال السلمانية، وحيازة الأسلحة، وتهاوت بقية التهم الفاقدة للموضوعية أصلاً وأساساً.
وماذا بقي من قيمة تصديقية لأيّ اتهام آخر بعد أن تبيّن زيف أوضح تهمتين وأشدّهما انكشافاً حسّياً حسب طبيعتهما لو كانت صادقتين؟! فإذا قامت هاتان التهمتان على الكيدية أساساً وانفضح زيفهما، فكيف يمكن التصديق بما تعسر برهنته من التهم كالتفريق بين المرضى في العلاج؟!
وأمّا مجموعة الواحد والعشرين من المشايخ والرموز السياسيَّة فمأساتهم تجرح كلّ قلب حيّ، وتُدمي الضمير.
قراءة ما نُشر من تصريحاتهم أمام المحكمة عمّا جرى لهم من ألوان التعذيب الجسديّ والنفسي والانتهاكات البشعة التي طالت الدّين والمذهب وأئمة المسلمين من أهل العصمة، وجرحت العِرض، وتجسّدت في تحرّشات وتعدّيات جنسية(22)(23) وأعمال مَهينة تحطّ من كرامة الإنسان مما يُمثل لوناً من الممارسات القذرة التي تكشف عن حالة ما تحت الصفر من الدّين والإنسانية والضمير وأقلّ الأخلاقيات مستوى في حياة الإنسان…. قراءتُهُ تُدين كل محاكمة لهم، وبقاءهم في السجن ليوم واحد، أو أقلّ من يوم، وتُلزِم قانوناً بإنزال العقوبة الصارمة بمرتكبي تلك الممارسات التي يقشعرّ لها الجلد، ويتصدّع القلب، ويحترق الضمير.
وما كان للسجن أن يدخله أحد من أبناء الشعب مدة الحراك الشعبي كلّه باسم مناهضة السلطة ومحاولة إسقاطها(24) لو التزم الحكم بما يقرّره الميثاق، وحتّى الدستور المختلف عليه، وما يدّعيه الحكم نفسه من حريّة التعبير السياسي، ولو لم يكن لأخذ الاعتراف في التوقيف والتحقيق تحت العذاب وجودٌ واعتبارٌ يسوق إلى المحاكمة وإصدار الأحكام القاسية(25).
كلّنا نطالب بإطلاق سراح السجناء من أبناء الحراك الشعبي لأنهم سجناء رأي لا غير، ونطالب بمقاضاة معذّبيهم ومنتهكي حقوق الإنسان الذين مارسوا في حقّهم ألوان التعذيب القاسي، وتجاوزوا كل الحدود في التعامل المُهين مع دينهم وكرامتهم وإنسانيتهم ووطنيتهم، وفي ذلك تعدٍّ فاحش على كل الشعب وكرامته، ومقدّراته.

الحكم نوعان:

تنقسم أنظمة الحكم إلى نوعين، أنظمة لا ترى إلاّ وجودها، ولا تفكّر إلا في بقائها، ولا تستهدف إلا مصلحتها، وهي مستعدّة لأن تضيّق على شعبها، أن تفقر من ترى أن تفقر، أن ترعب من تريد أن ترعب، أن تجهِّل من تختار أن تجهِّل، أن تقتل من تشتهي أن تقتل.
وقدرة الحكومات من ناحية امتلاك القوّة العسكرية، والأجهزة التنفيذية الكافية، والمال المطلوب لكل هذه الإجراءات متوفِّرة وبغزارة، وإذا احتاج الأمر إلى صبغة قانونية شكلية أمكن جدّاً أن توجد المؤسسة التشريعية الطيّعة التي تقدّم قوانين حس الطلب، وعلى مستوى مطاعم الوجبات السريعة… قوانين تحمي كلّ ما يتصل بنظام الحكم، وكلّ مسؤوليه من المساءلة والمحاسبة وأيّ كلمة نقد، أما الشعب فعليه أن يبقى مكشوف الظهر، عُرضة لنقمة القانون الظالم، وأسواط العذاب القاسي(26)، محاسَباً حتى على صرخة التوجّع والاستغاثة.
هذا نوع من أنظمة الحكم، أما النوع الآخر فلا يرى نفسه إلاّ وكيلاً عن الشعب، خادماً له، مسؤوليته الأولى الحفاظُ على مصالح المحكومين، الارتفاعُ بمستوى الإنسان ومستوى الوطن…. لا يرى له أمناً خارج أمن الشعب، ولا مصلحةً تُغاير مصلحته، أو قيمة لوجوده من غير تحقيق أهداف شعبه.
والأوطان الصالحة التي تحظى بهذا النوع من الأنظمة تعيش حالة الانسجام، وتتفرّغ كل الطاقات فيها للبناء الصالح، وتكون متعاونة من أجل قضية الأمن المشترك والمصالح المتّحدة، والأهداف الكريمة.
نحن في البحرين أمام أي نوع من هذين النوعين من الأنظمة؟ السلطة هي التي تجيب على هذا السؤال من خلال سياستها العملية التي لا زالت تقوم على استعداء الشعب، وإذلاله ومعاقبته، وخنق الكلمة المعبِّرة عن رأيه.

الإصلاح والمصالحة:

بين آونة وأخرى ولغرض وآخر يُثار الحديث عن الإصلاح والمصالحة.
والحديث هنا ليس عن قيمة هذا النوع من الإثارة وجدّيته، ومتى يظهر، ومتى يختفي، ويُستبدَل عنه بلغة أخرى على طرف النقيض.
السؤال هنا أيّهما يؤسس للآخر، وينتجه؟ أيهما التابع، وأيهما المتبوع؟
لا شكّ أن الإصلاح يُفضي للصلح، وينهي الخلاف، ويقضي على التوترات، ويعالج النزاع من الأساس. الإصلاح حقٌّ، وفي الحق الحياة، والإصلاح عدل، والبناء في العدل.
أمّا المصالحة فإن كانت تحت رؤوس الحراب، وضغط الفتك، وتغليب الباطل على الحقّ فهي نوع من أنواع الإكراه الذي يعني مشكلة لا صيغةً للحل، ولا طريقاً يفضي إليه.
المصالحة مطلوبة بدرجة عالية لاستقرار المجتمعات، وإنهاء المصادمات، والتفرّغ للسير في طريق البناء الصالح؛ ولكن ما من صلح إلا وهو يحمل في أحشائه بذرة فشله، وأسباب تجدّد الصراع وتفاقمه بقدر ما يحمل في داخله من ميل عن الحقّ، وتثبيت للباطل(27).
وفرق بين صلح لإنهاء مشكلة آنية محدودة تتعلق بحقّ في مال أو قصاص وما إلى ذلك، وبين صلح يتعلق بمسار الحياة العامة لمجتمع من المجتمعات يتصل بكل ما هو دنيا، وبكل ما هو دين، ويتردد الأمر فيه بين أن يأخذ بالحق أو بالباطل، إما أن يؤسس للعدل أو الظلم، إمّا أن يُثبّت مبدأ الإنصاف أو الإجحاف، إمّا أن يعترف بكرامة الجميع، وإنسانية الجميع، وحريّة الجميع، ويلتزم منهج الحياة الصحيح، وإمَّا أن يبخس طرفاً حقّه في الإنسانية والكرامة والحرية والحقوق الوطنية الثابتة لصالح تسيُّد السلطة وطاغوتيتها.
إذا كان الصلح في صورته الأولى قابلاً للتنازل الشخصي من طرف أو أكثر عمّا له في ذمّة الآخر من غير سحق للحقّ والعدل، وفي ذلك إنهاء للمشكلة وسدٌّ لباب الفتنة فإن الصلح في صورته الثانية لا يصح بأي حال من الأحوال أن يكون اعترافاً بالباطل، وترسيخاً له، وجعله هو الصحيح والأصل، وهو القاعدة التي ينطلق منها مسار الحياة.
نعم على الظالم أن يتخلَّى عن ظلمه، على الآخذ ما ليس له أن يتراجع عمّا أخذ، على من يدّعي ما ليس له أن يسحب دعواه.
ولتجرِ محاسبةٌ عادلة بشأن ما للشعب في ذمّة السلطة، وفيما إذا كان للسلطة حق اغتصبه الشعب منها ليؤخذ بالعدل الذي هو الأساس(28).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
(29)اللهم إنّا نعوذ بك من الذنوب التي تمنع إجابتك، اللهم إنّا نعوذ بك من الذنوب التي تمنع رزقك، اللهم إنّا نعوذ بك من الذنوب التي تحلّ النقم.
يا كريم يا جبّار نعوذ بك من أن نخيب، ونحمل ظلماً.
اللهم ارحم شهداءنا وموتانا، وفك أسرانا وسجناءنا، واشف جرحانا ومرضانا، ورد غرباءنا في خير وسلامة وعزّ يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (30).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – هذا هو إسلامكم.
2 – 157/ الأعراف.
3 – الفاحشة تُتّخذ طريقاً إلى الله؟! الفاحشة انحدار.
4 – 32/ الإسراء.
5 – والمقت هو أشد البغض.
6 – أي الإمام الباقر عليه السلام.
7 – بحار الأنوار ج76 ص19 ط2 المصححة.
8 – المصدر السابق ص20.
9 – الأمر عظيم، وعظيم جداً.
10 – المصدر السابق ص26.
11 – تذهب الأعمال الصالحة هباءاً.
12 – والمعني هو أن تزني، وهي ذات بعل، وهو تعبير عن أن تأتي بفاحشة.
13 – بحار الأنوار ج73 ص366 ط2 المصححة.
14 – 2/ النور.
هذا الدين الذي يقرّر هذه العقوبة وينهى عن الرأفة بالزانية والزاني هو دين الرأفة والرحمة. فما أعظم هذا الذنب!
15 – هذه العقوبة لم تصدر من قصور عقلي، من حالة انفعال.
16 – قد يكون رزقه كبيرا جدا فيأتي متوسطا، وقد يكون رزقه متوسطا فيأتي قليلا، وقد يكون رزقه قليلا فيشح أكثر فأكثر.
17 – الخصال للشيخ الصدوق ص321.
18 – الأمالي للشيخ الصدوق ص482 ط1.
19 – بحار الأنوار ج76 ص27 ط2 المصححة.
20 – تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج2 ص148 ط4.
21 – سورة العصر.
22 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
23- لأعمار في الخمسين، في الستين، مع الشرف، وصلة الدين، والعمامة؟!!
هتاف جموع المصلين (فلتسقط الحكومة).
24 – دخل الكثيرون السجن بعنوان أنهم يناهضون السلطة ويحاولون إسقاطها.
25 – لو انتفت هذه الأمور، لو أُخذ بحرية الرأي وانتفى التعذيب لما وجدنا واحدا في السجن من أبناء الحراك الشعبي. هذا هو التقدير، هذا هو الواقع.
26 – هتاف جموع المصلين (هيهات منا الذلة).
27 – الباطل لا يمكن أن يبني.
28 – ولكن أي حق اغتصبه الشعب من السلطة؟! أي حق؟!
29 – هذا دعاء للنبي محمد (ص) تغير هنا من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع، وكذلك الدعاء الثاني للمعصوم عليه السلام حُوِّل لصيغة الجمع بعد أن كان بصيغة المفرد.
30 – 90/ النحل. 

 

زر الذهاب إلى الأعلى