خطبة الجمعة (485) 12 صفر 1433هـ ـ 6 يناير 2012م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: مواصلة موضوع: الظنّ

الخطبة الثانية: عام البداية – البحرين في العام الجديد

الخطبة الأولى

الحمد لله ستّار العيوب، كشَّاف الكروب، مُزيل الهمّ والغمِّ، دافع الضرّ، مغيّر الأحوال، دافع الأهوال، بيده الأمر كلّه، ولا مرجع إلاَّ إليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسّوء بتقوى الله والانبعاث إلى ما بَعَثَ إليه، والامتناع عمَّا مَنَعَ منه، والسَّير في كلِّ الأمور على بصيرة من دينه، وهدى من شريعته، فالغاية الكريمة العالية الرابحة واحدة؛ وهي الغاية التي ارتضاها الله لعباده، والصّراط المستقيم واحد؛ وهو الصراط الذي هدى إليه، ومَنْ عَدَلَ عن الغاية التي ارتضاها الله لا تبقى له غاية إلاّ الشقاء، والمنحرف عن صراطه السويّ لا يُوافي إلاّ الضياع والضلال، وسوء العاقبة.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصدقائنا ومن علّمنا علماً نافعاً في دين أو دنيا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وعموم المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أخلصنا بخالص توحيدك، واجعلنا من أقرب مقرَّبي عبيدك، و{اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}(1).
أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فهذه مواصلة للحديث في موضوع الظن:

تقدّم الحديث في حسن الظن، وسوء الظنّ في التعامل الاجتماعي، وأنّ لكلٍّ منهما موقعه الخاص، وأنْ لو استولى سوء الظن على النفس لأفسدها؛ فهو يفصل عنّا الصديق، ويُضيّع على مَنْ أخذ به كثيراً من العلاقات الودّية النافعة، وقد يُفرّق بين الزوجين، ويُوقِع في ظلم الغير، ويَشغل بال صاحبه، ويزيد من توجّساته وتحسّساته، ويُثقل مشاعره(2).
فمن الضرر البالغ أن تُهمَلَ النفس لسوء ظنّها من غير تمييز بين أسباب الظن، ولسببٍ وغير سبب، وعن طريق عقلائي وغير عقلائي حتّى تكون ضحيَّة لسوء ظنّها، وقد يجرُّ ذلك إلى هلاكها، وتقع في خسارة الدّين مأثومة غير معذورة.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله ما يفيد أنه يُطلبُ للمؤمن أن يسدّ عن نفسه أبواب سوء الظن بأخيه المؤمن ما أمكن، وذلك كما في هذا القول الشريف عنه صلّى الله عليه وآله:”اطلب لأخيك عذراً، فإن لم تجد له عذراً، فالتمس له عذراً”(3) ابحث عن عذر له فإن ظهر لك ما أردت فذلك خير، وإن لم تجد فأبقِ احتمالَ العذر له، ولا تقطع بخطئه ما أمكن.
ومن كان سيئاً في نفسه، شرّيراً في طوّيته كان له من ذلك سبب في سوء الظن بالآخرين قِياساً منه لحالهم على حاله، ولنفسيتهم على نفسيته، وطويتهم على طويته.
عن الإمام علي عليه السلام:”الرجُلُ السَّوءُ لا يظنّ بأحد خيراً؛ لأنه لا يراه إلا بوصف نفسه”(4)، “الشرّير لا يظنّ بأحد خيراً؛ لأنه لا يراه إلا بطبع نفسه”(5).
نفسه الشّريرة مرآته للنظر إلى غيره، ومرآةٌ كَدِرة لا تُري الأشياءَ النقيّة على ما هي عليه من نقاءٍ جذّاب، وصفاء محبّب، ولابد أن تصبغ المرآة الكدرة ما تُريك لما لها من كدورة.
أما المرآة النقية فتُريك الأشياء على ما هي عليه من جمال أخّاذ، أو قبح مكروه.
وهناك أمور يَجني الشخص على نفسه بالدخول فيها لما لها من طبيعة تبعث على سوء الظن بمن أقدم عليها.
نقرأ عن الإمام علي عليه السلام هذه الكلمات الثلاث:
“من وقف نفسه موقف التُّهَمَة فلا يلومن من أساء به الظن”(6) ذلك حيث فتح باب الظن السيء على نفسه.
“من دخل مداخل السوء اتُّهم، من عرّض نفسه للتُّهمة فلا يلومن من أساء به الظن”(7).
“مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار”(8).
فمن كان خيّراً في نفسه لم يشفع له ذلك من سوء الظن به لمجالسة الأشرار.
ولما عليه المجتمع من إيمان وفِسق، وصلاح وفساد، وتقوى وفجور، وفقه وجهالة كان ينبغي أن يُراعى ذلك كله في الأخذ بحسن الظن، أو سوء الظن في التعامل مع الآخرين، ودرجة الترسُّل والاحتراس في بناء العلاقات وترتيب آثارها.
فمع بُعد المجتمعات عن قيم الدين، وخُلُق التقوى، وانشدادها إلى الدنيا وقيمها، لابد أن يشتدَّ الانتباه، ويزيدَ الاحتراس في إقامة العلاقات ومقتضياتها، على خلاف ما لو سادت روح الإيمان، والتقوى، والخشيةُ من الله، وغلب على النّاس العمل الصالح، فإن جوّ الطمأنينة العامّة لابد أن يكون ذا أثر بيّن على مشاعر الأفراد.
ونقرأ هذا المعنى عن أكثر من إمام من الأئمة المعصومين عليهم السلام.
عن علي عليه السلام:”إذا استولى الصلاحُ على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه حوبة(9) فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرَّر”(10) أي أوقع نفسه في الغرر والخطر.
الإمام الكاظم عليه السلام:”إذا كان الجور أغلب من الحقّ لم يحِلَّ لأحد أن يظن بأحد خيراً حتّى يعرف ذلك منه”(11).
الإمام الصادق عليه السلام:”إذا كان الزّمان زمانَ جور، وأهلُه أهل غدر فالطمأنينة إلى كل أحد عجز”(12).
في زمن يغلب فيه الجور، ويكون المتّبع فيه الباطل ظنُّ الخير الذي لا يقوم على معرفة وافية، وتجربة كافية فيه تضييع، وتعريض في موارد مخصوصة لإضرار الدّين، وأذى المؤمنين، وسحق الحقّ، ومساعدةٌ للباطل. وإذا وقع مقدِّمة لمثل هذا لم يحِلّ.
والطمأنينة إلى كل أحد في زمنٍ يكثر فيه الجور، ويتفشّى الغَدْر قصورُ رأي، وعمى بصيرة، وعجزٌ في قراءة الواقع، وفهمِ النّاس.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم نقِّ سرائرنا، وطهِّر قلوبنا، وزكِّ ضمائرنا، وأصدِق ديننا، وأصلح أحوالنا، وأبعدنا عن سيء القول والعمل، وظنّ السوء الذي لا ترضاه، وأقلنا من العثرات، واكفنا الكبوات، ولا تُزِلَّ لنا قدماً يا كريم يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(13).

الخطبة الثانية

الحمد لله المحيي المميت، الرَّافع الخافض، المعزّ المذِلّ، الباسط القابض. لا يدخل تدبيره خلل، ولا فِعْلَه خَطَل، ولا يَمسُّ حكمته نقص، ولا علمه جهل، ولا عدله ظلم، ولا قدرته وهن، والكمال الحقّ له وحده، ولا إله سواه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتّق الله؛ وكيف لا يخشى العبد ربَّه؟! وكيف لا يخاف طرده؟! وأنَّى له أن يستخفّ بوعيده، أو لا يهابَ عذابه؟! وكيف لا يُرعََبُ لعقوبته؟! وكيف لا يطمع طامع في ثواب الله؟! وكيف لا يرغبُ راغب في جنّته، ولا يشتاقُ مشتاق إلى رضوانه؟!.
في تقوى الله لِواذٌ من النَّار، فَلْنَلُذْ بها منها، وهي الطريق إلى الجنّة ورضى الله؛ فلنركب الطريق إلى أغلى أُمْنِيَّةٍ، وأعظم غاية، وأبعد طموح.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد النبي الكريم وآله الطيبين الطاهرين، اللهم صلّ على حبيبك المصطفى الصادق الأمين محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهداة الميامين، الأئمة الطاهرين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، المعادي لأعدائه، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، اللهم انصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا قائما دائما.
اللهم ارزقنا تقواك، ولا تُشقنا بمعصيتك، وهنّئنا بطاعتك. اللهم أرنا الحقّ حقّاً، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، ولقّنا الخير، وجنِّبنا الشر يا محسن يا متفضّل يا كريم يا رحمان يا رحيم.
أما بعد أيها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى عنوانين:

عامُ البداية:

العام 2011م ما هو إلاَّ عامُ البداية للثورات العربيّة في وجه الأنظمة الحاكمة التي ضاقت بها الأمّة ذرعا، بما أوقعتها فيه من مستنقع التبعيّة الذليلة، وسلبتها العزّة، ولقمة العيش، وأذاقتها الهوان.
ثوراتٌ لن تُلقي عصا السير، ولن تتوقّف عن تصاعدها، ولن تستريح حتى تكون الحاكميةُ التي تُؤمِن بها الشعوب، لا الحاكميّة التي تُؤمِّن طاغوتيّة السلاطين.
ذلك لأنها لم تنطلق من فراغ، ولا نظرةٍ سطحيّة، أو حالة انفعالٍ عابر، أو رؤية مُتعجّلة، أو إرادةٍ متلكّئة، أو عزمٍ ضعيف.
وإنه لن تنفع بعد يَقَظةِ الشعوب، وانبعاث إرادتها، والإصرار على استرداد حقوقها، وحريّتها، وكرامتها في إيقاف هذه الثورات أساليب بطشٍ وقمع, ولا حيلةٌ ولا وسيلةٌ ممّا يقع تحت يدِ الباطشين الذين لا يرعون إلّاً ولا ذمّة، ولا يقيمون لإنسانٍ وزناً.
في أقلّ من عام سقطت ثلاثة أنظمة من أعتى الأنظمة العربيّة, وغادر حاكمُ اليمن موقع السلطة مُكرهاً تحت ضغط الشعب الثائر الذي لن تهدأ ثورته حتّى يتمّ له مطلبه في الحريّة والكرامة, ويختارَ نظام الحكمِ الذي يؤمن به من غير هَيْمنَةِ أحدٍ عليه إلا اللهُ تبارَك وتَعالى.
وسيبقى التحرّك الثورُّي زاحفاً للأمام، وعلى مساحة الأمة كلّها، وتتعالى الصرخات، ويستمرّ الزلزالُ حتّى تتحقّق أهداف الشعوب في الحريّة، والكرامة، واسترداد الحقوق, ويُستَجابُ لإرادة الأمة فيما تختار من حُكمٍ وحاكمين.
لم يبقَ صبرٌ للأمّة على الذلّ، والهوانِ، والإقصاءِ، والتحكّمِ، ومصادرةِ الإرادةِ الشعبيّةِ، والفسادِ السياسيّ والاقتصاديّ، وألوان الفسادِ الأخرى.
نعم هناك صبرٌ جديدٌ مُضاعفٌ كبيرٌ على البذلِ والأذى في سبيل الله والتضحيات, لا صبرٌ على طاعةٍ كطاعةِ العبيد. وفي ذلك ضمانةٌ من ضمانات الاستمرار على طريق الجهادِ من أجل العزّة والكرامة.
صار مستحيلاً في وعي الأمّة، وشعورها، وتصميمها أن تكونَ عودةٌ للأمسِ الظالم, وصار لابدّ أن تُغلَقَ كلّ أبوابِ العودةِ إليه, بل لا بدّ أن يكونَ غدُ الأمّةِ أفضلَ دائماً من يومها الذي تعيشه، والحالِ الذي تكون عليه.
ثمّ لو كانت الأنظمة الحَاكمةُ في البلاد العربيّة على حكمةٍ بالقَدْر المطلوب ومُقدّرةً ولو لمصلحتها لوجَدت في دروسِ العام 2011م ما يكفي لإقناعها بضرورة الإصلاحٍ حتّى قبل تحرّك من لم يتحرّك بعدُ من شعوبها؛ لأنّ رياحَ التغيير لا توقُّفَ لها, وليس في وُسْعِ الوعود وآلة الإعلام الكاذب أن تطيل كثيراً من عُمر التخدير للرأي العام، وأن تُشِلّ إرادة النّاس، وتُعطِّل فهمهم.
ولا يمكن لأسلوب البطشِ، وإرهاب الدولةِ بعد هذه القفزةِ الهائِلةِ في الوعي والشعور والإرادة عند الشعب العربيّ أن يَقهَرَ إنسانَ هذا الشعب، ويُحدِثُ له الاستسلام.
كلّ ذلك لا يملك اليومَ أن يصرف عن المطالبة بالحقوق، أو يثبتَ أمام هيبةِ هذا الشعبِ وثورته.
ليس حقيقاً بالحكم، والحكمُ ليسَ محلاً لمن لم يتعلّم من الحكّام العرب من دروس العام المُنصرم، ولم يفهم أن عليه أن يستجيبَ للتغيير, بل عليه المبادرةَ إلى ذلك، وأنه ليسّ بإمكانه أن يُوقِفَ عجلة الإصلاح، ويعطّل حركة التغيير. لأنّه كي يستطيعَ ذلك لابدّ عليه أن يَرجِع بإنسان الأمّة وعياً، وتطلّعا، وثقةً بالنفس، واعتزازاً بالذّات، وجرأةً وإرادة، وتشبّثاً بالحريّة إلى مسافاتٍ بعيدةٍ تستحيلُ العودةُ إليها.
ودروس العام المُنقضي تُقدِّم خطاباً للحكومات، وخِطاباَ للشعوب.
خطابُها للحكومات: بأنّه لا مجالَ للفِّ والدورانِ، والمغالطةِ والتمييع لمَطلب الإصلاحِ والتغيير, وأنّ كلّ الوسائل التي تملكها الأنظمة في التحايُلِ، والتضليل، والقمعِ عاجزةٌ عن مواجهة إرادة الشعوب.
وخطابها للشعوب: بأنّ قدَرَها أن تنتصر بإذن الله إذا أصرّت على الحقّ، وسَلكت سبيله، وصبرت على التضحيات، وأحسَنَتِ الأسلوب، وصدقت العزم، وأخلصت النيّة، ووحّدتِ الصفوف.
وجديدُ العامِ المُنصرم أنْ قامت أنظمةٌ سياسيّة بديلة في أكثر من قُطرٍ عربيّ قد تمّ لها قيامُها أو أنّها على هذا الطريق.
وبعدَ أن تجدّد وجود الأمّة فكراً ورؤية، وإرادةً وطموحاً وعزماً، وشعوراً بالعزّة والكرامة، ووعياً وخبرة لن يسعَ الأنظمة المُنبثقة عن الثورات العربيّة أن تتعامَلَ مع شعوبها تَعامُلَ الأنظمة البائدة، وأن تعودَ بها إلى ما كانت عليه من حالة الإقصاء، والتهميش، والاستغلال، والاستنزاف، والذيليّة والتبعيّة المهينة.
ومن جهةٍ أخرى لابدّ أن تتركَ الأنظمةُ الطاغوتيّةُ التي أسقطتها إرادة الشعوب بصماتٍ سيّئة، ومتاعِبَ جمّة، وآثاراً مُعرقِلة، وأزماتٍ متراكمةً من مخلَّفاتها يُحتاج للتخلّص منها مع الجدّ والإخلاص إلى جهودٍ مُضاعَفة، ووعيٍ كبير، وعملٍ حثيث، وزمنٍ مُمتدّ.

البحرين في العام الجديد:

مضى العام 11 من القرن الواحد والعشرين الميلادي شاهداً بحقٍّ على مثلٍ عالٍ من الأمثلة الجديدة النادرة التي قد تُمثّلها الشعوب، والأمم من قوّة التحدّي للظلم الصارخ، والبطش الشرس، ومن الصبر، وتحمّل الصِعاب في سبيل العزّة، والكرامة، والإباء، والشموخ، والتعالي على الجِراح، والبذل والتضحيةِ ثمناً للحريّة والانعتاق، ومن التمسّك بالحريّة والانضباط.
هذ المثل أقامه وجسّده شعب البحرين.
ومضى العام نفسه شاهداً على مَثَلٍ بالغ السوء للقسوة والفظاظة والتجاوز لقِيَمِ الدين، والأخلاق، والأعراف الحميدة، والمواثيق الدوليّة، وما يستحقّ أن يكون دستوراً من دساتير المجتمع البشريّ، أو قانوناً من قوانينه ممّا يمكن أن يحدث على يد حكومةٍ في تعاملها مع شعبٍ من شعوب الأرض، ومطالبه العادلة.
مثلٌ قدّمه التعامل الرسميّ مع الحراك الشعبي ومطالبه الضروريّة الملحّة, التعامل الذي ضَربَ مثلاً في القسوة والعنفِ، وبَالَغ في الإرهاب والفظاظة، واستباح ما لا تصحّ استباحته في دينٍ أو ضمير(14).
ملأت السياسة الظالمة عامَ البحرين المُنصرم بألوان الانتهاكات والتعديّات التي طالت الأرزاق، والممتلكات، والأنفسَ، والأعراض، والمساجدَ، والقرآن، والعقيدة، والشعائر، ومُختلفَ ما يعتزّ به الإنسان، أو له تقديرٌ في دين الله. وكان اختتام العام المُنصرم بأن صُبِغَت أرض سترةَ البطَلة بالدمِ الزكيّ الحرام لشبلٍ من أشبالِ الشعب البرَرَة.
وتوالت الإدانات لجرائم الحكومة على لسان لجنة تقصّي الحقائق -وهي من اختيار النظام وحده -, وعلى لسان المفوضيّة الساميّة لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدّة, ومن منظّمات حقوقيّة خارجيّة متعدّدة، وعلى لسان رؤساء دولٍ مهمّة، وصارت الحكومة مطالبةً بإصرار يإنهاء عنفها، وإطلاق السجناء، وإعادة المفصولين من طلابٍ وأساتذةٍ وأطبّاء وموظّفين إلى مواقعهم ووظائفهم، وإنصاف المظلومين، ومعاقبةِ مُرتكبي الجرائم في حقّ أبناء الشعب من الأجهزة الحكوميّة و المسئولين الكبار, ومُطَالبَةً بالإصلاح السياسي الذي يُعالج أصل المُشْكِل، ويمثّل الضمانة لإيقاف الانتهاكات والنزيف.
وكما كَثُرَت الإدانات للحكومة كَثُرَت منها وعود الإصلاح, ومضى على الإدانات والوعود وقتٌ طويل، ودخل العالم عامَه الجديد. فماذا تغيّر في البحرين ؟!
هل عُوقِب قاتلٌ أو معذّبٌ للمواطنين؟! هل أُنصِفَ مظلوم؟!
هل أُعيدَ كلّ المفصولين من طلابٍ ومدرّسين وأطبّاء وأصحاب وظائف مختلفةٍ إلى مواقعهم التي كانوا يشغلونها؟!
هل انتهى التعذيب والقتل؟!
هل انتهى سبّ المواطنين والشتم والتخوين لشرفاء الوطن، والشحن الطائفيّ البغيض؟!
هل تحرّك الملفّ السياسيّ قَيْد أنملة؟!
هل توقّفت استباحة المناطق السكنية الآمنة، أو قلّ إغراقها بالسموم الغازيّة في أيّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهار؟!
هل هناك جديّة في إعادة بناء كلّ المساجد التي انتهكتِ الدولةُ حُرمَتها بهدمها على ما فيها من نُسَخ ِالقرآن الكريم، وكُتُبِ دعاءٍ ومناجاة؟!
هل تمّ إطلاق سُجناء الرأي، وأُقفِل باب المحاكماتِ المسرحيّة؟!
هل تغيّر شيءٌ على الأرض ممّا عانى منه الشعب وطالت معاناته منه؟!
نعم تغيّر أمران لا أرى لهما ثالثا:
حلّ القتلُ بالغازات السامّة، والوسائل الأخرى محلَّ القتل بالرصاصِ الحيّ طلباً للتستّر على الجريمة، وسُهولة إنكارها، وإمكانِ المُغالَطة.
جاء التعذيب في مباني تكونُ في محلّ الاحتجاجات الشعبيّة مكان التعذيب في السجون للغرض السابق نفسه.
هذا هو الجديد، وكلّ ما عَداه على ما كان, بل بعضُه في مزيد. من ذلك سحُبٌ من الغازات السامّة التي تخنقُ الكبار والصِغار، وتُصاعِدُ من وتيرةِ الشُهداء.
والشعبُ صابرٌ مثابرٌ مُطالب، لا تُكسَر إرادته في الإصلاح، ولا يلينُ أمامَ نارٍ أو حديدٍ. وبالله المستعان(15).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحمنا برحمتك، والطف بنا بلطفك، وأمدّنا بتوفيقك ونصرك، وأحطنا بعنايتك ورعايتك يا أرحم الراحمين. ربنا ارحم شهداءنا وموتانا، واشف مرضانا، وأطلق سراح سجناءنا، واغفر لنا إنك أنت التواب الرحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (16).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 6، 7/ سورة الفاتحة.
2- كلّ ذلك يفعله سوء الظن وربما ما هو أكثر.
3- بحار الأنوار ج10 ص100 ط 2 المصححة.
4- ميزان الحكمة ج2 ص1786 ط1.
5- المصدر السابق.
6- الأمالي للشيخ الصدوق ص380 ط1.
7- بحار الأنوار ج75 ص93 ط 2 المصححة.
8- المصدر السابق ج74 ص384 ط3 المصححة.
9- الحوبة: الذنب.
10- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج18 ص278.
11- الكافي للشيخ الكليني ج5 ص298 ط3.
12- تحف العقول ص357 ط2.
13- سورة العصر.
14 – هتاف جموع المصلين بـ(فلتسقط الحكومة).
15- هتاف جموع المصلين بـ(هيهات من الذلة).
16- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى