خطبة الجمعة (479) 28 ذو الحجة 1432هـ – 25 نوفمبر 2011م

مواضيع الخطبة:

 

 

الخطبة الأولى: تتمة موضوع: نحن و الخارج (خارج النفس)

الخطبة الثانية: تقرير لجنة تقصي الحقائق

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يخلو منه مكان، ولا يحويه مكان، وهو محيط بكلّ زمان، ولا تحدّه الأزمان، العليم بكلّ جَنان، ولا يتصوّره جَنان. خالقُ الأشياء ومالكُها، لا شيءَ إلاّ من خلقه، ولا مخرج لشيء من مُلكه، ولا شيء إلاّ في حكمه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
علينا عباد الله بتقوى الله، والانقطاع إلى طاعته عن طاعة من سواه انقطاع حاجاتنا إليه دون من عداه، فطاعته تُغني عن كلّ طاعة، ولا غنى بطاعة عن طاعته، ولا معوّل على رضى دون رضاه. ولو اجتمع الرّضى من الخلق أجمعين لما نَفَعَ مع سُخْطه، ولو غضب من في السماوات والأرض على عبد ما ضرّه ذلك شيئاً مع رضاه؛ إذ لا يملك النّفْعَ والضرّ إلا هو، ولا مُقدّم ولا مُؤخّر، ولا رافع ولا خافض إلاّ بإذنه، ولا يملك من ذلك شيئاً أحدٌ سواه.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل شوقنا إليك، وأُنسنا بك، ولذّتنا في طاعتك، وقرّة عيوننا رضوانك يا سميع يا عليم، يا كريم يا مجيب.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات فهذه تتمة لحديث الأسبوع السابق الذي كان تحت عنوان:
نحن والخارج(1):

الفكرة المطروحة هي أنَّ العالم المحيط بنا خارج النفس بيننا وبينه تعامُل، وتأثير وتأثُّر؛ فهو يعمل فينا ونعمل فيه، ولنا قُدرة على أن ننفتح على سيِّئه وحسنه بلا حساب ولا انتقاء، كما لنا القدرة على أن ندرأ عن أنفسنا سيء رسائله ولو بمقدار، وأن نُواجه ما يصل إلى النفس من ذلك بإعدادٍ تربوي مركّز على المستوى الفكريّ والنفسيّ يُمكّنها من المقاومة.
ما يصل إلى النفس من كلمة يُعطي أثره، وما للكلمة الطّيبة من أثر غير ما للكلمة الخبيثة، وما للكلمة العالية غير ما للهابطة السافلة.
وصورةٌ عن مشهد خارجي تتلقاها النفس فتهتزّ لها عِبرةً واتّعاظاً، وصورةٌ عن مشهد آخر من مشاهد الخارج تدخل عليها فتعْصِف بدينها، ووقارها، وتعقّلها، وتتجاوز بها كلّ حدود الدين، والشرف، والفضيلة، وتُسقط تعقّلها ووقارها، وتأخذ بها إلى أقبح القبائح، وأفحش الفواحش، وأسوأ السوء(2).
والإنسان مسؤول عن حراسة عقله وقلبه ونفسه من سموم الخارج وملوِّثاته، مما فيه ذهاب دينه، والقضاءُ على شرفه وإنسانيته.
ومن هذه الحراسة ما تأمرنا به الآية الكريمة:{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا…}(3).
والآية الكريمة تُحمِّل المجتمع المؤمن مسؤوليتين في هذا المجال هما أن يغضّ المؤمنون والمؤمنات من أبصارهم توقّياً من فتنة الخارج إذا وجدت أن تصل بتأثيرها السيئ إلى النفس فتفسدَها، وأن لا يتعمّد استحداث ما فيه فتنة للنفس مما حرّم الله، ولا تعرية ما فيه فسادها، وعرضه للعيون مما يُمكن أن يناله الستر فيحجبَ فتنته؛ كما في الفروج وزينة المرأة إلا ما استثنته الآية الكريمة.
ولنطالع شيئاً من أحاديث المعصومين عليهم السلام في النظر:
عن الإمام علي عليه السلام:”العُيُونُ مَصائِدُ الشَّيْطانِ”(4).
كما يُصطاد الطير عن طريق المِصيَدة، يَصطاد الشيطانُ العقولَ والقلوبَ عن طريق العين بما تنقله إلى النّفس من صُوَر تتحدث لشهواتنا. فمن أطلق نظره للمحرَّمات مكَّن الشيطان من نفسه، وفتح باباً نافذاً لها يعطيه الهيمنة على وجدانه، ويجعله في قبضته.
وانظر إلى هذه الكلمة عنه عليه السلام:”عَمَى البَصَرِ خَيْرٌ مِنْ كَثير مِنَ النَّظَرِ”(5).
فاقد البصر يخسر علماً، ويواجه مشاكل، ويَلْحقُه بهذا الفقد أذىً كثير، ولكنّ النظر إلى المحرّمات مما يُلحِق بالنفس أمراضاً، ويوقعها في القلق والاضطراب والفضيحة، وينتهي إلى هدر الشرف، وخسارة الدّين، وسخط الله، واستحقاق عقابه لا يعدل ما يجرّه من هذه الخسائر الكبرى ما يُسبّبه العمى من متاعب، فيكونُ العمى عند ذلك خيراً من نظر يجرّ كلَّ هذه الويلات، ويُوقِع في كل هذه المآسي(6). فلا يكونن أحدٌ منّا أعمىً خيراً منه ذا بصر، بتحريفه نعمة الله عن موضعها.
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”كم من نظرة أورثت حسرة طويلة”(7).
نظرةٌ واحدة لدقيقة وما هو أقلّ من دقيقة تغزو النفس بسوئها، وتُوقِعها في هوى لا تنال ما يُشبعه فتخسرُ صحتها طول العمر، وتُستعبدُ لمتعلَّقِ هواها، ويتبدّل عزّها ذُلاًّ، ورِفعتها ضِعة، وشرفها هواناً، ويذهب دينها، ولا تستفيد من العمر بما يشغلها من أثر تلك النظرة شيئاً(8).
هذه النظرة المجنونة تسقط رؤساء جمهوريات كبيرة في الغرب(9) بما يترتّب عليها من تعدِّيات يعاقب عليها القانون هناك.
إذن فكما عن الإمام علي عليه السلام:”مَنْ غَضَّ طَرْفَهُ أراحَ قَلْبَهُ”(10)، “مَنْ غَضَّ طَرْفَهُ قَلَّ أسَفُهُ وَ أمِنَ تَلَفهُ”(11).
غضّ الطرف عما لا يحسن النظر إليه فيه كفُّ أذى بالغ عن المرء، وتجنّب ويلات كثيرة.
وليس هذا فحسب فإنّ له نتائج نافعةً هي عجائب كما في الكلمة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”غُضّوا أبصاركم ترون العجائب”(12).
وهذه أحاديث عنهم عليهم السلام تشرح ذلك:
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:”ما من مسلم ينظر امرأة أول رَمْقَةٍ ثم يغض بصره إلاَّ أحدث الله تعالى له عبادة يجد حلاوتها في قلبه”(13).
وعنه صلَّى الله عليه وآله – وهو يحدِّث عن ربّه – :”النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي(14) أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه”(15).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء(16) أو غمَّض بصره لم يرتدَّ إليه بصره حتّى يزوجه الله من الحور العين”(17).
الخشيةُ من الله سبحانه، وتركُ ما تشتهي النفس من أجله، ومعاندة الشيطان رعاية لأمره ونهيه يجزي عليه تبارك وتعالى بفضله بأعظم الجزاء، وأكرم العطاء فيُحدث لعبده نوراً من معرفته، وإيماناً فوق إيمانه يُشعره بلذّته، ويزيده اطمئناناً على اطمئنانه، ورضى على رضاه.
ويُذكر عنوان النظرة الأولى، والنظرة الثانية في الأحاديث عنهم عليهم السلام، ومن ذلك:
ماعنه صلَّى الله عليه وآله:”إيّاك والنظرة بعد النظرة؛ فإن الأولى لك، والثانية عليك”(18).
وعنه صلّى الله عليه وآله:”النظرة الأولى خطأ، والثانية عمد، والثالثة تُدمِّر”(19).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”أول النظرة لك، والثانية عليك ولا لك، والثالثة فيها الهلاك”(20).
“عن جرير قال: سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري”(21).
النظرة الأولى التي لا يتحمَّل صاحبها وزراً منها أتكون مقصودة له ومع ذلك لا يتحمّل منها وزراً؟
التعبير عنها بالخطأ في مقابل الثانية الموصوفة بالعمد كما في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، ووصفها بأنها نظرة الفُجاءة، والأمر بصرف النظر وعدم البقاء عليها يفيد بأنها غير مقصودة(22)، وإنما تحدث للرائي بغتة من غير ما يريد.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعذنا من متابعة الهوى، وإضلال الشيطان الرجيم، ونسيان ذكرك، وارزقنا خشيتك، وجنّبنا كل فتنة مضلّة يا رحمان يا رحيم يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(23).

الخطبة الثانية

الحمد لله القاهر بعزِّه كلِّ عزيز، الغالب بقدرته كلِّ قدير، المُذلِّ بجبروته كلِّ جبّار، الخاضع لكبريائه كلُّ متكبّر، الجاري حكمه على كلِّ حاكم، الماضي قَدَرُه في كلّ شيء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله علينا بتقوى الله كما ألزم، وطاعته كما أمر. وتقوى الله مفروضة في كل حال، وطاعته مطلوبة على كلِّ تقدير؛ فلا استثناءَ في تقواه، ولا تخلُّفَ عن طاعة ما أوجب.
التقوى ثابتة على العبد ما قامت قدرة، وبقيت استطاعة، وَوُجِد إلى ذلك من سبيل.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(24).
وطاعة الله تابعة لتكليفه، وتدور مداره، وتكاليفه سبحانه لعباده لا تخرج عن قدرتهم، ولا تتجاوز طاقتهم، وليس في الدّين من حرج.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اهدنا الطريق السويّ، واسلك بنا المحجَّة البيضاء، وألزِمنا تقواك، ولا تُفرِّق بيننا وبين طاعتك، واجعلنا من أذكر ذاكريك، وأحمد حامديك، وأشكر من شكرك يا وليَّ النعم يا أكرم الأكرمين، يا من لا يبلغ بالغٌ كرمه.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، اللهم صلّ وسلم على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً دائماً قائماً.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذه الكلمة:

تقرير لجنة تقصِّي الحقائق:

اللجنة التي أعلنت عن تقريرها جاء اختيارها من جانب النظام الرسمي، وبمحض إرادته(25). ويترتّب على ذلك أنّ كلّ ما تضمنّه التقرير الصادر عنها من تسجيل انتهاكات لحقوق الإنسان مما ارتكبته أجهزة الدولة في حق المواطنين، وأيّ لون من ألوان التعذيب والقتل خارج القانون، وتعدٍّ على الحرمات فهو بمنزلة اعتراف من النظام نفسه بكلِّ ذلك؛ ولا معنى لإعادة النظر فيه ودراسته بعد أن تمَّ اعتماده من قبل لجنة التحقيق التي أقامها النظام وكيلاً مفوّضاً، وشاهداً مرضياً بمحض إرادته.
لأيِّ جهة أُخرى أن تُبدي اعتراضها على التقرير في ما ترى أنه يصحّ الاعتراض عليه فيه، أما النظام نفسه فلا موضوع لاعتراضه، ولا خيار له في رفض شيء من نتائجه المسجلة عليه، وموارد الإدانة له(26).
وبغض النظر عن موارد القصور والتقصير التي قد وقع فيها التقرير في تغطيته الانتهاكات التي مارستها الأجهزة الرسمية في حق المواطنين، وما كان منه في بعض المواضع من عدم تسمية المسمّيات بأسمائها الحقيقية، وما كان أهمله من تحميل المسؤولية في مقام الإدانة لكبار المسؤولين بأسمائهم الوظيفية فإنّه جاء ردّاً واضحاً من خلال ما تمَّ له توثيقه من انتهاكات لحقوق المواطنين تصل إلى القتل والتعدي الجنسي والتعذيب على ما كانت تردده الحكومة وأجهزتها الإعلامية والموالاة التابعة لها من الالتزام بالدستور، والقانون، وتكذيبها لكل ما كانت تُعلنه المعارضة من هذه الانتهاكات.
وتكذيب النظام للانتهاكات لما قبل صدور التقرير بصورة علنية إما عن عدم علم بالواقع(27)، وإذا كان كذلك فمع هذا الفرض ليس له أن يُكذّب من عَلِم بالانتهاكات، على أنَّ عدم علمه أمر مستحيل(28) لا يمكن التصديق به. وإما أن يكون إنكاره المتكرر للانتهاكات مع علمه بها، وهذا جرم كبير، وفضيحة بالغة.
وسجّل التقرير أن الحركة المطلبية الإصلاحية وطنية لا صلة لها بالخارج، وأنّ أسبابها محليّة، وهذا تكذيب آخر لما كانت تحاوله الجهة الرسمية من ربط الحراك الشعبي الذي جاء في سياق الحركة الإصلاحية والتغييرية التي غطّت الساحة العربية ولم تعرف الانحسار بجهاتٍ ودولٍ من الخارج.
ما جاء في التقرير من انتهاكات عديدة للحقوق ومن النوع البشع كافٍ جدّاً لإدانة أي حكومة يُرتكب هذا الكم من الانتهاكات تحت نظرها وعلمها، فضلاً عن أن يكون ذلك سياسة معتمدة لها.
وإذا كان التقرير يرى أن ليس من اختصاصه الخوضَ في المسألة السياسية فإنَّ ما أثبته من انتهاكات واسعة وخطيرة لحقوق الإنسان لا يترك شكّاً في ضرورة الإصلاح السياسي الجذري بصورة مستعجلة قبل التدهور الكامل للأوضاع، وانفلات زمام الأمور، والامتناع على الحل.
ومن نتائج التقرير بما أفصح عنه من إخفاقات شديدة متعدِّدة في حفظ حقوق الإنسان، وأمانة ممارسة الحكم أنَّه في أي بلد يحظى فيه الشعب باحترامٍ من حكومته أن تستقيل الحكومة فوراً، ومن غير تردّد، ولا يحتاج استقالة الحكومة في بلد كذلك إلى إثبات هذا الكم الهائل من الانتهاكات، والسَّحْق لكرامة الإنسان، وحقوق المواطنين.
وفي ما أثبته التقرير من ممارسة التعذيب في حقّ الموقوفين بانتزاع الاعترافات المطلوبة للجهة الأمنية واعتمادها عنصراً للإثبات في المحاكمات فضلاً عن التعذيب للانتقام ما يُسقط أيَّ قيمة للأحكام الصادرة في تلك المحاكمات، وفي أي محكمة كانت.
وفي ضوء التقرير صار لابد للنظام الذي رضي بلجنة تقصّي الحقائق في ماانتهت إليه من أحكام أن ينصف كلّ المظلومين لأي جهة من جهات الدولة، وأن يُحاسِب كلّ المسؤولين عن هذه الجرائم التي ارتكبوها في حقّ المواطنين لينالوا جزاء جرائمهم، وأن يتخذ كل التشريعات والإجراءات العملية التي تمنع من تكرار مثل هذه الانتهاكات.
على أنَّ شيئاً لا يغني عن الإصلاح السياسي وتنفيذ المطالب السياسية للمعارضة كاملة. وهي مطالب لا يمكن التراجع عنها، أو التنازل عن شيء منها على الإطلاق.
وليس من مصلحة الوطن أن يُكتفى بمهدئات وقتية ومسكّنات للألم لا يلبث أن يعود بها بصورة متفجّرة، وبأضعاف ما كان عليه من قبل.
ومعالجة مسألة الحقوق لن تتم على يد فريق مُشكّل من موظفين حكوميين في الداخل. وهل الشكوى إلاّ من الحكومة؟! ولن تتمّ كذلك على يد فريق مشترك من أفراد من الحكومة، وأفراد من المؤسسات السياسية، أو أفراد آخرين؛ لأنَّ هذه التشكيلة ستأتي من نوع تشكيلة ما سُمِّيَ بالتوافق الوطني الذي ضاعف من المشكلة بدل حلِّها.
هذا الأمر يحتاج إلى لجنة أممية تعتمدها الأمم المتحدة، وتتمتع بصفة الحياد التام.
ومن دون ذلك يُستبعد جدّاً أن يكون إنصاف، وأن تُحلَّ مشكلة الحقوق ولو بصورة وقتيّة.
ويُتساءل حول موقف السلطة من قضية التسليم بالتقرير والأخذ بمقتضاه من تصحيح الوضع الحقوقي والعودة إلى الاعتراف بحقوق المواطن، وإنصاف المظلومين، ومحاسبة المسؤولين من التابعين لها عن الجرائم والتعديات التي ارتكبوها في حق أبناء الشعب.
وما يثير هذا التساؤل برغم الكلمات التي تُعلن التسليم صراحةً بالتقرير هو ما يعنيه تشكيل لجنة حكومية لدراسة التقرير مما قد يعني الحاكمية لكلمة هذه اللجنة على ما تضمنه التقرير نفسه.
وأما مسألة تنفيذ توصياته واتخاذ مواقف عادلة من قضية حقوق الشعب ومظلوميته فمصيرها مصير كلّ الوعود المعسولة المضيّعة، والمشاريع الإصلاحية التي لم تجد طريقها إلى النور، وبقيت حبراً على ورق، وكلمة منسيّة.
وهنا مسألة وهي أنّ حكومة البحرين شريك في العمل على استبدال علي صالح، ورسم خارطة طريق لانتخابات حرّة كما يُدَّعى، وهي شريك في حمل سوريا على القبول بانتخابات حرة لاختيار الشعب نظام الحكم الذي يراه؛ فكيف تُواجه المطالبة بالإصلاح هنا في البحرين بالحديد والنار وبكل ما حدث من انتهاكات ومآسٍ على يدها؟!(29)
وتبقى ملحوظة:
إذا كان هناك ميل نفسي عند الأخ رئيس لجنة تقصِّي الحقائق فهو للحكومة لا للحراك الشعبي حسبما يُقرأ من تصريحاته في أكثر من مقابلة، وأكثر من موقع.
وهذا يفيد بصورة قطعية مصداقية الانتهاكات التي ارتُكِبت في حق أبناء الشعب على يد الجهات والمؤسسات الرسمية والتي تضمّنها التقرير، ويؤكّد يقينيتها لأنها لا يمكن أن تُتَّهم في ظل هذا الميل بمحاباة الحراك الشعبي، والتحامل على الحكومة التي تشفُّ التصريحات المشار إليها عن محاولة التماس الأعذار لها في ممارساتها المدانة. وهي انتهاكات كافية لمبادرة الحكومة للاستقالة(30).
ونسأل(31): هل لا يكفي لإدانة حكومة إلا سقوط ألوف القتلى من أبناء شعبٍ قليل العدد؟ هل يُطلب أن يجزّر من أبناء البحرين وشعبها القليل العدد بقدر ما سقط من عدد قتلى في مصر ذات السبعين مليونا ليتحرّك الضمير الإنساني؟ أليس من قَتَلَ نفساً بغير حقّ كمن قتل الناس جميعاً؟
أليس التقصير في حفظ نفوس أبناء الشعوب كافياً وحده لإسقاط الحكومات فضلاً عن تعمُّد إزهاق النفوس؟
هل في علم الحقوق أن الثلاثين والأربعين قتيلاً لا تمثّلا جرماً للقاتل؟(32)
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة، يا أرحم الراحمين.
اللهم اشف مرضانا وجرحانا والمعلولين من إخواننا وأخواتنا، من ضحايا السياسة الظالمة، واشف جميع المرضى من المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وارحم شهداءنا وشهداء الإسلام في كل مكان وزمان، وانصرنا نصراً عزيزاً مبيناً برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (33).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- وكان المعني به خارج النفس.
2- الصورة يمكن أن تفعل في النفس كلّ ذلك.
3- 30، 31/ النور.
4 – هداية العلم في تنظيم غرر الحكم ص458.
5 – المصدر السابق ص79.
6 – يتمنّى من أطلق بصره للمحرّمات فخسر بذلك دينه يوم القيامة أن لو كان أعمى بصر.
7 – الكافي ج5 ص559 ط3.
8 – يمكن أن يُستعبد رجل عريض الشرف لامرأة ساقطة لو وقع هواها في نفسه بنظرة واحدة.
9 – كما تسمعون.
10 – هداية العلم في تنظيم غرر الحكم ص458.
11 – المصدر السابق.
12 – بحار الأنوار ج101 ص41 ط3 المصححة.
13 – كنز العمال ج5 ص327.
14 – يعني بسبب مخافتي.
15 – ميزان الحكمة ج4 ص3292 ط1.
16 – هارباً من تلك النظرة، متخلّصا من سيء أثرها.
17 – مكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي ص237 ط6.
18 – كنز العمال ج5 ص329.
19 – المصدر السابق.
20 – من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج3 ص474 ط2.
21 – كنز العمال ج5 ص468.
22 – هذه النظرة المعفو عنها يظهر أنها غير مقصودة للناظر.
23 – سورة العصر.
24- 16/ التغابن.
25 – ولا دخل للشعب في اختيارها.
26 – كلام لجنة التحقيق ملزم لطرف غير ملزم لطرف آخر، من جاء بلجنة التحقيق شاهدا، ورضيها حكماً بمحض إرادته فكل ما تدينه به اللجنة يلزمه، أما الطرف الذي لم يكن له اختيار في ذلك فهو أجنبي عن كل إدانة، هذه إدانة متبرّع بها من حكم فرضه طرف واحد. الشعب قد يرضى بهذه اللجنة وقد لا يرضى بها. من الشعب من قد يرضاها، ومنهم من لا يرضاها، وقد يرضاها في أمر، وقد لا يرضاها في أمر آخر.
27- بواقع الانتهاكات.
28 – عدم علم النظام بالانتهاكات قبل مجيء اللجنة، وقبل إعلانها لتقريرها أمر مستحيل.
29 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
30 – هتاف جموع المصلين بـ(فلتسقط الحكومة).
31 – ونسأل رئيس لجنة تقصي الحقائق.
32- – هتاف جموع المصلين بـ(لن نركع إلا لله).
33- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى