خطبة الجمعة (475) 29 ذو القعدة 1432هـ – 28 أكتوبر 2011م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: تتمة حديث: كيف نصبح؟

الخطبة الثانية: الإسلام والإسلاميون – الحكومات بين الوظيفة والواقع

الخطبة الأولى

الحمد لله المعبود بالحقّ، والذي لا عبادةَ إلاَّ له إذ لا خالق ولا رازق ولا مدبّر إلا هو، وكلّ أمر بيده، والكمال له وحده؛ فالعابد لغيره واهمٌ، والمتخلّف عن عبادته ظالم، والمستجيب لها فائز غانم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي المشفِقَ عليها بالفرار من سخط الله الذي لا تقوم له السماوات والأرض، ولا تثبت عنده القلوب، ومن عذاب نار أعدَّها لغضبه، ويوم نقمته، لا مخرج لأحد منها إلا برحمته، وأن نستجيب لما كلّف به، ونثبت على الطاعة الصادقة له، ونستقيمَ على القصد إليه.
ألا من طمع في اكتساب جمال، واتصاف بكمال، وأمن من عذاب لا يُطيقه، وثوابٍ لا يبلغ إليه خيال، وجنّة لا أمد لها، ونعيم لا يرقى إليه تصوّر، فإن الطريق إلى مطمعه التقوى، وفيها كلّ مبتغاه.
وكفى ضَمانُ الله تبارك وتعالى حمايةً وكفايةً ونصراً وعزّاً لمن اتّقاه في ما هو من قوله سبحانه:{… وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}(1).
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن اصطفيتهم لطاعتك، واجتبيتهم للجهاد في سبيلك، وخدمة دينك، وتبليغ كلمتك، وأدخلتهم في زمرة أوليائك، وكتبت لهم جنّتك، وكرّمتهم برضوانك يا مالك الخير كلّه، يا دافع كلّ شر، يا علي يا قدير يا رحمن يا رحيم.
.
أما بعد أيها الأحبّة في الله فهذه تتمة للحديث السابق تحت عنوان:

كيف نُصبح؟ :

مرّ أننا نُصبح ولنا من أمرنا ما نملك بما ملّكنا الله وأقدرنا عليه، ونُسأل عنه في قِبال ما لا نملك، ولا تصرَّف لنا فيه، هو جارٍ بإرادة الله فينا. مرّ أننا نصبح مسيّرين في أمر من أمرنا، مخيّرين في آخر منه.
وتقدّم الكلام في ما نحن مسيرون فيه، وهذا كلام في ما نحن فيه مخيّرون.
يريد لنا الإسلام أن نعيش يومنا الجديد وكل حياتنا بمبدئية، وانشدادٍ متين إلى هدف الوجود والحياة، متطلّعين للكمال، ساعين بحركتنا إليه في الاتجاه الذي يُطلب منه، ولا اتجاه آخر للوصول إليه، ولا حركة يمكن أن تعطي للإنسان الكمال إلا حركتُه في اتجاه الله العظيم التي تدفعه إليها فطرته، ويتعلّم معالمها وضوابطها من دين ربّه المتنزِّل على رسله.
يريد لنا الإسلام أن لا ننشغل بالدنيا، ولا نذوبَ فيها، ولا يَسلبنا الهدف من الحياة بريق آمالها وضغط آلامها، وكلّ ما فيها(2).
يريد لنا أن نصبح كلّ يوم أقوى من كل الآمال الدنيوية والآلام، وكلّ ما نعيشه من ظرف حيث لا يصرفنا شيء من ذلك كلِّه عن النظر إلى الله سبحانه، وعبادته، وهمّ الآخرة، وهدف الكمال(3).
وقمّة القوة أن نكون كذلك، ولكنها قِمةٌ شاهقة يأتي بذل العمر كلّه موفّقاً لو أعطى اقتراباً منها، وعلى المؤمن المحاولة وبذل ما في الوسع والجهاد. ولو حقّقت حياة أحدنا هذا الاقتراب لكانت من أنجح ما تكون حياة، وأسعد ما تكون حياة. ولا يشاركها نجاحها المتميّز إلا حياةٌ وصلت إلى ما وصلت إليه، ولا أنجح منها إلا ما تحقّق لها اقتراب أدنى من تلك القمّة.
ولندخل مدرسة المعصومين عليهم السلام في هذا الموضوع باستعراض بعض النصوص النيّرة وإن كان استعراضاً على عجل.
عن الرسول صلَّى الله عليه وآله:”من أصبح على الدنيا حريصاً أصبح وهو على الله ساخط، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربّه”(4).
وعن الإمام علي عليه السلام:”من أصبح على الدُّنيا حزيناً فقد أصبح لقضاء الله ساخطا، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنما يشكو ربّه”(5).
يأتي الحرص والحزن على الدنيا من منشأ التعلّق بها، وغياب النظر إلى الله سبحانه، وإلى الآخرة. والحِرصُ على الدنيا، والحزن لها ضعف في الرّوح، وانحدارة في مستواها.
والحريص على الدنيا لا يشبع حتى مع سعة الرّزق، وبذخ الحال. فحتى لو أُوتي أضعاف ما تدعو إليه حاجته، لا يرضى بكلّ ما آتاه الله من فضله، ويصاحبُه السخط على رازقه، وإن وسَّع عليه ما وسّع.
وشكوى المصيبة في الحديثين الشريفين شكوى تدمُّر، وعدم رضا بما يجري به القضاء، شكوى نفس تذهب بها ظنون السوء كلّ مذهب في قضاء الله، وعدله وحكمته.
وما أسوأ نفوسنا حين تذهب بها ظنونها في قضاء الله أي مذهب من مذاهب السوء والخطأ. ولا شيء من السوء يتناسب مطلقا مع عدل الله وحكمته(6)، وغناه المطلق، وجلاله وجماله وكماله الذي يقصر عنه كل كمال تقف به الحدود، وتنقطع به نهاية.
ومن أحاديث الصباح ما عنه صلّى الله عليه وآله من قوله:”من أصبح وهمّته غير الله أصبح من الخاسرين المعتدين”(7)، “من أصبح من أمّتي وهمُّه غير الله فليس من الله، ومن لم يهتم بأمور المؤمنين فليس منهم”(8).
لا تملك معرفة العبد بشيء أهميَّةَ معرفته بالله الذي بيده قدره، وخيره وشرّه، ولا ينفعه شيء كرضاه، ولا يضره شيء كغضبه. ولا همّ ينبغي أن يشغل باله، ويملك عليه نفسه، ويستوفيَ جهده، ويستوعب عمره كلّه كهمّ التقرُّب إليه، ونيل لطفه، ورحمته، والكرامة لديه.
ومن خسر علاقة القرب إلى الله ورضاه، وحلّ عليه غضب ربّه فقد خسر حياته أيَّ خسار، ووقع في الهلاك والبوار.
وليس هناك حقٌّ أكبر من حقّ الربّ على العبد؛ فمن تنكّر لحقّ ربّه عليه، وغفل عنه، واشتغل بهمّ من سواه عن ذكره، وتخلّى عن طاعته فما أشدّ ظلمه، وما أبلغ عدوانه، وما أسوأ موقفه.
ومن كان همّه غير الله فقد اختار الانفصال عنه، والتخلّي عن اللجأ إليه، والاحتماء به، وطلب رحمته، فحقّ عليه أن يتركه الله لشأنه، ويكله إلى نفسه، أو إلى من تعلّقت به همّته من غيره، وفي ذلك الهلاك المبين، والخسار الجسيم(9).
ومن الحديث عنه صلَّى الله عليه وآله في موضوع الصباح:”من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم”(10).
المسلم مِمَّن وعى الإسلامَ، وتشبّع برؤيته، وعاش همَّه وهدفه لا يغيب عن تكفيره أمر المجتمع المسلم، والدور الذي يتحمّل مسؤوليته بشأن إصلاحه، ومعالجة عيوبه، والتخفيف من مشاكله، ومشاكل أفراده، وتقويته، والنهوض بمستواه، والحفاظ على هويته، وتأكيد انتمائه الإسلامي والإيماني الذي يتميّز به.
هذا هو المسلم الحقّ، وهذا هو مقتضى الانتماء الصادق إلى المجتمع المسلم، والتشرّف بعضويته(11).
أمّا من لا همّ له إلا في نفسه، ولا تفكير له إلاّ في مصلحته، ولا يرى في خير المسلمين خيره، وفي شرّهم شرّه، وفي عزّهم عزّه، وفي ذلّهم ذلّه فكأنّه ليس منهم، وهو في إسلامه فاقد للبعد الاجتماعي في الإسلام؛ والإسلام لا يتم بالتخلّي عن أي بعد من أبعاده المتكاملة.
إذن علينا ونحن نريد أن نكون عند إسلامنا أن نصبح ونمسي لا يفارقنا التفكير في إصلاح المجتمع المسلم، ومعالجة أوضاعه، ولا يغادرنا همّ استقامته وانحرافه، ولا نتخلّى عن التخفيف من مشاكل أفراده وأسره، ومحاولة الارتقاء بمستواه وتفوّقه.
وعن الإمام الصادق عليه السلام:”لا تدع أن تدعو بهذا الدعاء ثلاث مرات إذا أصبحت، وثلاث مرات إذا أمسيت: (اللهم اجعلني في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد) فإن أبي عليه السلام كان يقول: هذا من الدعاء المخزون”(12).
وفي كلّ صباح، وفي كلّ مساء يتعرض الإنسان للكثير من التحديات، من المشاكل، مما يتهدده في دينه، في حياته، في صحته، في عقله، في قلبه، في نفسيته، في حياته. تحدياتٌ ومشاكل ومضادّات جمّة تأتيه من خارجه، وتنبع من داخله، يضيق بها صدره، وتعجز عنها مقاومته، وتقِل أمامها حيلته، ويفقد صبره، وفيها ضلاله، وسقوطه، ومهلكه ومصرعه.
ولكن كل ذلك لا شيء إذا أحاطه الله بعنايته ورعايته وكفايته، ووقاه وحماه، وأدخله في درعه الحصينة؛ التي لا يخترقها مخترق(13)، ولا ينفذ منها نافذ، ولا تملك قوة أن تجد إلى إضعافها سبيلا.
في هذا الدعاء تأمين وتحصين وحماية كافية لإعطاء النفس قوةً هائلة على المُضيّ في طريق العمل الصالح، والجهاد في سبيل الله بروح مطمئنة واثقة لا تحسب حساباً إلا لله، ولا تتطلّع إلا إليه، ولا تتوكّل إلاّ عليه، ليكون يوم الإنسان يوم حركة لا جمود، وقيام لا قعود، وجهاد لا استسلام، ويأس، ومذلّة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن، ومن كل شيطان رجيم، وجبار أثيم، ومن شرّ ما في الليل والنهار، ومن كيد الكافرين والمنافقين والظالمين. اللهم اجعلنا في أمانك ودرعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(14).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يبيد ملكه، ولا يتزلزل سلطانه، ولا يهِنُ حكمه، ولا تُحدّ قدرته، ولا تُردّ إرادته، ولا يُفسخ قضاؤه، ولا يُقاوم قهره.
نحمد الله ربّنا الذي لا يُرجى غيره، ولا يؤمّل إلا فيه، ولا يستغاث إلاّ به، ولا يُعتمد إلا عليه، ولا يُسأل من سواه، ولا مسدّ لفقر إلا من عطائه، ولا مخرج من سوء إلا بفرج من عنده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ما نحن إلاّ عبيد لله، وتحت تصرّفه، ولا مخرج لنا من ملكه، ولا فرار من حكمه، فما أحرانا بتقواه، وما أجدرنا بطاعته!! تقوى الله لا مفرّ منها لعبد ولا أمة لا شيء لهما إلاّ من عنده، ولا يهتديان سبيلاً إلاّ به، ولا كافي لهما من أخذه، ولا منقذ لهما من عذابه؛ ولا يجدان خيراً إلا من عنده وبإذنه.
عباد الله اتقوا الله،واتقوا يوماً لا تُغني فيه نفس عن نفس شيئا، ولا تجد فداء، ولا من هوله وعذابه مأوى ولا مفرّاً.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأزواجنا وكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم اجعل لنا من طاعتك، والإخلاص في عبادتك، وصدق الذل بين يديك واقية من النار، وسبيلاً إلى الجنّة، ومنقذاً من العار تفضلاً منك وتكرّما، لا عن استحقاق لما وفقتنا إليه من طاعتك وعبادتك الموجبتين علينا تجديد الشكر، وإكثار الحمد يا حنّان، يا منّان، يا متفضّل يا كريم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين علي بن أبي طالب، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الهادين المعصومين أئمة الحق بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلي أمير المؤمنين عليه السلام: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وعجِّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً مقيماً.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات الأعزاء في الله فالحديث تحت عنوانين:

الإسلام والإسلاميون:

هناك أكثر من ثورة عربية أسقطت نظاماً حاكماً مغضوباً عليه من شعبه، وهي في طريقها لإقامة حكومة أخرى ونظام حكم آخر مكانه، وعلى أنقاضه.
والغالبية في الشعوب العربية عاطفة أو رأياً وعاطفة لا تُقدّم نظاماً وحكماً على الإسلام ولا تنسجم معه.
وفي حال أن تجري انتخابات حرة بالمعنى الحقيقي بعيدة عن كل ألوان المغالطة والغش والخداع والمراوغة والاحتيال والتلاعب وشراء الذمم فسنجد أن خيار الغالبية من الشعوب الإسلامية هو الإسلام.
وهنا يكون الإسلام والإسلاميون أمام تجربة جديدة صعبة، وامتحان عسيرٍ مكشوفٍ مؤثرٍ بدرجة عالية على مصيرهما.
ولو أخفقت هذه التجربة المتطلّع إليها من قبل جماهير مسلمة عريضة، والتي ستكون مراقبة بالمجهر الدقيق من قبل مختلف الملايين، ومقاومةً من قبل كثيرين فإنها ستكون أشد خطراً، وأبلغ في تأثيرها السلبي على الإسلام من حالة إقصائه عن السياسة وعداوتها السافرة له.
والإسلام قد خاض تجربة الحكم قديماً وحديثا، ولم تحقق أي أطروحة أخرى ما حققه من نجاح حينما خاض هذه التجربة برؤيته وعقيدته الدينية والسياسية الصادقة، وشريعته وقيمه وأخلاقيته الحقيقية.
وكذلك قد خاص الإسلام تجربة الحكم مظلوماً على يد التزوير والأطماع الرخيصة، ممن لا يؤمن به حق الإيمان، وإنما اتخذه مطيّةً لأطماعه وهو عابدٌ للدنيا ولأكثر من مرة في القديم والحديث فسجّل ذلك تشويهاً للإسلام، وتحريفاً لأحكامه وقيمه، وإسقاطا لوزنه، وانقلاباً في الرأي العام في أوساط المسلمين عليه، وبحثاً عن بديلٍ سيءٍ له(15).
واحتيج في تصحيح رأي الناس في إسلامهم بعد ذلك إلى جهود مضنية، وتوعية صبورة، وثورات قاسية، ودماء غزيرة(16).
ويبقى امتحان الإسلاميين في التجربة الجديدة لو تأتّى للأمة أن تعطيهم خيارها، وتضع يدها في يدهم، وتحمّلهم أمانة الحكم وهي أمانة ثقيلة لا يتحمّلها إلا أمناء كبار، وقادة أوفياء، وعقول راجحة، وهمم عالية، ونفوس متحررة من شهواتها، متأبّية على الأهداف الرخيصة، وذمم طاهرة، وأيد نظيفة، وفهم إسلامي ناضج، وقلوب لا تغفل عن ذكر الله ولا يصرفها عنه لهو ولا تجارة(17).
فهل يكون الإسلاميون في هذه التجربة الجديدة بوزن هذه الأمانة الكبرى بمقدار لا يسيء للإسلام، ولا يظلمه ظلماً أشد من ظلم أعدائه؟
هل يقربون في فهمهم من فهمه، وفي طهر نفوسهم ونياتهم من طهره، وفي حكمتهم من حكمته، وفي إنسانيتهم من إنسانيته، وفي عقلانيتهم من عقلانيته؟
وهل يأخذون في سيرة حكمهم نزاهةً تزِينهم من نزاهته، ودرجة عدل تعشقهم بها الملايين من عدله المطلق الشامل الذي تفرّد به؟
إن كان لهم ذلك سَعِدت بهم الأمة وسعدوا بها، وحمتهم بقلوبها وأيديها، وكانت قلعتهم الحصينة، وسياجهم المتين، ودعامة وجودهم الثابتة بعد دعم الله وحمايته، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وتعمّق إيمانهم به، وتصلّب، وتثبّت اختيارهم الإسلام ولم يستبدلوا عنه أو يتخلوا عن نصرته.
أمَّا لو أساءوا فهم الإسلام، ولو صبغوه بالعصبية العمياء، لو فصلوه عن بُعده الإنساني، لو أوغلوا السيف في رقاب العباد، لو ظلموا وهم يُعلنون انتماءهم للإسلام، ويتحدثون باسمه، لو كان أوّل تنافسهم على المواقع والثروة، لو اشتغلوا بالغنائم عن هموم الناس ومشاكلهم، لو توجّهوا لبناء الأمجاد الدنيوية الشخصية والفئوية ضاربين بمصالح الأمة عرض الحائط فإنهم سيسقطون من نظر الأمة، وسيسقطون الإسلام من ناحية عملية إلى حدٍّ كبير، ويجنون عليه أكبر جناية.
وفي الجناية على الإسلام أعظم جناية على الأمة المظلومة، والإنسانية المعذبة، وحرمان لأهل الأرض من منقذ لا منقذ لهم سواه إلى مدى قد يطول، وإن كان لابد أن ينقذ الإسلام العالم من مأساته التي أغرقها فيها البعد عن الله سبحانه على يد الكافرين والظالمين.
ويُسقط الإسلاميين الذين يصلون إلى الحكم باسم الإسلام، وينزل به ضربة قوية أن يساوموا أعداءه عليه(18)، ويحرّفوه مجاملة لهم وكسباً لودهم، ليجدوا فيهم سنداً، أو يأمنوا منهم شراً وتآمرا.
نجاح الإسلاميين في حكم الأمة، أو شعب من شعوبها أن يكونوا رساليين مبدئيين بمقدار رسالية الإسلام ومبدئيته، واقعيين عند حدود واقعيته، جدّيين بمستوى جِدّيته، منفتحين بسعة انفتاحه، نزيهين كنزاهته، عادلين في الناس لا يتعدّون عدله، بعيدين عن كل عصبية أرضية تُعكّر نقاءه وصفاءه. وبهذا يقوون، وتقوى بهم الأمة، ويجدون منها محضنا دافئا، وحصناً حصيناً، وعيناً ساهرة، ويداً ضاربة، وإمدادا غير منقطع.
وبهذا يحترمهم العدو، ويهابهم، ويعطون لأوطانهم الاستقلال، ولأمتهم العزة والمهابة والكرامة.
يُخطئ الإسلاميون لو طلبوا البقاء في الحكم عن طريق الإكراه، والتحايل على الأمة وترهيبها.
إنهم يستطيعون أن يضمنوا البقاء في الحكم، والعودة إليه عبر صناديق الاقتراع في كل مرة تعطى الأمة فيها فرصة الانتخاب، لو رأى الناس منهم صدق الإسلام، وعدله، ورحمته، وأخلاقيته، واهتمامه بتقدم المجتمع في كل مسارات حركته الصالحة، وأبعاد وجوده الكريمة، ولو رأوا منهم التفاني في خدمة الشعب والإخلاص له، والأمانة الصادقة على ما تحت أيديهم من خيراته وثرواته، والاحترام لإرادته وكرامته على خلاف ما رأوا ويرون في غيرهم من الطغاة والمستكبرين وأهل المصالح الدنيوية الضيّقة.

الحكومات بين الوظيفة والواقع:

الحكومات وظيفةً من أجل أمن الشعب، نَظْم أمره، لمّ شمله، حماية دينه، ونفوس أبنائه وبناته، تطوير اقتصاده، وثروة وطنه وتوظيفها لغذائه وصحته، وتقدّمه العلمي، والاجتماعي، وتحسين بيئته، وتوفير الخدمات المدنية التي يحتاجها، والتقدم بكل أوضاع حياته.
أما عن واقع حكومات كثيرة فقد صار مطلوبها شعباً بلا أظافر، بلا عقول، بلا إرادة، بلا اعتزاز بذات، بلا رأي، بلا شوق للحرية، بلا إيمان بالكرامة، بلا تطلّع لحياة مريحة، بلا أمل، وحتى بلا لسان.
صار مطلوبها شعوباً مستسلمة مستكينة، متنازلة عن حرِّيتها أو لا تؤمن بهذه الحرية أساسا، وكل إيمانها بالحرية المطلقة للحكومات في أن تفعل فيها ما تشاء، وتختار لها ما تشاء، وأن الحكومات مالك مطلق للأرض والشعب وكل الثروة، وأن على الشعوب أن تكدح جاهدة لثراء حكوماتها التي إن شاءت أن تتصدق عليها بما يقيم أودها لتقوى على خدمتها كان ذلك منها إحسانا، وإن شاءت أن تقبض يدها فهي تمارس حقها الطبيعي، ولا مورد لأي اعتراض عليها.
المطلوب لهذه الحكومات شعبٌ يُسبّح باسم حاكميه ليلاً ونهارا، وينسى ذاته وربه ودينه وقيمه، وضروراته، وحاجات حياته، ويكون بلا أمل ولا أمنية ولا تطلُّع.
وهذا هو الواقع الذي تُعاني منه شعوب هذه الأمة، ويثير تحركات أقطارها، ويفجر ثوراتها، ويسقط حكومة تلو حكومة، ونظام تلو نظام من حكوماتها وأنظمتها.
وهو الواقع الذي آلم هذا الشعب، وأنفذ بثقله ومرارته البالغة صبره، وجعله يدفع من أمنه وماله وجهده ودمه، ويركب الصعاب، ويتعرض لما يعز عليه من مهانة الأعراض وأذى النفس، ليكون في الوضع الإنساني والحقوقي الصحيح، ويملك اختيار طريقه، وأسلوب حياته، ويسترد حريته، وتُصان كرامته.
وهذا الواقع المرفوض عقلاً وديناً ووجداناً، والذي يحرك جميع شعوب الأرض اليوم من أجل الانعتاق واسترداد الحرية والكرامة هو الذي يغذّي كل التحركات الشعبية ويدفع بها إلى الأمام، ويعطيها الدوام والاستمرار ولا يأذن لها بالتوقُّف، ويجعل الأثمان الغالية في سبيل التخلص منه زهيدة رخيصة.
وشعبنا شعبٌ من شعوب الدنيا ومن أوعاها وأشدها صبراً وإباءً وغيرة وتحمُّلا، وإحساسا بقيمة ذاته ودينه وشرفه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نكذب على دينك، وأن نُحرّف حكماً من أحكامك، أو نسيء إلى شريعتك، أو نظلم أحداً من عبيدك، أو نخالفك في شيء من أمرك ونهيك، أو نقدّم رضا أحد من خلقك على رضاك يا من لا ربّ غيره، ولا إله سواه.
اللهم اعف عنّا، واغفر لنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحم شهداءنا، وأطلق سراح سجنائنا وأسرانا، واشف مرضانا وجرحانا يا ولي العافية، يا رؤوف يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (19).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 194/ البقرة.
2- فلتكبر الآمال، ولتعظم الآلام لكن لا تعطي شيئاً من ذلك أن يسلبك التفكير في الآخرة، وطلب رضوان الله عز وجل، أن يصرفك عن هدفك الكبير في الحياة ألا وهو الوصول إلى الله سبحانه وتعالى.
3- محور حركتك في الحياة هو هذا، وليس شيئا آخر.
4- تحف العقول لابن شعبة الحراني، ص8 ط2.
5- نهج البلاغة ج4 ص50 ط1.
6- نحن نسيء الظن في من؟! في من هو عليم، حكيم، خبير، لطيف، رؤوف، رحيم، قدير، لا يُعجزه شيء، هذا ظن من السوء لا يتناسب في شيء مع كمال الله، جمال الله، جلال الله، ولكنّ نفوسنا الضعيفة لكثيرا ما تسيء الظن في قدر الله وقضائه.
7- مصباح الشريعة ص168 ط1.
8- تحف العقول ص58 ط2.
9- فرار من الله، لواذ بغيره، انفصال عن الله، استعاذة بغيره، إذن فليطلب الحمى، وليطلب الوقاية، وليطلب السعادة ممن لجأ إليه.
10- الكافي للشيخ الكليني ج2 ص163 ط4. وفي نقل آخر للحديث “…. فليس منهم”.
11- كم هو من فرق بين الانتماء إلى مجتمع كافر، والاكتساب لعضوية المجتمع الكافر، وبين الانتماء إلى مجتمع مؤمن واكتساب عضويته. ولكننا لا نقدّر الأمور.
12- الكافي للشيخ الكليني ج2 ص534 ط4.
والشيء الذي يُخزن هو الشيء العزيز الغالي النفيس.
13- أي درع تتخذه بحولك وقوتك يمكن أن يُخترق، وكل الأسيجة، وكل الحصون التي يحيط الكبار بها أنفسهم لا تجدي شيئا مع قدر الله سبحانه وتعالى أليس كذلك؟.
14- سورة التوحيد.
15- صارت الأمة تبحث عن بديلٍ سيءٍ عن الإسلام لما أصابه من تشويه على يد الحاكمين باسمه وهم لا يؤمنون به حق الإيمان.
16- ذاك هو الإسلام، فماذا عن الإسلاميين؟
17- الحكم الإسلامي، الحكم، موقع الحكم يتطلب كل هذا.
18- هذا خطرٌ آخر 19- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى