خطبة الجمعة (459) 6 شعبان 1432هـ – 8 يوليو 2011م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: مثل الدنيا

الخطبة الثانية: أشهر البركة – نظرتان – إصلاح الخطوة خطوة – الحوار والإصلاح

الخطبة الأولى

الحمدلله الذي لا قُدرة مكانَ قدرته، ولا تنفعُ رحمةٌ من دون رحمته، ولا ملجأَ منه إلى غيره، ولا شفاعةَ لأحدٍ إلاَّ بإذنه، ولا مُنقِذَ من عذابه وناره إلاّ رضاه، وكلُّ نفس أمرها بيده، ومرجِع كلّ أمر إليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله، ونفسي المقصِّرة بتقوى الله، والتفكّر في أمر النّفس والدّنيا، والآخرة والمصير، وأن نستحضر في داخلنا ووعينا هذه الأسئلة:
هل تبقى لأحدٍ دُنياه لو قدّمها على آخرته؟
هل تصفو له ما كُتِب له أن يكون فيها؟
روحه إلى فناء دائم إذا أُخرِج منها حتى لا يبالي في التي بعدها(1)؟
هل هو متروك لشأنه إذا أُرغم على مغادرتها حتى لا يحمل همَّ إسرافه على نفسه فيها؟
هل له من مُنقِذ أو شفيع يملك الشفاعة من دون الله لو سُئِل عمَّا فرّط فيها؟
هل له من صبر وعذاب يتهدّده لإساءته بعد رحيله منها؟
هل شأنُ الآخرة مما يصحُّ التساهل فيه نعيماً كان، أو عذاباً أو مكثاً وبقاءاً ممن آمن به أو حتى احتمله احتمالاً؟
أسئلة لا يتجاوزها عاقل، ولا يُقلِّل من شأنها نابه، ولا يتغافل عنها رشيد، ولا يستخفّ بها ذو لُبّ.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا، واجعلنا ربَّنا ممن فكّر وتدبّر، فاهتدى وأبصر، وغَلَبَ الهوى، ولم تخدْعه الدُّنيا، ولم تصرْعه النَّفْس، وانتصر على الشّيطان، وما ضلّ وما غوى، وانقاد للمولى، وأطاع الملك الأعلى برحمتك يا أرحم الرّاحمين.

أما بعد فالعنوان: مثل الدّنيا:

عن رسول الله صلّى الله عليه وآله للضحَّاك بن سُفيان:”يا ضحّاك ما طعامك؟ قال: يا رسول الله اللحم واللبن، قال: ثم يصير إلى ماذا؟(2) قال: إلى ما قد علمتَ! قال: فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا”(3).
وعنه صلَّى الله عليه وآله:”إنّ مطعم ابن آدم جعل مثلاً للدّنيا وإن قَزَّحَهُ ومَلَّحَه، فانظر إلى ما يصير”(4).
وعنه صلوات الله وسلامه عليه وآله:”لما جاءه قوم فسألهم: ألكم طعام؟ قالوا نعم، قال: فلكم شراب؟ قالوا نعم، قال: وتبرّدونه؟ قالوا نعم قال: فإن معادهما كمعاد الدّنيا، يقوم أحدكم إلى خلف بيته فيمسك أنفه من نَتنِه”(5).
الأحاديث الثلاثة تُقدِّم صورةً ناطقة عن الدُّنيا في واقعٍ حسّي ملموس، ومَثَلٍ معاش لا يمكن لإنسان إنكاره، وليس فيه من صعوبةٍ تمنع من فهمه، وتُبطّئ من إدراك مرماه. يُعطيك صورةً شاخصة عن الدّنيا مكشوفة لا تحتاج إلى تفحُّص، ولا تُكلِّفك وقفةَ تأمُّلٍ واستيعاب إلاّ لتتمثَّل درسَها شعوراً، واستيقاظَ نفس، وانتفاض إرادةٍ للتحرّر من غرور الدّنيا، وهزيمةِ سحرها، وكسر القيد، والانفلات من الأسر.
وهكذا هي كلمات الرسول وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم أجمعين حكمة، وعمق، وسلاسة، ووضوح، ودروس صدق ثرّة يستقيم بها أمر الإنسان والحياة.
والملاحظ أن الأحاديث الثلاثة قد جعلت المطعم والمشرب المُطيَّبَ المؤنّق في مظهره هذا، ومنتهاه مَثَلاً، والدُّنيا ممثّلاً له، والمثل لاحق للمثَّل له في القبح والجمال والنقص والكمال، والكراهة والروعة، وما يُمكن أن يكبُر الآخر إنما هو الممثّل له لا المثل الذي يُقرّب ما عليه الممثّل له من صورة(6).
فإذا كان ما يؤول إليه الطعام والشراب مؤذيّاً منفِّراً يتوارى به، ويُفرّ منه، فإن ما يؤول إليه الانكباب على الدّنيا والولعُ بها، وانصراف الهِمَّة للتكاثر منها أشدُّ إيلاماً وأذى وسوءاً، والنفس منه ستصير أشدّ وحشة، ونفاراً وفراراً يوم يُكشف الغطاء، وتظهر الأمور المستورة على حقيقتها، وتُعلن السرائر.
وما تبنيه الدّنيا بدنٌ هو في نهايته جيفة لا يصبر الأحياء على ريحها(7)، ومنها يهربون. وحبُّ الدنيا يُقيم في النّفس(8) أفكاراً عدوانية مظلمة، ومشاعر خسيسة ساقطة، وإرادة سيّئة مفسدة، ونيّات سوداء كالحة، وعلاقات مهتزّة خادعة، وفساداً شاملاً داخل الإنسان وخارجه.
وهذا كلُّه ينتهي بصاحبه إلى وجود ساقط بلا قيمة في ميزان الحق والعدل عند الله، مكانه النار يُلقى فيها رخيصاً مهيناً مطروداً، منبوذاً كأتفه ما يكون. نعم هكذا ينتهي بأحدنا جنون الدنيا وهوى جمع المال وتكديسه تقديساً لها واعتماداً عليها {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ(9)، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ}(10).
هذه هي الدنيا لمن اتخذها معبوداً من دون الله عزّ وجلّ، وقدَّمها على الآخرة، وربط مصيره بها، وباع النفس عليها، ولكنَّها المرتقى، والمفاز، وميدان التنافس في الخيرات، ومعراج الرُّوح، وسرّ السعادة لمن أقبل فيها على ربّه، وعمل فيها لآخرته، وخالف هواه، وأطاع مولاه، وقضاها جهاداً في سبيله، وجّدَّ في سعيه العبادي الشامل إليه.
وما درجات النعيم في الجنة، ومنازلُ الكرامة في الآخرة إلاّ من درجات الطّاعة لله تبارك وتعالى في الدّنيا.
والدُّنيا على طريق طاعة الله تأخذ المادةُ فيها دوراً بنّاءاً، وقيمة معنوية عالية(11)، وهدفاً كريماً، وتُكسِبُ عاقبة حميدة جليلة بما تتحول إليه من طاقة تنتهي إلى فكر يعيش رؤية إلاهية صادقة(12)، وشعور معرفيّ طاهر منفتح على الله سبحانه، وتألّق روحي نقيٍّ منشدٍّ إليه، وصعود قلبي في اتجاهه، وخضوع وخشوع، وتذلّل بين يديه، واطمئنان وسكينة ورضى بواسع لُطفه ورحمته، وإلى عمل صالح، ومواقف عدل، وخلُُق رفيع، وتطلُّعات كريمة.
وهذا هو ما يخلد به الإنسان سعيداً في جنّة الرِّضى والغفران والحبور، وما ينال به الكرامة عند ربّه، وتُسرُّ به نفسه يوم يحصَّل ما في الصدور. (13).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وأزواجنا وجيراننا، وكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم لا تُسقطنا في هوى الدُّنيا، ولا تجعلنا أسارى غرورها، ولا تجعلها مُعمية لأبصارنا، وسالِبةً لعقولنا، ومخرجة لنا من ديننا، واجعلنا من أهل البصيرة والحِكمة، ممن اختار الآخرة على الأولى، وعمل للتي هي أبقى، وتقبّل منا قليل ما قد يكون لنا من حسنة، وتجاوز عن كثير ما نأتيه من السّيئات إنَّك حنّان منّان، رؤوف رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}(14).

الخطبة الثانية

الحمدلله العليّ القدير، العزيز الحكيم، الفعّال لما يريد، قاهر من في السّماوات والأرض، يصغر لقهره الفراعنة ويذِلّ المستكبرون، ويخضع لجبروته كلُّ شيطان مريد، ويفزع من بطشه كلُّ جبّار عنيد. رحيم بالمظلومين، شديد على الظالمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله ألا فلنتّق الله، وهو أحقُّ من يُتَّقَى، وأولى من يُطاع؛ نعماؤه لا تحصى، وأخذه لا يؤمن، وقدرته لا تقاوم، وإحسانه قديم، وثوابه عظيم، وجماله لا يُحدّ، وجلاله لا يُدرك.
عباد الله ألا إنَّه لعلينا أن ندرك أن طاعة العبيد لا عِزّ فيها، وأنّ كل العِزّ في طاعة الله، وكيف تُعِزّ طاعة عبد لا يدري من أين تأتيه منيّته، ولا يضمن بقاءَ ساعة في دنياه، ولا يملك أن يمنع فَتْكَ جرثومة ضئيلة، ومكروب غير مرئيٍّ به؟! وكيف تُؤمِّنُ طاعةُ عبد ينام ليله ولا يدري ماذا سيحدث له في نومه، وهل يُوافي صباحه أو لا يوافيه؟!
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وجميع من يهمّنا أمره وأعذنا وإياهم من أن نُشرك بك شيئاً، أو ننسى ذكرك، ونُهمل شكرك، ونخسر عبادتك، وننسلخ من طاعتك فنستحقّ سخطك، ونكون من أهل نارك ونقمتك. اللهم اجعلنا من أصدق طائعيك، وأخصّ ذاكرين، وأخلص عبّادك يا ذا الجلال والإكرام، والفضل والإحسان، يا رؤوف يا رحيم.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله الصادق الأمين خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبينا ظاهراً ثابتا مقيماً.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فإلى هذه الكلمات:

أولاً: أشهر البركة:

تتصاعد موجة الأجواء الإيمانية العبِقة في أشهر البركة الثلاثة رجب وشعبان وشهر رمضان، وتكثر مناسبات المواليد الشّريفة لأهل بيت النبوّة من آل رسول الله صلَّى الله عليه وآله لتثير في ذاكرة الأمَّة المؤمنة حنينها لإسلامها العزيز وقادتها الحقيقيين، وتشدّدَ على الالتحام بهم في مسارها الطويل، ومعترك الحياة، وساحات التحدّي والجهاد المرير، ومواجهة الأزمات فلا تشُذَّ لها خطوة ولا كلمة عن الإسلام وأخلاقيته وشريعته وهدفه، ولا ترضى بديلاً عن تلك القِمم الشامخة والنماذج القدوة في أفقها المتعالي البعيد.
بُورك لأمَّة الإيمان بمناسبات مواليد الأئمة الأطهار في هذا الشهر، الحسين الشهيد، وزين العابدين والمنتظر القائم، ومولد ساقي عطاشى كربلاء أبي الفضل العباس عليهم السلام.

ثانياً: نظرتان:

هناك نظرة دينية في المسألة السياسيَّة، ونظرة أرضية استقرّ عندها الرّأيُ العالمي على مستوى الغالبية العظمى من الشّعوب في العالم، وعدد كثير من الأنظمة الرسميّة ولو نظريّاً.
النظرة الأولى تُرجع الحكم في الناس إلى مالكهم الحقّ وهو الله سبحانه، وتُحكِّم في المسألة السياسيَّة أمره ونهيه، وتعتمد فيها على إذنه، وإلزامه، وترخيصه، وردعه.
وهذه النظرة لا ترضى لحكم النّاس، ولا تسمح لهم بأن يختاروا من لا يرضى اللهُ علمَه وعدلَه وتقواه وتعففه ونزاهته، وخبرته وإخلاصه ووفاءه، وتقديمه لآخرته على دنياه، وتفانيه في نُصرة الحقِّ والعدل وإنصاف الناس، وصلابته في الدّين الذي لا حِفْظ للحقّ والعدل إلا به.
والنظرة الثانية وهي ترى أنَّ للإنسان حقَّ الاستقلال عن ربّه سبحانه في خياراته، ومنها الخيار السَّياسي ترى أنَّ الشعب هو مصدر السلطات، وأن أي سلطة لا تكتسب الشرعيةَ إلا بانتخاب الشعب لها ولو بالأغلبية.
فمن حقِّ أيّ شعب اليوم أن يستوقف أيّ سلطة ليُساءلها عمَّا تعتمد عليه من أساس في ممارسة الحكم على الناس، ولابُد لها من أن تراجع وضعها من هذه الناحية.
فإذا كانت سلطةً تعتمد النظرة الدينية في المسألة السياسيَّة فعليها أن تمتلك الأساس الذي يُوافق عليه الدّين للتوفّر على السلطة، وإذا كان سلطةً وضعيَّة فعليها أن تُصحِّح وضعها السياسي بما يتفق ومرجعية الشعب وكونه المصدر الأصل والوحيد للسّلطات. وأول ما في هذا الأمر هو انتخاب الشعب للسُّلطة، ووجود دستور يحكم العلاقة بها، ويكون من وضعه.

ثالثاً: إصلاح الخطوة الخطوة:

يظل الإصلاح السياسي معطَّلاً قروناً مع الحاجة الملحة له، وحتى المطالبة به، ثم إذا تفجّر الوعي السياسي عند الشّعوب وانتفضت من أجل الإصلاح، وعندما تضطر الحكومات والأنظمة له تحت الضغوط المختلفة يرتفع شعار إصلاح الخطوة خطوة.
ويُراد بهذا الشعار أن تصبر الشّعوب على الظلم والضيم وتعيش آلامها طويلاً في انتظار قطّارة الإصلاح.
ويُراد به أن تقبل الشعوب بأن تُعطي بين آونة وأخرى سيلاً من دماء أبنائها وبناتها، وتمتلئ منهم السجون وتُنتهك الأعراض، وترتفع درجة الجحيم العسكري، وتغلق في وجوههم أبواب العمل والدراسة، وكل ذلك ليخرجوا من تضحياتهم العزيزة بلا شيء، أو بشيء لا يذكر، وبخطوة إصلاحية لا تكاد تبين(15)، ليستعدّوا إلى جولة جديدة من التضحيات المضاعفة ولينتهوا إلى نتيجة مساوية.
هذا ليس عقلاً، ولا شيء فيه من الإنصاف. إنَّ من بذل الكثير لا يصح له أن يرجع بالمردود الحقير.
وهناك من يُحاول إقناع الشعوب بإصلاح الخطوة خطوة بالواقعية. ومفاد ذلك أنَّ على الشعوب أن تكون واقعيَّة، وتُقدِّر الظروف، والمعادلات الخارجيّة، وأن تقنع نفسها بأن ما لا يُدرك كلّه لا يترك كلّه.
والمراد الدّقيق لهذه الواقعية التي يطرحها هؤلاء هو مطالبة الشّعوب بأن تحترم منطق القوَّة الفتّاكة الذي تمارسه الحكومات، والإمكانات الهائلة التي تُسخِّرها في مواجهة الشعوب، وإسكات صوتها، ومصادرة رأيها، وإلغاء حقّها.
وهذا الطّرح يواجَه بأمرين:
الأول: أنَّ ما قد يقال عنه بأن خطوة على طريق الإصلاح في الكثير من الأحيان لا يمثّل حتى شيئاً من خطوة، وأنَّ كل ما طالب به هذا الشعب أو ذاك لا يزيد في نفسه على كونه خطوة واحدة.
ولماذا تُقسِّط الأنظمةُ على الشعوب الإصلاح وهو حقَّها، وفي الجانب الآخر تفتح عليها كل أبواب الشر والفساد دفعة واحدة؟!
والأمر الثاني في مواجهة المطروح المغلوط: هو أنّ الشعوب فيما ظهر جليّاً حسب الواقع قد اختارت أن لا يُثنيها عن المطالبة بحقّها ونيل كرامتها شيء(16).

رابعاً: الحوار والإصلاح:

المقصود الجديُّ للشعوب، ولمن يريد الخير من الأنظمة هو الإصلاح. والإصلاح لا يحتاج إلا لإرادة سياسية جازمة ممن يمتلكون قرار الإصلاح وأدواته ووسائله، وإعادة الحقوق.
والإصلاح في البحرين يحتاج إلى استجابة عملية من جانب الحكم لما ينصّ عليه الميثاق، وحتى الدستور المختَلَف عليه والذي تلتزم به الحكومة نظريّاً من كون الشعب مصدر السُّلطات.
فلو أُخذ بهذا النص وطُبِّق بأمانة وصدق لكان هذا هو الإصلاح، أو المفتاح الذي تُفكُّ به مغاليقُه.
أمَّا الحوار لو جَدَّ فمقدّمة قد تنتج جزئياً وقد لا تُنتج، وقد تجمع وقد تُفرِّق، وقد تُخفِّف وقد تؤزِّم.
هذا هو شأن الحوار الجادّ المهيَّء للإثمار، فما حال الحوار الذي دخله التلاعب والفساد والظلم قبل بدايته وفي مقدماته؟!
نتمنّى حلاً عادلاً يُريح الوطن وأهله، ولا يُريحُ إلاّ العدلُ والعدل في الاعتراف بحقوق الشعب، والتعجيل بها، وليس في الالتفاف عليها أو التسويف.
وإذا كان ما يُقارب أربعة عقود من المعاناة والصبر لم تُنتج خطوة إصلاحيَّة مؤثرة فإلى متى الانتظار؟!
وإذا كان من الحقّ الذي تعترف به الحكومات نظريّاً أنَّ الشعب مصدر السُّلطات فالحقّ لا يُسوّف فيه، وإذا كانت الحرية مطلباً ضروريّاً معترفاً به فلا تأجيل فيها، وإذا كان العدل والإنصاف لا يجوز لأحدٍ أن يعترض عليه، أو على المطالبة به، فلا يصحُّ لأحدٍ أن يؤخِّره، وإذا كانت الديموقراطية خيراً مسلَّماً به عند الحكومات فلا معنى لإرجاء ما هو خير مسلّم به.
وعلى المستوى الديموقراطي إن مبدأ (لكل صوت قيمة مساوية لقيمة الصوت الآخر) في مسألة الانتخابات مبدأ عادل بلحاظ الكم العددي إذ لا يُحابي حزباً على حساب حزب، ولا طائفة على حساب طائفة ولا يقلّل من قيمة أحد من مكوّنات المجتمع، فهو أنصف ما يكون من الناحية العددية.
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(17).
{.. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(18).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارحم شهداءنا وشهداء الإسلام أجمعين، وفكّ قيد الأسرى والمسجونين، واشف المرضى والجرحى والمعلولين من المؤمنين والمؤمنات أينما كانوا برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (19).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- أي الآخرة.
2- هذا اللحم واللبن يصير إلى ماذا؟
3- ميزان الحكمة ج1 ص2845 ط1.
كلمة قزّحه في الحديث تعني تَوبَلَهٍ وبزَّرَه.
4- المصدر السابق.
5- المصدر السابق.
يذهب لقضاء الحاجة، وهناك يُمسك أنفه من نتنه. من أين هذا النتن؟ من طعام أكله، وشراب شربه.
6- أيهما أكبر المثل أم الممثَّل له؟ المأخوذ مثلاً أصغر من الممثَّل له، إن كان المثل جميلا فالممثّل له أكثر جمالا، وإن كان المثل قبيحا فالممثّل له أشد قبحا. هنا ما يخرج من فضلات الإنسان مثل، والدنيا ممثّل له، وضُرب المثل للقبح، فالدنيا أشدّ قبحاً مما مُثّل به لها.
7- ما هو أكبر شيء ماديّ تبنيه الدنيا؟ أليس هو البدن، والبدن مآله جيفة لا يصبر الأحياء على ريحها.
8- مادة الدنيا تقيم بدناً تلك نهايته، وحبّ الدنيا ماذا يقيم؟
9- يُرمى به رخيصاً.
10- سورة الهُمَزَة.
إذاً لا فرار، لا مهرب. 11- الدينار جنّة، ومنزلة عالية في الجنة حينما يوضع في طاعة الله تبارك وتعالى، يُكسب من حلال ويوضع في طاعة الله تبارك وتعالى، وهذا الطعام الذي وُصِف له أثر آخر كريم نبيل رفيع المستوى، والإنسان يختار بين أن يرتفع من مستوى المادة إلى مستوى الروح، إلى مستوى القيم، أو أن ينزل بقيمه ومعناه إلى مستوى المادة.
12- هذا الطعام والشراب عند المؤمن، عند العاقل يتحول إلى ماذا؟
13- نحن مادة تتبعثر، ومضمون صدور يُحصّل إما طيّب وإما خبيث. هذه هي نهايتنا.
14- سورة الكوثر.
15- هتاف جموع المصلين بـ (هيهات منا الذلة).
16- هتاف جموع المصلين بـ (لن نركع إلا لله).
17- 8/ آل عمران.
18- 23/ الأعراف.
19- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى