خطبة الجمعة (436) 2 صفر 1432هـ – 7 يناير 2011م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الأولى: موضوع النبوة

الخطبة الثانية: أمانة المال العام والميزانية/ تفجير كنيسة الإسكندرية/ إلى أين الذهاب؟

 

أيها الجيل القائم… أيها الأب… أيها الأخ… العم… الخال… الأقارب… الجيران… الأصدقاء… أبقوا في أنفسكم بقية من دين وغيرة، وشرف وحمية، وعقل وحكمة، وخوف من الله حتى لا يكون اغتيال الجيل القادم بنين وبنات دينا وشرفا وعرضا وكرامة على أيدي الأحبة من آباء وأمهات، وأخوة وأخوات وجيران وأصدقاء.

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي مهَّد الأرض لخصبها وسقاها، وأنبت زروعها ونمَّاها، وبلَّغ شجرها وأثمره، وكثر خيرها ورعاها، وجعل مما أنبتت وأثمرت للحيوان علفا وقواما، وللإنسان غذاء ونماءا، ودواء وشفاءا، وضَّمنها لساكنها من الناس كنوزا وعطاء وفيرا، ومكَّن لهم ان يعمروها، ويشيدوا عليها حضارة، ومجدا، وبناء مستطيلا {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1) وإن الله واسع كريم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، والفزع إليه من كل نية سوء، وخاطرة ضلال ووسوسة نفس، وتزيين شيطان، وزلَّة لسان، وهفوة جَنان، وخَطوة تغضب الرب العظيم، وعلاقة تسخطه، وميل إلى هوى، ودخول في شر، وارتكاب سيئة، وعدول عن حق، ورجوع في باطل؛ فإن في كل ذلك فسادا كبيرا، وهلاكاً عظيما.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين أنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أعذنا جميعا من كل إدبار عن الطاعة، وإقبال على المعصية، وسوء ظن فيك، وحسن ظن في أعدائك، وتخل عن ولاية أوليائك، ودخول في مواَّدة من خالفك، وزهد فيهما رغبت فيه، ورغبة في ما زهدت عنه. اللهم اعصمنا بعصمة منك جامعة كافية مانعة شاملة لا نواقع معها مكروها من مكروهاتك، ولا يفوتونا بها محبوب مما تحب، ولا نأتي سواءا، ولا يصلنا سوء؛ إنك على كل شيء قدير وبالإجابة حقيق جدير.
أما بعد أيها الطيبون فالحديث متابعة للحديث في موضوع النبوة.
أهداف النبوة والرسالة(2):
1. إتمام الحجة:
لله سبحانه حجة العقل العلميّ والعمليّ وهو نور الفطرة الهادي للعباد إليه، والدّالُ بصورة إجمالية على طريقه، والفاتحُ لباب القلوبِ على دينه، والمشير إلى الغاية السامية الكريمة من خلق الإنسان ووجوده وحياته، والكمال الذي يجب أن ينفق من أجله وقته، وطاقته وكل مواهبه.
لكن حاجة الإنسان مع كل ذلك إلى الهدايات التفصيلية والمنهج الحياتي الشامل، والتربية عليه وتطبيقه، والتذكير بالفطرة، واستثارة مكنونها، والبلورة الأشدّ لهداها، والبناء الفوقيّ عليها، وحمايتها من أوضاع التعكير، والتضليل، والطمس، والتهميش، وعجزَ الإمكانات البشرية عن القيام بكل ذلك كما سبق في الحديث عن ضرورة النبوة جعل إتمام الحجة الإلهية على الناس هدفاً من أهداف النبوة والرسالة التي لابد منها.
تقول الكلمةُ عن أمير المؤمنين عليه السلام:”فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجُّوا عليهم بالتبليغ”(3)، وتقول الكلمة الأخرى عنه عليه السلام:”بعث الله رسله بما خصّهم به من وحيه، وجعلهم حجة له على خلقه لئلا تجب الحُجّة لهم بترك الإعذار إليهم فدعاهم بلسان الصدق(4) إلى سبيل الحق”(5).
فإتمام الحجة لله على عبادة هدف جلي من أهداف الرسالة، وبإرسال الرسل ووصول خبر دعوتهم إلى أي مسمع يُقطع عذرُ كل معتذر، ويسد باب حجة يحتج بها عبد أسرف على نفسه، وأمّة ضيعت طريق هداها.
التوحيد العام الخالص:
والمقصود به أن توحِّدَ الإنسانية فردُها ومجتُمعها ربَّها الحق الذي لا رب لها غيره في فكرها ومشاعرها وكل مساحات حياتها، وتخصه بالعبادة والطاعة، ولا تشرك به شيئا، وترجع إليه في كل هداها وتشريعها، ومنهج حياتها، وما تأخذ به من هدف، وتسعى إليه من غاية.
ولأنه لا طريق للإنسان إلى شيء من الرحمة والنعمة والكرامة والمكانة اللائقة، والكمال والسعادة -وكل ذلك هدف الخلق عند الله للإنسان- إلا بتوجههإلى رّبه وانشداده إليه، وتعلقه به، والعكوف على عبادته، والانفصال عن كل الأرباب الزائفة من دونه، والاستقامة على طريقه، والوفاء بعهده وميثاقه تحتم أن يكون التوحيد هدفا أساسا للنبوة والرسالة، وعمل الرسالات منصبا عليه، وقاطعا للطريق على معارضيه من الدّاعين للعبادة العبادة والطاعة لغير الله من غير إذنه، والأخذ منه من غير أمره.
وأمُر من هذا الهدف واضح جلي، وشواهده حاضرة في ذهن كل فكر مسلم، ويأتي ذكر بعض النصوص تبركا وتشرُّفا.
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم…}(6).
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}(7).
رسول الله صلى الله عليه وآله من كتابه إلى أهالي نجران:”… أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد(8)، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد”(9).
وعن الإمام علي عليه السلام:”إن الله تبارك وتعالى بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) بالحق ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته(10)، ومن عهود عباده إلى عهوده(11)، ومن طاعة عباده إلى طاعته، ومن ولاية عباده إلى ولايته”(12) وإذا تم ذلك صحت كل أوضاع الحياة والإنسان، وربح منقلبه.
وتنبثق من هذا الهدف الرئيس أهداف تابعة إيصالا إليه، وتطبيقا له، ونتائجَ من نتائجه.
ومما يدخل في فتحِ القلوب والأرواح والنفوس بدرجة أكبر على قضية التوحيد، وتفعيلها في حياة الإنسان وحياته ما يأتي:
1. تعليم الكتاب والحكمة:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(13).
في ضوء علم الكتاب وأنواره، وحكمته، ودروس الوحي الخبيرة بكيان الإنسان، والدور التربوي الماهر المثابر المخلص لحملة الرسالات الإلهية، وموقع القدوة المشعِّ الذي يتمتعون به؛ في ضوء كل ذلك تتنبُّه القوى المدركة، والأشواق الكريمة، والفطرة الطاهرة، وحب الكمال، وصوت التوحيد في داخل النفس البشرية، مما يشد الناس فكرهم وشعورهم وحركتهم إلى خط التوحيد، والتعلق به، والوفاء له، واستقذار غيره، وتطليق ما سواه.
2. وضع الإصر والأغلال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}(14).
تضع الجاهلية، وانفصال الأرض عن السماء على فكر الإنسان، وشعوره، وبصيرته، وروحه وقلبه و إرادته، وحركته الصاعدة أثقالا، وقيودا وأغلالا، وتثير في خط رؤيته شبهات، وتلّوث نفسه بالأوضار، وتحجب نظره إلى الحق، وتقعد بإرادته عن متابعته، وتصدْ عن ذكر الله، وتشغلُ حياته بالتفاهات والتضليلات، وتتلاعب بمشاعره، وتخدعه وتغرر به، وتنسيه قيمته وكرامته، وتشرّعُ له ما يبتعد به عن استقامته وكماله، وما فيه مصلحته وهداه وسعادته، فتتفه حياته، وينحدر مستواه، وتضيع قيمة وجوده.
ويأتي دور الأنبياء والرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، ورسالتهم القادرة لكسر حالة الجمود، ومسِّببات الإقعاد، وحالة المصادرة لحركة التحرر من أسر الأرض والهوى والشيطان من أغلالٍ وقيود، وإزاحة الشبهات، وتخليص النفس من الأوضاع والأثقال المبطِّئة للنمو الطيب، المعيقة للحركة الكريمة، والضلالات والسخافات والألاعيب بالعقول والقلوب والأرواح مما يحجب عن الله، ويقطع طريق عباده إليه.
وهذا الهدف كسابقه، وككل الأهداف المنضوية تحت هذا القسم تمثلُ صعودا في مستوى الإنسان، وقيمةً جديدة له، وحلاً لمشكلاته، وتكميلاً له، وهي تُعدِّّه في الوقت نفسه لدرجة أكبر من توحيده لربه، والإخلاص في عبوديته له، ومعرفته بحقه، والشوق إليه، والاستغناء به، لأن هناك تلازماً لا ينفككُ بين تصحيح أوضاع الإنسان فيما يتصل بتفكيره وشعوره ورؤيته وإرادته وسلوكه وأوضاعِ حياته والارتفاع في مستوى جديّته، وسلامة نفسيته، وقلة العوائق والشبهات في طريقه، والملهيات المضلة له وبين قربه من التوحيد الحق الصادق الخالص الذي هو سر كماله وسعادته.
اللهم صلّ وسلّم على محمد وآله محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم خذ بنا برحمة منك ولطف إلى سبيلك، واسلك بنا صراطك، واهدنا إلى الغاية الكريمة التي خلقتنا من أجلها، والعاقبة الحميدة التي ارتضيتها لنا، والمصير السعيد الذي وعدت به أولياءك، وأحببت أن يفوز به أحباؤك، واكفنا ما ينحرف بنا عن صراطك، ويخرجنا من طاعتك، ويحرمنا من رحمتك، يا أرحم الرحمين، ويا أكرم الأكرمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لم يخلق شيئا عبثا، ولم يترك عباده هملا، ولم يكلفهم رهقا، ولم يطلب بهم نفعا، أو أن يدفع عنه بهم ضرّا، كلَّفهم التكليف الذي يقربهم إلى رحمة، ويؤهلم إلى ثوابه، ويُعدهم لسعادة جنته، وموفور كرامته، وفَتَح لهم باب التوبة، ورغَّبهم في الأوبة. إنه الجواد الكريم، البرُ الرحيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
عباد الله ما أعظم تقوى الله خيرا وبركة، وإمدادا للنفس بالهدى، والقوة، والاطمئنان، والراحة، والاستقرار والصمود، وما أشد إصلاحها لأوضاع الحياة، وما أكرمها من زاد للآخرة؛ فلنرغب فيها، ولنرب النفوس عليها، ولا نستبدل عنها فنخسَّ ونجني على أنفسنا، ونكون من الخاسرين.
ويقول سبحانه عن التقوى:{… وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}(15).
{… وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}(16).
{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً}(17) فهنيئا لمن ألزم نفسه بالتقوى.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وكفّر عنّا سيئاتنا، وضاعف لنا حسناتنا، وأسعدنا في دنيانا وأخرانا، واصرف قلوبنا إليك، واجعل إرادتنا من إرادتك، واختيارنا من اختيارك، وهب لنا من لدنك رحمة وبركة وسلاماً.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين إنك أنت التواب الرحيم
اللهم أمسك كل جوانحنا وجوارحنا في لطفٍ منك وعافية ورحمة عن كل مأثم، واعصمنا من الوقوع في أي ورطة ومندم، وارزقنا دوام الطاعة، وصدق التوجه إليك، والرضا بما قسمت، والتسليم لما قضيت، والتزام ما شرّعت يا أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، يا من هو على كل شيء قدير.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم عجّل فرج ولي أمرنا القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يا رب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وسائر المؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فإلى هذه المواضيع:
أمانة المال العام والميزانية:
المال العام مال الشعب ويشترك فيه كلّ أبنائه، والسرقة منه، والتحايل عليه، وسوء التصرف فيه يعطي كل مواطن حق الوقوف في وجه الأفعال الخيانية ومن وراءها والمطالبة بمحاكمتهم ومعاقبتهم وإرجاع المال بعينه أو عوضه إلى مكانه.
فالمطلوب رقابة حقيقة لا رقابة اسمية، والرقابة الحكومية لا تكفي بلا رقابة نيابية حرة ومسموعة من دون عملية التفاف ومراوغة.
والمهم في علاج الفساد المالي وغيره أساسا هو التوظيف على أساس الكفاءة والأمانة، لا الموالاة للأشخاص والمحاباة.
والرقابة ونتائجها الموثَّقة قيمتها ليست ذاتية، وإنما طريقية؛ فما لم يترتب عليها الجزاء الوفاق لجناية الجاني مثَّلت إقرارا للفساد المكتشف الموثق(18).
وكلما سرق كبار المسئولين شجَّع ذلك صغارهم على السرقة، وكلما كثر السراق الرسميون للمال العام كلما توفرت الجريمة على عدد أكبر من الحماة، وحصلت على جيش من المدافعين من المؤتمنين على هذا المال، وحصل تعطيل لعجلة الإصلاح.
ولا يؤدب الصغار كورع الكبار عن المال العام، واحترامهم له(19)، وحبس أيديهم عنه، والشعب هو المتضرر الأول من انتشار الفساد المالي، ولكن أي حكومة لابد أن تنهار إذا تفاقم هذا الفساد.
وكيف لعلاوة الغلاء أن توقف، وللأيدي العابثة في مال الشعب أن تطلق؟! وكيف يبذل على حفلة لهو واحدة عشرات الألوف من الدنانير أو أكثر، ولا ينفق على سد جوعة المواطنين خمسون مليون دينار في عام كامل؟!
وكيف تسحب علاوة الغلاء من الميزانية لتقفز ميزانية الأمن بما يدخل تحت هذا العنوان “من تعديات سافرة على أمن المواطنين” بنسبة 75/18 في المائة للميزانية الأمنية لعام 2011-2012 بالقياس للعام 2009-2010م؟!
وربما كان سحب علاوة الغلاء من الميزانية لتنصبَّ مساومات النواب لتمرير الميزانية على تثبيت العلاوة مع الإعراض عن إهمال شأن الإسكان والصحة والتعليم والبنية التحتية بالمستوى الذي تستحقه لحساب الناحية الأمنية.
ويجب أن يطال التدقيق والمحاسبة كل ذي موقع له صلة بالمال العام كبيرا كان الشخص أو صغيرا حتى النيابيين والبلديين وفاقيين أو غير وفاقيين حماية لهذا المال، ودرءا للتلاعب به وضياعه.
تفجير كنسية الإسكندرية:
هذه التفجيرات للمساجد والمشاهد والحسينيات والكنائس والأسواق الآمنة تؤول إلى كونها حربا على دين الله لأنها تشوّهه، وتقدّمه للناس دنيا مشجعا على الجريمة، متعطشا للدماء، فتّاكا بالأرواح، لا يفرِّق بين مجرم وبرئ، ومحارب ومسالم، ولا يحمل ذرة من رحمة على طفل صغير، وشيخ فان، وعجوز متهالكة غير داخلين في صراع واقتتال، ومواجهات.
والجريمة ابتداء جريمة نظام رسمي في الغرب والشرق، حارب دين الله، وحرّفه، وظلم كثيرا، واستعمله ورقة رخيصة بيد السياسة، وأنشأ جماعات دينية عمياء متعصبة بعيدة في تعصبها عن بصيرة الدين ليضرب بها من يريد، ويصفِّي حساباته السياسيّة مع من يريد، ويقلق بها من يريد، ويفرق ويمزق من يريد، ويفسد ما يفسد، ويدمر ما يدمر.
وقد تتعملق الوجوادت الدينية المصطنعة وتتمرد على صانعيها فتنزل بهم الضربات المؤلمة، وتقلق راحتهم التي كانوا ينشدونها، وقد تتبخر أنظمة بسبب صنائعها.
وهل تعي الأنظمة خطورة ما تفعله بنفسها عندما تعطي الضوء الأخضر لعملائها للانطلاق في السب والشتم والتخوين والتكفير والتهديد والتوعد والإسقاط والتشهير والزور والبهتان والتآمر كيدا بطرف من الأطراف في المجتمع تعاديه هذه أو تلك من الحكومات؟ أتعي؟ أتتعظ أتتراجع عن هذه الألاعيب الصبيانية التي تشتعل الفتن، وتحول حياة المجتمع الواحد إلى حرب طاحنة وجحيم يحرق الحكومات نفسها، من دون أن تملك أن تخرج من المأزق، ويوجه سهام الجميع لها في الأخير؟!
تفجير كنسية الإسكندرية جريمة بشعة يرفضها فكر الإسلام، وفقهه، وأخلاقيته، وضميره. وعلى المسلم أن ينكر المنكر من نفسه قبل أن ينكره من غيره، وأن يتوب عنه قبل أن يسأل غيره منه التوبة. وهو يرفض أن يصل من ظلم منه إلى الغير رفضه أن يصل ظلم من الغير إليه.
المسلم الحق لا يقف من الظلم يصيب الغير موقف المتفرج، حتى إذا وصله أنكره وعلا منه الضجيج. المسلم الحق ينكرالظلم الذي لا يصله، وهو بعيد عنه بمسافات شاسعة، ومصيبة الناس أنهم لا ينكرون الظلم حتى يصلهم ويحرقهم.
والمسلم الحق تتعلم منه الدنيا كلها التزام الحق والعدل، والدعوة الصادقة للأمن والسلام، والأخذ بأسبابهما.
وللغرب دور بارز فعّال في ردود الفعل الطائشة من بعض المسلمين ذلك للسياسة الغربية العدوانية للمسلمين في الغرب وبلاد الإسلام، والسيطرة الغاشمة التي يفرضها على كثير من البلاد الإسلامية، والغزو السافر لها، والمؤامرات الظلامية التي يديوها ضدها، وللتهجم الظالم على المقدسات الإسلامية بكل صلافة ووقاحة تهجما يمارسه حتى بعض رجال الدين هناك، ويحمى رسميا ويدافع عنه باسم حرية التعبير.
إلى أين الذهاب؟
إلى أين يريد الذهاب مجتمعنا؟ للانسحاق، للهاوية، للفوضى، للذوبان، للتلاشي، للكوارث، للانتحار؟!
بلغ الأمر أن تصل حوادث زنى المحارم الظاهرةُ إلى العلن إلى ما نشرته الوسط، ومن أشد المحارم لُحمة، في أوساط المسلمين؟ وأن يصل الانفلات إلى هدم كل السدود والحواجز الدينية والعاطفية النبيلة، والنسبية الحميمة، والاجتماعية المنيعة ليغتال العم شرف بنت أخيه، والخال شرف بنت أخته، والأخ شرف أخته، والأب شرف ابته، ويسفك دينها وحرمتها وأمنها، وثقتها بنفسها ودينها، وشعورها السويَّ، ويلوِّث عرضها، ويدَمِّر حاضرها ومستقبلها. كل ذلك مسترخص عنده من أجل شهوته؟!
ليست هنا ظاهرة ولكنها بدايات خطيرة منذرة. والبدايات السيئة ما أسرع ما تتحول مع عدم الاحتراس والمواجهة إلى ظواهر مدمرة.
والظاهرة التي ترسم الطريق إليها هذه البدايات من أقبح القبائح، وأفجع الفجائع، وأخطر ما يأتي على المجتمعات، وينفي الدين، ويقضي عليه.
وإذا كان الزنا بغير المحارم من أكبر الكبائر كما عن الباقر عليه السلام “والزنا من أكبر الكبائر”(20) فكيف بزنا المحارم؟! وما أجرأها من نفس تفعل هذا القبيح على الحرمات، وما أحطها، وأخسر قدرها في الميزان!!
وقد شدد الله عقوبة الزنا لشدة قبح هذا الفعل وسوء أثره. فكانت عقوبته المعروفة من الشريعة مائة جلة لغير المحصن، والرجمَ حتى الموت لمن كان محصنا.
وفي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام لما سئل عن رجل اغتصب امرأة فرجها: يقتل محصنا كان أو غير محصن(21).
ولأن الخطر الكبير، والخوف من الموت المحتم كثيرا ما يكسر الشهوة المجنونة، ويئد صوت الشيطان، ويعيد إلى التروي فلو طبقت حدود الله التي نصت عليها شريعته وحتى برغم الأجواء المساعدة على الجريمة، الدافعة والمسهلة لها لحال تطبيقها بين المجتمعات وهذا الانفلات.
ولكن السياسة الوضعية في واد، والدين وسلامته وأمنه وأمن مجتمعاته وقيمة الإنسان في واد آخر لا يلتقيان.
ومن تربية السياسة الوضعية، وفتحها الأبواب على كل ما يحطِّم الدين والخلق القويم، وما تشجع عليه من رذيلة، وما يجره ظلمها من فقر ومشكلات حادة، ومن اقتحام إعلام الفسق والفجور العالمي وعروضه المستفزة كل زاوية من الزوايا وبيت من البيوت تجد كل الظواهر القبيحة الفاحشة مدخلها السهل والمفتوح إلى المجتمعات.
أيها الجيل القائم… أيها الأب… أيها الأخ… العم… الخال… الأقارب… الجيران… الأصدقاء… أبقوا في أنفسكم بقية من دين وغيرة، وشرف وحمية، وعقل وحكمة، وخوف من الله حتى لا يكون اغتيال الجيل القادم بنين وبنات دينا وشرفا وعرضا وكرامة على أيدي الأحبة من آباء وأمهات، وإخوة وأخوات وجيران وأصدقاء.
ولن يسلم أحد من الكبار فضلا عن الصغار من أن تصرعه الفتنة وهو يدخل فيها من خلال التعامل مع القنوات الإباحية، وكل وسائل التبذل، والتسيب، والانحلال. وإن لباس العري(22) والتبرج والفتنة والإثارة لتلهي به الأخت أخاها، ويمد البصر من أبيها إليها فضلا عن الأجنبي، (23) ولباس الصبا إذا كان من هذا النوع تطَّور إلى الأسوأ في عمر الشباب، والردّ إلى الصحيح من بعد ذلك ما أصعبه!!
أعطوا أيها المؤمنون من العناية التربوية، ومتابعة أمر الولد ذكرا كان أو أنثى منذ طفولته ما لم تكونوا تعرفون، فإنه لا حامي لأولادكم من الغرق في الفتنة بعد الله إلا أنتم، وأنتم مسؤولون، ولن يفلت أحد من حساب الله، وحساب الله آت.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم احمنا من مضلات الفتن، وسد عنا أبواب الشر، ومنافذ السوء، واجعل نطقنا بالحق، وفعلنا العدل، وسيرتنا طهرا، وقصدنا خيرا، و احفظنا في ديننا ودنيانا يا أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 18/ النحل.
2 كان الكلام في ضرورة النبوة والرسالة.
3 نهج البلاغة، ضبط الدكتور صبحي.ط. بيروت 1387هـ، ص43
4- وهو لسان الأنبياء.
5 المصدر نفسه ص 200.
6- 36/ النحل.
7- 25/ الأنبياء.
8- جئتكم أنقلكم من عبادة العباد إلى عبادة الله.
9- بحار الأنوار ج21 ص285.
10- أن حتى لو أأتي الخير وكان ذلك قربة لك ما عبدتُ الله.
11- تحترم عهود العباد لاحترامك عهد الله عز وجل.
12- الكافي ج8 ص386.
13- 2/ الجمعة.
14- 156/ الأعراف.
15- 2، 3/ الطلاق.
16- 4/ الطلاق.
17- 5/ الطلاق.
18 أنت توثق الخيانة ثم تسكت عليها فكأنك أمضيتها وفتحت أمامها الضوء الأخضر.
19 فلو حبس الكبير يده عن المال الحرام لتأدب الصغير وحبس يده عنه.
20 ميزان الحكمة ج4 ص 156
21 مع انضمام عنصر الاغتصاب إلى الزنا.
22 ولباس العري درجات.
23 والبيوت مبتلاة بهذا اللباس المتبذل، المترخص الفاسق، الفاجر.

 

زر الذهاب إلى الأعلى