خطبة الجمعة (434) 17 محرم الحرام 1431هـ – 23 ديسمبر 2010م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: متابعة موضوع العبادة

الخطبة الثانية: بأي حصيلة خرجنا من عاشوراء؟

ما دام إيماننا سحطيّاً، وحبُّنا لله وللدّين وللحسين عليه السّلام مُزاحَماً بحبّ الدُّنيا، وسلوكنا في مساحة كبيرة منه لا يلتقي وخطَّ هذا الحبّ، وإرادتنا مهزومة أمام الدنيا في رَغَبِها ورَهَبِها، وولاءاتنا وعلاقاتنا كثيراً ما تتحرّك خارج دائرة الإيمان فلن نضمنَ أنْ لو جدّ الجدّ، وصعُب الحال، وتقابلت الدّنيا والآخرة في موقف حاسم، وتحتّمت خسارة إحداهما في معركة فاصلة، وتَقَاتَلَ الحسينُ عليه السلام ويزيد، تقاتل الحقّ والباطل… أن ننصر الحسين عليه السلام، أو لا تكونَ أيدينا عليه وإن كانت قلوبنا معه، ولا نخذلَه، ولا نظهر الشماتة به وإن كنا نكرهها.


الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يُحيي القلوبَ ذكرٌ إلاّ ذكرُه، ولا ترفع العبادةُ أحداً إلا عبادتُه، ولا يُطَمْئِن النفوسَ كمناجاته، ولا تستغني الحياةُ عن دينه، ولا يُقوِّمها شيءٌ كنهجه، ولا تُنال الكرامةُ إلاّ بطاعته، ولا تقِرُّ العقولُ إلاّ بالوصول إليه، ولا سعادةَ لأحد كسعادة أوليائه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحقّ بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. اللهم صل على محمد وآل محمد.
أوصيكم عباد الله ونفسي ومن يعنيني أمره بتقوى الله، وأن نتخذ هداه هدى، ودينه دينا، ولا نستبدلَ عن ذلك شيئاً أبداً، ولا نبتغي عمَّا اختاره لعباده بدلا. ومن طلب هدى الله فقد جعل الله القرآن هدى، ولا هُدَى في الأرض على خلاف هداه، ولا أقوم مما هدى إليه كتاب الله {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ…}(1).
وقد اختار دينَه إليه طريقا، وجعل فيه نجاةَ عباده، وخيرَ دنياهم وأخراهم. وهل أحسنُ مما اصطفى الله ديناً، ودلَّ عليه طريقاً، وأقومُ منه سبيلاً، وأدقُّ إحكاماً، وأسلمُ من عَطَب، وأوصلُ إلى الغاية، وأبعدُ من خطأ، وأبرأ من زَلَل، وأصوبُ للمصالح، وأنأى عن المفاسد؟! وهل غير الله إذا اصطفى ديناً أو طريقاً أمكن له أن يأتي بما يدنو مما اصطفاه الله خيراً وكمالاً، ودِقّة وإحكاماً؟!
ويقول كتاب الله العزيزُ على لسان إبراهيمَ ويعقوبَ عليهما السلام:{… إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}(2).
لقد اختار الله لعباده دينَه القويم، ومن شرّق أو غرّب عن الدّين الذي اصطفاه الله فقد اختار لنفسه الضّلال، ومن اتّبع هذا المبتدِعَ فقد استسلم لضلاله.
ويقول الله سبحانه:{…. إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }(3) وكلّ الدّين الذي أنزله الله على أنبيائه ورسله هو الإسلام ولا غيرُه، وهو دين التوحيد الحقّ، والعدل الصدق، والسلوك القويم، والخُلق الرفيع، والنظافة والطهارة والنزاهة. وما خالط أيَّ رسالة سماوية من قبلُ ومن بعدُ من غير هذا فهو من وضع الوضّاعين، وتحريف المحرِّفين، وبغي الظالمين. وما وُجِد شيء من شرك، أو ظلم، أو انحطاط، أو رجس في دين منسوب إلى السّماء إلاّ وفضح هذا الوضع والتحريف.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم لا توقعنا في سفه الاختيار لغير ما اختَرْتَه لعبادك، واصطفيته من دينك، ودعوت إليه من سبيلك، ولا تجعلنا ممن تتيه به السُّبُل، وتفترقُ به عن صراطك، ويتخذُ ربّاً غيرك، وكتاباً غير كتابك، ونهجاً غير نهجك، وأئمة غير الأئمة الذين ارتضيت، وجعلتهم طريقاً إليك يا رحيم، يا كريم.
أما بعد أيها السامعون الأعزاء فالحديث هو الحديث في 
موضوع العبادة:
عبَّاد متفاوتون:
تتفاوت العبادةُ قدراً وأجراً حسب نيّتها، وإن كانت بصورة إجمالية قد جاء بها العابد امتثالاً لأمر الله.
فهذا الامتثال يمكن أن يكون لطلب الثواب الموعود، ولولاه ما كان امتثال، وقد يأتي فِراراً من عقوبة الله التي توعّد العاصين عليها، ولو وجد العبدُ مأمناً من ذلك العذاب لما أتى بالعبادة. وهناك امتثال آخر لا نَظَرَ للعابد منه إلى ثواب أو عقاب، وإنّما يدفعه إليه معرفته بحقّ الله، وواجب شكره لنعمه، وعميقُ حبّه له.
ويُسقِط الامتثال من النوعين الأولين التكليف، ويتفضّل الله تبارك وتعالى بمثوبة منه عليه. أمّا الفضل الأكبر، والشّرف الأعظم، والمثوبة الفائقة فللامتثال من النوع الثالث. وهو العبادة التي ليس فوقها ولا مثلها عبادة.
والأحاديث تقول عن عبادة منطلقُها خوف العقاب بأنها عبادة العبيد، وعن عبادة منطلقها طلب الثواب بأنها عبادة التجّار، أما العبادة الثالثة وهي العبادة عن الحبّ والشكر فهي عبادة الأحرار الذين لا توجّههم العصا، ولا تستقطبهم الجزرة، ولا تملكهم المادة.
عن الإمام علي عليه لاسلام:”إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار”(4).
وعن الصادق عليه السلام:”إنَّ النَّاس يعبدون الله عزّ وجلّ على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبةً في ثوابه فتلك عبادة الحُرصاءِ وهو الطمع، وآخرون يعبدونه فَرَقاً(5) من النّار فتلك عبادة العبيد، وهي الرهبة، ولكنّي أعبده حبّاً له عزّ وجلّ فتلك عبادة الكرام وهو الأمن؛ لقوله عزّ وجل {… وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}(6)، ولقوله عز وجل {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }(7) فمن أحبَّ اللهَ أحبَّه اللهُ عزّ وجلّ، ومن أحبّه الله عزّ وجلّ كان من الآمنين”(8).
وكفى لنفسٍ يَقِظةٍ صافية، وقلب عرف من جلال الله وجماله المطلق شيئاً أن يَعشَقَه، وينجذب إليه، ويتعلقَ به، ويعبُدَه، ويشغَلَه عِشقُه وهُيامُه عن قيمة الثواب، وشدّة العقاب.
وهذه عبادة لا منظور فيها إلا الله، ولا قصد منها إلاَّ إليه، فلابد أن يرتفع وزنها في علمه وحكمته وتقديره.
عبادة خاسرة:
لا يُعبد الله بالمال الحرام، والمال الحرام يقذِّر العبادة ويسيئها ويبطلها؛ فالصلاة في الثوب الحرام، أو المكان الحرام، أو عن وضوء أو غسل بماء حرام فاقدة لشرط من شروطها، ومحكومة بالبطلان ولا يسقط بها الواجب(9). ومن صلّى هذه الصلاة فليعلم أنه لم يصلِّ، وعليه إذا أراد أن يخرج من التكليف الإلهي أن يؤدي الصلاة في وقتها، ومع فواته فعليه القضاء.
والمتصدِّق بمال غير حلال له مع علمه آثم لأن هذا التصدّق تصرف في مال الغير من دون إذنه.
ونقرأ في هذا بعض الحديث مما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”العبادة مع أكل الحرام كالبناء على الرمل (وقيل: على الماء)”(10).
فأكل المال الحرام حتى لو لم يدخل في تقويم العبادة(11) وأدائها يُذهِب أثرها، ويقضي على قيمتها، فلا تقيم بناءها الصالح للنفس، ولا تزكّيها.
وعنه صلّى الله عليه وآله:”إنّ لله ملكا ينادي على بيت المقدس كلّ ليلة: من أكل حراما لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. والصرف: النافلة، والعدل: الفريضة”(12).
فهذا رجل أكل الحرام ولم يُعْرَفْ من الحديث أن الحرام دخل صلاته، ومع ذلك لا تقبل منه صلاة نافلة ولا فريضة، وإن أسقطت هذه الصلاة التكليف.
وعنه صلّى الله عليه وآله:”لا يكتسب العبد مالاً حراماً فيتصدّق به فيؤجر عليه، ولا ينفق منه فيبارك (الله) فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان رادّه (زاده) إلى النّار”(13).
فلنتّق المال الحرام وما أكثره فإنه مبطل للعبادة إذا دخلها، أو مانع من قبولها لو سَلِمَت منه. وبذلك يخرج العبد من عبادته كلّها صفرَ اليدين، ويزيد على ذلك أن يكون مأثوماً.
عبادةٌ بلا لذَّة:
ربما سلمت العبادة من ناحية ظاهرية باستكمال كلِّ ما اعتُبِر فيها من مقوّمات، وشروط، وانتفاء موانع، ولكنَّ صاحِبها لا يجد منها لذّة، ولا يعيش فيها الأُنس، ولا يشعر بالحلاوة.
ومن شأن العبادة أن يجد فيها صاحبُها اللذة، والاطمئان، والأنس، والحلاوة، ولكن ما يعطِّل هذه الآثار المباركة لها، أو يحول بين العابد وبين أن يجدها هو أنَّ له هوى في الدّنيا ومالها وزينتها ومناصبها يُفسد عليه الاستذواقَ الرُّوحيَّ، والإحساسَ بطعم العبادة، وقُدرةَ الحضور القلبي الذي يتطلَّبه ترتُّب هذه الآثار.
وفي ذلك هذه الكلمات الثلاث عن المسيح والإمام عليٍّ عليهما السلام:
عن الإمام عليّ عليه السلام:”كيف يجد لذَّة العبادة من لا يصوم عن الهوى”(14).
الهوى يُضعف الرُّوح، ويُفسد القلب، وإنما يشعر بلذات العبادات هو القلب والروح، وليس ما دونهما.
وعن المسيح عليه السلام:”بحقٍّ أقول لكم:من إنّه كما ينظر المريض إلى طيّب الطعام فلا يلتذّه مع ما يجده من شدّة الوجع، كذلك صاحب الدُّنيا لا يلتذّ بالعبادة، ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب المال”(15).
وعنه عليه السلام:”بحقّ أقول لكم: من لا ينقّي من زرعه الحشيش يكثر فيه حتّى يَغمُرَه فيفسده، وكذلك من لا يُخرج من قلبه حبَّ الدّنيا يغمُرُه حتّى لا يجد لحب الآخرة طعما”(16).
صاحب الدّنيا المولع بها، المغرم بالمال، المأسور لحبّه يُمرِض ولعُه وغرامُه روحَه فلا تملك أن تستقبل لذة لعبادة. وهل لها من إقبال على العبادة، وانفتاح عليها، وقدرة تدبّر لمعانيها حتّى تستقبل لذّتها؟!
وحبُّ الدّنيا إذا نبت في القلب، واستولى عليه سَلَبَ منه صلاحه، وذائقته الرَّفيعة، ولم يُبْقِ فيه قابلية لاحتضان المعاني الجليلة، وفِقْه الحقائق الكبرى، واستطعام لذّتها.
لا تترك العبادة:
في العبادة جمال روحك، ودليل رجاحة تفكيرك، وصلاح قلبك، ويَقَظَةُ ضميرك، وبلوغ غايتك؛ فإن تخلّيت عنها تخليت عن كلّ ذلك، فمن الحماقة أن تفعل، وبعيد على العاقل أن يفعل.
ويتعجّب الرسول صلَّى الله عليه وآله في المنقول عنه من حديث من قبح ترك العبادة، وشفاعة التخلي عنها. وفي ذلك عمى بعد بصيرة، وضلال بعد هدى، وسفه بعد رشد كبير.
فعنه صلّى الله عليه وآله:”ما أقبح الفقر بعد الغنى(17)، وأقبح الخطيئة بعد المسكنة وأقبح من ذلك العابد لله ثم يدع عبادته”(18).
وعن الإمام الكاظم عليه السلام:”ما أقبح الفقر بعد الغنى. وأقبح الخطيئة بعد النُّسُكِ(19). وأقبح من ذلك العابد لله ثم يترك عبادته”(20).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ما مننت علينا به من هدايتك فلا تسلبه، واجعل إقبالنا على طاعتك في ازدياد، وعبادتنا لك في رغبة واشتياق، واكفنا شر الإدبار عن الطاعة، والفترة في العبادة، وزدنا توفيقاتك للخير يا كريم يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(21).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا خير إلا بيده، ولا شرَّ يُستدفع إلاّ به، ولا قاضي بأمر إلاّ بإذنه، ولا مَنْفَذَ لِفَرَجٍ إلاّ من عنده، ولا كاشف لكرب غيره، ولا مقدِّم ولا مؤخِّر سواه، ولا يُلجئ منه أحد، ولا يغني عنه أحد، ولا يفرّ من قَدَرِه أحد.
كلّ قويّ أمام قوّته ضعيف، وكلّ جبّار عند جبروته متضعضع، وكل مستكبر لقهره ذليل، ولا شيء إلاّ وهو صائر إليه، وخاضع لمشيئته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله، وأن نتذكّر أنّ مردَّ أبداننا إلى التّراب، ومآل نفوسنا إلى الحساب. فالأبدان منتهية، والأرواح باقية، والنفوس مسؤولة. وإذا كانت الأبدان عزيزة وهي لا تبقى فكيف بما له البقاء، ويكون له الحساب، ويصير مَحَلّ الثواب والعقاب، ويستتبع سُقْمه الشقاء، وصِحّته النعيم؟!
وليس من دين الله لوم على أحد أن اعتنى ببدنه، ورعى صحته، وعمل على سلامته وقوته، بل إنّه يدعو إلى ذلك، ويحثّ عليه، ولا يبيح لمن آمن به أن يهمل أمر بدنه بما يُسبِّب اعتلاله وسقمه، وتعطّل إنتاجه وحركته.
ولكن الدّين يلوم كلَّ اللوم من أهمل شأن روحه، وتسبَّب في ضلاله، وتردّي خُلُقِه، وسدّ منافذ الهدى والنور إلى قلبه، وأسقط بذلك إنسانيته وقيمته، وألغى كرامته، أو اعتبر أمرَ الرّوح شيئاً ثانويّاً في حياته، وهو لا بُدَّ أن يكون فيما ينبغي في مقدِّمة اهتماماته(22).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اجعلنا نقدِّم مَا لَه التقديمُ في دينك، ولا نُقدِّم شيئاً على رضاك، ولا نأخذ بنصح على خلاف نصحك، ولا نسلِّم لقول تسليمنا لقولك، ولا نقبل أمراً على خلاف أمرك، ولا ندخل مَدخلاً من موارد نهيك، وأعِذنا من مخالفتك يا حافظ يا رحمن يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء والمرسلين الصادق الأمين، وعلى عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصّديقة الطّاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقرَّبين، وأيِّده بروح القدس ياربّ العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصراً عزيزاً مبيناً ثابتاً مقيماً.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات من المؤمنين والمؤمنات فالحديث تحت عنوان واحد:
بأي حصيلة خرجنا من عاشوراء؟
دخلنا عَشَرَةَ عاشور ونحن نُحبّ الحسين عليه السلام شيئاً من حُبٍّ ولا أقول الحبَّ كلّه احتراماً لحبّ الحسين عليه السّلام، ولتخلّفنا الكثير عملاً عن هذا الحب، ونؤمن بإمامته بدرجة وأخرى ولا أقول الإيمان كلَّه لإخلال حياتنا الكبير بمتطلبات هذا الإيمان ومقتضاه، ونراه قدوةً تأخذ بالألباب، وقلوبنا معه، ولنا حزن على مصابه، وفزع لواعيته؛ واعية الإسلام.
أما حياتنا فكانت معه حيناً ومفارقةً له حيناً، وأيدينا معه حيناً وعليه حيناً، ومواقفنا وعلاقاتنا وكلماتنا مُسايرةً له حيناً، ومنابذة له حيناً(23)، وتضحياتنا من أجله حيناً، ومن أجل أعدائه أو هوانا حيناً.
وقد دخلت أمّةٌ واسعة كربلاءَ الأصلَ وهي تُحبُّ الحسين عليه السلام شيئاً من حبٍّ، وتؤمن بإمامته كما نؤمن بها، وتراه قدوةً كما نراه، وقلوبها معه، وكان لها حُزْنٌ على مصابه، وفزع لواعيته ولكنّ منها من اشترك فعلاً في دمه ودم أنصاره، وترويع حُرَمِه، وسلب نسائه، ومنهم من خَذَلَه، ووقف موقف المتفرّج من قتله، ومنهم من طَلَب الهروب والاعتزال لئلاّ يشترك في جريمة الحرب عليه دون أن ينصره، ومنهم من تردَّد في الأمر حتّى غَلَبَته شقوته. فما نَفَعَ ذلك الشيء من الحبِّ والإيمان والرؤية الكثيرين ممن كانوا عليه، ويتباهون به.
لقد كان الإيمان منقوصاً، والحبُّ مُزاحَماً بحبّ الدُّنيا، والسلوكُ العمليُّ في مساحة كبيرة منه ليس على طريقه، والإرادةُ أمام رغبة الدُّنيا ورهبتها مهزوزةً، مهزومةً، ساقطة، وبذلك وَصَلَ الأمر أن تكون القلوبُ معه والأيدي عليه، أو لا تنصرُه(24).
وما دام إيماننا سحطيّاً، وحبُّنا لله وللدّين وللحسين عليه السّلام مُزاحَماً بحبّ الدُّنيا، وسلوكنا في مساحة كبيرة منه لا يلتقي وخطَّ هذا الحبّ(25)، وإرادتنا مهزومة أمام الدنيا في رَغَبِها ورَهَبِها، وولاءاتنا وعلاقاتنا كثيراً ما تتحرّك خارج دائرة الإيمان فلن نضمنَ أنْ لو جدّ الجدّ، وصعُب الحال، وتقابلت الدّنيا والآخرة في موقف حاسم، وتحتّمت خسارة إحداهما في معركة فاصلة، وتَقَاتَلَ الحسينُ عليه السلام ويزيد الحقّ والباطل… أن ننصر الحسين عليه السلام(26)، أو لا تكونَ أيدينا عليه وإن كانت قلوبنا معه، ولا نخذلَه، ولا نظهر الشماتة به وإن كنا نكرهها.
قد يَعُدُّ البعضُ هذا مبالغةً في القول بعيدةً عن الواقع ولكنّي أطرح هنا مثالاً وهو أقلُّ بكثير في ما يكلِّفه موقف الالتزام فيه بالحقّ مما تكلِّفه حربُ السيوف يخوضها الحسين عليه السلام مكثوراً من الأعداء، قليلَ الناصر، تحيط به المنيّة وبمن معه من كلّ مكان. وبهذا المثل الصّغير في كلفته، العظيم جدّاً في ما يلحقه بالإسلام من قوة أو ضعف، وعزّ أو ذلّ، وظهور أو ضمور نستطيع أن نقيس مواقف جماعات كثيرة، وقبائل كثيرة، ومناطق كثيرة، وأفراداً كثيرين منا نحن الذين نقول بأننا نؤمن بالإسلام، ونُحبُّ الحسين عليه السلام ونواليه من مواجهة دموية حاسمة بين حياة راغدة نتوقّعها مع يزيد وشهادة محتّمة تحت راية الحسين عليه السلام مع عقوبات قاسية تلاحقنا إذا انهزم الحسين عليه السلام عسكرياً وقُتِل(27).
المثال: هو أن لو عاشت الأمة اليوم تجربة انتخابية لإمام عامٍّ لها، وخاض التجربة مرشحان أحدهما يرضاه الحسين عليه السلام وآخر يرفضه وكانت للثّاني دعايته الواسعة وإعلامه العريض، وميزانيّته الضّخمة، وعلاقاته المؤثّرة، وارتباطاته القوميّة والقبليّة والجغرافيّة المتينة، وصلاته الوثيقة بمراكز القوى المختلفة، وذلك على عكس ما عليه الأول، فكم هم الذين سَيَسْقط وعيُهم أمام قوة الإعلام، وتنهزم نفسيتهم أمام سلطان المال، ويُهيمن عليهم خيار القبيلة، والقوم، والمنطقة، ويردُعهم عن متابعة ضميرهم في اختيار الأصلح خوف تأثُّر المصالح، وغضبةُ قوى الشّر، وسيُشاركون في هزيمة الإسلام، وضربته ضربةً قاضية؟
يظهر أنّهم ليسوا قليلين كما تدلّ عليه بعضُ التّجارب الحيّة في عددٍ من المساحات الإسلاميّة، أمَّا لو كانت اليوم معركةٌ كمعركة الحسين عليه السلام ويزيد في فصولها الأخيرة؛ الحسين عليه السلام ومن معه فيها(28) مقتولون كما كانت تُشير إليه كلّ الدلائل(29)؛ ويزيد منتصر، ومن بقي من النّاس بعد ذلك شيعة للحسين عليه السلام خائفون محرومون مهانون مطاردون مشرّدون مقتولون، وشيعةٌ ليزيد آمنون مقرّبون مكرّمون يُزاد في عطائهم فإنَّ النّاصر للحسين عليه السلام لن يكون الكثير، وأن أنصار يزيد لن يتصفوا في هذا الحال بالقلّة(30).
نعم إذا كبُر توقع انتصار الحسين عليه السلام، وأن تصير الدنيا بيده فسيكثر ناصروه.
ولنرجع لعنوان هذا الحديث وهو: بأيِّ حصيلة خرجنا من عاشوراء؟
ما يُقدّمه موسم عاشوراء كثير، أذكر بعضها:
يخرج المؤمنون بانشدادٍ عاطفيٍّ أكبر للحسين عليه السلام.
موسمٌ يعزّ به الدِّين، ويظهر أمره، وتفشو كلمته.
يرفع من مستوى الحماس للدين، والغيرة من أجله.
يُقدّم فكراً دينيّاً ووعياً عامّاً، وبصيرة ميدانية.
يُعزِّز الثِّقة بالإسلام وقدرته على الإنقاذ وصدقه وإخلاصه.
يُصحِّح من مستوى الإرادة وتوجُّهها.
يشدُّ الجيل الناشئ بإسلامه، ويؤكد ارتباطه الفكري والنفسي به.
يُثير الشّوق العمليّ للعدل، والكراهية للظلم.
يُعطي حضوراً عمليّاً واسعاً مشهوداً للدين في الساحة الاجتماعية العامة.
يُعطي هذا والكثير غيره من الخير، ومع ذلك علينا أن نسأل أنفسنا بعد كلِّ موسم من مواسم عاشوراء هل وصلت حصيلتنا من هذا الموسم أن نقف مع خيار الحسين عليه السلام في كلِّ خياراتنا(31)، وعلاقاتنا، وفيما نقرأ، ونسمع، ونكتب، ونتكلَّم، ونفعل، ونصادق ونعادي، ونكسِب، وننشط، ونُقيم، ونسافر، وندرس، ونعاشر، ونأكل ونلبس، وهل نصرتنا في كل ذلك للدين أو لغيره، للحسين عليه السلام أو عدوّه؛ فإنّ كل مخالفة لدين الله في ما نأتيه أو ندعه نصرة لغير الدين عليه(32)، ولعدو الحسين على الحسين عليه السلام، وكل موافقة للدين هي نصرة للدين والحسين عليه السلام.
وهذه المعركة اليومية ومدى النّجاح والفشل فيها هي التي تقف بنا مع الحسين عليه السلام ولو احتوشته السِّهام، وكان القدر المحتّم له الشهادة، أو تقف بنا مع عدوّه نشاركه قتله وسلبه وسبيَ حريمه، ولا أقلّ من أن نمنعه النصر ونخذُله، وننكر حقّه العظيم(33).
أجِدُنا لم نبلغ الكثير في هذه المعركة الضّارية الطاحنة، وأنَّ علينا أن نبذل جهوداً مضنية لنبلغ شيئاً مجزياً فيها.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم ارزقنا بصيرة لا تختلط بها علينا الأمور، وإرادة إيمانية لا تخور عند الشدائد، وانصرنا على أنفسنا في معركة الحياة الطويلة، واجعل خيارنا الحسين عليه السلام ولو اجتمعت علينا الدُّنيا، واجعل كل قصدنا إليك، وعملنا في سبيلك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(34).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 9/ الإسراء.
2- 132/ البقر.
3- 19/ آل عمران.
4- نهج البلاغة ج4 ص53. شرح الشيخ محمد عبده.
5- فرقاً: خوفاً.
6- 89/ النمل.
7- 31/ آل عمران.
8- الخصال للشيخ الصدوق ص188.
9- يبقى العبد كأنّه لم يصلِّ .ولو قضى عمره كلّه على مثل هذه الصلاة لما كان قد صلّى ولا صلاة واحدة، فلنتق الله في معاملاتنا.
10- عدّة الداعي لابن فهد الحلي ص 141.
وهل يثبت بناء على رمل أو ماء؟!
11- الحديث يقول العبادة مع أكل الحرام. فالعبادة قد تكون صحيحة ولكنها ليست مقبولة لمن كان يأكل الحرام حسب الحديث.
12- عدّة الداعي لابن فهد الحلي ص140.
13- المصدر السابق ص93.
14- ميزان الحكمة ج3 ص 1805 ط1.
قبل الصلاة كان يعيش جوّ الهوى، ويستسلم للهوى، قبل لحظة من صلاته كانت هذه معايشته، ومن بعد الصلاة سيأتي نفس الدور، الصلاة هنا فاقدة لحلاوتها في نفس هذا العبد اللاهية العابثة الخاضعة للهوى.
15- تحف العقول لابن شعبة الحراني ص507.
16- تحف العقول لابن شعبة الحراني ص509.
17 – أرأيت كيف يكون موجعا مؤلما قبيحا؟
18- الكافي للشيخ الكليني ج2 ص84.
19 – النسك: العبادة والشعيرة.
20- تحف العقول لابن شعبة الحراني ص397.
21- سورة التوحيد.
22- فلتعطِ اهتماماً كبيراً لبدنك، ولحياتك، ولكن لابد أن يكون همّك الأكبر لجانب الروح.
23- نفعل هذا؟ نعم، نفعل هذا.
24- فلنحذر من هذا المصير.
25- كم من يومياتي تلتقي مع خطّ الحسين عليه السلام، وكم منها يفارق هذا الخط؟ وكم من سلوكياتي اليومية ما يعدُّ نصرةً للإمام الحسين عليه السلام وما يعدّ حربا على خطّه ومدرسته؟
26- لا نضمن هذا، وحالنا هذه.
27- معركة بهذا الواقع.
28- أي في المعركة.
29- أنا أقف في معركة هذا واقعها.
30- علينا أن نربّي أنفسنا أكثر مما عليه نحن الآن من تربية لها، لنصمد.
31- فلنمتحن أنفسنا في خياراتنا اليومية المتعددة.
32- كم ننصر أعداء الدّين على الدّين حينما نلبس لباساً يفسد أمر الدّين، وحينما نقيم حفلات تفسد أمر الدين، حينما نعمل نخطو ولو خطوة صغيرة لإشاعة الفاحشة، حالة التحلّل، كم وكم؟!
33- طبعا الشخصية لا تستوي في يوم واحد، ولولا جذور في نفس الحرّ، ومواقف التزام، ودرجة وعي، ومكافحة للنفس لما انقلب في لحظة. (إن الله على كل شيء قدير) ولكن طبيعة النفوس أنها لا تتحوّل التحول الجذري من غير خلفية وسبب.
34- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى