خطبة الجمعة (433) 10 محرم الحرام 1431هـ – 17 ديسمبر 2010م

مواضيع الخطبة:

 

الخطبة الاولى: تتمة حديث العبادة

الخطبة الثانية: لم أخرج أشراً / التجنيس والتوجه الجديد

 الإصلاح يحتاج إلى قيادة صالحة حقّاً في نفسها، وتفقه معنى الإصلاح، وتؤمن به، وتحمل رسالته، وترى فيه واجباً إلاهياً لابدّ منه، وتعرف طريقه ومنهجه، وتتحمل ثقل أعبائه، وتخلص له، ولا تخرج في أسلوبها عن خطّه، ولا تختفي عن رؤيتها وسائله ومعالمه. ومن أقدر من الحسين عليه السلام يوم كربلاء على ذلك؟!

 

الخطبة الأولى

الحمدلله العالم بمفاتح الغيب ومكنوناته، وما في السَّماوات والأرض، وما تنطوي عليه، والنَّجوى وما هو أخفى وما يُراود القلوب، وتوسوس به النّفوس، وخائنةِ الأعين، وكلِّ ما يقصِد إليه قاصد، ويسعى به ساع، ويؤمِّله مؤمِّل، ويرجوه راج، وما تحمِل كلُّ لحظة، ويضمّه أيّ مكان.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. صلّ الله على محمد وآل محمد.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء، ومَنْ قرُب لي ومَنْ بَعُدَ بتقوى الله التي لا سبيل غيرها للنّجاة والنّجاح، والأمن والسلام، ولم تستقم حياةُ مجتمعٍ صغيرٍ أو كبير، ولا ربِحت آخرةٌ لأحد إلا بها.
ومن أراد التقوى كان عليه أن يعرف الله وعظمته، ونفسه وحاجتها إليه، وضعفها أمامه، وفقدَها لأيِّ حيلةٍ للفِرار من ملكه، والخروج من سلطانه، وانتهاءَ كلِّ ما بها ولها إليه، وأن يتذكّر ذلك كلَّه، ويذكِّرَ النفس به. ومن كان منه ذلك لابد أن يتقي الله بقدر ما عليه نفسه من معرفة ويقظة وذكر وانتباه.
أمّا النّاسون لله، الغافلون عن ذكره، المغمورون في سكرة الدُّنيا عن التفكُّر في آلائه، فلا شيء يدعوهم للتقوى، ولا همَّ لهم بشيء منها.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم عرّفنا في لطفٍ منك ورحمة كافية ربوبيتَك، وعبوديّتنا، وعظمتَك ودونيَّتنا، وعزَّك وذِلّتنا، وغِناك وحاجتنا، وقدرتَك وضعفنا، وارزقنا ذِكراً دائماً لذلك، واجعلنا من أهل تقواك، ولا تسلمنا لأنفسنا، وعافنا واعف عنّا يا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين، ويا أحسن المحسنين.
أما بعد أيّها الإخوة والأخوات في الله فالحديث تتمّة لما تقدّم في 
موضوع العبادة:
النفس والعبادة:
طريق العبادة طريق صاعد يتطلب حيويَّة ونشاطاً وقوَّة، والنفس في الكثير لا تستقيم على حال قوّة أو ضعف، ونشاط أو كسل، وإقبال أو إدبار، وقدرة على الصعود أو ميل إلى التوقف.
والعبادة وظيفة الحياة ومسؤولتيها الكبرى، وربح الحياة بها، وما ذهب من الحياة بدونها كان خسارة.
والعبادة بالمعنى العام لا تستلزم في مصاديق كثيرة منها إلا النَّباهة، والتوجّه للخير، وحسن النية، وسلامة القصد حتّى ليدخل فيها وقتُ الراحة حيث يحتاجه الإنسان ويكون قصده إليه لسلامة الجسم، واستعادته للنشاط في سبيل الله، كما تدخل فيها ساعة طلب الراحة للنفس بمداعبةٍ حلال، وتنزّه نظيف، وكثيرٌ من ذلك.
ولكن قِسْماً من العبادات ومنها العبادات الاصطلاحيّة قد يتطلّب درجة كبيرة من الصِّحة وانفتاح المزاج، وقدرة متميّزة على الحضور الروحيّ، والتعامل الجادّ، والإقبال القلبي على العبادة.
وهذا النوع من العبادات ما كان واجباً منه لا تَخلِّي عنه على الإطلاق، ولا تفويت له عن وقته، أمّا ما كان مستحبا فلا تُقهر النفس عليه قهرا يجعلها تملُّه، ولا تُتركُ لهواها، وسأمتها حتّى تهجره.
وفي ما تقدّم يأتي ما عن أمير المؤمنين عليه السلام مما هو من كتابه عليه السلام إلى الحارث الهَمْدَاني:”خادع نفسك في العبادة وارْفُق بها، ولا تقهرها، وخذ عفوها ونشاطها، إلاّ ما كان مكتوباً عليك من الفريضة؛ فإنه لابد من قضائها، وتعاهدها عند مَحَلِّها”(1).
وظاهر القضاء في كلمته عليه السلام لا يعني تأخير الواجب عن وقته، والامتثال خارج الوقت، وإنما هو مطلق الأداء وخصوص ما كان في الوقت فإنّ ذلك هو الواجب.
وعن الرسول صلَّى الله عليه وآله:”آفة العبادة الفترة”(2).
والنفس معرَّضة لأن تصاب بسأم وكسل وفترات، ويجب العمل على إنقاذها من ذلك ما أمكن، وألا يستجاب لها في أمر واجب، وألاّ يستسلم لاسترخائها الدائم في مستحب.
وعن زين العابدين عليه السلام:”أسئلك من الشهادة أقسطها، ومن العبادة أنشطها”(3).
والكلمة تطلب من الله عزّ وجلّ النشاط في أداء العبادة، والتوفيق لها في أنشط الأوقات، وأغناها بالحيويَّة، والقدرة على الحضور والإقبال.
وفي حمل النفس على العبادة المستحبّة، وعدم الاستسلام لكسلها مما يستوجب الحرمان من هذا الخير ومجاهدتها في ذلك إلى الحدّ الذي لا يُفرّغ العبادة من معناها، ويقتل روحها، ويجعل منها الشيء الثقيل المنفّر تأتي الكلمة عن الرسول صلَّى الله عليه وآله:”خذوا من العبادة ما تطيقون فإن الله لا يسأم حتى تسأموا”(4).
والله عزّ وجلّ منزّه عن أن يعرضه عارض من سأم أو غيره(5)، ولكن التعبير يفيد أن الله عزّ وجلّ لا يُقبِل على عبادة عبد يأتيها في سأم صارف، لا حضور معه من قلب، ولا يقظةَ من روح.
وعن الصادق عليه السلام:”لا تكرِّهوا إلى أنفسكم العبادة”(6).
فلا إكثار في العبادة المستحبة من صلاة ودعاء وما ماثل يُسبّب للنفس النفرة منها والإدبار الكامل أو الطويل.
حقٌّ لا يقضى:
حقُّ الله في عبادته لا يبلُغُ أحد قضاءه، والعبادة التي هو أهلها لا يصل إليها عابد، فحقّه فوق كلّ عبادة، وحقيقة عبادته دونها عبادة كلّ العباد، وإن كان من عبادة صفوَتهم ما جلّ وعظم(7)، ويتجاوز كثرة وشأناً ما تصل إليه أفهام الآخرين، وتطبيقه أرواحهم، وتتسع له قلوبهم.
ونقرأ من الحديث ما يجلِّي هذا المفاد:
عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”قال الله عزّ وجلّ: لا يتّكل العاملون على أعمالهم التي يعملون بها لثوابي؛ فإنهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارَهم في عبادتي كانوا مقصّرين غيرَ بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون من كرامتي”(8).
فالعقول والأرواح التي لا تحيط بالله علماً، لا تبلغ عبادته قدرا. فالاعتماد في طلب المثوبة، ورضوان الله، وجنته ليس على ما يأتيه صالحو العباد من عبادة له سبحانه وإن كانت عبادته لابد منها، وإنّما الاعتماد على تجاوزه وكرمه.
وعن الإمام الكاظم عليه السلام:”عليك بالجدّ، ولا تُخرِجنَّ نفسك من حدِّ التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ وطاعته(9)؛ فإن الله لا يُعبد حقَّ عبادته”(10).
فمع كلّ الجدّ في طاعة الله وعبادته يبقى العبد مقصِّراً في حقِّ ربّه، بعيداً كلّ البعد عن بلوغ ما هو أهله من الطاعة والعبادة له.
وعن الإمام علي عليه السلام في خلقة الملائكة:”أما إنّهم على مكانتهم منك، وطاعتهم إيَّاك، ومنزلتهم عندك، وقلة غفلتهم عن أمرك، لو عاينوا ما خفي عنهم منك لاحتقروا أعمالهم، ولأزروا على أنفسهم، ولعلموا أنّهم لم يعبدوك حقّ عبادتك، سبحانك خالقاً ومعبوداً”(11).
حياة الملائكة كلّها عبادة لله سبحانه، وهي شغلهم الشاغل، وهمّهم الوحيد، ولهم منازل قريبة عظيمة عنده تبارك وتعالى، ومكانة رفيعة لديه، ولكنْ لعبادة الله عزّ وجلّ شأنٌ فوق كلّ عبادة للملائكة وأيّ عبد صالح، فكما أن لعظمة الله شأناً لا يُدرك، فإن لحقّ عبادته وحقيقتها مقاماً لا يبلغ؛ فهما حقٌّ وحقيقة منزّهان عن أن تفي بهما عبادة.
وأمّا عن غفلة الملائكة عن أمر الله(12) فهي ليست على حدِّ غفلتنا، ولا استيلاء فيها على وجدان، ولا غيوبة منها لعقل، ولا انصراف بها عن واجب العبودية وحقّ الربوبيّة، وإنما هي عدم القدرة على الوصول إلى حقيقة العبادة، وبالغ حقِّ الطاعة والعبودية له سبحانه وقلة غفلتهم بهذا المعنى بالنسبة للكثير ممن سواهم ممن لا يبلغون مبلغهم في العبادة، وفي معرفة الحق الإلهي الذي يفوق كل التصورات.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أسعدنا بطاعتك، وشرِّفنا بعبادتك، ولا تشقنا بمعصيتك، وقرّبنا إليك، وزدنا من فضلك، وإكرامك، وعظيم نعمك، ولا تحرمنا ولايتك، ولا تطردنا من رحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}(13).

الخطبة الثانية

الحمدلله الذي يعلم أزلاً ظاهرَ كلِّ شيء وباطنه، وماضيه وحاضره ومستقبله، وسابق الأشياء ولاحقها، وما إليه مصيرها، وما عليه علائقها، وتلاقياتها وتنافراتها.
وهو العليم بلا أوّليّة لعلمه ولا آخريّة بطاعةِ كلّ مطيع، ومعصية كلّ عاصٍ، وتقلّبات القلوب، وتحوّلات الأنفس، وما يصير إليه العباد، ومن يكون إلى جنّة أو نار، وسعادة أو شقاء، ولا اطّلاع لأحد من عبيده وإمائه إلاّ على ما أطلعه، ولا علم له بشيء إلا ما علّمه، وهو بكلِّ شيء محيط.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله، وأن نطلب الفلاح بطاعته، وبلوغَ الغاية بالأخذ بدينه، وصوغ النفس في ضوء هداه، وتزكيتها لتنال رضاه. فمن طلب الفلاح زكّى نفسه، وما زكاها إلا من كان إلى الله قصده، أمّا المدبرون عن الله عزّ وجل فلا زكاة لهم ولا فلاح.
والإنسان وحياته إمَّا إلى فلاح ونجاح، أو إلى خيبة وفشل وخسار {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}(14) ولا نتيجة أخرى للإنسان والحياة، ولا خسران على طريق الله، ولا نجاح على طريق غيره. فليختر كلّ امرئ لنفسه، وكلّ نفس ما تحب أن تلقاه من خاتمة، وتوافيه من مصير.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقرَّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.
اللهم زكِّ نفوسنا بطاعتك، وألهمها تقواها، ولا ترجِّسها بمعصيتك، ولا تسلِمْها لهواها، واهدها بهدايتك، ونوِّرها بمعرفتك، وأنِلها رضوانك، وأكرمها بالرفيع من درجات قربك يا أرحم الرَّاحمين، ويا أكرم الأكرمين، يا من هو على كلِّ شيء قدير.
أما بعد أيها الأعزاء فإلى عنوانين:
لم أخرج أشِراً:
لم يخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً. خرج عليه أفضل الصلاة والسلام لطلب الإصلاح في أمّة جدّه، منهجه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يسير بسيرة جدّه وأبيه عليهما السلام وهي سيرة ملتزمة كلّياً بخطّ القرآن، ولا تعدل عنه قيد شعرة.
هذا هو منهجه في الإصلاح، وهنا حديث.
1. العقلية التوحيدية لا تُنتج أشَراً ولا بطَراً ولا ظلما، ولا استعلاء ولا تكبّرا، ولا خِفّة، ولا نزقا، ولا جهلا(15).
ولا تتناسب مع شيء من الذلة والخسة والهوان، وفقد الإحساس بالكرامة.
ولا مع الإفساد والخراب، وهدر الوقت، وتضييع الطاقات، وعدم الإحساس بالمسؤولية.
للعقلية التوحيدية ناتج واضح نابع من طبيعتها:
ذُلٌّ بين يدي الله، وطاعة واستسلام له، وعبادة مخلصة لا تشرك به شيئا. ثمّ عزّةٌ على الإطلاق، وشعور عميق ودائم بالقيمة العالية والكرامة، ودور بنّاء، وإصلاح، وإعمار، وإشادة للخير في كلِّ الأرض، وفي كلّ إنسان.
والحسين عليه السلام مثال معصوم كامل للعقليّة التوحيديّة، والنفس الموحِّدة، ومنهج التوحيد وثورته وأخلاقيته وهداه(16).
والإصلاح الذي تتحدث عنه كلمته عليه السلام دائرته الأمة ابتداءا، ثمَّ الإنسانية كلّها بعد ذلك. وهو إصلاح شامل حسب إطلاق الكلمة لا يترك بُعداًً من أبعاد الأمة والإنسانية إلاّ استهدفه، وحاول إنقاذه من التخلف والفشل والزيغ، والتجميد، والعرقلة، وبطء النموِّ الصالح والانحراف.
وكان لابد أن يواجه هذا الإصلاح الانحراف الخطير في السياسة الباغية التي كان لابد أن تطيح بالإسلام من عقلية الأمة وشعورها وواقعها العمليّ، وتقضي على منابع العزّة في داخلها، وتمرّغ أنفها في الذّل والهوان، وبذلك ينغلق باب الإصلاح الحقيقيّ الشامل على كلّ مصلح في الأمة يولد ولو بعد أجيال(17).
فليس بعد ارتفاع الدّين الحقّ من الأرض سبيل إصلاح، وفرصة نهوض.
إن الإصلاح الذي يتحدث عنه أبو عبدالله عليه السلام إصلاح إنسان الأمة حاكماً ومحكوماً لتصلح كل الأوضاع. فإصلاح الإنسان هو المطلوب أساساً، والإصلاح السياسي يفتح الطريق. وفساد السياسة كما كان على يد يزيد إذا ترك له أن يستمر من غير فضح، ومواجهة تعرقله أغلق كلّ باب للإصلاح، والتغيير الذي تحتاجه الأمة، ويستوجبه وجودها ودورها ورسالتها.
والإصلاح يحتاج إلى قيادة صالحة حقّاً في نفسها(18)، وتفقه معنى الإصلاح، وتؤمن به، وتحمل رسالته، وترى فيه واجباً إلاهياً لابدّ منه، وتعرف طريقه ومنهجه، وتتحمل ثقل أعبائه، وتخلص له، ولا تخرج في أسلوبها عن خطّه، ولا تختفي عن رؤيتها وسائله ومعالمه. ومن أقدر من الحسين عليه السلام يوم كربلاء على ذلك؟!
ولا قيادة تصلح لإنقاذ هذه الأمة الإنقاذ الحقيقيَّ الشامل، وإنقاذ الإنسانيَّة كلها إلا قيادةٌ من مستوى الإمام الحسين عليه السّلام.
ولا محقِّق لشيء من الإصلاح في واقع النّاس، ولا منقذَ لأوضاعهم من سوءٍ وهو بعيد عن خطّ الإمام الحسين عليه السلام، ومكوِّنات شخصيته، ومقوِّمات ثورته.
والقيادة الصالحة لهذه الأمة، الآخذةُ بها على خطِّها الإلهي، والمنقذة لها فعلاً بأي درجة من الدرجات لا تكون إلا قيادةً من خطّ الإمام الحسين عليه السلام، وهدفه، ورؤيته، وصدقه وإخلاصه، وفقهه وتقواه، وشموخه، وإبائه وصلابته، وقدرته على البذل والتضحية والعطاء الكريم في سبيل الله.
الإصلاحُ الحقُّ في الأرض كلِّ الأرض، وبأي نسبة خالصة من عوالق السوء والتردّي وظيفة ومستوى ليس لها من كفؤ إلاّ الدين الحقّ، ورجاله الحقيقيون، وجماهيره الصادقة.
للإصلاح منهج واحد في كلمة الحسين الشهيد عليه السلام هو منهج القرآن الكريم الذي تترجمه سيرة الرسول الخاتم صلّى الله عليه وآله، وعليّ أمير المؤمنين في الجهاد والحكم ومنه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بمعناهما العميق الواسع، ومستوياتهما المختلفة، وآلياتهما المتعدِّدة وشروطهما اللازمة، وأحكامهما الثابتة، وضوابطهما المحكمة.
والمناهج من غير هذا المنهج الذي دلَّت عليه كلمة الحسين عليه السلام جائرة وفاشلة وخاسرة.
وطلب الإصلاح للنفس والأمة قضية دائمة، ولا تنقطع الحاجة إليها، ولا تتوقف عند سقف خاص، ولا تنهيها ظروف صعبة، ولا يصحّ منها التراجع، ولا تتصف بالاستحالة على طول الطريق.
الحاجة إليها دائمة ولا تتوقف عند حدّ معيّن لأن الإنسان يبقى دائما قابلا للتطور والتقدّم، وطريق الكمال مفتوح أمامه بلا انقطاع، فهو وإن توفّر على وضعية جيّدة في نفسه أو خارجه كان أمامه وضعية أكثر جودة وتقدّماً وعليه أن يطلب الوصول إليها.
وطريق الكمال تعترضه تحديات كثيرة، ويعاني السائرون عليه من عثرات كبيرة، ووسوسةُ الشيطان تلاحق الإنسان، ونفسه الأمّارة بالسوء تتجه به دائما إلى الانحدار، فلذلك هو دائما يحتاج إلى الإصلاح.
ولا تُنهي الظروف الصَّعبة طلبَ الإصلاح لأنها لا تلغي القدرة تماماً على السعي لتوفير المقدّمات.
ولا يصحّ التراجع عن هذا الطلب لأنه مسؤولية الإنسان في هذه الحياة، وصلبُ دوره، وهدفُ العبادة المكتوبة عليه(19).
وإنَّ أي جيل يجد نفسه عاجزا عن تحقيق الإصلاح المطلوب، عليه أن يُعدّ الجيل اللاحق في بُعده الفكريّ والنفسيّ والعمليّ لإحداث هذا الإصلاح وتجاوزه. فمسؤولية الإصلاح الفعليّ أو الإعدادِ له لا تنتهي أبداً في حياة أي جيل من الأجيال المسلمة كلّها.
وكلّ جيل حقَّقَ درجة من الإصلاح هيّأ للجيل القادم أن يُحقِّق إصلاحاً أكبر بالبناء عليه، والاستفادة منه في التطوير. وتطوير الحالة الإصلاحيّة العامّة للإنسان وأوضاع الحياة من مسؤولية كلِّ جيل قبال نفسه، وقبال الجيل الذي يليه. وهكذا تكون حياة الأجيال كلها تقدّماً على خطِّ الإصلاح، وبناء الإنسان وأوضاع الحياة.
وعلى المسلمين أفراداً وجماعات ومجتمعات وأمّةً أن يعرفوا وظيفتهم وواجبهم في الإصلاح، فالإسلام يطالبهم بذلك، ويصرُّ عليه، ويدفع له، ويملك وسائله، وتحريكَ أدواته، ومنهجَه.
وما يتوقّف عليه الإصلاح عند المسلمين بعد ذلك هو إعمال الإرادة.
التجنيس والتوجُّه الجديد:
التجنيس المفتوح، التجنيس السياسي، التجنيس غير المقنّن مثَّل أذى كثيراً لهذا الوطن ومواطنيه، وتحققت آثاره السيئة على أرضه وعمّت دين إنسانه، وثقافته، وخلقه، وأمنه، ومعيشة، وخدماته، وفرص العمل والتوظيف لأهله، وربما كلّ مرافق الحياة فيه. لم تعد هذه الآثار السيئة محلاً للتوقُّع فحسب بل ملأت أرض البحرين شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا. والمتوقع منها المزيد، وما يجعل الخَرْقَ متّسعاً على الراقع.
والتوجُّه لإصلاح أمر التجنيس فيه إصلاح لأبعاد كثيرة، وتدارك لأخطار أكبر مما وقع، ومما يُتصوّر. وفي هذا التدارك خير، ورشد، وبصيرة، وهو محلٌّ للتقدير.
والتفعيل لهذه التوجه، وظهور آثاره الحميدة مرهون بإخضاع التجنيس لضوابط محددة، وقانون ذي أحكام واضحة صارمة رشيدة.
والمطلوب لهذا التوجُّه الإصلاحي وهو محل للتّثمين أن يتّسع ليشمل كلّ مواضع الخلل والاختلاف، والفساد، وما يسبّب إرباك العلاقات الوطنية، وفي مقدمتها العلاقة بين الشعب والحكومة ليشملها بالإصلاح لإنهاء كثير من الأزمات، وترميم كثير من التصدّعات، وردم كثير من الفجوات، وإنقاذ العلاقات المتهدّمة أو التي تكاد أن تتهدّم. ومن ذلك على سبيل المثال تبييض السجون من نزلائها السياسيين، وإنهاء المحاكمات، وأن يضمّ وجهات النظر المتباينة حوار واحد جامع يخرج بنتيجةٍ تنقذ الوطن.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا شيعةً للحسين عليه السلام حقّاً وصدقاً، ورزقنا تقواه، واجعل خُلُقَنَا خُلُقَه، ومحيانا محياه، ومماتنا مماته، ومبعثنا مبعثه، وشفّعه فينا عندك في أمر الدّنيا والآخرة يا كريم يا حميد يا مجيد، يا من لا مؤمَّل غيره، ولا يرجى لخير سواه.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(20).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نهج البلاغة ج3 ص130.
2- تحف العقول ص6.
3- بحار الأنوار ج91 ص155.
4- كنز العمال ج3 ص29.
5- كل العوارض التي تعرض الممكنات لا شيء منها يعرض الله عز وجل. لا عارض نقص، ولا عارض كمال يمكن أن يعرض الله عز وجل وهو الكامل المطلق.
6- الكافي للشيخ الكليني ج2 ص86.
7- فلا يقاس بعبادة رسول الله ولا بعبادة أمير المؤمنين عليه السلام عبادةُ العلماء والفقهاء والكبار، كل عبادتهم عبادة منحطّة جدا عن عبادة رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلي أمير المؤمنين عليه السلام. هذا صحيح، ولكن يبقى أن لا عبادة يمكن أن تفي بحقّ الله سبحانه وتعالى، وتبلغ حقيقة عبادته.
8- الأمالي للشيخ الطوسي ص212.
9- يعني لا تعتبر نفسك أنها قد خرجت من حدّ التقصير، لا يأتي في تفكيرك أنك قد خرجت من حدّ التقصير في عبادة الله عزّ وجلّ.
10- الكافي للشيخ الكليني ج2 ص72.
11- تفسير نور الثقلين ج4 ص350.
12- الملائكة يغفلون؟ الحديث يتحدث عن قلة غفلتهم، هل الملائكة يغفلون كما نغفل؟
13- سورة التّوحيد.
14- 9، 10/ الشمس.
15- وهي لا تنتج في المقابل ذلّة، خسّة، خضوعاً لمخلوق.
16- إذاً فماذا يرتقب من خروج الإمام الحسين عليه السلام غير الحقّ، وغير الذلّة لله، والعزّة في الناس.
17- نعم، لو استمر الحكم اليزيدي شخصاً وامتداداً لامتنع على طلاب الإصلاح للأمة أن يصلحوها.
18- كيف يكون إصلاح والقيادة غير صالحة؟! حجم الإصلاح يتبع حجم صلاح القيادة، ورسالية الإصلاح تتبع رسالية القيادة.
19- ولا استحالة دائمة حتمية للإصلاح لقدرة التجديد عند الإنسان.
20- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى