خطبة الجمعة (432) 3 محرم الحرام 1431هـ – 10 ديسمبر 2010م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: متابعة حديث العبادة

الخطبة الثانية: ذكرى كربلاء/ فلتحترموا الحسين عليه السلام

كربلاء من أجل عودة الأمة المسلمة أوعى أمة، وأقوى أمة، وأعزّ أمّة، وفوق كلّ الأمم مجداً ومكانة، وأن تكون الأمّة الرائدة المعلِّمة الإمام.

الخطبة الأولى

الحمدلله الذي لا معبود بالحقِّ سواه، ولا منشئ لخلق غيره، ولا رازق لأحد من دونه، ولا إرادة نافذة مطلقا سوى إرادته، ولا سلطان بصدق إلا سلطانه، ولا تقديم ولا تأخير إلا بإذنه، ولا مدبّر للأمور إلا هو.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون. اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين.
أوصيكم عباد الله، ونفسي القاصرة، ومن يعنيني أمره بتقوى الله الذي لا يغيب عنه علمُ شيء، ولا يغفُل عن حسنةٍ من حسنات عبيده وإمائه أو سيئة من سيئاتهم، ولا يُهمل ثواب طاعة من طاعاتهم، ولا تفوت عقابَهُ معصيةٌ من معاصيهم إلاّ أن يعفوَ بكرمه، ويتجاوزَ بصفحه ومنّه وإحسانه.
ولا يصرِفْنا عن همّ الآخرة لهوُ الدنيا وزينتُها، وما عليه تنافسُ أهلها وتغالبهم على مُغرياتها، واكتنازهم للكثير مما يضرّهم ولا ينفعهم، وغداً عنه يُسألون؛ فإن الدنيا في إدبار، والآخرة في إقبال، ونحن في بعد دائم عن المدبرة منهما، وقرب زائد من المقبلة منهما والتي لابُدَّ منها.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل همَّنا همَّ أوليائك، ومسعانا مسعى أحبّائك، ومنقلبنا منقلب أصفيائك، ولا تجعل لنا شيئاً من أخلاق أعدائك، وانظر إلينا برحمتك، وعامِلنا برأفتك، وأنِلنا مغفرتك، واختم لنا بخير ما ختمت به لعبادك الصَّالحين.
أما بعد أيها الأحبّّة في الله من المؤمنين والمؤمنات فهذه متابعة أخرى في الحديث عن موضوع 
العبادة:
العبادة بمعناها العام:
من العبادة ما هو معروف على نحو العموم، وهو المعروف من لفظ العبادات في المصطلح الفقهي، ومن العبادة ما قد لا يلتفت إليه كلُّ المؤمنين، وهو متناولٌ للفظ العبادة بمعناها الأعم.
ويُقدِّم لنا الحديث عن المعصومين عليهم السلام أمثلة لذلك:
1. التفكُّر في الملكوت والآلاء:
عن الإمام علي عليه السلام:”التفكّر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين”(1).
فإذا أخلص العبدُ العبادةَ لله، والتوجُّه إليه شغله التفكّر والتدبُّر في فيض العلم الإلهي، والقدرة الإلهيَّة، والرحمة والإتقان والحكمة المتدفِّقة من عطاء الله على هذا الكون الرَّائع البديع المنسجم المتكامل، السّائر في خطٍّ واحدٍ مرسوم، وغايةٍ واحدة مشتركة. وهو تفكّر يقود إلى مزيد من المعرفة لعظمة الخالق، والإخلاص لوجهه الكريم. وهذا هو أكبر عطاء للعبادة، وأعظم ما يرتفع بمستوى الإنسان، ويُصلحه، ويُسعده، ويزيد من شأنه، ويُعلي من قدره.
وشبيهٌ بذلك ما يعطيه التفكّر في نعم الله، ولذلك جاء عن الإمام نفسه عليه السلام:”التفكّر في آلاء الله نعمَ العبادة”(2).
2. طلب الحلال:
الكسب الحرام يُسيء للرُّوح، ويُفسد دينَ المرء، ويُعكّر صفو قلبه، وقد يدخل بالفساد على صلاته وصومه وحجِّه، ولأنّه يهدم التّقوى فهو مباعد لمرتكبه عن الله عزّ وجل(3).
والتزام الكسب الحلال، وقصر الطّلب عليه مقاومة للشّيطان ودحرٌ له، ومواجهة للنفس الأمّارة بالسوء وقمع لها من أجل الله، وفي ذلك طلباً لمرضاته، ومن جاهد الشّيطان والنفس في الله فقد عَبَده، وتحقق له رضاه، وفي الرِّضا الإلهي أكبر نتيجة للعبادة.
ومن أحاديث هذه العبادة ما عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله “العبادة عَشَرَةُ أجزاء، تسعة أجزاء في طلب الحلال”(4).
وعنه صلّى الله عليه وآله “العبادة سبعون جُزءاً، وأفضلها جزءاً طلب الحلال”(5).
طلب الحلال يأخذ في العادة وقتاً طويلاً من يوم الإنسان، وقد يُكلِّف جُهداً كثيراً، وهو بهذا اللّحاظ يعادل في وقته وجهده الكثير من العبادات؛ فلا عجب أن يساوي في ذلك تسعة أجزاء من العبادة.
والمعاناة في قصر الطّلب على الحلال، والمجاهدةُ المطلوبة في ذلك، والصّبر والتخلّي عن كل فرصة سانحة للحرام وإن كثُر، والقناعةُ بالحلال وإن صعُب طلبه، وقلَّ مقداره لا يتيسّر إلا لمؤمن صدق إيمانه، وجدّ في الله جهاده، واستسلم حقّاً لأمره ونهيه، وأخلص التوكُّل عليه. وهذا كلّه يرفع من وزن هذه العبادة، ويضاعف من أجرها، ويعطيها امتيازاً على قسم من العبادات ليس له وزنها، ولا الكُلفة التي تتطلبها، والتقوى التي تقوم عليها.
3. حبُّ أهل البيت عليهم السلام:
عن الإمام الصادق عليه السلام:”إنَّ فوق كلّ عبادة عبادةً، وحبُّنا أهل البيت أفضل عبادة”(6).
من الحبّ ما هو كاذب، ومنه الحبّ الصِّدقُ الذي يظهر أثره في كل المواقف. وحبُّ أهل البيت عليهم السلام حبٌّ لله وعلى حبّه تعالى يقوم هذا الحبّ، وهو لا يخرج أبداً عن خطِّه ومقتضاه وأدبه(7). وحبّ الله إذا صدق، وصبغ شخصية العبد في تفكيره وشعوره وعمله وعلاقاته وكلّ شؤونه لم يأت شيء من كل ذلك عند هذا العبد إلا طاهراً جميلاً كريماً محبوباً لله سبحانه، ولم يُتصوّر في هذا المحبّ أن يتخلّف عن طاعة الله وعبادته في لحظة من لحظات حياته.
وحبّ أهل البيت عليهم السلام بهذا المعنى والمؤدي العظيمين أفضل عبادة.
4. النظر إلى هؤلاء:
عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:”النظر إلى العالم عبادة، والنظر إلى الإمام المقسط عبادة، والنظر إلى الوالدين برأفة ورحمة عبادة، والنظر إلى أخ تَودُّه في الله عز وجل عبادة”(8).
العالم بالله المليء خشية منه، موصول القلب بذكره، العابد له، والإمام العادل العامل بما يُرضي الله، المجتنب لكلّ ما يسخطه، الداعي له دون غيره في النظر إلى كلٍّ منهما عبادة كما في الحديث، وهو نظر يُذكّر بمقام العبودية، ويُطْلِعُ الناظر على شيء من جمال الاتصال بالله، ويتحدّث إليه عن عطاء الإيمان، ويصل منه إلى نفسه شُعاع من شعاعه.
وإذا كان العالم أو الإمام هو المعصوم (على المعصومين جميعا السلام) عظم نصيب الناظر لهما من العطاء والشعاع، وما ينعكس على داخله من يقظة وذكر، ويتولد في نفسه من انتباه.
وكما يتفاوت المنظور إليه عالماً كان أو إماماً نورانية وإشعاعاً، يتفاوت الناظر تهيؤاً واقتباساً.
والنظر إلى الوالدين رأفة ورحمة، وإلى الأخ تؤدُّه في الله عبادة لما هو عليه من تعبير عن الرأفة والرحمة، أو المودّة في الله تبارك وتعالى مما أمر به ودعا إليه.
العبادة الأفضل:
نقرأ هذه الأحاديث فنجد تفاوتاً بينها فيما تفيد كونه عبادة أفضل:
ما تقدَّم عن الإمام الصادق عليه السلام:”إن فوق كل عبادة عبادة، وحبُّنا أهل البيت أفضل عبادة”.
ما عنه عليه السلام:”أفضل العبادة إدمان التفكّر في الله وقدرته”(9).
ما عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”أفضل العبادة قول: لا إله إلا الله…”(10).
ما عن الإمام الصادق عليه السلام:”والله ما عُبِدَ الله بشيء أفضل من أداء حقّ المؤمن”(11).
وما عن الإمام الباقر عليه السلام:”ما عُبِدَ الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج”(12).
ما عن الإمام عليٍّ عليه السلام:”غضّ الطرف عن محارم الله سبحانه أفضل عبادة”(13).
هذه أمثلة للتفاوت في تعيين ما هو أفضل عبادة كما هو ظاهرها الأولي:
والاختلاف بين هذه الروايات على نحوين؛ الأول يمكن أن يُقال عنه بأنّه لفظي لا غير، وهذا النحو من الاختلاف نجده بين ثلاث الروايات الأولى من الخمس المنضوية تحت العنوان الأخير، فحبّ أهل البيت عليهم السلام الذي هو من حبّ الله عزّ وجلّ ومعرفته وتعظيم حقّه، والتفكر في قدرة الله، وقول لا إله إلا الله النابع من الإيمان الصِّدْق، والمعرفة الحق كلّه تعبير عن عبادة واحدة هي الأفضل على الإطلاق، وهي معرفة الله وحبُّه والإخلاص الصادق له.
أما النّحو الثاني من نحوَي الاختلاف المشار إليهما فهو ما بين العبادة التي تحدثت عنها الروايات الثلاث المذكورة، والروايتين الأخيرتين حيث تطرح الأولى منهما أنه لا عبادة أفضل من أداء حق المؤمن، وتطرح الثانية أنه لا شيء من العبادات بأفضل من عفّة بطن وفرج.
وهذا محمول على أنَّ نظر هاتين الروايتين إلى المقارنة بين العبادتين الأخيرتين، والعبادات الأخرى من غير معرفة الله وعمق التعلُّق به والإخلاص إليه، أو أنه لا عبادة أفضل منهما لو جاءتا تعبيراً عن صدق المعرفة بالله وحقِّه، وحبّه والإخلاص إليه(14).
اللهم صلّ وسلّم على محمد وآله محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللهم اجعلنا من أصدق عارفيك، وأخلص عُبَّادك، وأفقه من سلك إليك، وآمل من طرق بابك، وأكرم من وفد عليك، وأهنأ من نال ثوابك يا رحمن يا رحيم، يا جواد يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}(15).

الخطبة الثانية

الحمدلله الذي منح أولياءه صادق معرفته، وخصَّهم بالمزيد من هدايته، وقرَّبهم إليه، ورفع منزلتهم في جنّته، وجعل في مودَّتهم ومتابعتهم رضاه، وفي عداوتهم، ومعاندتهم سخطه، وجعل لهم الحجّة على من سواهم، وأظهرهم على من عاداهم. وهو مصدر كلِّ خير، ووليُّ كلِّ نعمة، ومنتهى كلِّ حسنة، ولا حول ولا قوَّة إلا به، ولا عصمةَ إلا من عنده، ولا هدى لأحد إلا من فيضه، ولا جميل إلاَّ من جهته، ولا لجأ إلاّ إليه، ولا تعويل إلاّ عليه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله ألا فلنتق الله ولا نخالف له أمراً ولا نهياً، ولا نخرج من طاعة، ولا ندخل في معصية، فكلُّ أوامره لمصلحة العبيد، وكلّ نواهيه وقاية لهم عن المفاسد، وثوابه على ما فيه مصلحتهم جزيل، وعذابه على ما فيه مفسدتهم شديد، ولا يضيع ثوابُه، ولا يُفلَت من عقابه، ولا تُعوِّضُ عن رحمته رحمة، ولا تعدل نِقمَته نِقْمة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأزواجنا وكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اجعل التذاذنا بذكرك، وأنسنا بطاعتك، ووحشتنا من معصيتك، وحُبَّنا لأوليائك، وبغضنا لأعدائك، وطمعنا في ثوابك، وخوفنا من عقابك، واستعدادنا ليوم لقائك، وجائزتنا الكبرى رضوانك يا وليَّ المنِّ، يا كثير العطاء، يا قديم الإحسان.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفَّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.

أما بعد فهنا عنوانان:
ذكرى كربلاء:
تواجهت في كربلاء باسم الإسلام جبهتان إلى حدِّ المواجهة الحادَّة، وسفك الدماء الغزيرة؛ جبهتان بعقليتين مختلفتين، وهدفين بُعدُ ما بينهما بُعدُ ما بين السماء والأرض، وقيادتين لا يُخطئ النظر ما بينهما من تفاوت هائل، ورايتين راية أرض وسماء، ولغتين تقول إحداهما أنزل على حكم الأمير، وإلاَّ قطعنا رأسك، والأخرى تنادي بالنزول على حكم القرآن.
والكارثةُ الكبرى أنّ أمَّةً تنتسب للإسلام الحقِّ العدل النَّزيه المقاوم للظلم والجهل والانحراف جمع أكثرها والجهةَ المبطلة خندق واحد، وسفكت دم ابن بنت نبيّها صلّى الله عليه وآله، وأهله الكرام، وسَبَتْ حُرَمَه(16).
فإن يكن الأمر عن جهل فتلك مصيبة، وإن يكن عن علم فذلك انحطاط، وليس في الجهل عذر وقد كان بيان، وليس في نصرة الباطل على الحق ملتمس عذر لأي معتذر.
ويبقى الطامعون في الدنيا المحاربون لدين الله، وأئمة الحقّ على مدى التاريخ، ولكن جهل الأمة الذي لا عذر لها فيه، وتساهلها في الحقّ، وتخلّيها عن مسؤوليتها هو الذي يحقِّق لأصحاب الأطماع انتصاراتهم، ويسحق كلمة العدل(17)، ويقضي على أئمَّة الهدى، ويؤخِّرهم لتغرق الأمة كلّها في المأساة.
إنَّ مسألة الإمامة لا يصحّ أيُّ تساهل في العلم بها وجوباً(18)، ومن حيث طلبُ التشخيص للإمام(19) لأهميتها البالغة، وتأثيرها العميق على كامل الإسلام والأمَّة، ولكون هذا الجهل يفتح الباب واسعاً للتّمكين من طالب لها بعيد كلَّ البعد عنها، ولما يُسبِّبه ذلك من تمزيق الأمّة، ودخولها في حروب داخليّة طاحنة تذهب بريحها، وتهيء للاستيلاء عليها من خارجها.
إن واقعة الطّف بما كانت تعنيه من حصول يزيد على موقع قدم في الأمة(20)، والإمكان العملي لطرحه خليفة لرسول الله صلّى الله عليه وآله(21)، وأميناً على الإسلام، وقائداً لدين يريد أن يحكم العالم، وحصوله على الرَّصيد الكافي من أبناء الإسلام لإيقاع الهزيمة العسكرية بالإمام الحسين عليه السلام، وبلوغ جيشه عشرات الألوف في قبال العدد اليسير الذي ثبت في نصرة الإمام الحقّ، وبما كان منها من مجزرة رهيبة لآل رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومآسي بشعة مفجعة ارتُكِبت في حقّ هذا البيت المنقذ للأمة والإنسانية، ومخازي ارتُكِبت على يد الجيش الأموي لتمثِّل – تلك الواقعة – درساً يجب ألا تنساه الأمّة في نتائج تخلُّف الوعي السياسي، والفتور في الحسِّ الرّسالي، والإهمال في التربية الدينية لئلا تخسر دينها، وذاتها الحضاريَّة، وأمنها، وعِزَّتها، وهداها، وتستحقَّ من الله الهوان.
والأمَّة التي تقرأ القرآن بالأمس أو اليوم، وتلتفت إليه ولو بعض الالتفات، ويهمُّها أمرُه ولو بعض الهمّ لا يصيبها الاشتباه بين نوع قيادة يزيد وقيادة الحسين عليه السلام، لا تشتبه. وإذا كانت تملك شيئاً يسيراً من النباهة الموضوعية فلا يمكن أن يختلط عليها الأمر في مقام التشخيص إلى الحدّ الذي لا يميّز بسببه بين هذين النموذجين(22).
إن القرآن الكريم كلّه دعوة لإمامة من نوع إمامة الحسين عليه السلام، ورفض لإمامة من نوع إمامة يزيد. ولا شيء من مواصفات الإمامة في القرآن فاقدٌ له الحسين عليه السلام، أو واجد له يزيد. فأين يكون الاشتباه لمن كان له شيء من فهم الكتاب، ورغبة في اتباعه؟! ومجرى السنة مجرى الكتاب، ووضوحها في ذلك وضوحه، ولا تقبل في هذا الأمر اللباس والاشتباه.
والحسين عليه السلام كلّه دعوة للقرآن، وقد اتخذه إماماً في كل حياته، وفي لحظة الاستشهاد، ولا يدّعي أحد بأن يزيد كذلك. ولو ادّعى أحد زوراً في يزيد هذه الموافقة لكذّبه يزيد نفسه قولا وعملا، وفي الكثير الكثير من المواقف الشهيرة المضادّة للقرآن المنازلة له.
وما أعظم ما فعله حبُّ الدنيا بكلِّ الأمم المتديِّنة من الانحراف عن الدّين والانقلاب عليه، وتحريفه وتشويهه والإساءة إليه!!
وإنّ من أدخله حبّ الدنيا في الدين أو أي أمر من أمره أخرجه منه بسهولة، وتاريخ الإسلام والمسلمين غنيٌّ بهذه الشهادة، وكربلاء شاهد صريح على ذلك. وقد فضّل عمر بن سعد بعد تردّده لمعرفةٍ له بخطورة التخلي عن الدّين أن يرجع مأثوماً بقتل الحسين عليه السلام على أن يخسر ملك الرّي لأيام يسيرة. وهذه نفسية تتكرَّر في كل الأزمان والأماكن، وفي الكثير الكثير من مواقع الفتنة والتحدّي والامتحان.
ولقد كانت كربلاء من أجل إنقاذ الإسلام والإنسان؛ إنقاذ الإسلام من أن يُفترى عليه، وتأخذ الأمَّة بهذا الافتراء(23)، ويضيع الدّين، وإنقاذ الإنسان من أن يغلبه حبّ الدنيا على حبّ الله، واحترامِ نفسه فيذهب ضحيّة رخيصة لهذا الخطأ الفادح، ويخسر سعادته لهذا الجنون.
كربلاء من أجل عودة المسلم مسلماً لا يستغفله عن إسلامه شيء، ولا يبخل عليه بشيء، ولا يضلّ طريقه، ولا يكون قابلاً للتفاهة والذوبان.
كربلاء من أجل عودة الأمة المسلمة أوعى أمة، وأقوى أمة، وأعزّ أمّة، وفوق كلّ الأمم مجداً ومكانة، وأن تكون الأمّة الرائدة المعلِّمة الإمام.
فلتحترموا الحسين عليه السلام:
لا أرى أنَّ مسلماً يملك أن يتردّد في إمامة الحسين عليه السلام لمانع من دين أو علم أو كفاءة. ومن ناحية أخرى فإن للإمام الحسين عليه السلام واستشهاده العظيم في سبيل الله حقّاً على المسلمين ممن يفتخرون بالإسلام جميعاً وبكلّ مذاهبهم حيث أنقذ الإسلام من مصير أسود من الطَّمْس والانحراف والتشويه الشَّديد الذي يأتي على كل صفائه وصدقه وأصالته.
للحسين عليه السلام على كلّ الأمة أن تجلَّه، وتحترم ذكرى استشهاده، ولا تطارد مظاهر إحياء شعائره.
وأريد أن أسأل الجهات الرسمية في البحرين: ماذا يؤذيها من مظاهر الإحياء لذكرى كربلاء من أعلام وسواد، وكلمات تنطق بفكر الحسين عليه السلام، وتُشيد بإمامته وشهادته؟
وهل صارت صور العاريات في مظهرها الفاسق الماجن الفاجر أولى بأرض البحرين أرض الإسلام والإيمان وشوارعها وميادينها العامّة وأحقّ من راية سوداء تُنصب في مداخل القرى والمناطق تحزُّناً على فاجعة كربلاء، ولافتة تكون هنا وهناك تحمل من كلمات الحسين عليه السلام ما يحيي القلوب، ويوقظ الأرواح، ويُنبّه العقول، وكلمات أخرى في شأن وعظمة الإمام وثورته المباركة وعطاءاتها الكريمة؟!!
في المطاردة لهذه المظاهر العاشورائية المعتادة جفاء كبير للإمام الحسين عليه السلام، وإلغاء للحرية الدّينية، واستخفاف بحقِّ المواطن في الإعلان عن شعائر دينه ومذهبه، واستفزاز للمشاعر، وإثارة للفتن.
وإذا كانت الشّوارع للحكومة؛ فهي للشّعب كذلك، وإذا كانت الصور الفاتنة العاهرة تملأ الشوارع على يد جهات رسميّة، فإنَّ من حق الشعب أن يكون له في هذه الشوارع مكان للتعبير عن دينه وشعائره.
وما ترتكبه تلك الجهات منكر، وما يقوم به الشعب في هذه المناسبة إنما هو من المعروف وهذا البلد؛ المعروفُ أولى به من المنكر.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا عاملين بالمعروف، آمرين به، منتهين عن المنكر، ناهين عنه، ومن محيي السُّنن، ومميتي البدع، وأنصار الحقّ، وأعداء الباطل، والدَّاعين للهدى، والمناهضين للضلال.
اللهم اجعلنا ممن اهتدى بهدى نبيك محمد وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم أجمعين، وثبِّتنا على هداهم ياكريم يا رحمن يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(24).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ميزان الحكمة ج3 ص1799 ط1.
2- المصدر السابق.
3- ومن بَعُدَ عن الله بَعُد عن الخير كلِّه.
4- بحار الأنوار ج100 ص9.
5- المصدر السابق ص7.
6- المحاسن ج 1 ص 150.
7- ماذا يقتضي حبّ الله؟ حب أهل البيت عليهم السلام يقتضيه. بِمَ ينعكس على المرء حب الله من أدب وخلق؟ إنه لينعكس عليه من حبه لأهل البيت عليهم السلام في من وعى معنى حبّهم، وأنه من حبّ الله، ومنشئه.
8- الأمالي للشيخ الطوسي ص454.
9- الكافي للشيخ الكليني ج2 ص55.
10- المحاسن ج1 ص 291.
11- شرح أصول الكافي ج9 ص43.
12- الكافي للشيخ الكليني ج2 ص79.
13- ميزان الحكمة ج3 ص1802.
14- فالمقارنة بينهما إما نسبية أو أنها بهذا المعنى.
15- سورة الجحد.
16- هذه كارثة أكبر من كارثة انحراف يزيد.
17- سلطان جائر واحد وإن طغى وعتى لا يستطيع أن يحقق كل ما في نفسه، إنما هي الأمم التي تحقق للطامعين انتصاراتهم.
18- هل تجب الأمانة أو لا تجب؟ ليس لي أن أجهل وجوب الإمامة، لأنها من الأصول، ولأنها أسٌّ عظيم من أسس الدين.
إنسان في البرن في أقاصي الصحراء البعيدة عن كلّ خبر للإسلام ذاك له شأن.
19- يدري ويعلم أن الإمامة واجبة لكن يتساهل في البحث عن من هو الإمام، لا يصح.
20- كيف حصل يزيد على موقع قدم في الأمّة؟! ما كان ينبغي أن يحصل يزيد على موطئ قدم في الأمة.
21- كيف أجرأ أنا الصغير أن أطرح نفسي خليفة لرسول الله صلّى الله عليه وآله في أمة واعية، في أمة مؤمنة، في أمة ملتزمة؟! كيف يكون لي أنا الصغير أن أتقدم على الحسين عليه السلام؟! لو كانت الأمة على سلامة من دينها وعلى وعي ما كان الجو يسمح لي أصلا أن أطرح نفسي إماماً بديلاً عن إمامة الإمام الحسين عليه السلام ومقاوما له.
22- خطئان؛ خطأ أن الإمامة تصلح لهذا النوع من الأئمة أو لذلك الأئمة حسب الرأي الإسلامي، هذا الاشتباه لا يقع فيه المسلم المنتبه فاهماً بعض الشيء من الإسلام. والخطأ الثاني أن هذا النوع مصداقه يزيد أو الحسين؟ هذا لا يمكن أن يقع الاشتباه فيه شخص له بعض الالتفات الموضوعي.
23- سيبقى الاقتراء على القرآن، وسيبقى الاقتراء على الإسلام، لكن الأمة كل الأمة تنخدع بهذا الافتراء أو لا تنخدع؟ لولا يوم الحسين عليه السلام لغرقت الأمة في بحر الافتراءات الكثيرة على الإسلام واستسلمت بما يشبه كاملها له.
24- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى