خطبة الجمعة (425) 13 ذو القعدة 1431هـ – 22 أكتوبر 2010م

مواضيع الخطبة:

الخطبة الأولى: متابعة موضوع الصدقة

الخطبة الثانية: دُور العبادة وشعائر الدين

إذا كانت لنا شعائر مرتبطة بخصوصيتنا فلابد
أن تكون ممارستنا لها على هذه الأرض وليس على أرض أخرى، وإذا كانت لنا مطالب مرتبطة
بمواطنيتنا فلا يُتصوّر أن نطلب تحقيقها من وطنٍ آخر ليس وطناً لنا، كما لا يُتصوّر
أن نسكت عنها بصورة دائمة.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي فاوت بين عباده في الرزق على سعة ملكه وعدم محدوديته، وجوده وكرمه ابتلاء لغنيّهم وفقيرهم في الشكر والصبر والتسليم، وكتب في أموال الأغنياء رزقاً للفقراء يكفيهم، وأجزل الثّواب على عطاء من أعطى، وشُكْرِ من شكر، وصَبْرِ من صبر. نحمده حمداً دائماً أبداً، ونشكره على عظيم نعمائه، وكريم عطائه، وكثير آلائه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أُوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله المُنعِم المُلهِم المكرِم، والذي لا يُردّ عقابه، ولا يُحتمل عذابه، ولا تقوم السّماوات والأرض لسخطه. ومن اتّقى اللهَ كفاه، وحماه، وأغناه، وهداه، وأعلاه، وأعزَّه وأيَّده، ومن عصى فقد دخل في الذّل والضّلال، وَحَرَم نفسه اللطف والرحمة، والمنزلة الرفيعة والكرامة.
اللهم إنّا نستهديك، ونسترشدك، ونؤمن بك، ونتوكّل عليك. ربَّنا اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصدقائنا ومُعلِّمينا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وجميع المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وزد من شأنهم عندك، ورفعتهم لديك، وكرامتهم من فضلك، وحظِّهم من رحمتك فإنك الغنيّ الجواد الكريم.
أما بعد أيها الملأ الطيب المبارك فإلى متابعة الحديث عن موضوع
 الصَّدقة:
كل صدقة صحيحة يقصد بها وجه الله سبحانه محبوبة وثوابها عظيم، وتتميّز صدقة عن أخرى وزناً وأثراً، ومثوبة.
والأحاديث تتكلّم في هذا المجال عن أكثر من نوع من الصّدقة، وظرفٍ، وحالٍ، ومتعلّق، وموضوع والتفاضل في ذلك.
الصدقة الأفضل:
‌أ. صدقة الصِّحة: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله أيّ الصدقة أفضل؟ قال:”أن تصدّق وأنت صحيح شحيح، تأمل البقاء وتخاف الفقر، ولا تَمهَّل حتّى إذا بلغت الحلقوم قلتَ: لفلان كذا ولفلان كذا. ألا وقد كان لفلان”(1).
ظرفُ الصحّة يغري بالبقاء، وحرصُ النّفس وشحّها بالمال وهي على ظنِّ البقاء أكبر، وخوفها من الفقر أشدّ. وبذلُ المال في ظرف التمسُّك القويّ به، وهو عزيزٌ عليها أدلّ على حبّ الله، وطاعته، والتعلُّق به، والثّقة فيه، وإكبار ثوابه.
والبعضُ إنّما يلتفت إلى أصحاب الحقوق في ماله، والحاجة الملحّة للمسكين واليتيم إلى شيءٍ من المال عندما تحضرُه الوفاة، ولا يبقى للمال دورٌ في خدمة حياته، حين لا طمعَ له في البقاء للتمتّع به. وسخاؤه بشيءٍ من المال في هذا الحال إنّما هو سخاء بزهيدٍ قلّ وزنه في النفس، وخفَّت درجة إغرائه، وإن كان شيءٌ خيراً من لا شيء.
‌ب. صدقة المُقِلّ: عن الصّادق عليه السلام:”إنّ صاحب الكثير يهون عليه ذلك(2)، وقد مدح الله عز وجل صاحب القليل، فقال:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ….}(3)”(4).
الدّينار من المال القليل في يد الفقير أغلى منه من المال الكثير في يد الغنيّ، وحاجته إليه ألحُّ وأبين، وتمسّكه به في العادة أكبر، وقد لا تكون للغنيّ حاجة غير الجشع والحرص على الدّنيا في الكمّ الكبير من ماله.
فالفقير المتصدِّق بالقليل وهو كثيرٌ بالنسبة إلى ما بيده، ومتعلّق لحاجة أو أكثر من حاجاته الفعليّة مُضحٍّ بالكثير العزيز في سبيل الله، وما ذلك إلا لأنّ الله سبحانه عنده أكبر وأغلى وأعزّ وأعظم. وبذلك تأخذ صدقتُه على ضآلتها لو قيست لصدقة أخرى عظيمةٍ من غنيّ وزناً أعلى، وقيمةً أكبر، وثواباً أعظم عند الله العليم الحكيم الكريم.
‌ج. صدقة اللّسان: عن الرّسول صلّى الله عليه وآله:”أفضل الصّدقة صدقة اللسان تحقُنُ به الدماء، وتدفع به الكريهة، وتجر المنفعة إلى أخيك المسلم”(5).
للمال حيثُ يوضع موضعه دور بنّاء كبير، وإسهام ملحوظ في الإصلاح، وقد تأتي الكلمة الهادفة المصلحة الحكيمة المتقِنة أكبرَ دوراً في البناء، وإسهاماً في الإصلاح. فمن الكلمات ما يمنع سيولاً من الدماء دون أن تُهدر، ويُجنّبُ حروباً طاحنة، ومهالك عظيمة، ويُحقّق مصالح كبيرة مضاعفة، ومكاسب ضخمة عامّة، ويُخلِّص من مشكلات عويصة، وأزمات مرهِقة شاملة.
والصّدقة بهذه الكلمة تفوق في قيمتها وأجرها كثيراً من صدقات المال التي لا تُعطي كلّ هذه النتائج. وفي كلٍّ خير، وعلى المرء أن ينفق في سبيل الله من أنواع الرّزق الموهوبة له من الله، وألوان العطاء.
ونِعْمَ الصدقة قول الخير لأنّ فيه صلاح النفوس والحياة؛ حياة الأفراد، والأسر، والطوائف والمجتمعات والأمم.
ومثل ذلك صدقة العلم الذي يُصحّح مسار الحياة، ويبني العقول، ويُنيرها، ويهدي النّفوس.
فعنه صلّى الله عليه وآله هذان الحديثان:”أفضل الصدقة أن يتعلّم المرء المسلم علماً ثم يعلِّمَه أخاه المسلم”(6)، “والذي نفسي بيده ما أنفق النّاس من نفقة أحبّ إليّ من قول الخير”(7).
‌د. الصَّدقة في هذه الموارد:
“سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله: أي الصدقة أفضل؟ فقال على ذي الرحم الكاشح”(8).
وذو الرّحم الكاشح إنسان تجمعُك به صلة القرابة المعروفة، ولكنّه يبتعد عنك ويهجرك أو ينطوي كَشْحه – والكشحُ ما بين الخاصرة إلى الضلع الخَلفي – على العداوة.
ومعلوم أنَّ التباعد فضلاً عن العداوة من القريب مُرّة مثيرة، ولذلك كان تجرُّع غصّتها، وتجاوز أولمها، والاستعلاء عليها، ومعرفة حقّ الرَّحم رغم الأذى والألم، وصلته والحال هذه امتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ له مقامُه المتميّز وأجره العظيم.
وموارد الحاجة الشديدة الضاغطة على صاحبها موارد يعظُم بها قَدْر الصدقة. ونجد ذلك في الحديث عنه صلّى الله عليه وآله:”أفضل الصّدقة على الأسير المخضرّ عيناه من الجوع”(9). وفي ما عن الإمام الصّادق عليه السلام:”أفضل الصّدقة إبراد الكبد الحرّى”(10).
وجاء تفضيل الصدقة بالبناء وإن تواضع في سبيل الله كما في المَرابِط، والمياتم، والحوزات، والمدارس والجمعيات، والمساجد، والحسينيات التي تهتمُّ بشؤون الدين، ومصالح المسلمين.
والصدقة على ذي الرّحم المحتاج مقدَّمة على غيرها في العادة، واجبة كانت أو مستحبة، والإنفاق على من يجب الإنفاق عليه له الأولوية.
فعن الحسين عليه السلام:”سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: ابدأ بمن تعول: أمّك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك”(11).
هناك واجب ومستحب، والواجب لا يزاحمه مستحب، وإعالة الأم والأب حيث يكونان محتاجَين للإعالة واجب، وإعالة الأخت والأخ في موضع الحاجة لا تشبهها الصدقة على البعيد فتأتي في المقدّمة، ولها الأولوية.
وعن الرسول صلّى الله عليه وآله:”لا صدقة وذو رحم محتاج”(12) فحاجة ذي الرّحم كأنها رافعة لموضوع الصدقة الأخرى.
وفي حديث آخر عنه صلوات الله وسلامه عليه وآله:”إنّ الصّدقة على ذي القرابة يُضعِّف أجرها مرتين”(13) وهذه المضاعفة لاجتماع عنواني الصدقة وصلة الرحم، وكل منهما مطلوب، ومَحَلّ للطّاعة.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن يسمع القول فيتّبع أحسنه، وممن هديتهم سبيلك، ووفّقتهم لطاعتك، وأحييت بهم دينك، ونشرت شريعتك، ونفعت عبادك، وأورثتهم جنّتك، ومنحتهم كرامة المنزلة الرفيعة لديك فإنك أرحم من كل رحيم وأكرم من كل كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}.

الخطبة الثانية

الحمد لله الخاضع له كلُّ شيء، الخاشع لعظمته كلُّ شيء، والذي لا وجود لشيءٍ إلاّ به، ولا قيام لأمر إلاّ بقدرته، وكلُّ الأشياء منيبةٌ إليه، محكومةٌ لقدره، هالكةٌ إلا وجهه، وهو الحيُّ القيّوم لا تأخذه سنة ولا نوم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله الذي بيده محيانا ومماتُنا، وهو المدبّر والرازق والكافي، والشّافي والمعافي، وكلُّ نفعٍ وضرٍّ بيده، ولا شيء خارجَ قدرته.
ومن تقوى الله الحفاظُ على دينه وحمايتُه، وردُّ الشُبَه والتعدّيات عنه وتنقيتُه؛ وإبقاؤه مُحاطاً باهتمام المؤمنين وعنايتهم، يقدّمونه على نفوسهم، ولا يقدّمونها عليه.
اللهم اجعلنا والمؤمنين والمؤمنات أجمعين من أهل تقواك، وحَفَظَةِ دينك، والأمناء على شريعتك، والثّابتين على طاعتك، والرَّاضين بأحكامك، غير المفرِّطين في حَمْل أمانتك، واغفر لنا جميعاً برحمتك، وتُب علينا بكرمك يا توّاب يا رحيم، يا جواد يا كريم.
اللهم صل على خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجّل فرج وليّ أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
اللهم عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفّقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا دائما ثابتا قائما.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون والمؤمنات أجمعون فإلى عنوان:
دُور العبادة وشعائر الدّين:
نحن حريصون كلّ الحرص على أمن البلد واستقراره، ولا ينفصل هذا الأمن والاستقرار في وعينا عن أمن الدّين وتقديسه وتطبيقه، واحترام الشّعائر، واستقلالية دُور العبادة وأدائها لوظيفتها من دون وعيد ولا تهديد.
وحِرْصُنا على أمن البلد واستقراره لا يدخل فيه، ولا يخدمه التّساهل في أمر الدّين، والرِّضى بالسّيطرة عليه، والتصرّف فيه من قبل السياسة بأيّ حال من الأحوال، وفي أيّ ظرف من الظروف.
ومن ناحية مذهبية فإننا هنا ولمصلحة الوطن ووحدته وأخوّة أبنائه وعزّته واستقلاليته وتقدّمه، ولا يمكن إلاّ أن نكون هنا، ولا يمكن أن نكون في وجودنا هذا إلا كذلك.
وإذا كانت لنا شعائر مرتبطة بخصوصيتنا فلابد أن تكون ممارستنا لها على هذه الأرض وليس على أرض أخرى، وإذا كانت لنا مطالب مرتبطة بمواطنيتنا فلا يُتصوّر أن نطلب تحقيقها من وطنٍ آخر ليس وطناً لنا، كما لا يُتصوّر أن نسكت عنها بصورة دائمة.
وشعائر الإسلام في كلٍّ من مذهبيه ليست من طارئ اليوم أو الأمس القريب على هذه الأرض.
وشعائر المذهب وَلَدتها طبيعته ولم تأتِ ردّ فعل على موقف معيّن، أو تابعة لظرفٍ خاصّ، ولم تكن للتحدّي، وليست بصدد الإثارة، أو الإزعاج، ولم تكن بِنَْت الأمسِ القريب، والنّابعة من ظرف سياسي معيّن.
ومكبِّرات الصّوت في المجالس الحسينية والمواكب سبقت مكبِّرات الصوت في المساجد عندنا(14)، وربما عند الآخرين.
ومكبّرات الصوت التي ينطلق منها أذان الفجر ليوقظ النّائمين على اختلافهم ويُفسد عليهم نومهم أزعجُ للمتدرّعين بالإزعاج من مكبّرات المآتم.
وبناءُ المأتم في مكبّرات الصوت أن لا تخرج عن وظيفتي الإعلان والتبليغ إلى إحداث الضّوضاء والإزعاج، والدّخول في حرب الصوتيات والأصوات المتشاكسة. ولو شذّ شيء من ذلك فإنّ المعالجة يجب أن تكون داخلية لا باستعراض العضلات من قبل السياسة، ولا يصح أن تتّخذ المسألة مدخلاً للتدخّلات المغرضة غير الخفيّة.
وعندما يقول العلماء بأنّهم يؤمنون بدولة القانون والمؤسّسات(15) فهم لا يلغون العدل والحقّ من أجل القانون، ولا يُعطون الضوء الأخضر لأيّ قانون على حساب الدين والهُويّة.
الفرنسيّون، والإنجليز، والأمريكيّون وغيرهم يؤمنون بدولة القانون والمؤسّسات ولكن جماهيرهم ومعارضتهم تقف بشدّة في وجه أيّ قانون وأي قرار يأتي على خلاف مصلحتهم، أو يتحدّى ثوابتهم.
هذا مع كون وضع القانون هناك من نوّابٍ اختارهم الشعب من خلال ديمقراطية أوسع وأقرب إلى الصِّدق، وليس من وضع إرادة فردية أو ديموقراطية مُزيّفة مكذوبة إلى حدٍّ سافر مكشوف، أو مجلس شورى معيَّن.
ومع كون القرار إنما يأتي هناك من سلطة تنفيذية منتخبة لا من سلطة تنفيذية جبرية قهريّة(16).
وعلى كلِّ تقدير لن يأتي يومٌ يقدِّم فيه هذا الشعب المؤمن القانون على ثوابته الدينية والخلقيَّة وشعائره، ولن يسمح لأيِّ قانون بإلغاء هُويَّته(17).
نعم هذا هو الأمل في هذا الشّعب المؤمن الواعي الأبيّ الكريم. أمّا الأصوات النّشاز لسببٍ وآخر فهي موجودة في كلّ زمان ومكان ومجتمع وأمّة.
والقانون محتاج دائماً إلى خلفيّة تعطيه قوَّة الإلزام في نفوس من يُراد تطبيقه عليهم وإذا استثنينا خلفيّة العصا والقوّة الباطشة التي تعتمدها القوانين التسلُّطية، فإنّ الخلفية إنّما هي مجاراة القانون للحق، وتحقيقه للعدل، وقدرتُه على تحقيق الصّالح الرّوحيّ والماديّ للشعب أو الأمة لأنّ الإنسان بدنٌ وروح، والروح هي الأهم لأن بها قوام إنسانية الإنسان.
ومكبِّرات الصوت جزئية واحدة من واقع ديني كبير يراد تحجيمُه كلِّه، والسيطرة عليه، وقطع لسانه أمام السياسة وتركيعُه لمشتهاها، وتحويله إلى أداة تبريرية بيدها، ووجودٍ مُشوّهٍ ساقط القيمة عند الباحثين عن الحقّ والحقيقة.
إنَّ الاستهداف(18) لهذا الواقع الكبير بكلِّ أبعاده وهو ما صارت تصرّح السياسة به من أن تكون لها الكلمة الفصل في أمر الدّين والمسجد والحسينية والموكب والحوزة وعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة والتبليغ، وما يحلُّ ويحرُم(19).
فالقضية ليست إما أن تبقى مكبرات الصوت في المسجد والحسينية أو تُلغى، وإنما أن يبقى هذا الواقع الكبير بكل أبعاده على نقائه وأصالته وإمّا أن يُلغى، أن يسلم أو يعدم، أن يظهر أو يقبر.
وسمّاعات المواكب لا تختلف عن سماعات المآتم(20). وكما يُحتج بالإزعاج هنا سيُحتج بالإزعاج هناك، وفي المواكب تعطيل لحركة مرور، وحشود أكبر فلابد أن يتناولها المنع لراحة المواطنين التي تشفق عليها الحكومة كلّ الشفقة بشهادة صارخة من السياسة المرنة الرّحيمة التي تمارسها في حقّ المواطنين والتي طالت سجن النّساء، وترويع الآمنين.
إنّ غلق المسجد والحسينية أمر صعب، ومردوده السّياسي سيء جدّاً على الحكومة. وحرف وظيفة أي منهما بصورة عامّة فوق طاقة كل الحكومات، وسيبقى العلماء المخلصون في الأمة والجماهير المؤمنة أوفياء لهذه الوظيفة، وحماة لدُور العبادة والشعائر عن التحريف والتزوير والالتفاف.
وسكينةُ المواطنين التي تخاف عليها بعضُ الكلمات الرسمية من الحسينية والمسجد لماذا لا تخاف عليها من مهرجانات أفراح الدولة والمهرجانات المرخّصة من النوع الذي ترتاح إليه وتُسمّيه بالمهرجانات الترفيهية بما فيها من طَرَبٍ وضجيج وصخب يصل إلى كلّ بيت، ويخترق كلّ سمع من مسافة بعيدة ولساعاتٍ طويلة؟! وكم تُعطي الدولة من اهتمام لسكينة المواطنين إذا انتصرت في مباراةٍ لكرة القدم على دولة أخرى؟!
والمأتم والمسجد هو الذي يُقلق سكينة المواطنين أم الإجراءات الأمنية الشّرسة والجوّ الإرهابي العام الذي تفرضه الدولة لإرعاب المواطنين؟!
وورد في كلمات الصحافة وبعض الرسميين ذكر الاصطفاف الطائفي، ونريد أن نؤكّد هنا بأن لا طائفية شعبية في البحرين وإنما هي طائفية حكومية.
الشعب بطبيعته غيرُ ميّال لأيّ مواجهة طائفية، وخلقه التجانس والتعايش والتواصل، ودعوة العلماء للتوحّد ثابتة وجديّة وعملية، وخطواتهم على هذا الطريق كثيراً ما أحبطتها السياسة. موقف العلماء في هذا المجال صمّام أمان عن الانفلات الطائفي الذي تساعد عليه سياسة الحكومة.
هناك طائفية مقيتة مُضرّة بالوطن تمارسها الحكومة في أكثر من اتجاه، وتفرّق بها كلمة هذا الشعب، وتثيرها بقوة من خلال بعض مشاريعها، وبتجنيد أقلام وألسُنٍ تعبّر عن إرادتها.
وأخيراً أقدِّم الشكر الجزيل لكل المخلصين من أولياء الحسينيات ومسؤوليها وقيّمي المساجد على خدمتهم لدينهم موضّحاً أن مصير هاتين المؤسستين الإسلاميتين الطاهرتين من مسؤولية المؤمنين جميعاً وفي مقدّمتهم العلماء ولا يجوز التفريط به(21)، ولا يملك أحدٌ أن يتساهل فيه، والعاجز عن تحمّل المسؤولية ينعزل ولا يخون.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ووالدينا وأرحامنا وأزواجنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا أمناء على ما ائتمنتنا عليه من أمر الدين، ساعين لعزّ الإسلام والمسلمين، بعيدين عن الدعوة إلى فُرقتهم، حريصين على تماسكهم ووحدتهم، ساعين في نصيحتهم وصلاحهم، واجعل نيتنا خالصة، وسعينا مفلحاً يا سميع يا مجيب.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(22).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الأمالي للشيخ الطوسي ص398 ط1.
2- أي الصدقة، وصاحب الكثير: صاحب المال الكثير.
3- 9/ الحشر.
4- الخصال للشيخ الصدوق ص97.
5- بحار الأنوار ج 13 ص 389.
6- كنز العمال ج6 ص421.
7- المحاسن للبرقي ج1 ص15.
8- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص142.
9- بحار الأنوار ج71 ص369.
10- بحار الأنوار ج93 ص172.
11- بحار الأنوار ج93 ص147.
12 – المصدر السابق.
13- كنز العمال ج6 ص395.
14- وهذا أعلمه.
15- كما جاء في بيانهم.
16- مع هذا وذاك تجد الجماهير هناك يقفون في وجه أي قانون يرون فيه معارضة لمصلحتهم أو يرون فيه مناهضة لثوابتهم.
هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم يا علماء).
17- هتاف جموع المصلين بـ(لبيك يا إسلام).
18- إن الاستهداف ليس لمكبّرات الصوت وحدها.
19- هذا هو المراد.
20- وهي اليوم مستثناة.
21- أي هذا المصير.
22- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى