خطبة الجمعة (419) 24 شعبان 1431هـ – 6 أغسطس 2010م

مواضيع الخطبة:

*متابعة حديث الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر *نصيحة مواطن مشفق *أمانة المسجد

الذود عن دور المسجد، وحماية رسالته، والتمكين من أداء وظيفته،
ودرأ التعدي المعنوي عليه، وتعطيله، وتشويه غاياته واجبُ كل المسلمين الغيورين على
إسلامهم، وهم مسؤولون أمام الله عزّ وجلّ عن هذا الذّود والحماية.

 

 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خَلَقَ كلَّ شيء وأعطاه هداية الإيصال والإبلاغ حتّى تـمام الغاية، وغايةِ النّهاية، وجعلها هدايةً لا معدِل للمخلوق عنها، ولا خِيار له فيها، ولا قُدرة عنده على تغييرها، وأعطى العقولَ أن تُدرك وترى، وجعل ذلك قَدَرَاً مكتوباً، وأمراً محتوماً، وأعطى القلوبَ هدايةَ الفجور والتقوى، والنفوس خيار الفعل والترك، وهما هداية إراءةٍ وإقدار لا يُجبر عليهما العبد، ولا يكون أمامهما مسلوبَ الإرادة.
قدَّر سبحانه كلَّ ذلك بعلمه المنزّه عن الجهل، وحكمته التي لا يمسُّها ضلال، وقدرته التي لا يُعجزها شيء.
نحمده حمداً لا ينقضي ولا يحدُّه زمانٌ أو مكان أو عدد أو أيّ حدٍّ حمداً يليق بجلاله وجماله وكماله. وله الشّكرُ على جميل صُنعه، وقديم إحسانه، وجليل إنعامه، وحكيم تدبيره، وعظيم إتقانه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون، صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله؛ فالتَّقوى شرفٌ للمتّقين، ولا نجاةَ، ولا فوزَ إلاَّ لمن اتّقى، ومن عَرَفَ الله اتّقاه، فهو العظيم الذي لا يجرؤ مخلوقٌ قد عرفه على معصيته، وما تخلّفنا عن التّقوى إلا من جهل أو غفلة ونسيان. أمّا العارفون الذّاكرون لعظمة ربّهم سبحانه لا تأتي منهم معصية وهم ذاكرون.
اللهم ارزقنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات معرفتك، وأدِمْها لنا، وذكرك، ولا تُفرّق بيننا وبينه حتى لا نقع في شيء من معصيتك، ولا تزِلّ لنا قدمٌ عن صراطك، واغفر لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وأزواجنا وجيراننا وأخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرحيم، ذو الفضل الكريم العميم، اللهم وصلّ على محمد وآل محمد، وأكرمهم خير ما أكرمت أحداً من أهل السموات والأرض وزِدهم وجميع من أحببت من فضلك يا كريم يا رحيم.
أما بعد أيّها الأعزّاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث لا يزال في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
التاركون للأمر بالمعروف:
يواجه الإسلام التّخاذل عن أداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواجهةً غليظة، ويرى أنّ التخلّي عنها أَوقع من أوقع في لعنة الله، وما أشدَّ هذا الأمر على من وقع فيه، فمن طُرِد من رحمة الربّ الرّحيم الكريم فليس له من ملجأ، ولا عاصم.
تقول الآية الكريمة:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(1).
وعن علي عليه السلام:”إنما هلك من كان قبلكم بحيث ما عملوا من المعاصي ولم ينههم الربّانيّون والأحبار عن ذلك، فإنّهم لما تمادوا في المعاصي نزلت بهم العقوبات”(2).
والعقوبات الإلهية لا تنحصر في الزلازل الأرضيّة، والصواعق السماوية، والأحداث الطبيعية المدمّرة الصارخة؛ فقد تأخذ صورة سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية وصحية ونفسية مرعِبة، وقد تأخذ صوراً أخرى فوق كلِّ التوقّعات. وما أكثر ما تعاني الحياة من مشاكل حادّة بما كَسَبَت أيدي النّاس، وما اخترقته من حرمة منهج الله، وما يحدث من تخلّفات عن أمره ونهيه!! وكم حَرَم النّاس أنفسَهم من بركات السماء والأرض لتخلُّفِهم عن الأخذِ بالمنهج الحقّ الذي جاء رحمةً من الله للعالمين!!
وعنه عليه السلام:”إن الله لم يلعن القرون الماضية بين أيديكم إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السُّفهاء لركوب المعاصي، والحكماء لترك التناهي”(3).
ومن نتائج التخلّي عن هذه الفريضة ما عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله:”يا أيّها النّاس! إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم”(4).
فالتّخاذل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلفيّة قد لا نراها، ولا نحسب لها أيّ حساب تقف كما في الحديث وراء تخلُّف إجابة الدّعاء، والمنع من العطاء، وحَجْب النّصر الإلهي مع الاستنصار؛ لأنّ الاستنصار اللفظيّ مع عدم الاستجابة العمليّة لمنهج الله فاقدٌ لشرطه.
وفي الحديث عنه صلَّى الله عليه وآله:”إذا لم يأمروا بمعروف، ولم ينهوا عن منكر، ولم يتّبعوا الأخيار من أهل بيتي، سلّط الله عليهم شرارهم، فيدعو عند ذلك خيارهم فلا يستجاب لهم”(5).
فمن نتائج التخلُّف عن المنهج الإسلامي وشريعة الله، والإخلال بوظيفة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هذا البلاء العظيم؛ وهو تسليط الأشرار، وتمكُّنهم من الأموال والرّقاب والمصائر. ودعاء الأخيار بالخلاص، مع التفريط في الإسلام وتعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر غير مسموع من الله عزّ وجلّ لأنّ على الإنسان أن يستنفذ وسائل النّجاح وأسباب الحل التي مكّنه الله منها، وأنعم بها عليه قبل أن يسأل التدخُّل الغيبي والحلول الجاهزة من الله سبحانه(6).
وفي حديث آخر عنه صلَّى الله عليه وآله:”لتأمرن بالمعروف، ولتنهُنّ عن المنكر، أو ليعمّنكم عذاب الله”(7).
فالنتيجة المؤكّدة للتخلف والتقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو أن يعمَّ العذاب من جنى ومن لم يجن بغير جناية هذا التفريط، وكفى بها من جناية(8)، والعذاب الذي يتهدَّد المجتمع بهذا التقصير مفتوح في لغة الحديث على أنواع العذاب وصوره(9).
معالجة نفسية:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضٌ من فروض الشريعة، وتكليف من التكاليف الإلهية، ولكل فرض مؤونته، ولكل تكليف ثِقْلُه، وليس التّكليف كالتّرخيص، ولا التقييد كالإطلاق، هما ليسا سواء في مرونة الاختيار.
وللنفوس عيوبها ووساوسها التي تقعُد بها عن الاستجابة للفرض، والنهوض بثِقْل التكليف، وللشيطان مداخله للنفس، وأساليبه الماكرة بها، والصّارفة لها عن الخير والطاعة.
وتلتفت النّصوص إلى حديث النّفس ووسوسة الشيطان التي تُسبِّب التلكؤ في أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فعن علي عليه السلام:”إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل، ولا يَنقُصان من رزق، وأفضل ذلك كلمة عدل عند إمام جائر”(10).
تحرص النفوس على حياتها ورزقها فتتهيّب أن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر خشيةَ الضّرر على النفس، والنقص في الرزق بسبب نفرة النّاس، وعداوتهم وأذاهم، فتثير في داخل صاحبها وسوسة بهذا الشّأن لِتُعِيق حركته، وتُثبّط عزمه، وتعطّل إرادته تماماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحديث يخاطب به علي عليه السلام عقل الإنسان وقلبه، ويستنهض إيمانه، وتوحيده لله عزّ وجلّ ليقطع دابر هذه الوسوسة، ويسدّ منابعها، حيث إنّ الحياة، والرزق، وكلّ شيء إنما هو بيد من له الأمر كلّه، وهو الله الذي لا إله إلا هو، ولا مالك سواه.
والنصوص بهذا المضمون متعدّدة، وصادرة في المروي عن معادن العلم والحكمة والصدق، وناطقة بما عليه حاقُّ الدِّين، وخالص التوحيد، ومُفْصِحة بما يجهر به الكتاب الكريم، وتهدي إليه تربيته.
ولنتذكّر جميعاً أنّ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحكامَه وشروطَه، وموانعَه، وضوابطَه، وأساليبَه، ومراتبَه، ونظامَه في التّشريع الإسلامي، والصَّرْح الفقهي، ولابدّ للآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر من مراجعة ذلك كله في مظانِه من الفقه حتّى يطابق عملُه الشريعة، ولا يُسيءَ إليها، ولا يضرّ بنفسه، وبالناس على غير هدى، ويُفسد باسم الإسلام. ولكثيراً ما ارتكب ويرتكبُ بعض من يتصدّى لهذه الوظيفة على غير هدى ونور مجازرَ ومآسي، ومخازي باسم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. وإنّا لله، وإنّا إليه راجعون.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرَّحيم.
اللهم احرس عقولنا جميعاً من الضلال، وأرواحنا من الرّجس، وقلوبنا من الزّيغ، ونفوسنا من ميل الهوى، وكيد الشّيطان الرَّجيم. اللهم أبدِلنا عن ذلك هدىً نستضيء به، وطُهراً نأنس له، واستقامةً ندوم عليها، وعصمةً تنجينا بها من مخالفتك، والوقوع في معصيتك، واجعل استمساكنا بك، وقصدنا إليك يا رحيم، يا رحمان، يا منّان، يا جواد، يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الواجب على كلِّ عباده طاعته، وإخلاص عبادته؛ ذلك بما خَلَقَهم، ورَزَقَهم، ودَرَأَ عنهم، وكَفَاهم، وهداهم، ودبّرهم خير تدبير، فلا كافر به إلاّ جاحد معاند، ولا داخل في معصيته إلا مخدوع غافل، ومغرور جاهل.
لا يخرج العبادُ من حقِّه، ولا يبلغون واجب طاعته وعبادته. ولولا رحمتُه لما نجا المطيعون المحسنون، ولا رجا نجاة أحد من العاصين المسيئين، ولكنَّه الرؤوف الرَّحيم، البرُّ الكريم، الذي يقبل القليل، ويعفو عن الكثير، ويُضاعف الحَسَنَة، ويمحو السيئة، ويتجاوز بلطفه وحكمته عمن يشاء من المذنبين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله فهو وحده الحقيق بالتقوى، ولا واجب كواجب طاعته، ولا إنسانية لإنسان بلا عبادته(11).
والمتّقون هم الأقرب رشداً، والأرجح عقلا، والأطهر قلباً، والأخلص نيّة، والأصدق وفاءاً، والأوفى عهداً، والأعفّ لساناً، والأنظف يداً، والأحسن عملاً، والأبعد عن إضرار وخيانة.
اللهم اجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات، ومن يهمّنا أمره ممن اخترته لدينك، ووفّقته لطاعتك، وأخلصته لعبادتك، واصطفيته في المجاهدين في سبيلك، ورزقته تقواك، وشرّفته بقربك.
اللهم عافنا واعف عنا، وعن كل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، واغفر لنا جميعاً مغفرةً جزماً حتما تغسل ذنوبنا، وتستر عيوبنا، وتُب علينا إنك خير التوابين، وخير المحسنين.
اللهم صلّ وسلم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتّقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس ياربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى والمؤمنين والمؤمنات أجمعين، وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.
أما بعد فهذه بعض عناوين:
نصيحة مواطنٍ مشفق:
يعلم الجميع أنَّ الصّراع المستمر مرٌّ ومكلِف، وللصّراعات الدّاخلية ثمن باهظ مكلف، وكلفتها لا تستثني أحداً من أطراف الصراع. ولا يغلب غالب في هذه الصراعات إلا وهو مغلوب(12)، والخسائر التي تلحق به خسائر جمَّة.
والصراعات الداخلية التي تأخذ صفة الاستمرار تحدث تصفيات هائلة، وتحوّل حياة الأوطان إلى جحيم، وتؤول بعمارتِها إلى خراب.
والتاريخ يعرف تبدُّلا كثيراً للحكومات، ولكن يصعب على الحكومات جدّاً أن تُلغي الشّعوب.
وإذا كان هذا الأمر صَعباً جداً في كلّ التاريخ، فهو اليوم في حكم المستحيل. وحركة الشّعوب في هذا العصر في طلب الحقوق صارت متسارعة، ومحاولة إيقافها لا يشتغل بها عاقل.
وبرغم ما عمَّ العالم اليوم من ظلم وفساد وإفساد إلاَّ أنَّ تياراً عارماً متصاعداً في النّاس متَّجهٌ بجدٍّ وحزم وقوّة وتصميم للمطالبة بالعدل والإنصاف، وهو توجُّهٌ لا رجوع عنه، ولا تردُّد لعالم فيه.
والبحرين يعيش داخلها صراعاً واضحاً في قضية الحقوق، ولكل صراع تبعاته، واستحقاقاته، وكلفته.
وإذا طال الصّراع تطوّر، وتطورُه يُرشِّحه للخروج عن حدِّ السيطرة، والضبط، والانضباط من الطرفين، وفي ذلك ما يعلم من عواقبَ هي كوارثَ ونوازِل لابدّ أن يذوق الجميع مرارتها وويلاتها.
فهل يرغب طرف عاقل حكيم، أو إنسان يشعر بكرامة الإنسان، أو مواطن يقدّر الأُخوّة الوطنية، أو مسلم يحترم إسلامه، ويعرف شيئاً من حرمة الإنسان، والأرض، والثروة في دين الله أن يؤخذ بالوطن وثروته وإنسانه إلى المصير الأسود المشؤوم؟!
ألا من حل يقي البلد وأهله وما أُشيد على أرضه من الهلاك والدمار والخراب؟!
ومن يملك هذا الحل بالدرجة الأولى العالية بما مُكِّن منه من قدرات بعد الله سبحانه وهو وحده من بيده المصير؟! ومن هو المسؤول الأوّل عن استمرار الوضع وتفاقُمه، أو تداركه وتصحيحه؟
لا شكّ أنّ الحكومة أملك وبيدها أسباب الحلّ للخروج بالوطن من الأزمة، وهي المسؤول الأوّل عن إنهائها، واستمرارها وتطوّرها وتداعياتها.
والآخذ يتحمّل المسؤولية قبل المُطالِب، والمتوسّع على حساب غيره مسؤول قبل المُضيَّق عليه، ومن طالب بالحقّ فليس بملوم وإن كان عليه أن يحسن المطالبة على أن يحسن الباخس الوفاء، ويردّ الحق.
وإذا كانت الحكومة تنتقد هذا الأسلوب أو ذاك في المطالبة، فلتتذكَّر أن أساليب الوِدّ والاحترام والحوار والتّفاهم رُدّت منها خائبة(13).
على أن المسألة ليس في حاجة لحوار أو تداول طويل. المسألة إنما تحتاج إلى إرادة سياسيّة جدّية مخلصة، وإصلاح عملي سريع قادر على الإقناع والإنقاذ، وأساس دستوري متين، ولا يكون ذلك بدستورٍ لا رأي للشّعب فيه.
ومن جانب الشّعب أن لو حدث ذلك(14) كان عليه تقديرُه عملاً أتم التقدير، وتثمينه، والاستجابة له، والتعاون معه(15).
ومبادرة صادقة جادة بوزن كبير من جانب النظام الرسمي، وتقدير نخبوي شعبي كافٍ جدّاً لتبريد الأجواء، وكسب رضى الشارع، وإنهاء الأزمة، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه تحت ضغط القوَّة، ولا في أجواء الحوار الطويل الاستهلاكي، والتطبيل الإعلامي الفارغ، ولا باستعمال الفن في صناعة الرأي العام الذي يكتوي بتيار الواقع وإن بلغ هذا الفن ما بلغ، وإن بُذل عليه ما بُذل.
هذا فضلاً عن لغة التهجّم والشتم والتخوين والتهديد والتسقيط التي يتعامل بها قسم من الصحافة مع هذا الشّعب مما يعطي مردودات سيئة جدّاً، ويزيد النّار اشتعالاً، ويُوغر الصدور.
وتطفح على سطح الأحداث مشكلة التوقيفات والمحاكمات والأحكام المتشدِّدة القاسية، وتُمثّل مشكلة حادَّة متحدّية للوضع الأمني، وتُثير قلقاً شديداً وإرباكاً مستمراً، وهي تتطلّب إنهاءً سريعاً سلميّاً بإطلاق الموقوفين والسجناء، وغلق هذا الملف بصورة كاملة(16). يبرّر هذا الأمر بعيداً عن الآثار الأمنية المزعجة غياب الأدلة الكافية الواضحة لإدانة المتّهمين على المستويين الشرعي والقانوني معاً كما اتّضح للمتابعين.
ولاجتثاث جذور الأزمة القائمة وتجدُّدها لابد من أن يُعالجَ الأساس لهذه الإفرازات السيئة وذلك بالإصلاح الشّامل، والمبادرات العمليّة السّريعة وحلّ الملفّات العالقة بدأً من قضيّة الدستور إلى توزيع الدوائر وأنواع الفساد المالي والإداري والأخلاقي والتمييز والتجنيس السّياسي، وتهميش الدّور الشعبيّ في إدارة الأمور، وعموم المسألة السياسيّة.
وإننا لنحترم دمَ الجميع، وكرامةَ الجميع، وشرفَ الجميع، وعِرْضَ الجميع، والممتلكات العامة والخاصّة المحترمة لكلّ الأفراد والهيئات والمؤسسات على كلّ شِبْر من أرض الوطن، ونرفض لأنفسنا ولأيّ فرد آخر أو جهة من الجهات أي شيء من التعدّيات كبُر أو صَغُر، ولا نقبل أن يقع ظلم على أحد قرُب أو بعد، أحبَّ أو أبغض(17)، صادق أو عادى، ونطالب بالعدل مع كلّ الفئات والأفراد، ومن كلّ الفئات والأفراد؛ وذلك أخذاً بما أوجبه الله تبارك وتعالى من التزام العدل والقيام به، ونبذ الظُّلم ومواجهته.
أمانة المسجد:
المسجد مؤسّسة إسلاميّة أصيلة أحاطها الدّين بالرّعاية والاحترام والتقدير، وأعطاها الموقع الكبير في عقول المسلمين وقلوبهم ونفوسهم وجعله فيهم أمانة من أماناته الكُبرى على مرِّ الأجيال، واختلاف العصور، وحمَّلهم مسؤولية حفظ هذه الأمانة، وأداء حقّها(18).
فمن مسؤولية كل أجيال الأمة أن لا يغيب المسجد من حياتها، ولا يختفي دوره، ولا يُعطَّل، ولا يَضْمر، ولا يحرّف، ولا يزوّر، ولا أن يكون أداةً بيد أي فكر آخر أو سياسة لها مصالح تتنافى وصفاء الإسلام، وبقاء رسالة المسجد على أصالتها.
وكم تعرَّض ويتعرض الإسلام ومفاهيمه ورؤاه، وأحكامه وأخلاقه وعباداته، وأنظمته التشريعيَّة ودور المسجد فيه إلى التحريف والتزوير والتجيير لغير صالح الرسالة.
ولو تُرك الإسلام لتحريف المحرِّفين، وتزوير المزوِّرين، وجهل الجاهلين، وكيدِ الكائدين، وطمع الطّامعين، ولم يكن تصدٍّ كافٍ وقائم دائماً من أئمة الهدى، والصّحابة المخلصين، والفقهاء والعلماء الصّادقين، والرّساليين المتفانين، وجماهير الأمّة الواعية لكلّ تلك المحاولات المضادّة لم يبقَ من الإسلام شيء على صفائه أمسِ قبل اليوم.
ولأئمّة المساجد بما هم أئمة مساجد وظيفةٌ وهي وظيفة المسجد لا غير؛ وهي الدّعوة لتوحيد الله، والتّمكين للإسلام في سَعتِه وشُموله في العقول، والأرواح، والأفئدة والنفوس، وعلى الأرض، وفي أوضاع الأُسرة والمجتمع والأمة، والدّولة، والإنسانيّة جمعاء.
وأمانة عمارة المساجد عمارةً مادية بعيدةً عن مظاهر البذخ للدّنيا، وإكبار زينتها، وعمارةً معنويّة دينيّة رساليّة وهي الأهم أمانة لازمة لأعناق المسلمين في كل أجيال الحياة. والذود عن دور المسجد، وحماية رسالته، والتمكين من أداء وظيفته، ودرأ التعدي المعنوي عليه، وتعطيله، وتشويه غاياته واجبُ كل المسلمين الغيورين على إسلامهم، وهم مسؤولون أمام الله عزّ وجلّ عن هذا الذّود والحماية.
والمسلمون وأوَّلُهم أئمة الجماعة والجمعة مسؤولون عن إحياء المساجد بالصّلاة، والذكر والتلاوة، وتعليم الإسلام، وتبليغه، وتربية المجتمع عليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدّعوة إلى العدل، ومحاربة الظلم، والدفاع عن الدين وقيمه وأخلاقه وأحكامه، وفضح الباطل والظُّلم، وما يُكاد به الدين والمؤمنون، وتحذير المجتمع من المضائق والمزالق، والوقوع في حبائل المكر من أعداء الله، وأعداء المسلمين(19).
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أصلح كلَّ فاسد من أمور المسلمين، وأخرجهم من الظلم والجور إلى القسط والعدل، ومن الفُرقة والشّتات إلى الألفة والتوحّد، ومن تمزّق الآراء وضلالها إلى رأيٍ سديد جامع. اللهم أعزّ الإسلام وأهله، وأذِلّ النفاق وأهله، واجعل كلمة الكفر هي السفلى، وكلمة الإسلام هي العليا يا علي يا عظيم، يا قوي يا عزيز يا متين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(20).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- 78، 79/ المائدة.
2- بحار الأنوار للمجلسي ج97، ص74 ، ط 2.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج13 ص 180.
4- ميزان الحكمة للريشهري ج3 ص1945 ط1.
5- الآمالي للصدوق ص385 ط1.
6- الشّاب مليءٌ بالقوّة، وكلّه فتوّة، وأمامه فرص العمل، وينام في سريره ويدعو بالرزق، لا رزق! عندك أسباب الرزق، وفرص تحصيله، هذه نعم الله، هذه عطايا الله، هذه منح الله، أنت تتعامل مع هذه المنح تعامل الإهمال! فلا يأتي تدخّل الغيب في رزقك الرزق الذي تطمح إليه. يمكن أن تأتيك لقمة عن طريق ذل، إما أن تتوسع، وتتزوج، وتبني بيتاً وتحقق أمانيك بعزّة وكرامة فأمرٌ يحتاج إلى حركة.
7- وسائل الشيعة ج16 ص 135 ط2.
المسألة ليست مسألة ترفيّة، وليست نافلة، مسألة فريضة تترتب على التفريط بها نتائج وخيمة خطيرة جداً. وما آلت المجتمعات الإسلامية إلى ما آلت إليه من التسيّب والتدهور إلا لتعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8- تقول أنا لم أفرّط، فكيف يأتيني العذاب؟! بلى، فرّطت لتركك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
9- ما هي أنواع العذاب، ما هي صنوف العذاب؟ الأمر مفتوح على كل عذاب، وعلى كل صورة عذاب.
10- بحار الأنوار للمجلسي ج97 ص89 ط2.
11- جاء في بعض أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام ما يَفيد أنه لولم يهدنا الله ويوفّقنا لشكره لانحط الإنسان عن مستوى الحيوان في قدره.
12- بوجه أو أكثر من وجه.
13- فلماذا؟!
14- أعني الإصلاح الحقيقي.
15- ولكن هل يكون الإصلاح ليكون التجاوب والتعاون؟! نرجو أن يكون.
16- ليس هذا من منطلق العواطف.
17- أحبّنا أو أبغضنا.
18- مسجدك أولى برعايتك من بيتك. وللمسجد قدسية ليست للبيت، وإذا كانت مسؤولية كل بيت في عاتق صاحبه، فسمؤولية المسجد في عاتق الجميع.
19- هذه وظيفة لا يُقتص منها ولا يُنقص، ولا نقبل المس بها على الإطلاق، وعلى المجتمع أن يقف الوقفة الحازمة المتينة القوية في وجه أي محاولة لاغتيال دور المسجد.
20- 90/ النحل.

 

زر الذهاب إلى الأعلى