خطبة الجمعة (408) 6 جمادى الثاني 1431هـ – 21 مايو 2010م

مواضيع الخطبة:

*متابعة حديث المعاد * بعض الأسئلة

لابُدَّ من إصرار الشعب وإصرار النواب، وإصرار كل القوى والمؤسسات المدنية التي يهمها أمر هذا الشعب وقضاياه، وثروته ومحروموه ومصالحه، وأجياله، وتُؤْمن بقضية العدل والإنصاف أن تواصل تحرّكها وإصرارها على إرجاع أملاك الدولة وأموالها إلى وضعها الطّبيعي، وأن تنتزعها من جيوب الانتهازين والمستغلّين والمستأثرين.

الخطبة الأولى

الحمد لله العليم بخواطر القلوب، وأسرار النفوس، وضمائر الصدور، وما لم يكن بعد من عزمات النفوس، ولم يكن له تحقُّق في عالم العقول، وما لا يدري امرء عما يأتي من نيّته وفعله، وماذا يجدّ من خيره وشرّه، وما يكون غداً من جدّه وهزله، وحزنه وسروره، وما تنتهي إليه دنياه، وما ينتهي إليه في آخرته.
وأشهد أن لا إله إلاّ العظيم الحليم الكريم وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله زوّده بهداياته، وشرّفه بكراماته، وبعثه برسالاته، ودلّ به على الهدى، وأعزّ الإيمان وسحق الأوثان، وقمع الظلم وأقام العدل، وطرد الجهل، وأشاد العلم، وأحيا العقول وأنار النفوس، وفجر ينابيع الحكمة، وأفاض الرحمة.
اللهم صلّ على محمد نبيّك ورسولك وصفيّك وحبيبك وخاتم أنبيائك ورسلك وعلى آله المنتجبين الأخيار، المصطفَين الأبرار أعلام التقى، وأئمة الهدى، والحجّة من بعده على أهل الدُّنيا.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسّوء بتقوى الله، وأن يكونَ لنا ذكرٌ لا يفارقنا من ذكره، وشكرٌ لا يبارحنا من شكره، وأن نخشاه خشيةَ العارفين، ونرجوه رجاءَ الموقنين، وأن نحبه حبَّ الوالهين، وننقطع إليه انقطاع المعوزين.
وليكنْ لنا ذكرٌ للموت وما بعد الموت فإن ذلك موافينا، وهو قَدَرٌ لا مفرَّ منه، ولا تُنجي منه غفلة أو تغافل. وما أضرّ بالعبد أن يغفُل عن يومه الموعود فلا يستعدَّ له، ولا يتزوّد لما بعده، فيلقاه نادماً حسيراً، قد فاتت فرصه، وبدأت غصصه، وذهب منه العمر بلذاته، وبقيت تبعاته.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وذوينا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، ولجميع المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تجعلنا ممن رضيَ بالدّنيا عن الآخرة، وغفِل عن حظِّه فيها، وصَرَفَته همومه عن الاستعداد لها، وقعد به هواه عن طلبها، وصدَّه شيطانه عن النظر إليها، فذهبت أيامه ولياليه هباءاً، حتّى باغته الأجل، وأتته الساعة فرأى ما لم يكن بالحسبان، ولا يطيقُه جَنان، فَذُعِر وفَزِع وندِم وتحسَّر، وصار محطّة العذاب، ومورد الشَّقاء والهوان.
اللهم اجعل حياتنا كما ترضاها لا كما يرضى لنا الشيطان الرجيم، والنّفسُ الأمّارة بالسوء.
أما بعد أيّها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات؛ فهذه عودة لحديث يوم المعاد.
عقيدة البعث والحساب وما يترتّب عليه من جزاء بجنّة أو نار، ونعيم أو عذاب تحتاج إلى أرضيّة من الإيمان بعدل الخالق القادر الحكيم، فلو احتُمل الظّلم في حقِّه سبحانة وتعالى لما ثبت بعث، أو حساب أو إحسان لمحسن على إحسانه، وتفريقٌ بين محسن ومسيء.
وتأتي في هذا المورد هاتان الآيتان الكريمتان:
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}(1).
وكذلك:
{أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ، وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(2).
إنَّ عقليةً وروحاً ونفساً وراء الإيمان والعمل الصالح غيرُ عقلية وروح ونفس وراء الإفساد في الأرض، وإنَّ ذاتاً تنبع تقوى غير ذات تنبع بالفجور.(3)
وراء الإيمان والعمل الصالح عقل مهتدٍ ونفاذُ رؤية وبصيرة، وروح متفتّحة وضيئة منطلقة مشعَّة، ونفسٌ كريمة، مسلِّمة للحقّ، عشّاقة للخير، غنية بالحسن. ولا تنبع بالتقوى إلا ذاتٌ واعية، وقويَّة، وراشدة، وقويمة، ومتسامية متّجهة لله تبارك وتعالى، آخذة منه.
أمّا الإفساد في الأرض فيأتي عن ضيق عقل، وعمى وضلال، وروح مترجّسة قد لفّها الظلام، وقلبٍ غلَّفه الرَّين، ونفس أصابتها خسّة بالغة، وشوَّهها قبح شديد.
ولا يأتي الفجور إلا من ذات ضعُفت، وسقطت، وسفهت، وخرج بها الانحراف عن الخطِّ واتجهت للانحدار.
وكما لا تكون الذّات معدناً للفجور والفساد والإفساد إلاّ من رداءة وخراب، ولا تكون الذّات على غنىً من الإيمان والعمل الصالح والتقوى إلا لسموّ وصلاح، فكذلك لا تريد مقارفة القبيح الذَّاتَ إلا قبحاً، ولا يزيد العملُ الصالح والإيمان والتقوى صاحبَه إلا حسنا.(4)
والذات القبيحة لا يصِحّ في العدل والعقل وموازين الحقّ أن تأخذ موقع الذّات الطّاهرة، وتتمتّع مُتعتها، وتشعر شعورها، وتكونَ لها سعادتها، كما يأبى كلُّ ذلك أن تشقى الذّات الحسنة شقاءَ الذّات القبيحة، وأن تتعذّب عذابها، ولا أن تكون اَلذاتان سواءً على أيّ حال. وإنّ للذات الحسنة لأنساً، وللذات القبيحة لوحشة، وللأولى سعادة، وللثانية شقاء، ولكلٍّ منهما مآلٌ غير مآل، وجزاءٌ غير جزاء. هذا ما يقضي به الحقّ والعدل والعقل والوجدان والخارج.
أَوَ بَعْدَ هذا أيجعل اللهُ وهو الحق المطلق، والعدل الكامل الصِّدْق وهو العالم بكل ما تأتي به نفس أو أتت، المحيط بما تكُنّ الصدور، الخبير بما تنطوي عليه الضّمائر، وتخفِقُ به القلوب، وما عليه كلُّ ذات؛ أيجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض، أم يجعل المتّقين كالفُجّار وهو على عظمته وجلاله وجماله وكماله؟(5)
أيُساوي بين نفس تحرّكت من واقع فطرتها بما لهذه الفطرة من استعداد الكمال وبجدٍّ، واجتهادٍ، ومكابدةٍ، ومصابرةٍ، ومجاهدة حتى بلغت أتمّ ما يمكن أن تعلو له من درجة السموّ، والرفعة، والنقاء، والنورانية، والصّفاء، والكمال بنفس تحرّكت من النّقطة نفسها، منحدرة باختيارها، منساقة وراء الشهوات، والرغبات الحيوانية، واللذائذ الرخيصة لهذه الحياة حتّى خسرت نفسها وعاشت الظلمة ولّفها الضلال، وتملّكها الشّر بأن تخرج النفسان من الدّنيا لا لبعث ولا حساب ولا جزاء، بعد أن لم تُلاقِ كل منهما جزاء وفاقاً في هذه الحياة، وربما امتازت النّفس التي عصت ربَّها في الدنيا في ما تهيّأ لها من فرص الحياة وظهورها وسلطانها ومتاعها على النفس التي قضت أيامها على طريق الطاعة والعبادة لله مخلصة إليه؟! وهذا بَعْدَ أمر الله للناس بطاعته وعبادته، ونهيه لهم عن الشِّرك به ومعصيته، وبعد أن أمر ونهي وكلّف؟!
لا يكون هذا أبداً من الله وهو العدلُ الذي لا يظلم، ولا يردّه عن عدله أي شيء.
وهذه المساواة على خلاف ما يقتضيه كمال النفس للسعادة، ونقصها للشقاء، وعلى خلاف ما يرضى به الوجدان الفطري حتى من غير العدل الحكيم المطلق فضلاً عنه سبحانه.(6)
والآية تقابل بين فريقين لا يمكن أن يستويا في عدل الله وحكمته وهما فريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهؤلاء هم السُّعداء وأهل الجنّة، وفريق المفسدين في الأرض وهؤلاء هم الأشقياء وهم أهل النار، والكافر مفسد لأن الكفر قاعدة فساد لا إصلاح(7)، وأرضيَّةُ ضلال لا هدى، ومبعث سوء لا خير، ومنبع خيانة لا أمانة، ومصدر خراب لا إعمار، ورجس لا طهارة.
والمتسمّي باسم الإسلام العاصي لله، السّاعي في الأرض بما نهى عنه، الظّالمُ للعباد، المضِلّ عن طريق الله، المحاربُ لشريعته، المقلقُ للآمنين الأبرياء، المُسوّق للرَّذيلة في النّاس تُدخِله الآية الكريمة في فريق المفسدين في الأرض حين تقابل بينهم من جهة وبين الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات من جهة أخرى لا بينهم وبين عموم المسلمين.
وبعد أن تكون المساواة بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمفسدين في الأرض ظلماً وأمراً مجافياً كلَّ المجافاة للعدل فهل تجوز على الله سبحانه حتّى تنتهي حياةُ الفريقين في الأرض وقبل القضاء في أمر الخلق بلا مواجهة حساب ولا عتاب ولا مثوبة ولا عقاب؟! هذا لا يكون إلا عن ظلم من الله سبحانه وحاشا الله الظلمُ وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين؛ لا يمنعه من العدل خوف ولا عجز، ولا جهل، ولا نقص، ولا حاجة، وهو الذي لم يرضَ من عباده، أو لعباده ظلما أو جوراً(8)، وشدّد في دينه المنزّل على العدل والإنصاف مع كل عدوٍّ وصديق، وبعيد وقريب. إذ يقول في كتابه الكريم {… وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(9). وأصل العدل في الآية الكريمة هي تقوى العبد ربَّه فمن اتَّقى الله كان لا بد أن يعدل، ومن لم يعدل فلا تقوى له.
ويقول كتاب الله وهو أصدق الصادقين {… فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}(10).
وإذا أردت الرجوع إلى العقل في عدل الله، قال لك العقل إنّ التخلّي عن العدل وهو حسن، والأخذَ بالظلم وهو قبيح إنما يكون لحاجةٍ للظلم، ومعاناة من النقص، أو خوف الضرر، أو عجز في القدرة، ولا شيء من ذلك بمُحتمل في حق الكامل المطلق، وجلاله الذي لا حدّ له، وجماله الذي لا نهاية ينتهي إليها. ومن لم يعرف الله بهذا فلا معرفة له بربّه.
وإنه لظن قبيح، وحكم سيء غبيّ جائر أن يُظَنَّ بأن الله سبحانه يُساوي بالإهمال أو غيره بين من اجترحوا السيئات، واكتسبوا الآثام، وأصرّوا على المعاصي وبين الذين آمنوا في الحياة والممات، فيكونَ أثر الكفر والإيمان، والمعصية والطّاعة واحداً في النّفوس في الدنيا وحشة أو أنساً، ظلمةً أو نورا، سُخطاً أو رضى، شقاء أو سعادة، وواحداً في النفوس وما عليه حياة خارجها في الآخرة عذاباً أو نعيماً، أو أن تخرج من هذه الحياة الدنيا المشتركة التي لا مائز في فُرصها الخارجية عند مؤمن على كافر- وربما تمتع فيها كافر بما لم يحلم به مؤمن – لعدمٍ فيه يستويان، وذلك بعدما أمر الله سبحانه ونهى وكلّف، فأطاع مؤمن، وعصى كافر عنيد.
يقول تبارك وتعالى في كتابه المجيد مستنكراً مستقبحاً مستهجناً مُخَطِّئاً {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}.
إنَّ جعلهم سواءً محياهم ومماتهم قبيح غير جائز على الله، يتنزه عنه عدله وعلمه وقدرته وحكمته وغناه.
وهو كما في الآية الكريمة اللاحقة باطل لا يصدر عن الحقّ، وخلاف الخلق بالحقّ، وخلافُ غايته من جزاء كُلُّ نفس بما كسبت، وخلافُ إقامة العدل، والعدل صفة من صفات الجمال الإلهي لا تخلف له عن فعل من أفعال الله وتشريعاته وحكمه وقضائه على الإطلاق.
{…. وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.
فلو لم يكن بعثٌ بعد الموت ولا حساب ولا عقاب لمسيء، ولا ثوابٌ لمحسن كان ذلك باطلاً يتنافى مع خلق السماوات والأرض بالحقّ، وما عليه غاية الخلق {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وكان ظلماً من الظلم المنفي بالآية الكريمة.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم.
اللَّهمَّ اجعل أخذنا باليقين، ونصرتنا للدين، وصفّنا صف المؤمنين، وأخرجنا من نومة الغافلين، ولا تبتلنا بوسوسة الشَّاكين، واجعل مأوانا في الآخرة مع النبيين والمرسلين والأئمة من آل محمد الهادين المهديين صلواتك عليهم أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ(11)، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}(12)

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي إذا قضى فلا ناقض لقضائه، وإذا حكم فلا رادَّ لحكمه، وإذا شرّع فلا مأخذ على تشريعه، وإذا حاسب فلا خلل في حسابه، وإذا طلب فلا مهرب لمن طلبه، وإذا عاقب فلا طاقة لِمُعاقَبٍ بعقابه، وإذا أثاب فلا مزيد على ثوابه. أعظم الأعظمين، وأكرم الأكرمين، وأشدّ المعاقبين، وخير المحسنين. نحمده حمداً يليق بكماله، وجماله، وجلاله، ولا يكون إلاّ له، حمداً لا نهاية له ولا انقضاء، ولا عدّ ولا إحصاء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله علينا نحن صنائَعه وعبيدَه وإماءَه بتقواه، والمسابقة في طلب مرضاته؛ فما أحرز أحد خيراً ما لم يُحرز رضا الله، وما ضيّع أحدٌ شيئاً إذا أطاعه ونال رضوانه. وماذا يملك غير الله من شيء حتى يُحرِز محرزٌ خيراً برضاه؟! وماذا بيد الآخرين حتى يأمنَ امرؤ برضاهم من سخط الجبّار؟! أليست القلوب والأرواح والجوانح والجوارح التي للناس من أمره وفي قبضته وتحت تصرّفه، وطوع إرادته؟! ومن له حول أو طول، ومن يملك دفعاً أو منعاً، أو وضعاً أو رفعاً، أو خيراً أو شرّاً حتى يليق بأن يُخاف ويُرجى من دون الله؟!
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على محمد وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم آنس نفوسنا بأنس الإيمان، وأحيها بحياة الدين، وأنِرْ قلوبنا من نورك، وارزقها حبّك وذكرك، وأشغلها بالنّظر إليك، وأغنها بطاعتك، وزد شوقها إليك، وتعلُّقها بأنوار قدسك، وألطاف رحمتك، وأخصِبها بشآبيب كرمك، وقرّبها إليك، وأحبِبها بما تفضّلت عليها من حبّك، وشوقك، والسير الحثيث إليك في طلب رضوانك.
اللهم صل وسلّم على محمد وآل محمد خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة النجباء: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات فإلى بعض الأسئلة:
1. ماذا بعد لغة الوثائق في قضية أملاك الدولة؟ هل فوق هذه اللغة لغةٌ أخرى؟! ومصادر الوثائق الحكومة نفسها، واللغة لغة من فمك أدنتُك؟! لماذا اللفُّ والدوران والمغالطة والإنشائيات؟! أيُنتظر أن يتنزل في المسألة قرآن؟ وهل يُجدي القرآن في أعظم أمورنا حتى يكون له التقدير في هذا الأمر؟! أو ليس مفروغاً منه في القرآن أنّ الظلم حرام، وهو حكم كل الشرائع، وما تقضي به محكمة الوجدان الفطري عند الإنسان، وماذا أجدى ذلك كلّه، وماذا فعل في القلوب المتعلّقة بالدنيا المتولّهة بها؟!
صعبٌ على طامع وناهب وسارق أن يدخل الحرامُ جيبَه ثُمَّ يرجعُه إلى أصحابه وإن كانوا يتامى ومحرومين ومضطرين، إلا أن يضطره الحكم العادل، والقضاء النزيه، والعقوبة الرَّادعة لإخراج المال الحرام من جيبه ولو على حدّ انتزاعِ روحه صعوبة ومعاناة. فأين الحُكْمُ العدل، وأين القضاء النزيه، والمُتَّهم هو الشاهد وهو القاضي، وهو الذي بيده التنفيذ؟!
مع ذلك لابُدَّ من إصرار الشعب وإصرار النواب، وإصرار كل القوى والمؤسسات المدنية التي يهمها أمر هذا الشعب وقضاياه، وثروته ومحروموه ومصالحه، وأجياله، وتُؤْمن بقضية العدل والإنصاف أن تواصل تحرّكها وإصرارها على إرجاع أملاك الدولة وأموالها إلى وضعها الطّبيعي، وأن تنتزعها من جيوب الانتهازين والمستغلّين والمستأثرين.
إنَّه المال العام الذي كان يصرُّ العبد الصالح والإمام القدوة عليُّ بن أبي طالب عليه السلام أن يعود للأمّة ولو اشتُريت به الإماء، وتُزوّج به النساء، ولو شرّق وغرّب وتداولته الأيدي إلى حدٍّ بعيد، وهكذا الحال في كل مال حرام واستنقاذِه من اليد التي وصل إليها، وعودِه إلى اليد التي اغتُصبت منها.
أينك يا عدل الإسلام؟! أينك يا عدل رسول الله صلّى الله عليك وآلك؟! أينك يا عدل علي أمير المؤمنين عليك السلام؟!
2. لماذا مَنْعُ المهرجان الخطابي بشأن أملاك الدولة الذي لن يعدل عن لغة الأرقام والوثائق، ولن يحتاج إلى لغة الإنشائيات والخطابيات؟
ردّوا على الحجّة بالحجّة، وعلى البرهان بالبرهان، وعلى المنطق العلمي بمنطقٍ علميٍ مثله.
إنّ اللجأَ إلى المنع والقوّة برهانُ فقدِ الحجّة والقدرة على مقابلة لغة الدليل بلغة من جنسها، ودليلَُ على عجز حتى مثل الخطابيات واللغة الإعلامية عن تشويه وجه الحقيقة، وطمس الواقع.
ولا يحتاج المنع في مثل هذا الظرف، ولا استعمال القوّة إلى استناد إلى القانون. فالمبرّر قائم وهو الاحتماء من الاعتراف بالواقع، وإرجاع الحقّ إلى نصابه، والملايين والمليارات لمصلحة الأمة.
3. لماذا بعثرة بعض القرى، تجزئتُها، تمزيقها، تحجيمها، حرمانها من امتدادها الطّبيعي، إعطاء أحياءٍ منها اسم قرى جديدة يُتيح فرصة لتغيير النسيج الاجتماعي، والخلط الثقافي غير النّزيه، وإقامة واقع جديد يتيح فيما بعد للاحتجاج على ممارسة الشّعائر الدّينية التي تلتزم بها المنطقة؟ لماذا التّركيز على قرى خاصّة ذات طابعٍ خاص، وانتماءٍ مذهبيٍّ خاص؟
يعرف الناس أنّ لهذه السياسة توجّهاتها الثقافيّة، والاجتماعية، والمدنيّة، والخدميّة، والسّياسيّة المعادية لهذا الشعب، ومكوّن رئيس أصيل من مكوّناته.
العمل مكشوف، وبعد أن يكون العمل المعادي مكشوفاً لابد أن يكون للتحدي والاستثارة والاستفزاز والفتنة وإلهاب الأوضاع، واشتعال الساحة(13).
كلُّ ذلك يصدر اغتراراً بالقوة، واتِّكاءاً على لغة البطش التي تقول إمَّا الخنوع واستذواق وجبات المظلوميّة الدَّسمة وإمَّا الرد القاسي والحاضر والفوري والموجع(14).
إنّها لغة العداء والمبارزة، ولغة البله، وعدم الواقعية، ونسيان أبجديات الاجتماع والسياسة والتاريخ.
السَّاحة صارت لا تُعطى فرصة للهدوء ليوم واحد لتوالي السياسات الخاطئة المثيرة المستفزّة التي تُراكم من المشاكل والأزمات وأسباب التوتر.
أين العقل؟! أين الحكمة؟! أين حساب المصلحة؟ دعونا من قضيّة العدل والإنصاف ولكن شيئٌ من عقل، من حكمة، شيئٌ من واقعية وحساب مصالح.
4. حكومات غربية ومجالس نيابية غربية، ومجالس شيوخ غربية تقول عن ظاهرة ضيّقةٍ ومحدودة، أو بداياتٍ أوليَّة لظاهرة تتعلّق بالحجاب أو النِّقاب في أوساط إسلامية تعيش في المجتمعات الغربية، وتُمثّل جزءاً من ذلك المجتمع الذي يؤكِّد على الحريّة الفردية، ويعتبر الأخذ بها من ثوابته ومقدّساته؛ تقول: بأنّ الظاهرة ظاهرة أصولية مرفوضة وتخالف قيم الغرب ونمط حياته. وهنا سؤالان يتوجّهان لكل من الغرب، والحكومات والمجالس النيابية ومجالس الشورى في البلاد الإسلامية:
السؤال الأول: هل ظاهرة التعرّي والتفسّخ وإبداء مفاتن جسد المرأة الغربيّة ومغريات جمالها المادّي في الشارع والمجامع العامّة في بلاد المسلمين من صميم الحضارة الإسلامية، وواقع دينها، ومسلّمات شريعتها حتّى يُشدِّد الغرب على حقِّ المرأة الغربيّة على ممارسة كلّ ذلك في بلادنا، وعلى وجوب تقبُّل الأمة الإسلامية له، وحتى تُرحِّب به الحكوماتُ في البلاد الإسلامية وتتعاون معه، وتدافع عنه، وتجعله عُرفاً مهضوماً عند الرأي العامّ المسلم، وحتى تسنده وتثبّته وتركّزه بعض الهيئات التشريعية المعيّنة أو المنتخبة داخل الأمَّة وما يُماثلها ويُجاري خطّ الحكومات، والموقفَ الرافض للدّين من مؤسسات مدنيةٍ تنتسب لها؟
السؤال الثاني: أليس من حقّ شعوب الأمَّة وأحرارها والغيارى من أبنائها وبلغة المنطق نفسه أن يقولوا إنَّ ظاهرة العِرْي والسّفور عن المفاتن، والتهتكِ والخطاب الجنسي المكشوف الذي تُمارسه أجساد الغربيات المتعرّيات في شوارع المسلمين والمجامع الرسميّة العامَّة في بلاد المسلمين بأنها ظاهرة شيطانية قذرة خسيسة هابطة يستوحش منها الضّميرُ الإسلامي(15)، ويمجّها ذوق الإنسان المسلم، ويرفضها دينه، وتحرّمها شريعته، وهي ظاهرة تحدث فتنة وفساداً كبيرين في الأرض، وعليه فهي مدانة ومرفوضة ولابُد أن ترحل؟!(16)
أم أنَّ هنا عالمين عالماً غربياً يعتزّ بكل ما عنده، ويأبى أيَّ حالة من الاختراق، وعالماً إسلامياً يهونُ عليه كلّ ما عنده، وكلُّ أبوابه ومنافذه مفتوحة على كلِّ ساقطٍ ودنيء، وقبحٍ وفحشٍ، ورداءة وسوء؟!
ألا تحترم هذه الأمة نفسها ليحترمَها الآخرون؟! وقد ذلّ وهان من حكم على نفسه بالهوان، ولا تعِزّ أمة في الأمم لا تكون لها ذاتٌ تحترمها هي بالذّات.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعل لنا قلباً زاهراً بالهدى، ولساناً ناطقاً بالحقّ، وقدماً ساعية في الخير، ويداً مُشيدة للاصلاح، وجوانح لا تشذُّ عن رضاك، وجوارح لا تخرج عن طاعتك، واجعل لنا توفيقا في أمر الدُّنيا والآخرة، وانصرنا بنصرك، وأيِّدنا بتأييدك، وأعزّنا بعزّك يا من لا ذلّ لمن أعز، ولا عزّ لمن أذلّ، ولا غالب لمن نصر، ولا ناصر لمن خذل، يا من هو بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 27، 28/ ص.
2 – 21، 22/ الجاثية.
3 – أمامنا ذاتان، وليس مظهر تقوى أو مظهر فجور فحسب.
4 – المنطلق حَسنَُ والمردود حَسنَُ للإيمان، المنطلق قبيح والمردود قبيح للفجور. للتقوى منطلق ومردود، وللفجور منطلق ومردود، وشتّان ما بينهما.
5 – حاشاه وتبارك وتعالى.
6 – المساواة بين المحسن والمسيء لا نرضاها بين بعضنا البعض، فكيف نرضاها لله تبارك وتعالى وهو الحكيم العادل الذي لا يرقى لعدله عدلَُ، ولا يأتي على عدله حدَُّ؟!
7 – المقابلة بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، المقابلة ليست بين الكافرين والمسلمين. فليس كلّ مسلم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والمفسد يشمل الكافر وضرباً من المسلمين.
8 – الله عزّ وجلّ يطالبنا في كتابه بالعدل بين بعضنا البعض ومع كل شيء، مع حيوان وجماد، ثم يظلم؟!.
9 – 8/ المائدة.
10 – 87/ الأعراف.
11- هؤلاء مصلون لا يعملون الصالحات لا تنهاهم صلاتهم عن منكر ولا تأمرهم بمعروف فلهم ويل كما لمن كذّب بالدين ويل.
12- سورة الماعون.
13 – وهذا مما لا ينبغي لأي حكومة من الحكومات تراعي مصلحتها ومصلحة الوطن.
14 – هتاف جموع المصلين بـ(هيهات منا الذلة).
15 – هناك يستوحشون من برقع، من قطعة قماش على الرأس، أليس لنا من حق أن نستوحش من مظاهر العري والتفسخ والتهتك؟!
16 – أليس من حقّ المجتمع المسلم أن يقول ذلك؟!

زر الذهاب إلى الأعلى