خطبة الجمعة (409) 13 جمادى الثاني 1431هـ – 28 مايو 2010م

مواضيع الخطبة:

* متابعة حديث المعاد *المساجد للتربية *أهذا صحيح؟

رسالة المسجد والجمعة والجماعة وكل العبادات الثابتة الأخرى صناعة النموذج الإنساني الراقي الرائع فرداً ومجتمعاً وأمّة على طريق العبودية لله سبحانه؛ عبودية صادقة، عبودية عقل وقلب، وإرادة، وخطى تهتدي بهدى الله، وتتخلّق بأخلاق دينه، وتأخذ بأحكام شريعته، وتهدف إلى رضاه، ولا يُرضي الله عزّ وجلّ إلا النظيف الطاهر الصالح الجميل.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا يفوتُ علمَه شيء، وكيف يفوتُ علمَه ما وجوده عدمٌ لولا فيضه؟! والذي لا يشتبه عليه شيءٌ بشيءٍ، وكيف تشتبه عليه الأشياءُ وكلُّ تقديرها، وكلّ خاصّة من خصائصها بيده، وتصلها منها؟! ولا ينسى شيئاً، وكيف ينسى ما قيامُه في كلّ آنٍ من الآنات به، ولا استقلالَ له عن قدرته وإرادته؟!
هو الله الحيّ القيّوم، السميع البصير، العليم الخبير، وهو بكلِّ شيء محيط.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي المقصِّرة بتقوى الله خالقِ كلِّ المخلوقين، وربِّ كلِّ المربوبين، ورازق كلِّ المرزوقين، والذي لا خالقَ غيره، ولا ربَّ من دونه، ولا رازقَ سواه، وإليه مرجعُ الأمرِ كُلِّه، وبيده مقاليدُ السماوات والأرض، ولا يُنجي أحدٌ أحداً من أخذه، ولا شفاعةَ من أحدٍ إلا بإذنه.
ولقد أَمَرَ ربّنا ونهى، ورغّب وحذّر، وما رغّب وما أَمَرَ إلا بما فيه صلاح العباد وخيرهم، وما حذَّر ونهى إلا عما فيه فسادهم وضرّهم، وإِنْ تلتبس الأمور اليومَ على عبدٍ فغداً تنكشف، ويأتي يومُ البَصَرِ الحديد، ولا يختلطُ في رؤية أحدٍ حقٌّ وباطل، ونافع وضار، وعدوّ وصديق، وسقيم وصحيح، ولكن حيثُ لا تدارُك، ولا أَوْبَةَ ولا توبة.
وقد جلَّى دينُ الله كل ظلمة في الدّنيا، وأنقذ من الحَيرة والضّلال، وميَّز بين الهدى والعمى؛ فلله الحجّة البالغة على العباد كلِّ العباد. فمن أخذ دينَ الله من حُججه المعتمدة، ومعادنه الأصيلة، ومصادره الصّافية ولزمهُ علماً وعملاً كان على بصيرة، وغَنِيَ بالهُدى، وأمسك بالصّراط، ولَقِيَ خيراً يوم معاده، ولم يُفاجئ بالحقيقة التي قامت حياته على خلافها فيُصعَقَ لهول ما يلقاه من سوء ما فرّط.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، ولوالدينا، وأرحامنا، وأزواجنا، وجيراننا، وأصحابنا، ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهمَّ اهدنا فيمن هديت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقِنا شرّ ما قضيت، وتولّنا فيمن تولّيت، واسلُكْ بنا صراطك، وأوصلنا إلى رضاك، وأنِلنا المنزلةَ الكريمة عندك يا رحمن يا رحيم.
أما بعد فمع حديث المعاد:
إنَّ الإنسان لَيُواجَهُ بعد موته بأوّل منازل الآخرة وهو القبر(1). وقد جاء عن الرسول صلّى الله عليه وآله في ذلك:”إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده ليس أقلّ منه”(2).
إنَّ النّقلة من الدنيا إلى القبر وهو أول منازل الآخرة نقلة صعبة بطبيعتها مستوحشة لم تعرفها حياة الإنسان، وليست على حدِّ ما عرفته دنياه من نَقَلاتٍ وتنقّلات، وليست له تجربة مماثلة أو مشابهة لها؛ فحتّى النقلة القهريّة المفاجئة إلى سجن من سجون الدّنيا لا تُساوي في غربتها وقلقها وفزعها وترقُّبها منها شيئاً.
إنّها نقلةٌ إلى عالم ليس فيه شيء من عالمنا المألوف، وإلى ضيقٍ وخَناق، ومحكوميّة قائمة بصورة حاضرة دائمة لا مَفْلَتَ منها لِنَفْسٍ بلغ بها العذاب ما بلغ ولا فتور. نقلةٌ مرعبة في كل أبعادها إلا لنفس قدّمت لغدها خيراً كثيراً، ونالتها رحمة الله وعفوه العظيم.
وإنَّه القبر الذي جاء فيه عن الصادق عليه السلام:”إن للقبر كلاماً في كل يوم، يقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدّود(3)، أنا القبر، أنا روضةٌ من رياض الجنّة أو حفرةٌ من حفر النار”(4).
إنّ الأُنس بالدنيا، والانشداد الكلي لها، وانصراف النظر إليها، ودوامَ ذكرها، والغفلة عن الآخرة، ونسيان أمرِها كلّما عظُم زاد في غربة القبر ووحشته، وهو لمن لم يعِشْ إلا لبدنه، ولم يعطِ اهتماماً إلاّ لحياة الجسد ولذّته لن يجد منه إلا بيتَ دودٍ وقذارة وقيح وصديد، ولن يجد منه إلا منظراً بشعاً منفّراً مفزعاً.
وهو لمن أكرم نفسه بطاعة الله سبحانه، ونوّر قلبه بعبادته روضة من رياض الجنّة، ولمن أساء لنفسه، وأفسد قلبَه بمعصية الله، والخروجِ من طاعته إلى طاعة العبيد والهوى حفرةٌ من حفر النّار، ومحطّةٌ من محطّات العذاب.
ومتى يُواجَهُ أحدنا بذلك المآل، أو بهذا المصير؟ قد لا يكون الفاصل إلاَّ ساعات يسيرة، والمعبر ليس بالطويل(5).
إن امرءاً لم يعش فكر الآخرة، وينفصلُ في كلِّ حياته عن شعورها، وليس له شيءٌ من همّها وهدفها، ويفرّ بعيداً كلّ البعد في دنياه عن كلّ خبر من خبرها، وعن كلّ ما يتصل بها لابد أن يعيش غربة القبر. ومن لم يكن له أنس إلا أنس الشهوات الدنيا ما حلَّ منها أو حرُمَ، ولا أُلفة له إلا بأسبابها، ولا احتضان من نفسه إلاّ للذائذها، ولا تطيب نفسه شعوراً إلا بأهلها، ولا تهدأ إلا بمجالسة ومعاشرة ومسامرة فُسّاقها وفجّارها لابد أن يلقى في القبر وحشة قاتلة تلفّ وجوده كلّه، وتستولي عليه، وتغرِق كل ذاته وآناته.
وتبدو أهوال القبر، وأجواؤه السّوداء الكالحة، وألوان عذابه لعدوّ الله وهو يُحمل إليه، وقبل أن يُودَعه فيُقدِّمُ الوعظ لمن بعده، ويُسدي النّصيحة والإنذار والتّحذير وهو على نعشه لمن خلّفه من إخوان له في غيّه أو على خلاف ضلالته. وفي هذا ما جاء عن الرسول صلّى الله عليه وآله:”إذا حمل عدوّ الله إلى قبره نادى من تبعه: يا أخوتاه احذروا مثلَ ما وقعتُ فيه، إني لأشكو لكم دنياً غرّتني، حتى إذا اطمأننت إليها صرعتني، وأشكو إليكم أخِلاءَ الهوى سرّوني، حتى إذا ساعدتهم تبرّؤوا مني وخذلوني…” (6).
وماذا صرعت منه الدّنيا وشهواتها الزائلة، وأمانيها الزائفة؟! ربما صرعت جسداً ولكن أسفه وألمه وحسرته وشكواه ليس من ذلك لأنه يهون… كل ما يعنيه ويتندّم عليه، وينقم على من أوقعه فيه من دالٍّ على المعصية، ومزيّن للقبيح، ومعاقر للخمرة، وشريك في المخدّرات، ومغرّر بالزنا، ومُوقِعة أو موقع في الفجور إنما هو خسارة الرّوح والقلب والضّمير، وحياة الإيمان بالله ومعرفته وطاعته وعبادته إذ لا شاغل ذلك اليوم للإنسان غير هذه الخسارة(7)، وما يرتبط بالمصير.
وحياة القبور أول ما يشهده الإنسان من عدل الآخرة التي لا حكم فيها لغير الله، فهناك لا أثر لغنى أو فقر في تقديمٍ أو تأخير، وإنّما المنظور في ذلك قيمةُ الذات، ورفعتها أو دناءتها، وفي القبر يتحوّل الغني والفقير إلى شيء واحد من أعضاء متفكَّكة، أو رميم أو تراب ذاب في التراب.
وماذا يعني ضيق القبر وضَننْكُه وظلمته وغربته؟ أهو ضيق وضنك يعاني منه بدنه، وظلمة تستولي على بصره، وغربة يرفعها جليس من أهله؟ الأمر أعمق من هذا وأشد وأقسى. إنه ضيقٌ وضَنْكٌ وكرب يأخذ على الروح كلّ أقطارها، وظلمة يأس وانطفاء أمل وهمٍّ وغمٍّ وألم وعذاب، ودونيّة تعيش شعورها النّفسُ، وإحساس بندامة لا مفرّ منها ولا مخرج، ومعاناة من طعم الاحتقار وما يلمّ من خوف وفزع ورعب، وأهوال فوق كلّ حساب.
ولعليٍّ عليه السلام في المنقول عنه حديث عن هذا الضيق والضنك والظلمة والغربة:”يا عباد الله ما بعد الموت لمن لا يُغفر له أشد من الموت؛ القبر، فاحذروا ضيقه وضَنْكَه وظلمته وغربته…. وإن المعيشة الضَنْكَ التي حذّر الله منها عدوّه عذاب القبر…”(8) وذلك إشارة إلى قوله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(9).
والقبر موقف من مواقف السؤال، وموقع من مواقع الامتحان الذي يبدأ بعد لحظة الموت، والذي لا تأتي فيه مغالطة، ولا يثبت فيه إلا من ثبت على كلمة التوحيد في الحياة؛ فعن علي عليه السلام:”…. حتّى إذا انصرف المشيّع(10)، ورجع المتفجِّع، أُقعد في حفرته نجيّاً لبهتة السؤال، وعثرة الامتحان”(11) إنه لسؤال لا تُجيب عليه طلاقة اللسان، وقوة البيان، وإنما الذي يجيب عليه صدق الإيمان، وطهارة الجَنَان، وصفاء الرّوح، ومعرفة القلب، وحسن العمل فيما قدّم الإنسان في هذه الحياة.
يُجيب على سؤال القبر الذين آمنوا بالقول الثّابت، والكلمة الصِّدق، والإسلام الحق فعن الرسول صلّى الله عليه وآله:”في قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}(12) قال: في القبر إذا سئل الموتى”(13).
إنَّ الإيمان بالقول الثابت، والتوحيد الحقّ، والإسلام الصّدق ليُثبّت صاحبه أمام كل امتحانات الدنيا وتحدياتها، ويُثبتّه في الآخرة عند كل عقبة وامتحان.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تُمتنا إلا على رضاك، وأسكن إلينا رحمة من رحمتك نستغني بها عمن سواك، يا حي يا قيوم.
وصلّ اللهم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا خالق لشيءٍ من العدم إلا هو، ولا باعث للنّفوس بعد الموت إلاّ هو، وكلّ صانع من دونه سبحانه إنّما هو وما يصنع من صُنعه، وهو وحده الذي لا صانع له، ولا يسبقه عدمٌ ولا وجود، وكل ما عداه ومن عداه إلى فناء وهو الحيّ القيّوم الذي لا يفنى ولا يزول. كلُّ علم وإن كثر إلى علمه قليل، وكلّ قدرة وإن جلّت بإزاء قدرته ضئيلة. وأيُّ علم إنما هو مما علّم، وكلّ قدرة إنما هي مما أنعم.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وزادهم تحيّة وبركة وسلاما.
عباد الله حقَّ علينا تقوى الله الذي لا غنى لأحدٍ عن سؤاله، واسترفادِ الوجود والحياة والرّزق والتّدبير من عطائه، ولا يجد أحدٌ من دون فيضه حولاً ولا طولاً، ولا يملك من قَدَرِه أحدٌ مفرّاً، وإليه مرجعُ الأمور، وكلُّ نفس صائرةٌ إليه، واقفةٌ للحساب بين يديه، محبوسةٌ بما عملت، معتقَلَة بما أتت، رهينةٌ بما اكتسبت.
وما أغفلها من نفسٍ وما أشدّ سفهها، وأبعدها عن الهدى والرشد وهي لا تُصغي لتحذيرات الله وإنذاراته وهو جبّار السماوات والأرض والذي لا يقوم لقدرته مخلوق وإن عظُم كالجبال الرواسي وما هو أشدّ وأثبت… تحذيرات وإنذارات يذوب لها الفؤاد لو وعى من سُباته، وتندكّ لها النّفس لو فاقت من سُكرها؛ وهذا منها {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}(14)، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}(15)، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(16).
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهمّ أنقذنا من نومة الغافلين، وتِيه الضّالين، وسكر الهوى، وعمى الغوى، واجعلنا ممن سمع فوعى، وَوُعِظ فاعتبر، وأُنذر فانزجر، وخشي واتقى، وأطاع الملِكَ الأعلى.
اللهم صل وسلّم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصّديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين؛ حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ثابتا مقيما برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد فهنا عنوانان:
المساجد للتربية:
المساجد، صلاة الجماعة، صلاة الجمعة، وظائف المسجد الأخرى؛ كلُّ ذلك في الإسلام للتّربية العالية، لخلقِ نواةٍ صالحة ناجحة، وتقديم صورة رائعة نموذجيّة للجماعة المسلمة، والمجتمع المسلم في وعيه الكبير، وإيمانه العميق، وتشبّعه بقيم الإسلام الراقية الرّشيدة، وشعوره الإنساني الحيّ، وتفاهمه وتوادِّه، وصِلَاتِه الكريمة واندماجه وتعاونه في الخير، واجتماعِه على الهدى، ووحدة كلمته الصّادقة في الحقّ، البيّنة في الرُّشد، الظّاهرة في الهدى، ومظهره المتماسك، وبُنيانه المتين، وتماسُكه الشّديد، وسلوكه الكريم، وخُلُقه القويم، وأدبه الجمّ، وتسامحه الأخويّ الرضيّ عند الله سبحانه، وبشاشة المحيّا، وانفتاح الأسارير، والقُرب من الخير، والبعد عن الشر(17).
رسالة المسجد والجمعة والجماعة وكل العبادات الثابتة الأخرى صناعة النموذج الإنساني الراقي الرائع فرداً ومجتمعاً وأمّة على طريق العبودية لله سبحانه؛ عبودية صادقة، عبودية عقل وقلب، وإرادة، وخطى تهتدي بهدى الله، وتتخلّق بأخلاق دينه، وتأخذ بأحكام شريعته، وتهدف إلى رضاه، ولا يُرضي الله عزّ وجلّ إلا النظيف الطاهر الصالح الجميل.
هذه الرسالة لا تستقيم معها التخلُّفات الكثيرة التي نعاني منها في سلوكنا الأسري والاجتماعي، والتي تظهر طافحةً أحياناً حتّى في المسجد وأجوائه القريبة وعلى بُعد بعض أقدام أو أمتار من حريمه في صورة منازَعة دنيوية، أو مشادّة غاضبة في موضوع تافه، أو تعدٍّ بكلمة أو فعلٍ بغير حقّ، أو إشغالٍ عن الصّلاة، وإرباك لوضع المصلّين، أو إدخال للرّوائح الكريهة لبعض السّلع إلى داخل المسجد، أو قيام سوقٍ نشِطةٍ وقتَ الخطبة، أو تلهٍّ بقراءة بعض النّشرات حالها، أو اتّخاذ جدران بيوت الله لوحة إعلانات تجارية، ودعايات مختلفةٍ من غير مسوّغٍ شرعي(18). وقد تعلو الأصوات في المسجد بحديث الدّنيا وتصحبه القهقهات، ومظاهر المزح الصاخبة. كلُّ ذلك وأمثاله قد يحدث في مساجدنا وأجوائها وعند حريمها.
ومن هذا ما نقله أحد المؤمنين المصلّين في هذا المسجد يوم الجمعة والذي قال عن نفسه في رسالته بأنه يأتي من مسافة بعيدة. فقد نقل تأذّيَه من بعض الإخوة الباعة في أجواء المسجد لتعمُّدهم مضايقته، ومنعهم مرور سيارته، وتعطيلهم له حتّى ذهبت عليه الصلاة أو أكثرها. والتردُّد من ذاكرتي.
وهذه مزاحمة فيها تعدٍّ على حقّ مسلم وإيذاءٌ له، وهي مزاحمة من أمور الدّنيا ومشاغلها وطلبها للآخرة والعبادة في أظهر مواطنها(19) وأوضح أزمنتها، فاليوم الذي تأتي فيه هذه المضايقة والمزاحمة والإزعاج هو يوم الجمعة، والمكان هو المسجد، والشعيرة هي صلاة الجمعة بما لكلّ ذلك من مكانة وحرمة في الإسلام، وحرمةُ المؤمن من أكبر الحرمات.
وقد شكى مؤمنٌ آخر مثل هذه الشكوى أو شِبْهها من أحد الإخوان المصلّين حيث حَبَسَ حركته المرورية وهو في سيارته – حسب نقله – لمدة ساعة واحدة وذلك في أجواء الجامع.
وكِلا الحادثتين لا أعرف شخوص أطرافها ولا أسماءها(20)، وإن ذكر صاحب الحادثة الأولى اسمه في رسالته إلي على الأقرب.
والحادثتان غريبتان جدّاً على الجوّ الديني، والأخوّة الدينية، والتعامل الديني، وحرمة المسجد والعبادة، والأهداف المنشودة، والأخلاقيّة التي تبتغيها هذه الشعائر الإسلاميّة الكريمة. وربما حدث هذا في ظروف غير ملائمة، وفي حالة ملابسات خاصّة(21)؛ وعلى كل حال فهو أمرٌ لا ينبغي تكرّره على الإطلاق من المؤمنين لأنه لا يليق بإيمانهم، وبما يترتّب على قاعدة الإيمان.
ولو عجِزنا نحن المؤمنين من مرتادي المساجد وحضّار الجماعات والجمُعات عن تجسيد أخلاقيات القدر الضروري من أخلاقيات المسجد، والتحلّي بآدابه، والأخذ بمبادئه وسلوكياته حتّى في محيطه الخاص، وقريباً من مداخله وفيما بيننا نفسنا فسنكون أعجز عن ذلك وأعجز في المعترك العام للحياة، والمحيط الأوسع للمجتمع، وسنسجّل بلذك فشلاً لمهمة المسجد، وإساءة بالغة لرسالته، وسنعطي درساً مغلوطاً قبيحاً أسود عن دوره وتربيته، وفي هذا الإخفاق إساءة كبيرة شاملة لعموم الدّين والمؤمنين في نظر الآخر(22).
غفر الله لنا جميعاً، وأعاننا على أنفسنا، ورزقنا فهم الإسلام وخلقه وضفاءه وهداه وكرامته، وعزّه، وفخاره الجليل العظيم.
أهذا صحيح؟
جاء في صحيفة الأيام في عددها 7114 الصّادر يوم الإثنين العاشر من مايو للعام 2010م أفكار ودعوة تنسبها الصحيفة إلى دائرة الأوقاف الجعفرية. والكلام ليس مُقوَّساً، ولا يظهر منه أنّه كلام الأوقاف نفسها بنصّه. ولا يُفرَّق في مناقشة هذه الأفكار بين أن تكون أفكاراً من هذا أو ذاك. فما يهمّنا مناقشة الفكرة لا قائلها.
مما كتبته الصحيفة (دعت إدارة الأوقاف الجعفرية في بيان لها إلى أهميّة إبعاد دور العبادة عن الدعايات الانتخابية والالتزام بدورها الذي نصّ عليه القرآن الكريم، وما جاءت به السنّة المطهّرة، وهو توجيه النّاس لعبادة الله وتبصيرهم بأمور دينهم ودنياهم وأخراهم).
ونقول بأن المسجد لا يمارس دور الدّعاية التّجارية الرخيصة التي تستسيغ الكذب والتزيّد والمغالاة والقول بغير الحقّ، والترويجَ ولو للباطل لا في أمور الانتخابات ولا غيرها، وإلا لخرج المسجد فعلا عن وظيفته ورسالته، وخلقه وأدبه، ومستواه الرفيع، ودخل في غضب الله وسخطه.
وتلك وظيفة تمارسها مؤسسات وأجهزة معروفة ليس المسجد الرساليّ الملتزم من بينها.
أمّا بيان ضوابط الدين من كفاءة، وأمانة، وخُلُق، وحرص على مصلحة الإسلام والمسلمين، ورعاية حقوق النّاس جميعاً مما يُطلب في المترشّح لوظيفة تمسُّ مصالح الدّنيا والدّين للمجتمع، وتؤثر عليها بصورة جذرية واسعة كما في وظيفة البلديّين والنوّاب، ونصيحة النّاس في مجال هذا التّرشيح وضوابطه في نظر الدّين حفاظاً على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم فهو من صُلب أمر الدّين والدّنيا الذي يتحمّل المسجدُ مسؤوليةَ التبليغ بشأنه لاستقامته وسلامته، والنأي به عن الانحرافات والتعدّيات، ولتبقى العبادة لله وحده، ولِتأخذَ الدنيا بعدله.
والكلامُ المتقدِّم عن الصحيفة يُقرّر هذا الحقّ بل الواجب على المسجد بقوله (وهو توجيه النّاس لعبادة الله وتبصيرهم بأمور دينهم ودنياهم وآخرتهم).
ويناقض الكلام المنقول في الصحيفة نفسه حين يضيف (بأن استغلال هذه الدور – يعني دور المساجد والحسينيات – لتداول الأمور الدنيوية كالدّعايات الانتخابية أمر خارج عن توجيهات ديننا الحنيف)(23).
والكلام الأخير لا يفرّق فيما يهدف إليه حسب الفرض السياسي المطلوب بين الدعاية والإعلام التجاري وبين بيان الحقائق اللازمة، والضوابط الدينية الثابتة.
فأول الكلام يدخل بيان ما يصلح به أمر الدين والدنيا ونصيحة المؤمنين في دور المسجد وتاليه يُنكره.
ومما جاء في الصحيفة المذكورة (وإننا على ثقة تامَّة بأنّ جميع الأئمة والمؤذّنين يُدركون واجباتهم وهم على دراية بتعاليم ديننا الحنيف، وأنّهم استناداً لما يُمليه عليهم واجبهم الديني يقفون على مسافة واحدة من إخوانهم المترشّحين).
ويُسأل أيُّ قائل لهذا الكلام، أيقف هو في إعطاء صوته وفي تأييده وعدم تأييده، وفي نُصحه بهذا المترشح أو ذاك، وفي قوله عن هذا البرنامج وذلك البرنامج موقفاً واحداً حتّى يصل إلى حدّ التناقض؟ ويرميه من يرميه بأن كلامه من كلام المجانين؟! لا أراه يفعل، والنّاس المختارون من أهل الالتفات إما أن يقفوا مع هذا البرنامج ومن يُمثّله، أو مع ذلك البرنامج ومن يُمثّله. هذا إذا كان نظرهم منصبّاً على طبيعة البرامج وتلاقيها مع ما يؤمنون به، ويطمحون إليه. وإلا انطلق حكمُهم وموقفُهم من منطلقات أخرى كالنّسب والصّداقة، والمصلحة الشخصية وغيرها(24).
وما أبعد هذا القول وهو (واستنادا لما يمليه عليه واجبهم يقفون على مسافة واحدة من إخوانهم المترشحين) عن دين الله، وما أعظم جرأته عليه، وإفساده له إذا كان المعني من إخوانهم المترشحين كلَّ من آمن وكفر، واتّقى أو فجر، وكان المؤتمن أو الخائن، والكفؤ أو القاصر، ومن أراد عزَّ الدين أو ذُلّه، ونفع الشعب أو نفع نفسه. والبلدُ صار يُمكن أن يترشح فيها هذا أو ذاك، والمواطنون الذين يحق لهم الترشح أصناف وأصناف ومنهم المسلم، ومنهم من يدين بدين آخر(25).
وإذا أُريد من إخوانهم المترشحين خصوص فئة خاصة تتوافر فيها ضوابط المرشّح المرضيّ النافع الكفؤ المأمون مع سلامة البرانامج الانتخابي، وتوفّر ما يقع في طريق الحفاظ على مصلحة الشّعب في دينه ودنياه بأكبر درجة ممكنة فهذا معناه أن لا يقف المسجد موقف الصّمت، وأنّ له أن يُفرِّق بين منهج ومنهج، ودعوة وأخرى، ونوع مترشّح وآخر(26).
نصل بعد هذا إلى أن ما نشرته الأيام، ونسبته إلى الأوقاف الجعفرية مضمونٌ لا يستقيم مع وظيفة المسجد وكرامته، وما أوجبه الله على المؤمن من التّفريق بين ما يضرّ وينفع، وما هو حقّ وباطل، وأن يقف دائما مع الحقّ، وأن لا يقف موقفَ الشيطان الأخرس، وأنّ من لم يستطع تغيير المنكر بيده ولا لسانه، فلا أقلّ من إنكاره بقلبه.
والكلام في هذا المقام لا علاقة له بالانتخابات في تفاصيلها، وإنّما هو كلام يستهدف أن لا يضطرب فهمُنا للإسلام(27)، وأن لا نبتعد عن مقرَّراته، وأن لا يصاب بمزيد من التحريف والتشويه لحساب السياسة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا أمناء على ما حمّلتنا من أمانة الإسلام، والنّصيحة للمسلمين، وكلّ عبد من عبيدك، وأمة من إمائك، ولا تُشركنا في ما لا ترضاه، وانصر بنا دينك، وأظهر بنا شريعتك، وثبّتنا على ما ثبّت عليه أنبياءك ورسلك وأولياءَك من صادق محبّتك وولايتك، والبراءةِ من كلّ ما يسخطك، ويستوجب نقمتك يا رحمن يا رحيم، يا كريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(28).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – وليس بعيداً بين لحظة الموت وبين النزول في حفرة الحساب.
2 – بحار الأنوار ج6 ص 243.
فالقنطرة صعبة على من عصى، وسهلة إن شاء الله على من أطاع.
3 – هذا بعد قصور، وبعد أولي أنس، وبعد أصحاب، وأهل وعشيرة.
4 – بحار الأنوار ج6 ص 268.
كيف يكون قبري؟ يكون طبقا لما نويت ولما عملت.
5 – هذا كلام نعيشه الآن خيالا، أما بعد ساعة وساعتين فقد أعيشه واقعا وحقيقة.
6 – ميزان الحكمة ج 3 ص 2479.
7 – ألم الأمراض والفقر ومصائب الدنيا كلها زال وانتهى، ما يكون حاضرا ذلك اليوم هو مستوى الروح، نعيم الروح، عذاب الروح، ألم الروح، سرر الروح.
8 – الأمالي للصدوق ص 265.
9 – 124/ طه.
الضنك المعني في هذه الكلمة هو ضنك القبر الذي لا يساوي منه كل ضنك في الحياة شيء يُذكر.
10 – ليست هناك مهلة بين لحظة الدفن ولحظة السؤال. بمجرد أن يغادر آخر نفس يكون الاستعداد للمواراة. قد يكون المرء في كامل نشاطه، وأرغد أمانيه، وإذا به ينتهي لحادث أو آخر، وكم بين هذه اللحظة وبين دخول عالم جديد غريب وعالم حساب عسير شديد، كم؟!
11 – نهج البلاغة ج 1 ص 145.
12 – 27/ إبراهيم.
13 – بحار الأنوار ج6 ص 229.
14 – 38/ المدّثر.
15 – 28/ آل عمران.
المحذّر جبار السماوات والأرض، مالك كل نَفَسٍ لهذا الإنسان، وكل ذرة في هذا الكون.
16 – 92، 93/ الحجر.
17 – رسالة المسجد أن يصنع نواة لمجتمع من هذا الطّراز وعلى هذا المستوى، كلّ توجّهه لله عزّ وجلّ وتلقّيه منه.
18 – كل هذه المخالفات لا تستقيم مع آداب المسجد وأخلاقيته ورسالته.
19 – ليست مزاحمة في سوق، وسوق المسلم لا يصح أن تزاحم آخرته، وهذه المزاحمة في أظهر مواطن العبادة.
20 – لا الشاكي ولا المشكو.
21 – غلبت هذا المسلم أو ذاك.
22 – نحن مسؤولون أن نقدم صورة وضيئة عن الإسلام، عن المسجد، عن الجماعة، وإذا بنا نقدم أسوأ صورة، ونسجّل ظلماً فشل الإسلام الناجح على أيدينا، وفي أجواء العبادة والمسجد.
23 – من جهة تقرر أن المسجد مسؤول عن الدين والدنيا، ثم تنفي أن من وظيفة المسجد، وتقرر أنه على المسجد أن يتنزه في الكلام عن الأمور الدنيوية.
24 – وهم في كل هذه الأحوال لا يقفون موقفا واحدا من كل المترشّحين.
25 – ومنهم الوثني، ومنهم من لا يعرف شيئا من الدين. كل هؤلاء لهم أن يترشّحوا، وعلي أن أقف موقفا واحدا من كل هؤلاء المترشّحين؟!
26 – إذا اخترتَ أن الذين يقف منهم المسجد على مسافة واحدة هم خصوص من توفرت فيهم الشرائط في الدين فأنت ميّزت بنفسك بين مترشح ومترشح آخر.
27 – وأن لا نُغالَط فيه، وأن لا نُجرجر لمفاهيم غريبة على الإسلام، ولا تلتقي معه على الإطلاق.

زر الذهاب إلى الأعلى