خطبة الجمعة (404) 8جمادى الأولى1431هـ – 23 أبريل 2010م

مواضيع الخطبة:

* المعاد * فلنحترم ديننا ومذهبنا *قلق أمريكي *حياد المرجعية

إقحام أهل البيت عليهم السلام في أي أمر مخترع لا أصل له في دين الله تبارك وتعالى، والترويج له يزعجهم ولا يريحهم، يؤلمهم ولا يسعدهم، يغضبهم ولا يريضيهم.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جعل النهار مَنشَطاً ومَناراً، والليل راحةً وستاراً، وجعل السَّنة فصولاً وأدواراً، والمناخَ أحوالاً وأطواراً، والنّاسَ أصنافاً وأنواعاً، والزّروعَ والثمار وخزائن الأرض ألواناً وأشكالاً بخصائص مختلفة، ووظائفَ متعدّدة متلاقية ومتكاملة ومتوافية. كلُّ ذلك بعظيم قدرته، وبالغ حكمته، وواسع رحمته، وعجيب إبداعه، ودقيق تدبيره، وجميل تصويره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وأخذ الحيطة من غضبه بالانصياع إلى ما أمر، والاجتناب عمّا نهى؛ فغضبُ الله لا تقوم له السماوات والأرض، ولا تثبت له الجبال الرواسي الصِّلاب، ولا ملائكة رحمة ولا عذاب، فكيف بهذه الجثّة الرّقيقة، والنّفس الهلوعة، والقلب الجزوع؟! فليرحم عبدٌ نفسه، وأَمَةٌ حالها. وعذاب الله ليس بعيداً من المسيئين دنياً، ولا آخرة، وقد تُؤجَّل العقوبة والنقمة، وقد تُعجَّلان، فلا يُخدَعن امرؤ بالشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، ولا يُغرّنّ بسعة الحال، وهدوء البال، عمّا تبيته ليال سوداء، وأيام مظلمة ليس بيده قَدَرُها، وليس لها من دافع من دون الله.
أعذنا ربّنا من سوء الغفلة، وسُخْفِ الرأي، وعمى البصيرة، والاغترار بالنعمة، ونسيان النقمة. أعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من كلِّ ما يوجب سخطك، ويقرِّب من نقمتك، ويُبعِّد من رحمتك، واغفر لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصحابنا وأزواجنا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا يا توّاب يا كريم، يا رحمن يا رحيم.
اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد سفن نجاتك، وأمنائك في بلادك، والقادة إلى رضوانك، والأدلاّء على جنانك فإنك الحنّان المنّان المتفضّل يا جواد يا كريم.
أما بعد فالموضوع هو المعاد:
في المعاد نعود للحياة بعد الموت، وتعود القلوب عارفة بالله، موحّدة له، لا تشرك به شيئاً، ولا تجعل له ندّاً، ولا ترى معه فاعلاً، ولا لما قدّم مؤخّراً، ولا لما أخّر مقدِّماً، ولا من غيره ضارّاً أو نافعاً، ولا تعتقد تعويلاً على غيره، ولا تُوكِل أمراً من أمرها إلى من سواه، وكلّ خوفها منه، ورجائها فيه، وتعلّقها به، وأملها في رحمته، ونظرها إلى عفوه ومغفرته؛ تعود القلوب كذلك كما كانت على فطرتها، ويوم خَلَقها بعد أن زاغ منها ما زاغ، وضلّ ما ضلّ، وارتاب ما ارتاب في الحياة الدنيا لمزاحِمات الإيمان، ومكدِّرات الأرواح، وبواعث الفساد من شيطان مضلّ، وهوىً في النفس، وغوى في الخارج، وفتن تعترض الطريق، وابتلاءات طاغية، ومزالق خطيرة مهلكة {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}(1).
تعود الرؤية يوم القيامة واضحة جليَّةً مديدة غير قاصرة، قوية غير ضعيفة، مستقيمة غير منحرفة لا ترى لله سبحانه وتعالى عديلاً، ولا مثلا ولا ولدا، ولا تجد من دونه إلاهاً أبداً، وتراه واحداً أحداً فرداً صمداً.
وفي ضوء عقيدة المعاد والآخرة تتخذ الحياة الدنيا في وجود النّاس مساراً، وبعيداً عنها تتخذ مساراً آخر، وما أبعد ما بين المسارين، وما أشدّ التباين بين طبيعتهما، وأخلاقيتهما، ومنهجهما، وآثارهما في العقول والنفوس والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، وكل أوضاع الحياة.
ويتفاوت كل ذلك فيما تعطيه النظرة القويمة للدين والآخرة، وما تعطيه النظرة السقيمة المنحرفة لهما.
وفرق هائل بين ما تنتهي إليه حياة الإيمان من نتيجة، وما تنتهي إليه حياة الكفر، وما يلقاه الإنسان مما تفضي إليه هذه الحياة، وتلك الحياة.
فكان لهذا كلّه على الإنسان أن يقف بعقله وقلبه ووجدانه وبصيرته مفرّغاً نفسه من مؤثرات العوارض، وتأثيرات البيئة ليقضي بنظر حصيف في قضية الآخرة ليبني عليها حياته الدنيا، أو ليطرحها من الحساب، ولينطلق منها قاعدة يرجع إليها في كل شؤونه، أو ينفصل عنها لينطلق في دنياه كيف شاء.
ولكنه لو أخذ بالانفصال فإنه لن يستطيع أن يقتلع من داخله فكرة الآخرة، ولن يجد سبيلاً لامتلاك دليل واحد يثبت عدمها. وأقصى ما سيكون عليه في هذا الحال هو دُوار الشّك، وقلقُ الريبة، وضلالة الحيران.
وإذا قُدّر لنفس أن تخسر قابلية الإيمان بالمعاد بما كسبت من سوء، ودخلها من فساد، فصارت القضية عندها في دائرة الشك، فإن العقل قاض على هذا التقدير بالاحتياط ومراعاة أمر الآخرة، وخاصّة أن هذا الأمر هو أخطر الأمور، وترتبط به قيمة الحياة، والمصير العظيم، وأن احتماله لا يمكن حسب كل المعطيات أن يكون من فراغ، أو من الوزن الخفيف.
ولا يصح في عقل ولا حكمة أن تقام الحياة كلها؛ حياةُ فرد أو مجتمع، أو أمة على قاعدة الشك؛ فالشك حالة من القلق والاهتزاز وعدم الرؤية الذي لا تضمن معه سلامة العواقب، ولا تؤمن مخاطر الطريق ومفاجئاته.
وإنَّ المعاد لعقيدة من عقائد الإسلام الرئيسة، وأساس من أسسه الثابتة التي بنى عليها تربيته ونظامه، وأولاها العظيم من اهتمامه، وأعطاها مساحة عريضة من البيان والتذكير، والإنذار والتبشير في قرآنه وسُنَّته، وفي بناء عقلية الإنسان المسلم وتوجّهه واهتمامه، وأسهمت كثيراً، وبدرجات عالية في إنجاح المنهج، والاستقامة بالإنسان على الصّراط، وتخريج الشّخصية الإنسانية القويّة السّويّة التي تتعامل مع الحياة بكفاءة، وروحٍ عالية منتِجة مبدعة من غير أن تسقط أمام محن الدنيا وإغراءاتها، أو تضعف أمام التّحديات والأزمات والكوارث، أو تضيقَ بما يحدث من ذلك لتكفُر بقيمة ذاتها، أو انتمائها، أو التزامها، وتخسر من وزنها أيَّ شيء، أو يكبُرَها شيء مما تملكه يدُها أو يدُ الآخرين.
والنّاس بين هادف للدّنيا، وهادف للآخرة، وصاحب الدنيا تارك للآخرة، مفسدٌ لها على نفسه، ومضرٌّ بدنيا غيره، وربما جمع كثيراً، وانتفع بما جمع قليلاً. أمّا طالب الآخرة فساع في الدّنيا بما يصلحها، آخذٌ منها ما ينفعه، معرض عما فيه ضرره، وضرر الآخرين.
إنّ هدف الآخرة لا يُلغي نشاط الدُّنيا ولا يخربها وإن قلّل من فضولها، وصان مما يضرّ منها، أما هدف الدّنيا فيُلغي الآخرة ويفسدها، ويقطع الطريق على صاحبها.
ولنأخذ هدى من هدى القرآن الكريم والسنة في مجال قضية المعاد وتفريعاتها.
برغم ما عليه النفس الإنسانية بطبيعتها من بذور الإيمان الفطري باليوم الآخر إلاّ أنّ الناس فعلاً منقسمون بين مؤمن وكافر؛ فريق يقول عنه كتاب الله الصادق: {… وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}(2) وفريق آخر يقول عنه:{وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}(3).
وكلٌّ من الفريقين يأتي سلوكه في الدنيا على خلاف ما عليه الآخر، وتختلف أخلاقيتهما، وما يترشّح عن هذا الطريق، وذلك الطريق. وكثيراً ما يُناقض أهل الدّنيا ضرورات الآخرة، ويُفسدون طريقها على الآخرين. ويصطدم أهلُ الآخرة بعبث أهل الدنيا وظلمهم، وما يجري على أيديهم من الفساد ومن هنا، ولإنكار الدّين على هذا الوضع تكون المنازعات.
خياران:
{… تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(4).
{… مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ…}(5).
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}(6).
الكافر يأخذ بخيار الدّنيا، وأكثر من ينتسب لأهل الإيمان يغلب هذا الخيار نفسه، ويطغى في الأغلب على مواقفه. والثلّة الواعية المتميزة من أهل الإيمان الحقِّ هي التي تقدّم الآخرة على الدّنيا، وتشتريها بها.
وخيار الآخرة هو خيار الله عزّ وجلّ لهذا الإنسان… خيار علمه وحكمته وإحاطته ورحمته وصدقه ولطفه وشفقته به.
ومع ذلك نقابل خيار الله لنا الذي لا ينبغي أن يَحوم حوله سوءُ ظن ولا شك بخيار من نظرتنا القصيرة، وفي غياب من الخبرة بالآخرة نعيماً وعذاباً، وبدافع من هوى نفسٍ أمّارة بالسوء، وبكيد من شيطان حاقد حائد، وأعداء جهلة مستكبرين، وبإلهاء من فسقة ماجنين ساقطين(7). فما أسوأ ما اختار امرؤ لنفسه بتزيين من هواه، وهوى أعدائه في قبال ما يختاره له ربُّه العليم الخبير الحكيم الرؤوف الرّحيم.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا توقعنا في أعظم الخطأ من تقديم العبيد على الرب(8)، والدنيا على الآخرة، ومثوبة المملوكين على مثوبة المالك، ووعد المخلوقين على وعد الخالق، ومخافة المقهورين على مخافة القاهر، ووعيدهم على وعيدك، واللجأ إليهم على اللجأ إليك. اللهم ارحمنا برحمة الدنيا والآخرة فأنت مالك الرحمة كلّها ولا مالك لشيء من دونك يا رحمن يا رحيم يا جواد يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أبدع الكون إبداعاً، وأتقنه إتقاناً، وشدَّد أركانه، وأحكم بنيانه، وثبّت قوانينه، وحدّد مساره، وهداه لغايته، وضبط علاقاته، ومداراته، ومسافاته، وأبعاده، وواءم بين أجزائه، ووافق بين حركاته، وجعل له موعداً، وفرض له أجلاً حتى تتبدل السماوات غير السماوات، والأرض غير الأرض، ويصير العباد إليه، ويجري حسابهم على يده، ويجازيهم بعدله وإحسانه. كلّ شيء يتغيّر، ولا مغيّر له سبحانه، وكلّ شيء يموت وهو حي لا يموت ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تعرضه زيادة ولا قصور، ولا يعترضه وهن ولا فتور.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله الذي برحمته تمسون، وبرحمته تصبحون، وبمدده تقومون وتقعدون أوصيكم ونفسي التي خلقها وملكها وهي مسترقّة لقدرته بتقواه وطاعته، والتوكّل عليه، وتفويض الأمر إليه؛ فإنّه الرَّحيم بعباده، الخبير بما يصلحهم، أو يضر بهم، القادر على العطاء والمنّ، وعلى الدفع والمنع، ولا شيء يحول بينه وبين ما يريد.
ولنكن جميعاً آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر ففي الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:”إن الله لا يعذّب العامة بعمل الخاصّة حتّى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصّة والعامة”(9).
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم اجعلنا ممن يَخِفُّون مسرعين في اشتياق لطاعة أمرك، والأخذ بما نصحت، والاستجابة لما دعوت، والتوجّه لما وجّهت، ولا تجعل لنا رضى على خلاف رضاك، ولا سخطاً ليس من سخطك، ولا هوى في ما خرج عن طاعتك، وبايَنَ أمرَك يا أرحم الرّاحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين حججك على عبادك، وأنوارك في بلادك: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرج ولي أمرك القائم المنتظر، وحُفّه بملائكتك المقرّبين، وأيده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك، الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفِّقهم لمراضيك، وسدِّد خطاهم على طريقك، وانصرهم نصرا عزيزا مبينا ظاهرا مقيما.
أما بعد فهذه بعض مواضيع:
فلنحترم ديننا ومذهبنا:
الإسلام دين كامل لا نقصَ فيه، وفهمُ أهل البيت عليهم السلام للإسلام ليس فوقه ولا يوازيه فهم من أحد، والآخذ بحجزتهم، الراكب لسفينتهم، المتابع لهم آخذ بالإسلام بحقّ.
ومن أراد أن يضيف شيئاً للإسلام من رأيه فإنما يضيف باطلاً إلى الحق، ومن أراد أن يُدخِل على مدرسة أهل البيت عليهم السلام مزيداً من رأيه فإنما يفعل سوءاً بهذه المدرسة.
فلنكفَّ عن كلّ التزيُّدات، وعن الاقتطاع كذلك من هذه المدرسة حتّى لا نظلمها ونشوّهها.
ومعلوم أن التشريع حقٌّ لله وحده، ولم نُعطَ من هذا الحق شيئاً. وإدخال أيُّ جديد على الدين من الناس يفسده، ومن تزيّد في الدين غَيْرةً عليه فقد جهل، ومن تصرّف فيه فقد ضيّعه. ومن غالى في أئمة الدين الصادقين عليهم السلام فقد أغضبهم. وليس أشدُّ من التزام الدين بالعلم ولا تشديدَ نكيرٍ منه على عدم خلطه بالجهل، ولا أكبر من حرصه على صفاء الوحي، وعدم مزجه بهوى الإنسان، ورؤيته القاصرة، وتقديراته المحدودة، ووزنه الظُّلْم(10)، وموازينه المختلّة.
وما زال الدين ولا يزال يتعرّض لمحاولات التشويه بالزيادة عليه، والتنقّص منه على يد المعادي، والمغالي، والجاهل، والغافل، والمتملّق المتاجر، والمتقرّب بالدِّين إلى النّاس.
وإنّ من التعدّي السافر على حرمة الدين، وانتهاك قدسيته، والعبث بنسيجه أن تشرّع عبادات وأذكار، وتوظف وظائف مخصوصة لم ينزل الله بها من سلطان.
وإقحام أهل البيت عليهم السلام في أي أمر مخترع لا أصل له في دين الله تبارك وتعالى، والترويج له يزعجهم ولا يريحهم، يؤلمهم ولا يسعدهم، يغضبهم ولا يريضيهم.
وأنبّه على أنه من الغفلة إن لم يكن قد زيّن به شيطان من شياطين الإنس بصورة خفيّة وغير مباشرة ما انساق إليه البعض من الحسينيات النسائية من اعتماد وتعميم بعض الكلمات لقضاء الحاجات بحيث تُردّد الكلمة لمائة وثلاثين مرّة، وقد كُتبت على بعض القطع البلاستيكية للتوزيع، وهي كلمات يُعاني بعضها من ركاكة في التعبير، وخطأ من الناحية النحوية. وقد أُعطيت هذه الكلمات صفة الذّكر على ما هي عليه من رداءة المعنى، والبعد عن أصول العقيدة.
وأقول إن مثل هذه الأمور قد يرتكبها رجال أو نساء غفلة أو جهلا، بينما قد يكون وراء هذه التصرفات كيد شياطين غير مكشوفين. وقد يُدسّ مثل هذا دسّاً في صفوف المؤمنين ثم يُعيَّرُ به الدين والمذهب ممن خطّط له(11).
وعلى من وقع في الغفلة فارتكب شيئاً من هذه الأمور الضارة أن يتراجع عاجلاً، وأن يتدارك الأمر ولو بسحب ما تم توزيعه في الناس مما يدخل الوهن على الدين والمذهب، ويفتح باب ضرر كبير.
ولا يشكّ في أن المؤمنات اللاتي قمن بهذا العمل إنما قمن به حبّاً في الدين، ولكنّي أؤكد بصورة قاطعة بأنه مضر بدين الله ومحرّم في شريعته.
وللتعرف على خطورة هذه الأمور نلتفت إلى أن عملية الاجتهاد عند الفقهاء والتي لا تضيف شيئاً في الدين ولا تنقص منه، وإنما تحاول أن تتوصّل إلى ما ثبت وجوبه في الدين، أو ثبتت حرمته مثلاً، تجد عمالقة الاجتهاد والفقه من أهل الورع والتقوى يهتزّون أمام هذه العمليَّة، ويقفون متهيّبين خائفين، ولا يقولون كلمتهم إلا بعد التمحيص والتدقيق والموازنات بين الأدلّة، ثمّ قد لا يصل المجتهد إلى النتيجة العلمية فيظهر علناً للناس تردّده في الحكم، ويصير إلى الاحتياط. هذه هي عملية الاجتهاد التي لا تضيف إلى شريعة الله حكما، ولا تنقص منه حكما، فكيف صارَ لنا نحن أن نعطي لأنفسنا الحقّ بالإضافة إلى الدين لنغير فيه؟!
قلق أمريكي:
هناك قلق أمريكي شديد معلن رسميّاً بشأن احتمال إيصال سوريا إلى حزب الله – لبنان – مجموعةً من صواريخ اسكود، ومع الإعلان عن هذا القلق تصريح بالأواصر المتينة مع إسرائيل والتي لا يمكن أن تنقطع خاصة إذا تعلّق الأمر بأمن هذا الشعب العزيز والدولة الحبيبة المدلَّلة. وقد تصاعد القلق إلى التهديد المعلَّق مع بقاء الاحتمال احتمالاً لا أكثر.
القلق لا لأن أمريكا قد توفّرت عندها معلومات بوصول صواريخ اسكود لحزب الله، وإنما لاحتمال ذلك فحسب، وذلك لخطورة المحتمل كما في النظر الأمريكي خطورة لا يُهمَلُ معها أي احتمال وإن ضؤل.
ثم إن خوف أمريكا على إسرائيل وفزعها لا لأن هذه الصواريخ المحتملة ستعطي التفوّق لسلاح حزب الله على السلاح الإسرائيلي بحيث يُغري هذا التفوق الحزب بشنّ حرب ابتدائية على إسرائيل لاطمئنانه بعجزها عن الردّ المسكت، وثقته بتحقيق نصر كاسح على الدولة الصهيونية، وإيقاع هزيمة منكَرة بها لا مفر لها منها، ولا قدرة لها على مواجهتها من دون خسائر كبيرة متوقعة.
هذا الاحتمال ليس وارداً قطعاً عند الإدارة الأمريكية، وليس هو ما تحذره أمريكا على الحبيبة إسرائيل(12).
الوارد في احتمال أمريكا هو أن تكون بيد الحزب قوّة رادعة بدرجة ما للعدوان الإسرائيلي، وكفاءةُ ردٍّ يُوجع هذه الدولة بمقدار يجعلها تتوقّف بعض الشيء عن شنِّ عدوانها وقت ما تريد ويحلو لها.
وهذا الاحتمال هو ما تعمل أمريكا على أن تحول بين كل العرب وكل المسلمين من أن يتحقق لهم ليحتموا من شرّ إسرائيل وعدوانيتها، ويقلّلوا من درجة غرورها.
ما تريده أمريكا وتحرص عليه أن تبقى إسرائيل متفوّقة في قوّتها دائما على كل العرب والمسلمين، ويدُها طويلة تمتد بالعدوان والتدمير وهدم البُنى التحتية للبلاد الإسلامية والقتل والتشريد واحتلال الأرض وفرض الهيمنة وقت تشتهي، ومتى تشاء من دون دافع أو مانع بيد العرب والمسلمين(13).
هذا وعلينا أن نصدّق أن أمريكا صديقتنا، وأنها حامية الحمى لبلاد العرب والإسلام والمسلمين، وأن نثق بها، وأن نرحب بأساطيلها في المنطقة.
والأواصر المتينة مع إسرائيل والتي صرّح بها المسؤول الأمريكي لا تنفكّ ولا تنقطع ولا تهن مهما فعلت إسرائيل من الظلم والعدوان، وحصد الأنفس، وترويع الآمنين، ونهب الأرض، وإذلال الإنسان. ومن هنا لا مناقشة للسلاح النووي الإسرائيلي من قِبَلِ أمريكا في الوقت الذي تعلن فيه شفقتها على مصير العالم من هذا السلاح، وتقيم حروباً طاحنة إذا قام احتمال ضئيل بامتلاكه مستقبلاً من أي بلد من بلاد أمّتنا.
حياد المرجعية:
يظهر طرح مفهوم حياد المرجعية في الساحة الشيعية العامّة أو بعض أجزائها. ومراد هذا المفهوم أن على المرجعية الدينية في أعلى مستوياتها المتمثلة بالدرجة الأولى في زمن الغيبة في مراجع التقليد العظام ثم من بعدهم العلماء الآخرين أن تقف موقف الحياد، وعلى مسافة واحدة بين وجهات النظر والمواقف والتوجهات المختلفة والتي قد تشهد اصطراعاً داخل الساحة الخاصة للطائفة، وأن تعيش هذه المرجعية الأبوّة المشتركة وواقع المظلّة العامة للجميع.
وهذا المفهوم وأي مفهوم آخر يُطرح في الساحة يمكن أن يسود أوساط المؤمنين، ويأخذ موقعه الكبير في عقليتهم ونفسيتهم، ويتحوّل جزءاً ثابتاً مؤثِّراً في ثقافتهم الإسلامية التي تحرّك مواقفهم وتحدّدها، وتجري على ضوئها محاكمتهم لمواقف الآخرين وتقييمُها.
وعليه فلابد من تسليط شيءٍ من الضوء على هذا المفهوم قبل أن يتسلّل إلى ثقافة المجتمع المسلم وقناعاته ومواقفه ليتبيّن مقدار صحّته وفساده.
هناك اختلاف في كلّ المجتمعات فيما يتعلّق بالأمور الشّخصية وهذا الاختلاف ليس معنيّاً لهذا المفهوم فلا كلام فيه، وإنما الكلام في الاختلاف فيما يتعلّق بالحياة العامة لمجتمعات وتوجهات المجتمع والأمّة ومواقفهما.
وهناك اختلاف بين أهل الحقّ وأهل الباطل فيما يتعلّق بالهدف والموقف والأسلوب مع تبيّن ما هو حق، وما هو باطل. والمفهوم المطروح لا يتناول هذا النوع من الاختلاف فيما يقصده المؤمنون من أصحاب الطرح. وإن كان هذا شيئا مطروحاً على مستويات أخرى كما هو منادى به في بعض الساحات في إطار أشمل كما يطرحه بعض العلمانيين في بعض البلاد.
وهناك الاختلاف بين فريقين أو فرقاء من أهل الحق والهدف المشترك كتقليل المعاناة، وتخفيف الظلم والفساد في أي ساحة من الساحات. وهو اختلاف قد يتعلق بأسلوب أو موقف عملي من قضية أو أكثر، وبصورة مؤقتة أو دائمة ولا فرق.
ولا أقل من أن يشير مفهوم حيادية المرجعية إلى هذا النوع من الاختلاف. فنحن في هذا الحديث وهذا النوع.
لكن هذا الاختلاف قد يكون في حدود المباح والنافع مع تفاوت يسير في النفع يكون في صالح وجهة النظر هذه، أو في صالح وجهة النظر تلك. وقد يصل إلى حدود أوسع، ويتفاحش الفرق بين الموقفين تفاحشاً كبيراً فيما يُستتبع من المنافع والأضرار اللاحقة بالنّاس والوضع العام بما قد يصل إلى اصطدام بعض المواقف والخيارات عند هذا الطرف أو ذاك بالحكم الشرعي والمصلحة العامة.
وهنا يأتي السؤال عن شرعية حيادية المرجعية القادرة على التدخل والتصحيح. كلامنا في هذا المقام.
وقبل ذلك يُسأل هل المرجعية معفوّة أساساً وابتداءً عن اتخاذ موقف معين من القضايا العامة التقى موقفها مع موقف هذا أو ذاك أو اختلف ما دام مطابقاً في نظرها للحكم الشرعي، وأن عليها أن تتخلى عن مسؤوليتها العامة حتى مع القدرة وعدم موجبات سقوط التكليف انتظاراً لاتخاذ الآخرين الموقف؟(14)

كيف ينسجم هذا اللون من الحيادية مع التكليف الشرعي العام أولاً، ومع مطالبة الأمة للمرجعية برعاية قضاياها ما أمكن ثانيا؟!(15)
والحيادية حين تكون حيادية من الخطأ والصواب، والضار والنافع حسب تشخيص المرجعية نفسها تكون خيانة وتخلّياً من المسؤولية لا يصح للمرجعية ارتكابهما.
نعم إذا كانت المرجعية مغلوبةً على أمرها، مسلوبة الإرادة من ناحية عملية، ولا تجد طريقا مفتوحا، ولا يمكن لها فتح هذا الطريق لأن تقول كلمتها، وتقف موقفها الشرعي فذلك أمر آخر. وقد وقع فيه أئمة معصومون أطهار.
حيادية بمعنى لا يهمني أمر الناس، أو أن الآراء المتناقضة كلها صحيحة، أو كلها خاطئة حياديةٌ خطأٌ لا ترتكبها مرجعياتنا الواعية الكبيرة.
ومتى وقف أي معصوم من المعصومين عليهم السلام موقف الحيادية والتفرج وعلى مسافة واحدة من كل الشقاقات والتشققات التي تتعلق بمصلحة الدين وسلامة الأمة وهو قادر على بيان الصحيح من الخطأ، والسليم من الفاسد.
وفارق العصمة لا دخل له أبدا في هذا المقام.
وإنما كان إقرار المعصوم حجة حيث يمكنه بيان الرأي لأنه لا يقف موقف الحياد من الحق والباطل، والصحيح والخطأ.
الحيادية التي يمكن أن تقبل ديناً هي أن تقف المرجعية من خطأ هذا الطرف موقفها من خطأ الطرف الآخر، ومن صواب هذا الطرف موقفها من صواب الطرف الآخر، ولا تعادي الحقّ هنا، وتصادق الباطل هناك بصورة كلية أو جزئية.
أما الأبوة والمظليّة المنفتحة على كلّ وجهات النظر بغضّ النظر عن خطئها وصوابها، وأثرها النافع أو الضارّ، وموافقتها للحكم الشرعي وعدمه فهي عيب وعار على المرجعية لا يصح ارتكابه، ومخالفة شرعية واضحة لا تجوز مقاربتها.
وموقف السكوت لا يبرره إلا سقوط التكليف، وموجباتُ هذا السقوط لو تمّت.
اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على حبيب المصطفى محمد بن عبدالله وعلى آله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ارزقنا فهم الدّين الحقّ، وأنطق لساننا به، واجعل كل جارحة من جوارحنا آخذة بأمره ونهيه، مستنّة بسُننه، مهتدية بهديه، واجعلنا عباداً صالحين، ودعاة صادقين، وأولياء متقين لا ننظر إلاّ إليك، ولا نطلب إلا رضوانك، ولا نؤمل سواك، ولا نخشى أحداً غيرك، وتولّ أمرنا كله بلطفك ورحمتك ورأفتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(16)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 22/ ق.
2 – 4/ البقرة.
3 – 29/ الأنعام.
4 – 67/ الأنفال.
5 – 152/ آل عمران..
6 – 20/ الشورى.
7 – هذا هو مرجعنا في تقديم خيار الدنيا على خيار الآخرة في قبال خيار تختاره حكمة الله وعلمه ولطفه.
8 – هذا هو أصل الخطأ وأعظمه.
9 – الدر المنثور للسيوطي ج2 ص 302.
10 – وزن الإنسان للأمور، للقضايا، للأحكام مهما دقّ إذا قسناه بوزن الله كان وزناً ظُلْماً.
11 – يخطط لهذا الأمر ثم يعيّر به الدين والمذهب.
12 – لا تخشى أمريكا أن حزب الله يشن حربا هجومية ابتدائية على إسرائيل ليمحقها أو يؤذيها.
13 – هتاف جموع المصلين بـ (الموت لأمريكا والموت لإسرائيل).
14 – هل ترضى الأمة للمرجعية أن تتخلى عن مسؤوليتها وتقف موقفا متفرجا وتنتظر قول الآخرين لتصفق لهذا أو تصفق لذاك، أو لا تصفق لهذا ولا تصفق لذاك نهائيا؟! ألا نظلم المرجعية بهذا الطرح؟!
15 – من جهة نطالب المرجعية بأن تقف موقفاً من قضايا الناس، ومن جهة أخرى نطالبها برفع اليد ولا تبدي أي رأي، وتترك الناس أن يشرق من يشرّق، وأن يغرِّب من يغرب.
16 – 90/ النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى